المحكم في أصول الفقه - ج ٥

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨

بالشك هو الواقع الحقيقي المفروض كونه مظنونا لا مقطوعا به.

الرابع : أن مؤديات الطرق أحكام ظاهرية متحدة مع الواقع على تقدير الإصابة ، ومبانية له على تقدير الخطأ ، وحيث كانت الطرق محتملة الإصابة للواقع المفروض احتمال بقائه جرى الاستصحاب ، لتمامية ركنيه ، للقطع بثبوت الحكم المردد بين الواقعي والظاهري حين قيام الطريق.

غايته أنه يكون من استصحاب الكلي الذي يتردد بين فردين مقطوع الزوال ومحتمل البقاء ، الذي هو ملحق بالقسم الثاني في الجريان ، لأن المؤدى إن كان مخالفا للواقع كان ظاهريا محضا ينتهي بانتهاء أمد الطريق ، وإن كان موافقا له كان عينه ، والمفروض احتمال بقائه.

نعم ، لو كان الحكم الظاهري مباينا للحكم الواقعي حتى في فرض الإصابة ، كان استصحابه من القسم الثالث ، للقطع بانتهاء الحكم الظاهري المقطوع تحققه سابقا ، والشك في ثبوت الواقع المطابق له من أول الأمر.

وفيه : ـ مع أنه لا يجري في الموضوع الخارجي ، لأن قيام الطريق عليه لا يوجب جعله ظاهرا بلا إشكال ـ أن التحقيق عدم كون مؤدى الأمارة حكما ظاهريا ، لا متحدا مع الواقع ، ولا مباينا له ، على ما تقدم منّا في مبحث القطع الموضوعي ومبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية. فراجع.

هذه عمدة الوجوه المذكورة في كلماتهم ، وقد ظهر عدم نهوض شيء منها بإثبات المدعى.

فالعمدة في توجيهه : أن اليقين وإن كان دخيلا في موضوع الاستصحاب ، كما هو ظاهر أدلته ، إلا أنه تقدم منّا في مبحث القطع الموضوعي أن الطرق تقوم مقام القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الطريقية ، لرجوعه إلى عدم خصوصية القطع في موضوعيته للحكم والتعدي منه لجميع الطرق الإحرازية ، فثبوت الحكم لها في عرض ثبوته له ، لانّها مثله من أفراد المحرز ، لا في طوله

٨١

بتوسط جعلها من أفراده تعبدا ، أو تنزيلها منزلته شرعا ، أو تنزيل مؤداها منزلة مؤداه.

وقد تقدم منّا في ذلك المبحث تفصيل الكلام فيه بما لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا.

والمهم هنا هو التنبيه إلى أن اليقين لم يؤخذ بما هو صفة خاصة ، بل بما هو طريق محرز لمؤداه مقتض للعمل عليه. ويكفي في ذلك ما أشرنا إليه غير مرة من كون قضية عدم نقض اليقين المشار إليها في الأدلة ارتكازية لا تعبدية محضة ، ولا خصوصية لليقين فيها ارتكازا.

كما يؤيده تسالم الأصحاب على جريان الاستصحاب في المقام ، بنحو يظهر منه كون ذلك هو مقتضى ارتكازاتهم الأولية غير المبتنية على الاستدلال والتدقيق ، لعدم تحرير المسألة إلا في العهود المتأخرة.

هذا كله في استصحاب مؤدى الطرق والأمارات.

ومنه يظهر الحال في استصحاب مؤدى الأصول الإحرازية ، حيث تقدم منا هناك قيام الأصول المذكورة مقام القطع المأخوذ على نحو الطريقية ، لما أشرنا إليه من أن العلم ليس طريقا إلى الواقع ، كي تختص الطرق بمشاركته ، لعدم الطريقية في الأصول ، بل هو عبارة عن نفس الوصول للواقع وإحرازه ، فإلغاء خصوصيته تقتضي عموم الحكم لكل إحراز ولو كان بسبب الأصل.

ولا حاجة مع ذلك للتشبث بدعوى ظهور أدلة الأصول في تنزيلها منزلة العلم ، أو جعلها علما تعبدا ، أو تنزيل مؤدياتها منزلة المعلوم ، أو جعل الحكم الظاهري في موردها.

على أن ذلك كله غير تام ، نظير ما تقدم في الطرق.

ثم إنه بناء على ذلك لا إشكال في استصحاب مؤدى الأصل مع تكفل دليله بإحراز مؤداها في الزمان الأول دون الثاني ، لعدم تحقق موضوعه بالإضافة

٨٢

إليه ، كأصالة الطهارة أو استصحابها في الماء حيث يحرز بهما حدوث طهارة الثوب المغسول به ، دون بقائها ، فلو احتمل طروء النجاسة على الثوب بعد غسله بالماء المذكور أمكن استصحاب طهارته.

أما لو كان الأصل بنفسه متكفّلا بإحراز مؤداه في الزمان الثاني أيضا ، لتحقق موضوعه بالإضافة إليه ، فقد ذكر غير واحد أنه لا مجال لاستصحاب مؤداه ، للقطع ببقائه ، كما لو احتمل نجاسة الثوب في زمان خاص ، كيوم الجمعة ، فجرت فيه أصالة الطهارة أو استصحابها بالاضافة إليه ، ثم شك في طروء النجاسة عليه بعده ، لوضوح أن موضوع الأصل المحرز للطهارة في ذلك الزمان متحقق بنفسه في الزمان اللاحق ، فيقطع معه ببقاء مؤدى الأصل بلا حاجة إلى الاستصحاب.

وتوهم : أن الإحراز إن كان بقاعدة الطهارة لم يمنع عن جريان الاستصحاب لحكومته عليها.

مدفوع : بأن ذلك إنما يتم في استصحاب الطهارة الواقعية ، لا استصحاب الطهارة الظاهرية التي هي مؤدى قاعدة الطهارة ، للقطع ـ مع تحقق موضوع قاعدة الطهارة ـ ببقاء المتيقن السابق الذي هو مؤدى الأصل ، ولا شك فيه حتى يجري استصحابه.

لكنه يندفع : بأن بقاء موضوع الأصل الإحرازي لا يوجب القطع ببقاء مؤداه ، ليرتفع به موضوع استصحابه ، ويكون تعبدا بما هو محرز بالوجدان ، لما أشرنا إليه آنفا من عدم كون مفاد الأصل حكما ظاهريا قابلا للبقاء ، بل لا أثر له إلا إحراز الحكم الواقعي تعبدا ، وحينئذ فتحقق موضوع الأصل في الزمان الثاني وجريانه لا يقتضي إلا إحراز الحكم الواقعي تعبدا فيه كإحرازه في الزمان الأول ، ولا يرتفع به موضوع الاستصحاب ، بل يشترك هو والاستصحاب في الإحراز التعبدي لا غير.

٨٣

ودعوى : أن الأصل المحرز المفروض تحقق موضوعه وإن لم يكن رافعا للشك حقيقة ، إلا أنه رافع له تعبدا ، فلا يبقى معه مجال للاستصحاب.

مبنية على فرض تقدم الأصل المحرز رتبة على الاستصحاب ، وهو غير تام ، لأن المتقدم على الاستصحاب رتبة هو جريان الأصل المحرز بالإضافة إلى الزمان السابق ، لتوقف تحقق موضوعه ـ وهو الإحراز السابق ـ عليه ، أما جريانه في الزمان الثاني ـ الذي يراد الرجوع للاستصحاب فيه ـ فلا وجه لتقدمه عليه رتبة كي يرتفع موضوعه به تعبدا ، بل ليس ارتفاع موضوع الاستصحاب به بأولى من ارتفاع موضوعه بالاستصحاب.

وكذا دعوى : لغوية الاستصحاب للاستغناء عنه بالأصل المحرز بعد فرض بقاء موضوعه ، لارتفاع التحير به وترتب الأثر عليه.

فإن ذلك كله مبني على تخيل جريان الأصل المحرز في تمام الأزمنة ذات الشكوك المتعددة بتطبيق واحد ، مع الغافلة عن أن تطبيقه في كل زمان بلحاظ شكه الخاص به لإطلاق الشك في دليله ، الذي هو كإطلاق اليقين في دليل الاستصحاب شامل للإحراز التعبدي المتفرع على تطبيق دليل الأصل المحرز على الشك الأول والمتأخر عنه رتبة من دون أن يتأخر رتبة عن تطبيقه على بقية الشكوك ، بل هو في عرضه.

والذي ينبغي أن يقال : لا مجال لجريان الاستصحاب مع وحدة الشك وعدم تجدده ، لعدم احتمال ارتفاع الحال المحرز سابقا على تقدير ثبوته ، وإنما يشك في أصل تحققه في الزمان السابق ويختص بعلاج الشك المذكور الأصل المحرز الجاري فرضا.

وأما مع تجدد الشك في ارتفاع الحال السابق الذي هو مقتضى الأصل المحرز ، فالأصل المحرز إن كان هو الاستصحاب فالظاهر جريانه بنفسه في الزمان الثاني لدفع الشك الحادث ، لظهور قضية عدم نقض اليقين بالشك في

٨٤

تقديم اليقين السابق على كل شك يفرض لا على شك واحد ، ولا يترتب استصحاب آخر عليه بلحاظ جريانه في الزمان الأول ، لا لعدم الموضوع له ، بل لغافلة العرف عن تطبيق عموم الاستصحاب عليه مع تطبيقه الأول ، ولو التفت إلى ذلك فهو يرى أن تطبيق دليل الاستصحاب في الشك المتجدد مرة اخرى لاغ وإن لم يكن لاغيا عقلا ، لإمكان إحراز المشكوك بأكثر من تعبد واحد لا ترتب بينها ، وذلك يوجب انصراف عموم الاستصحاب عن مثل هذا التطبيق ، فلا يكون حجة فيه.

وبالجملة : لا يرى العرف بعد اطلاعه على عموم الاستصحاب في مقام علاج الشك المتجدد إلا تعبدا واحدا موضوعه اليقين الأول ، ويغافل عن التعبد الآخر المبتني على إعمال العموم في الشك الأول ، وذلك كاشف عن انصراف العموم وعدم صلوحه لبيان مثل هذه الأفراد حسب المتفاهم العرفي.

وإن كان المحرز أصلا آخر غير الاستصحاب ـ كأصالة الطهارة ـ فالظاهر أنه لا مانع من تطبيق عموم الاستصحاب في الشك المتجدد ، لعموم دليله وعدم غفلة العرف عنه ، بل يكون من حيثية الشك المتجدد مقدما على قاعدة الطهارة ، كما يقدم عليها في سائر الموارد ، وإن كانت تنفرد بالجريان من حيثية الشك الأول ، حتى في الزمان الثاني ، لعدم الموضوع للاستصحاب بالاضافة اليها ، كما تقدم.

مثلا : إذا شك في الثوب أنه من شعر الكلب أو الماعز ، فجرت أصالة الطهارة ، ثم احتمل ملاقاته للنجاسة بعد خياطته ، فالشك في طهارته بعد خياطته من حيثية احتمال كونه من شعر الكلب مجرى لقاعدة الطهارة ، ومن حيثية احتمال ملاقاته للنجاسة مجرى للاستصحاب المقدم على القاعدة ، فيجتمع الاستصحاب مع القاعدة بلحاظ اختلاف الحيثية لإطلاق دليلهما ، وإن كان مقدما عليها في الحيثية الواحدة ، ولذا يقدم عليها في الحيثية الثانية ، نظير اجتماع قاعدة

٨٥

الطهارة أو الاستصحاب مع البينة في الفرض لو قامت البينة على كون الثوب من شعر الماعز ، أو على عدم تنجسه بنجاسة عرضية.

هذا هو الظاهر من أدلة الأصول بعد تحكيم المرتكزات في الجمع بين مؤدياتها.

بقي الكلام في الأصول غير الإحرازية ، كأصالة البراءة والاحتياط الشرعيين والعقليين ، ومن الظاهر أن ما تقدم من الوجوه المصححة للاستصحاب لا يجري فيها ، بل حيث كانت مؤدياتها أحكاما طريقية مباينة للحكم الواقعي ، فلا مجال لفرض الشك في ارتفاعها بما يحتمل معه ارتفاع الحكم الواقعي ، لينظر في الاستصحاب حينئذ.

نعم ، قد يشك في ارتفاعها لاحتمال انتهاء موضوعها أو طروء الرافع لها لو كانت شرعية ، كما هو الحال في سائر الأحكام الشرعية ، فيجري فيهما ما يجري فيها من الكلام ، وهو خارج عما نحن فيه.

الأمر الثاني : الظاهر أن المراد بالشك ما يقابل اليقين ، فيعم الظن والوهم ، لأنه معناه لغة كما في جمهرة اللغة ، والقاموس ، ومجمع البحرين ، بل في الأخير أنه المنقول عن أئمة اللغة.

بل هو المنسبق منه عرفا ، المؤيد بظهور بعض نصوص قاعدة التجاوز (١) ، والشك في ركعات الصلاة (٢) في إرادته ، لمقابلته باليقين وفرض صورة الظن معه فيها ، بل هو الظاهر من موارد استعماله في الكتاب المجيد ، كما يناسبه مقابلته بالإيمان في قوله تعالى : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ)(٣) ، وتعقيبه بالبيان في قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي

__________________

(١) الوسائل ج ١ ، باب : ٤٢ من أبواب الوضوء حديث : ٨.

(٢) الوسائل ج ٥ ، باب : ١ من أبواب الخلال الواقع في الصلاة حديث : ١.

(٣) سبأ : ٢١.

٨٦

فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)(١) ، وجعله موضوعا للسؤال في قوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ)(٢) ، ووصفه بالريب في مثل قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)(٣).

والظاهر أن تخصيصه بتساوي الاحتمالين اصطلاح متأخر ، نظير جعل الوهم مقابلا للظن ، فلا مجال لحمل نصوص المقام وغيرها عليه.

ولا سيما مع ما في نصوص المقام من مقابلته باليقين بنحو يظهر منه الانحصار بهما واستيفاء الأقسام ، وتضمنها حصر الناقض لليقين باليقين ، وعدم الاعتناء باحتمال الشخص للنوم بمثل تحريك شيء إلى جنبه وهو لا يعلم ، الذي هو من سنخ الأمارة الموجبة غالبا للظن به ، والاكتفاء في العمل على اليقين السابق بمثل احتمال وقوع الدم على المصلي في أثناء الصلاة الذي هو ضعيف جدا ، كما أشار إلى ذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، بل صرح بتطبيق الشك على الظن بإصابة الدم للثوب في صحيحة زرارة الثانية.

ومنه يظهر جريانه مع الوثوق والاطمئنان بانتقاض الحالة السابقة ، بل ذلك يصلح للردع عنه لو فرض حجيته في نفسه ببناء العقلاء ـ كما قد يدعى ـ كما يمكن استفادة الردع عنه من نصوص أخر واردة في قاعدة التجاوز وطهارة الماء وغيرها. وللكلام في ذلك مقام آخر.

هذا ، وقد استدل شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ مضافا إلى ذلك ـ بالإجماع على عدم الفرق بين الظن وغيره ، بناء على أخذ الاستصحاب من الأخبار.

وبأن عدم اعتبار الظن إن كان لقيام الدليل على عدم اعتباره كان مفاد

__________________

(١) يونس : ١٠٤.

(٢) يونس : ٩٤.

(٣) هود : ١١٠.

٨٧

الدليل تنزيله منزلة العدم عند الشارع ، وأن كل ما يترتب على تقدير عدمه فهو المترتب على تقدير وجوده ، وإن كان لعدم الدليل على اعتباره كان نقض اليقين به نقضا بالشك.

ويشكل ما ذكره : بأن الإجماع لا ينفع بعد قرب استناده إلى فهمهم من الاخبار ، فلا يكون دليلا آخر غيرها. إلا أن يدعى كشفه عن وجود قرائن ملزمة بالحمل على العموم خفيت علينا.

وهو ممنوع.

ودليل عدم اعتبار الظن إنما يقتضي عدم حجيته ، لا إلغاءه شرعا بمعنى عدم ترتب أحكامه ، فضلا عن ترتب أحكام الشك ـ بالمعنى الأخص ـ عليه ، لعدم تضمنها تنزيله منزلة الشك شرعا ، ولذا لا تترتب أحكام الشك المذكور عليه غير عدم نقض اليقين.

والشك في حجية ظن لا يوجب كون نقض اليقين به نقضا بالشك ، لوضوح أن ظاهر الشك في نصوص الاستصحاب هو الشك في نفس الواقع المتيقن ، لا ما يعم الشك في حجية الطريق عليه.

ثم إنه ربما يدعى أن ذكر الشك في النصوص كناية عن عدم الحجية والتحير ، فيرتفع موضوع الاستصحاب بقيام الطريق المعتبر وإن بقي معه الشك.

ويترتب على ذلك ورود دليل حجية الطريق على عموم الاستصحاب.

وقد يقرب : بأن قضية عدم نقض اليقين بالشك لما كانت ارتكازية واردة مورد التعليل فهي قاصرة عن صورة وجود الطريق المعتبر على خلاف الحالة السابقة ، لعدم بناء العرف على العمل بالحالة السابقة مع قيام الطريق المعتبر على انتقاضها وإن بقي الشك معه ، نظير ما تقدم في تقريب استصحاب مؤدى الطريق.

لكنه يشكل : بأن مجرد عدم بناء العرف على العمل بالاستصحاب مع قيام

٨٨

الطريق المعتبر على خلافه لا ينافي بناءهم على تحقق موضوعه ، وهو الشك ، وجريانه ذاتا لو لا الطريق ، بحيث يكون قيام الطريق من سنخ المانع عن الرجوع للاستصحاب مع تحقق موضوعه ذاتا لا من سنخ الرافع لموضوعه ذاتا.

ودعوى : أن البناء على إلغاء خصوصية اليقين وتعميم الموضوع لكل محرز ـ كما تقدم في الأمر السابق ـ يقتضي حمل الشك على فرض عدم المحرز ، لأنه مقتضى المقابلة بين الأمرين.

مدفوعة : بأن الشك لما كان بتمام أفراده غير صالح للإحراز ، فإبقاؤه على إطلاقه لا ينافي المقابلة بوجه ، غاية ما يلزم هو البناء على نقض اليقين وكل محرز بكل ما لا يكون محرزا وإن كان أمرا آخر غير الشك ، وهو أمر آخر غير تقييد الشك بصورة عدم وجود المحرز بنحو يكون وجود المحرز رافعا لموضوع الاستصحاب ذاتا.

وأضعف من ذلك دعوى : أن المراد بالشك ليس مطلق ما يقابل اليقين بالواقع ، ليجتمع مع قيام الطريق المعتبر ، بل ما يقابل اليقين بالواقع أو بالحجية المستتبع لليقين بالوظيفة العملية الظاهرية ، وقيام الطريق المعلوم الحجية رافع له حقيقة.

لاندفاعها : بأن ذلك تكلف لا شاهد له ، فإن ظاهر المقابلة بين الشك واليقين اتحاد متعلقهما ، وهو الواقع لا غير.

وبالجملة : إن كان المدعى ارتفاع موضوع الاستصحاب ذاتا بقيام الطريق المعتبر ، بحيث يكون دليل حجيته واردا عليه ، لاختصاص موضوعه بالشك الذي لا حجة معه ، فلا طريق لاثباته.

وإن كان المدعى عدم الرجوع للاستصحاب مع قيام الطريق المعتبر ، إما لتخصيص عمومه بدليل حجية الطريق ، أو لمانعية قيام الطريق من العمل به مع تحقق موضوعه ذاتا ، فهو حق على ما يتضح الكلام فيه في محله إن شاء الله

٨٩

تعالى.

الأمر الثالث : ظاهر الأدلة المتقدمة كون موضوع الاستصحاب هو اليقين والشك الفعليين المتفرعين على الالتفات للواقعة ، لا التقديريين الراجعين إلى كون المكلف بحيث لو التفت لتيقن أو شك ، كما هو الحال في سائر العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام الواقعية والظاهرية ، التي يكون مفاد كبرياتها قضايا حقيقية تقتضي فعلية الحكم في فرض فعلية الموضوع.

بل لا ضابط لوجود الموضوع تقديرا ، حيث يمكن ترتبه على أمور كثيرة لا تحقق لها ، فلو فرض الحمل عليه في المقام لم يكن وجه لتخصيص محل الكلام باليقين والشك الحاصلين على تقدير الالتفات ، بل ينبغي تعميمه لفرض وجودهما على تقدير إخبار زيد أو نزول المطر أو غيرهما مما يمكن ترتبهما عليه ولا تحقق له ، ولا يظن من أحد البناء على ذلك.

ومن ثمّ اخذ في بعض النصوص المتقدمة فعلية اليقين والشك في صغرى الاستصحاب ، لقوله عليه السّلام في الصحيحة الأولى : «وإلا فإنه على يقين من وضوئه» ، وقوله عليه السّلام في الثانية : «لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت ...» ، وقوله عليه السّلام في رواية الخصال : «من كان على يقين فشك ...» وقوله عليه السّلام في رواية الإرشاد : «من كان على يقين فأصابه شك».

هذا ، وقد تعرض غير واحد لتوجيه عدم جريان الاستصحاب مع عدم فعليته اليقين والشك ـ مضافا إلى بعض ما تقدم ـ بأن الاستصحاب لما كان حكما طريقيا راجعا إلى بيان الوظيفة العملية ، المستتبعة للجري العملي ، والتعذير والتنجيز توقفت فعليته على الالتفات لموضوعه ، لاستحالة ترتب شيء من ذلك مع الغافلة ، وكذا الحال في سائر الأصول والطرق الظاهرية ، بخلاف الأحكام الواقعية ، فإن فعليتها تابعة لفعلية موضوعاتها ولو مع الغافلة عنها.

٩٠

ومن ثمّ يتعين البناء على توقف فعلية الأحكام الظاهرية على الالتفات إليها أيضا ، وإن شاركت الأحكام الواقعية في استحالة أخذ الالتفات إليها في موضوعها.

وبالجملة : سنخية الحكم الظاهري تقتضي توقف فعليته على الالتفات إليه موضوعا وحكما ، وإن كان موضوعه مطلقا ، ولا يعقل ثبوته واقعا مع الغافلة عنه ، بسبب الغافلة عن صغراه أو كبراه ، بخلاف الحكم الواقعي ، حيث يمكن الغافلة عنه مع فعليته لفعلية موضوعه وجعله.

لكن ما ذكروه لا يرجع إلى محصل ظاهر ، فإن الوظيفة العملية الظاهرية كالتكليف الواقعي تقتضي في نفسها حركة المكلف ولو مع الغافلة عنها ، وهما يشتركان في توقف فعلية تأثيرهما في الحركة على الالتفات ، والمعذرية والمنجزية من آثار وصول الحكم الظاهري والواقعي أو التقصير في الفحص عنهما ، وليستا مقومتين للحكم الظاهري بنحو لا يترتب مضمونه بدونهما.

وبعبارة اخرى : لا وجه للفرق بين الحكم الواقعي والوظيفة الظاهرية بإمكان ثبوت الحكم الواقعي مع الغافلة عنه ، وامتناع ثبوت الوظيفة الظاهرية معها ، بل الظاهر اشتراكهما في تبعيتهما لفعلية موضوعهما ولو مع الغافلة عنهما حكما أو موضوعا ، تبعا لإطلاق دليلهما ، وفرارا من محذور التصويب.

ولذا لو فرض استكمال المكلف الفحص عن الحكم الواقعي وتقصيره في الفحص عن الوظيفة الظاهرية كان مؤاخذا بمخالفتها ، مع أنه لا وجه لذلك إلا ثبوتها واقعا مع غفلة المكلف عنها.

كما أنه لو فرض ترتب الأثر لوجودها حين الغافلة يتعين ترتب الأثر المذكور ، كما هو الحال بناء على إجزاء الأمر الظاهري ، ولعله عليه يبتني ما تضمنته صحيحة زرارة الثانية من صحة الصلاة لأجل جريان الاستصحاب حينها ، لظهورها في عدم توقف الصحة على سبق التفات المكلف لجريان

٩١

الاستصحاب ، بل يجري الاستصحاب وتصح لأجله الصلاة ولو مع جهل المكلف بجريانه.

كما يبتني عليه ـ أيضا ـ ما أشرنا إليه في الأمر الثاني من جواز اعتماد المجتهد على الاستصحاب الجاري في حق العامي والفتوى له بمضمونه وإن كان العامي غافلا عن جريان الاستصحاب. فلاحظ.

ثم إنه قد رتب شيخنا الأعظم قدّس سرّه على ما تقدم من عدم جريان الاستصحاب إلا مع فعلية اليقين والشك صحة صلاة من كان متيقنا بالحدث لو علم من نفسه أنه لو التفت قبل الصلاة لشك في الطهارة واستصحب الحدث ، بخلاف ما لو تحقق منه الشك بالفعل قبل الصلاة ، ثم غفل وصلى وعلم من نفسه أنه لم يتوضأ بعد الشك.

وقد تبعه على ذلك المحقق الخراساني قدّس سرّه.

بدعوى : أنه حيث لا يجري الاستصحاب قبل الصلاة في الفرض الأول لعدم فعلية الشك ، فلا مانع من الرجوع لقاعدة الفراغ المقدمة على الاستصحاب الجاري بعد الفراغ ، كما في سائر مواردها.

أما في الفرض الثاني فحيث فرض جريانه ، لفعلية الشك امتنع جريان قاعدة الفراغ ، إما لما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن مجراها الشك الحادث بعد الفراغ ، لا الشك الموجود قبله ، أو لما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من القطع بعدم رفع الحدث الاستصحابي ، الذي لا مجال معه لقاعدة الفراغ ، لعدم منافاتها للاستصحاب ، وعدم جريانها مع القطع.

لكن ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه أجنبي عما نحن فيه من عدم جريان الاستصحاب مع الغافلة وجريانه مع الالتفات ، كيف! والاستصحاب الجاري مع الالتفات في الفرض الثاني قد ارتفع تبعا لعروض الغافلة حين الصلاة ، فلا أثر له ، بل مرجع ما ذكره قدّس سرّه إلى دعوى قصور قاعدة الفراغ عن شمول الشك في

٩٢

الفرض الأول وشمولها في الفرض الثاني ، فإن ذلك هو العمدة في الفرق بين الفرضين لا جريان الاستصحاب وعدمه قبل الصلاة ، لوضوح أنه لو فرض قصور قاعدة الفراغ عن شمول الشك في الفرض الأول فلا بد من الإعادة وإن لم يجر الاستصحاب قبل الصلاة ، لكفاية جريانه بعدها ، بل جريان قاعدة الاشتغال في لزوم الإعادة.

كما أنه لو فرض جريان القاعدة في الفرض الثاني لم تجب الإعادة وإن جرى الاستصحاب قبل الصلاة ، لأن الإعادة تابعة للوظيفة العملية الجارية بعد الصلاة.

كما أن جريان قاعدة الفراغ وعدمه في الفرضين لا يبتني على جريان الاستصحاب قبل الصلاة وعدمه ، لعدم أخذ الاستصحاب في موضوع القاعدة ، بل ليس موضوعها إلا الشك ، فيبتني جريانها في الفرضين على شمول موضوعها للشك الخاص المتحقق فيهما.

وأما ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه فهو وإن كان متفرعا على ما نحن فيه ، لأن الحدث الاستصحابي متفرع على جريان الاستصحاب ، فلو فرض جريانه مع الشك التقديري قبل الصلاة فالمفروض عدم انتقاضة بتجديد الوضوء بعده ، فقد يتجه إعادة الصلاة في الفرض الأول أيضا.

إلا أنه مبتن على أن مفاد الاستصحاب تنزيل المشكوك منزلة المتيقن أو جعل المستصحب ظاهرا ، بنحو يكون هناك حدث تنزيلي أو ظاهري غير الحدث المشكوك يقطع بعدم رفعه بطهارة جديدة.

وقد تقدم في استصحاب مؤدى الطرق والأصول إنكار ذلك وأنه ليس مفاد الاستصحاب إلا الإحراز الظاهري للحدث ، كما هو الحال في الفرض الثاني أيضا ، وهو لا يوجب اليقين ببطلانها بنحو يمتنع جريان القاعدة ، بل تبتني صحة الصلاة في الفرضين على عموم موضوع القاعدة وعدمه ، على ما تقدم في كلام

٩٣

شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

على أنه لو سلم المبنى المذكور إلا أنه بعد فرض الغافلة حين الصلاة يشترك الفرضان في توقف تحقق الحدث الاستصحابي حين الصلاة على جريان الاستصحاب مع الغافلة.

ومجرد اختصاص الفرض الثاني بالالتفات قبل الصلاة الموجب لليقين بالحدث الاستصحابي قبلها ، لا يصلح فارقا في ما نحن فيه بعد كون سبب بطلان الصلاة هو الحدث حينها لا قبلها.

وأما ما ذكره بعض المحققين قدّس سرّه من أن الغافلة في الفرض الثاني حين الصلاة عن الشك الحاصل قبلها لا تمنع من بقاء الشك حينها ، بل من الالتفات إليه مع بقائه في افق النفس.

فيدفعه : أنه لا موطن للشك إلا الذهن ، ولا مجال لفرض بقائه فيه مع الغافلة.

على أن الشك المغفول عنه هو الشك في تحقق الطهارة قبل الصلاة ، وليس هو موضوعا للاستصحاب حينها المانع من الدخول حينها ، بل ليس موضوع الاستصحاب حينها المصحح للدخول فيها إلا الشك في تحقق الطهارة حينها ، والمفروض عدم حصوله من أول الأمر بسبب الغافلة.

هذا ، وحيث عرفت ابتناء الصحة في الفرضين المتقدمين على جريان قاعدة الفراغ وعدمه ، فقد تقدم من شيخنا الأعظم قدّس سرّه توجيه عدم جريانها في الفرض الثاني بأن مجراها الشك الحادث بعد الفراغ ، لا الموجود قبله.

وهو كما ترى! لارتفاع الشك الأول ، لفرض الغافلة حين الصلاة. والشك الحاصل بعدها ليس بقاء لذلك الشك ، بل هو شك آخر ، وإن اتحد سببهما.

ومثله ما تقدم من بعض المحققين من بقاء الشك السابق حين الغافلة ، كما تقدم.

٩٤

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من اتحادهما عرفا وإن اختلفا حقيقة.

فهو غير ظاهر ، بل ليس الاتحاد إلا في موضوع الشكين. إلا أن يرجع إلى دعوى انصراف عموم القاعدة عن مثل الشك المذكور مما سبق مثيله قبل العمل.

وكأنه يبتني ارتكازا على دعوى اختصاص القاعدة بما إذا لم يعلم المكلف من نفسه الغافلة عن منشأ الشك اللاحق ، الذي لو تم جرى في الفرضين معا. ولذا لا ريب ظاهرا في جريان القاعدة في الفرض لو احتمل المكلف بعد الفراغ أن يكون دخوله في الصلاة ناشئا عن تذكره لسبق الطهارة ، وخطأ الاستصحاب الذي جرى في حقه أولا ، مع وضوح المماثلة بين الشك الأول والشك الحادث بعد الصلاة.

فالبناء على جريان القاعدة في الفرض الثاني بناء على عمومها لصورة العلم بالغافلة حين العمل قريب جدا. وإن كان الأمر لا يخلو عن إشكال.

الأمر الرابع : أن المنساق من دليل الاستصحاب هو التعبد ببقاء المتيقن ، لا محض وجوده في زمان الشك بعد سبق اليقين به.

فإن الجهة الارتكازية التي اشير إليها في التعليل المتقدم في الصحيحتين تناسب ذلك جدا.

بل هو المناسب لفرض النقض ، فإن صدقه حقيقة موقوف على اتحاد موضوع الناقض مع موضوع المنقوض من جميع الجهات حتى الخصوصية الزمانية ، وقرينة المقام إنما تقتضي التسامح في الخصوصية الزمانية بإرادة الشك في البقاء بعد اليقين بالحدوث ، مع المحافظة على وحدة الوجود ، لعدم الملزم بالخروج عنها. ومن هنا لا بد من أمرين ..

الأول : اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، ولا يكفي مجرد تأخره عنه ، نظير الطفرة ، لعدم صدق البقاء معه ، بل لعله مقتضى تعقيب الشك لليقين بالفاء في

٩٥

صحيحة زرارة الثانية ، وروايتي الخصال والإرشاد ، لظهورها في اتصال الشك باليقين.

بل لازم العموم جريان استصحاب الحالتين المتضادتين المعلومتي التاريخ في زمان الشك المتأخر عنهما وتعارضهما ، فلو كان زيد عادلا يوم الجمعة وفسق يوم السبت ، وشك في حاله يوم الأحد ، جرى استصحاب عدالته وفسقه ، لا خصوص الفسق ، لمشاركة العدالة له في اليقين بها سابقا والشك فيها لاحقا.

ومنه يظهر لزوم إحراز الاتصاف في جريان الاستصحاب ، ولا يكفي احتماله لتردد زمان الشك بين المتصل بزمان اليقين والمنفصل عنه ، لان التمسك فيه بعموم الاستصحاب يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام ، الذي لا يصح بلا كلام ، ويأتي ما يتعلق بذلك في مجهولي التاريخ إن شاء الله تعالى.

الثاني : اتحاد المشكوك مع المتيقن في جميع الخصوصيات المقومة له ، وحيث كان موضوع اليقين والشك هو النسبة لزم اتحاد القضية المشكوكة التي هي موضوع الأثر ومورد العمل مع القضية المتيقنة في تمام الخصوصيات المقومة لها من موضوع ومحمول وغيرهما ، بل لا بد من إحراز الاتحاد ، ولا يكفي الشك فيه لما تقدم في نظيره.

وهذا في الجملة ظاهر لا خفاء فيه ، إلا أن من الظاهر أن إحراز اتحاد القضيتين في الخصوصيات المذكورة متفرع على تشخيص ما تقوم به النسبة المذكورة وتحديده كي يكون معيارا في الاتحاد المذكور ، وهي المسألة المهمة في المقام التي يبتني عليها الكلام في الاستصحاب في كثير من الموارد ، والتي عنونت في كلماتهم بمسألة موضوع الاستصحاب.

والعنوان المذكور وإن كان مختصا بالموضوع المقابل للمحمول الذي

٩٦

يكون نسبته إليه نسبة الموضوع إلى عرضه ، إلا أن ملاك الكلام لا يختص به ، بل يجري في جميع ما يقوّم النسبة.

ولعل وجه تخصيصهم الكلام به كثرة الفروع المبتنية عليه ، بنحو أوجب انصرافهم إليه وغفلتهم عن غيره مما تقوم به النسبة.

وقد يشهد بما ذكرنا ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من جريان القسم الثالث من استصحاب الكلي في ما يتسامح فيه العرف فيعدون الفرد اللاحق مع الفرد السابق كالمستمر الواحد ، حيث رجع إلى العرف في تشخيص اتحاد المحمول المستصحب كالسواد للثوب ، كما رجع إليه في الموضوع.

وكيف كان ، فملاك الكلام لا يختص بالموضوع ، بل يجري في غيره مما تقوم به النسبة ، إلا أن المناسب تحرير الكلام في الموضوع تبعا لهم ، لينتظم كلامنا مع كلامهم ، والاكتفاء في التعميم بما ذكرناه هنا من عموم الملاك.

إذا عرفت هذا ، فالمهم هو تشخيص الموضوع وتحديده ، لابتناء الاتحاد فيه على ذلك. وقد ذكروا أن تحديده يختلف باختلاف المعيار فيه ، إذ ما يمكن أن يكون معيارا فيه أحد أمور ..

الأول : النظر العقلي الدقي ، الذي لو كان هو المرجع لامتنع استصحاب الأحكام مع الشك فيها من غير جهة النسخ ، لأن الشك في بقائها لا يكون إلا للشك في بقاء بعض ما يعتبر في موضوعها ، لامتناع ارتفاع الحكم مع بقاء موضوعه بتمام ما يعتبر فيه دقة.

كما يجرى الاستصحاب الموضوعي في موارد الاستحالة ، كما لو شك في بياض الدود المستحيل من الطعام الأبيض ، لأن موضوع البياض هو الجسم الباقي مع الاستحالة دقة وإن لم يبق عرفا.

الثاني : لسان الدليل ، فكلما اخذ في الأدلة في عنوان موضوع الحكم لا بد في جريان استصحاب الحكم من إحراز بقائه ، كالزوجية في استصحاب جواز

٩٧

الاستمتاع أو وجوب الإنفاق ، والاستطاعة في استصحاب وجوب الحج ، والخمرية في استصحاب النجاسة والحرمة.

ويختص جريان الاستصحاب بما إذا كان الشك في بقاء الحكم مستندا لاحتمال اعتبار أمر فيه لم يؤخذ عنوانا في موضوعه ، كما لو شك في وجوب الإنفاق على الزوجة عند خروجها بغير إذن زوجها ، فيفرق في استصحاب نجاسة الماء بعد زوال تغيره بين كون دليل النجاسة بلسان : الماء المتغير نجس ، وكونه بلسان : إذا تغير الماء نجس.

الثالث : النظر العرفي التسامحي ، فإن العرفي قد يدرك بملاحظة مناسبة الحكم والموضوع عدم دخل بعض الامور في الموضوع وإن اخذت عنوانا فيه ، كعنوان التغير الذي يرى العرف أنه علة لثبوت النجاسة للماء ، وأن موضوعها ليس إلّا الماء بذاته ، فيصح الاستصحاب مع بقائه وإن ذهب التغير.

كما قد يدرك تقوم الموضوع ببعض الامور وإن لم تؤخذ في الأدلة عنوانا له ، كالخشبيّة التي لم تؤخذ في عنوان نجاسة الملاقي للنجاسة ، بل لم يؤخذ فيها إلا عنوان الملاقاة ، مع أنها بنظر العرف مقومة للموضوع ، فلو صار الخشب المتنجس فحما أو رمادا تعدد الموضوع وامتنع الاستصحاب.

وقد يتسامح في ما هو مقوم للموضوع دقة وعقلا ، كما هو مبنى استصحاب كرية الماء بعد أخذ شيء منه فإن موضوع الكرية ـ دقة ـ هو الماء بتمام أجزائه ، فلا يبقى بأخذ شيء منه ، إلا بنظر العرف تسامحا تنزيلا لذلك منزلة الحالات الطارئة. كما قد ينعكس الحال ، وعليه يبتني امتناع الاستصحاب الموضوعي مع الاستحالة ، مع بقاء الموضوع فيها دقة ، كما تقدم.

وقد يظهر بذلك اختلاف الضوابط المذكورة في كل من استصحاب الأحكام الشرعية واستصحاب الامور الخارجية ، ولا يختص الاختلاف بينها

٩٨

بالأول ، كما يظهر من بعض مشايخنا.

نعم ، لا موضوع للضابط الثاني في استصحاب الامور الخارجية التي لا دخل للشارع بها ، كي يؤخذ موضوعها منه ، فيتردد الضابط فيها بالأول والثالث.

هذا ، وقد ذكروا أنه لا مجال لدعوى : أن مقتضى الإطلاق الاكتفاء في جريان الاستصحاب بوحدة الموضوع بلحاظ أحد هذه الضوابط ، إن كان متعددا بلحاظ الباقي.

لاندفاعها : ـ مضافا إلى عدم الجامع العرفي بين الجهات ـ بأن المرجع في وحدة الموضوع لم تتعرض له الأدلة بعنوانه وبما هو معنى اسمي ، ليتجه إطلاقه بنحو يشمل جميع الوجوه المحتملة ، بل ليس مفاد الأدلة إلا الحكم بالبقاء بعد الفراغ عن وحدة الموضوع ، وحيث كانت إضافية فلا بد من كونها بلحاظ جهة خاصة ، فتلك الجهة ملحوظة بخصوصيتها ، ولا إطلاق يشمل غيرها ، ولا مجال للحاظ أكثر من جهة واحدة ، لامتناع تعدد اللحاظ في الاستعمال الواحد.

ثم إن المعروف من شيخنا الأعظم قدّس سرّه ومن تأخر عنه هو الرجوع للعرف في تحديد موضوع الاستصحاب على اضطراب منهم في صغريات ذلك ، كاضطراب من تقدمهم فيها من دون أن يتعرضوا لتعيين المرجع.

وكيف كان ، فما يستفاد من كلماتهم في توجيه الرجوع للعرف وجوه ..

الأول : ما قد يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه من أن ذلك هو المنساق من النقض في أخبار الاستصحاب بمقتضى الإطلاق المقامي ، لأنه بعد أن كان المعيار في صدقه مختلفا كان عدم تنبيه الشارع الأقدس على معيار خاص فيه ظاهرا في الإيكال إلى العرف في فهمه وتطبيقه.

ويشكل : بأنه لا إجمال في مفهوم النقض ، وليس الاختلاف في تطبيقه ناشئا من الاختلاف في مفهومه ، كي يرجع في تحديده للعرف ، ولو بتطبيقهم له

٩٩

في بعض موارد الشك ، لكون تطبيقهم كاشفا عن إدراكهم تحقق المفهوم ، وإن لم يتسن لهم تحديده بحدود مفهومية.

بل ليس النقض حسبما يستفاد من أدلة الاستصحاب إلا رفع اليد عن الأمر المتيقن وعدم البناء على استمراره المتفرع على كون المشكوك الذي هو مورد للعمل بقاء للمتيقن ، لاتحاده معه في الموضوع ، فلا بد فيه من تحديد موضوع القضية المتيقنة أولا ، بالوجدان أو بالدليل ، ثم العلم باتحاد القضية المشكوكة معها فيه حقيقة ، ولا معنى للاكتفاء في صدق النقض بالنظر العرفي التسامحي ، لعدم التعويل عليه في تطبيق مفاد الدليل بعد وضوح معناه وحدوده في سائر الموارد.

ومنه يظهر الإشكال في ما ذكره بعض مشايخنا من أن أدلة الأحكام الواقعية المستصحبة إنما تنهض ببيان موضوع الحكم الواقعي ابتداء ، وليس هو محل الكلام ، وإنما الكلام في ما هو الموضوع بقاء ، الذي هو موضوع الاستصحاب ، وبه قوام النقض ، فلا بد من أخذه من العرف بالرجوع إليهم في تطبيق النقض.

لاندفاعه : بما ذكرناه من عدم الإجمال في مفهوم النقض ولا في ما يقومه ، لوضوح أنه متقوم باتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة المتوقف على اتحاد موضوعهما ، غاية الأمر أن ذلك متفرع على تحديد موضوع القضية المتيقنة الذي هو موضوع الحكم الواقعي ابتداء ، فمع فرض تكفل الدليل ببيانه لا مجال للرجوع فيه ولا في تطبيق النقض للعرف.

وبالجملة : ليس للاستصحاب موضوع آخر في قبال موضوع القضية المتيقنة ، بل لا بد فيه من بقاء موضوعها ، الذي فرض شرح الأدلة له.

الثاني : ما يظهر من بعض الأعاظم قدّس سرّه من أنه لا مجال للرجوع للعقل ، إذ لا

١٠٠