المحكم في أصول الفقه - ج ٥

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨

ومن هنا رجع شيخنا الأعظم قدّس سرّه في توجيه الاستصحاب في المقام إلى ما جرى عليه في غير المقام من الاكتفاء بالتسامح العرفي في صدق البقاء ، فما كان الزمان فيه بنظر العرف مقوما للموضوع وقيدا فيه لا يجري فيه الاستصحاب ، وما كان الزمان فيه غير مقوم له ، بل كان ظرفا له يجري فيه الاستصحاب ، وإن كان قد يشك في ذلك في بعض الموارد ، فيلزم التأمل التام ، فانه أعظم المزال في المقام.

ومنه يظهر أنه لا مجال لما استشكله بعض مشايخنا من عدم اختلاف التقييد والظرفية إلا بالعبارة ، ورجوع الظرفية للتقييد ، إذ لا بد في كل ما يؤخذ في الحكم أن يكون مأخوذا قيدا فيه ، إذ لا بد من دخله فيه ثبوتا.

لاندفاعه : بأن تفريقه قدّس سرّه بينهما بلحاظ النظر العرفي التسامحي ، لا الجعل الشرعي.

نعم ، تقدم منا في تحقيق موضوع الاستصحاب أنه لا مجال للتعويل على التسامح العرفي فيه ، بل يلزم إحراز البقاء الحقيقي للموضوع بعد الرجوع للأدلة في تعيينه وتحديده.

ويظهر الضابط المصحح لجريان الاستصحاب هنا بملاحظة ما ذكرناه هناك.

وحاصله : أن الموضوع المعروض للحكم إن كان جزئيا خارجيا ـ كالثوب المعروض للنجاسة ـ امتنع تقييده بالزمان أو غيره ، فلا بد من كون الزمان ظرفا محضا له ولحكمه.

وإن كان كليا ـ كفعل المكلف الموضوع للأحكام التكليفية والكليات الذمية كالدين والعمل المستأجر عليه ـ كان قابلا للتقييد ، فإن احتمل أو احرز تقييده بالخصوصية الزمانية أو نحوها امتنع الاستصحاب ، لعدم إحراز الموضوع. وإن احرز إطلاقه تعين كون الخصوصية المحتملة دخيلة في الحكم ،

٢٦١

ويكون الزمان ظرفا له ـ كما في موارد الشك في الرافع ـ فيشك في استمرار الحكم مع إحراز الموضوع ، فلا مانع من جريان الاستصحاب في الحكم.

ومن الظاهر أنه لا مجال لذلك في الأحكام التكليفية بناء على ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من رجوع جميع القيود إلى المادة التي هي متعلق الحكم لا للهيئة ، ومن ثم ينحصر مبنى الاستصحاب فيها على التسامح العرفي ، كما تقدم منه.

لكن المبنى المذكور في غير محله والتحقيق إمكان تقييد الهيئة ، فالمتعين ما ذكرنا من التفصيل.

وربما يشير إليه ما في كلام المحقق الخراساني قدّس سرّه من فرض التقييد راجعا للموضوع ، والظرفية راجعة للحكم.

ودعوى : أنه لا بد من رجوع الظرفية للتقييد ، نظير ما تقدم من بعض مشايخنا.

مدفوعة : بأن ذلك إنما يتم في قيود الموضوع والمتعلق ، وأما في نفس الحكم المتيقن في المقام فظرفية الزمان له أعم من تقييده به ، لأن التقييد مستلزم لانتفائه بانتفاء القيد ، فلا يحتمل معه البقاء بدونه ، بخلاف ظرفيته له ، إذ يحتمل معها بقاؤه بعده ، ولذا كان للقضية الشرطية مفهوم ، دون الظرفية.

إن قلت : احتمال دخل الخصوصية في الحكم مستلزم لاحتمال تقييده به ، فكيف يستصحب بعدها؟! لأن الحكم المقيد لا يقبل الاستصحاب والمطلق غير متيقن من أول الأمر.

قلت : الإطلاق والتقييد إنما يحتمل في الكبريات الشرعية المتضمنة للأحكام الكلية ، وهي لا تستصحب إلا مع الشك في النسخ ـ على كلام يأتي في محله ـ ولو استصحب تعين استصحابه على الوجه المتيقن عليه من إطلاق أو تقييد.

٢٦٢

أما المستصحب في المقام فهو الحكم الفعلي ، وهو حكم جزئي شخصي لا يقبل الإطلاق والتقييد ، بل كل خصوصية تؤخذ في الكبرى الشرعية تكون علة له لا يضر عدم إحرازها بوحدته المقومة للاستمرار الذي يحرز بالاستصحاب.

إن قلت : تقييد الحكم مانع من إطلاق الموضوع ، بل لا بد من اختصاصه بحصة من الذات مقارنة لوجود القيد ـ وهو في المقام الزمان ـ ولو بنحو نتيجة التقييد ، فلا يتحد مع فاقده.

قلت : تقييد الحكم إنما يمنع من الإطلاق الراجع إلى ملاحظة الذات سارية في تمام الافراد حتى الفاقد للقيد ، بحيث يكون فقد القيد ملحوظا للمتكلم ، ولا يمنع من ملاحظة الماهية بنفسها وحدودها الذاتية بنحو تنطبق قهرا على جميع الأفراد ومنها الفاقد للقيد ، بل هذا هو المتعين ، وهو كاف في وحدة الموضوع المعتبرة في الاستصحاب.

وأما ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من أن الزمان وإن كان ظرفا للحكم لا بد أن يكون من قيود الموضوع ، لكونه دخيلا في ما هو مناط الحكم. فيدفعه أن المراد بالموضوع الذي يعتبر اتحاده في الاستصحاب هو المعروض للحكم ويحمل الحكم عليه ، لا كلّ ما هو الدخيل في الحكم وإن كان من سنخ العلة ، لدخله في مناطه ، كما تقدم في مبحث موضوع الاستصحاب.

الوجه الثاني : ما عن الفاضل النراقي في المناهج ، ونسب لبعض الأخباريين من معارضة استصحاب التكليف المتيقن باستصحاب عدمه الأزلي في الحصة المشكوكة من الزمان ، لأن المتيقن إنما هو وجود التكليف في الجملة مرددا بين الاستمرار والانقطاع ، فبالإضافة إلى الزمان الثاني المشكوك يحتمل استمرار عدم التكليف الأزلي الثابت قبل الجعل ، فيستصحب ، ويعارض به استصحاب التكليف من زمان اليقين إلى زمان الشك المذكور.

٢٦٣

وقد دفعه شيخنا الأعظم قدّس سرّه بأنه مع التقييد لا يجري الاستصحاب الوجودي ، لمباينة المقيد بالخصوصية لفاقدها ، فاليقين بثبوت الحكم للأول لا يصحح استصحابه للثاني ، بل يجري فيه الاستصحاب العدمي لا غير. ومع الظرفية لا يجري الاستصحاب العدمي ، لانخرام العدم الأزلي بثبوت حكم للماهية في الزمان المتيقن ، فلا معارض للاستصحاب الوجودي.

وحيث كان مبنى ما ذكره قدّس سرّه على أن المناط في الظرفية على النظر العرفي ، وإلّا فمقتضى النظر الدقي التقييد لا غير ، نبه المحقق الخراساني قدّس سرّه على أنه لا مجال للجمع بين النظرين ، كي يجري الاستصحاب الوجودي بلحاظ الظرفية التي هي مقتضى النظر العرفي ، والعدمي بلحاظ التقييد ، الذي هو مقتضى النظر الدقي ، ويتعارض الاستصحابان.

وقد تقدم في مبحث موضوع الاستصحاب توضيح امتناع الجمع بين النظرين.

أما بناء على ما ذكرنا من عدم التعويل على التسامح العرفي ، وأن الفرق بين الظرفية والتقييد ثبوتي ، فلا موقع لاحتمال الجمع بين النظرين. كما لا يخفى.

هذا ، ولكن بعض مشايخنا أصر على تحقق المعارضة ، وشيّد ما ذكره النراقي.

وعمدة ما ذكره من الوجه : أن الحكم في الزمن الثاني المشكوك بقاؤه فيه وإن فرض اتحاد المشكوك فيه مع المتيقن موضوعا ، بنحو يجري فيه استصحابه ، إلا أنه لما كان حادثا تابعا للجعل الشرعي مسبوقا بالعدم الأزلي قبل التشريع يجري استصحاب عدمه ، فيتعارض الاستصحابان.

ويظهر حاله مما تقدم ، فإن جريان الاستصحاب الوجودي موقوف على عدم دخل الزمان في موضوع الحكم ، إما لامتناع تقييده لكونه جزئيا خارجيا ـ

٢٦٤

كالثوب الذي يكون موضوعا للنجاسة ـ أو مع إمكان تقييده لكونه كليا ، لكن ثبت من الخارج أنه اريد به الماهية غير المقيدة بالخصوصية الزمانية ، المنطبقة على فاقدها.

وحينئذ إن اريد باستصحاب العدم الأزلي استصحاب عدم ثبوت الحكم للذات المحفوظة في كلا الزمانين ، فالمفروض العلم بانتقاض العدم المذكور بثبوت الحكم للذات المذكورة في الزمان الأول ، لاتحاد الوجود والعدم المذكورين موضوعا ومحمولا ، الذي هو المعيار في انتقاض أحدهما بالآخر.

ومجرد بقاء الشك في العدم في الزمان الثاني مع اليقين بالوجود في الزمان الأول لا ينافي النقض المذكور ، لأن كل حادث يشك في استمراره كذلك. وعليه فالعدم في الزمان الثاني لو كان متحققا واقعا ليس بقاء للعدم الأزلي المفروض ، ليمكن إحرازه باستصحابه ، بل هو طارئ ناقض للوجود المفروض انتقاض العدم الأزلي به ، والاستصحاب ينفيه.

وإن اريد باستصحاب العدم الأزلي استصحاب عدم ثبوت الحكم للذات المقيدة بالزمان الثاني ، فلا مانع من جريانه ذاتا ، لظهور مباينته للحكم المتيقن سابقا الثابت للذات المطلقة ، لاختلاف متعلقهما ، فلا يعلم انتقاض العدم المذكور بالحكم المتيقن.

إلا أنه ـ مع عدم جريانه لو لم يقبل المتعلق التقييد ، كالثوب الذي تتعلق به النجاسة ـ لا يعارض الاستصحاب الوجودي المذكور ولا ينافيه ، لأن عدم ثبوت الحكم للماهية المقيدة بخصوصيتها لا ينافي ثبوته للماهية بما لها من مفهوم عام ينطبق قهرا على الماهية المقيدة المذكورة.

فيجري كلا الاستصحابين ، ويكون العمل على الوجودي منهما ، لأن اللامقتضي لا يصلح لمزاحمة المقتضي ، فمثلا استصحاب عدم وجود الجلوس الحاصل بعد الزوال بخصوصيته وإن اقتضى عدم لزوم الاتيان به ، إلا أنه لا ينافي

٢٦٥

الإتيان به لاستصحاب وجوب مطلق الجلوس المنطبق عليه قهرا ، لأن الاستصحاب العدمي يرجع للتعبد بعدم المقتضي له من الحيثية الخاصة ، فلا ينافي التعبد بالمقتضي له من الحيثية الاخرى ، كما لا يخفى.

هذا ، ويظهر منه في مطاوي كلماته التمسك في المقام باستصحاب عدم الجعل للحكم في الزمان الثاني ، ومعارضته للاستصحاب الوجودي المفروض.

بدعوى : أن الجعل بالإضافة إلى زمان الشك حادث مسبوق بالعدم الأزلي قبل التشريع ، فيستصحب العدم المذكور بعده ، فيقال : لم يكن وجوب الجلوس بعد الزوال مجعولا بلحاظ حال ما قبل التشريع ، فهو غير مجعول بعده ، ولم تكن نجاسة الماء بعد زوال تغيره مجعولة آنذاك ، فهي غير مجعولة ، فيعارض بذلك الاستصحاب الوجودي.

وفيه .. أولا : أن الأثر العملي إنما يترتب على المجعولات الشرعية ، دون جعلها ، كما هو مقتضى تعليق الآثار الشرعية بنفس العناوين الاعتبارية كالزوجية والرقية والطهارة والنجاسة. بل لو لم يكن الأثر للمجعول ـ تكليفا كان أو وضعا ـ كان جعله لغوا بعد كونه اعتباريا محضا لا مصحح لجعله إلا ترتب الأثر عليه.

وعليه لا يجري استصحاب عدم الجعل إلا بناء على الأصل المثبت.

ودعوى : أن الجعل عين المجعول حقيقة أو عرفا ، وليس اختلافهما إلا بالاعتبار.

مدفوعة : بأن الاختلاف بينهما حقيقي ، كاختلاف الإيجاد والموجود ، فان الجعل أمر حقيقي من مقولة الفعل ، والمجعول أمر اعتباري مباين له ناشئ منه ، كما أن الايجاد من مقولة الفعل ، والموجود من مقولة اخرى ، عرض أو جوهر.

ومثلها دعوى : أن توقف الحكم الفعلي المجعول على الجعل كتوقفه على موضوعه ، فكما يصح استصحاب الموضوع أو عدمه ، لإحراز ترتب حكمه أو عدمه ، كذلك يصح استصحاب عدم الجعل لإحراز عدم

٢٦٦

الحكم المجعول.

لاندفاعها : بأن إحراز الأصل الجاري في الموضوع لحكمه إنما هو لكون التلازم بينهما شرعيا ، ولذا يكون حاكما على الأصل الجاري في الحكم ، بخلاف التلازم بين الجعل والمجعول ، فإنه عقلي ، ولذا اعترف بعدم حكومته على الأصل الجاري فيه ، فالتمسك به فيه مبني على الأصل المثبت.

وثانيا : أن المراد بالجعل إن كان هو الجعل الكبروي المعلق على وجود الموضوع ، فهو ليس موردا للأثر ، لا بنفسه ولا بمجعوله ، كما يأتي في مبحث الاستصحاب التعليقي إن شاء الله تعالى.

وإن كان هو الجعل الفعلي التابع لفعلية الموضوع ، فهو قابل للاستمرار تبعا لاستمرار الموضوع ، فمع فرض عدم أخذ الزمان قيدا في الموضوع مكثرا له ، بل هو ظرف محض للحكم يتعين كونه ظرفا للجعل أيضا ، فيجري استصحاب الجعل ، لا استصحاب عدمه ، لعين ما تقدم في الجواب عن استصحاب العدم الأزلي بالإضافة إلى نفس الحكم.

وثالثا : أنه ينتقض في الموضوعات الخارجية ، كعدالة زيد وبياض الثوب ، حيث يدعى حينئذ جريان استصحاب عدم جعلها تكوينا في زمان الشك بلحاظ اليقين به من الأزل ، ويعارض استصحابها الوجودي ، مع تصريحه بانفراد الأصل الوجودي بالجريان فيها. فلاحظ.

ثم إنه صرح بعموم ما ذكره للشك في النسخ والشك في الموضوع الخارجي.

والأول مبني على كون النسخ راجعا إلى قصور جعل الحكم عن شمول زمان النسخ رأسا ، وهو محل كلام يأتي في مبحث استصحاب أحكام الشرائع السابقة إن شاء الله تعالى ، وعلى أن المراد بعدم الجعل ما يعم الجعل الكبروي.

والثاني مبني على كون المراد بعدم الجعل ما يعم الجعل الفعلي الخاص

٢٦٧

التابع لفعلية الموضوع ، لفرض عدم الشك في جعل الكبرى وعدم كون إحرازها دخيلا في إحراز الصغرى.

هذا كله ما تضمنه تقرير درسه في كتاب (مباني الاستنباط) ، أما تقريره الآخر في (مصباح الأصول) فقد ادعى فيه المعارضة في خصوص صورة الشك في سعة المجعول ، كما لو احتمل طهارة الماء المتغير بزوال تغيره ، أو حل وطء الحائض بطهرها قبل اغتسالها.

وصرح بانفراد الاستصحاب الوجودي بالجريان مع الشك في النسخ ، وفي الشبهة الموضوعية ، وإن كان ظاهر بعض فقرات كلامه أن الجاري في الشبهات الموضوعية هو الاستصحاب الموضوعي ، لا الحكمي ، فيخرج عن محل الكلام.

ولم يذكر استصحاب العدم الأزلي بالإضافة إلى نفس الحكم المجعول ، وإنما اقتصر على استصحاب العدم الأزلي في نفس الجعل وعارض به الاستصحاب الوجودي مع الشك في سعة المجعول.

وكأن مراده بالجعل هو الجعل الكبروي الذي لا أثر لاستصحابه بالإضافة إلى الشبهة الموضوعية ، ولا مجال له مع الشك في النسخ بناء على عموم الجعل الأول لزمان الشك ، وأن النسخ رفع للحكم بعد ثبوته ، ولا يرجع لانتهاء أمده.

نعم ، عرفت الإشكال في استصحاب عدم الجعل.

ثم إنه قد استثنى في التقرير الأول الأحكام الترخيصية كالإباحة ، بدعوى : عدم جريان استصحاب العدم الأزلي فيها ، لأن الأشياء قبل الشريعة كانت مطلقة غير ممنوعة ، كما عليه سيرة الناس الممضاة شرعا بقوله تعالى : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وقوله عليه السّلام : «اسكتوا عما سكت الله عنه» ، وقوله عليه السّلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» ، ونحوها.

ويشكل : بأن عدم احتياج الترخيص للبيان لا يجعله أزليا ، كي يستصحب

٢٦٨

بنفسه ، ولا يستصحب عدمه ، لأن عدم المنع قبل التشريع ومن الأزل لا يرجع للترخيص الذي هو حكم شرعي.

وأشكل من ذلك ما تضمنه التقرير الثاني من اختصاص المعارضة بالأحكام الإلزامية ، فإن مقتضى الجمود عليه عدم تأتّي المعارضة في الحكم الاقتضائي غير الالزامي ، كالاستحباب والكراهة.

وهو كما ترى لعدم الريب في تبعيتها للتشريع وعدم كونها أزلية. فلو تم ما ذكره من المعارضة لجرى في جميع الأحكام الخمسة. غاية الأمر أنه بعد تساقط الاستصحابين في الترخيص يجري استصحاب عدم المنع الشرعي الأزلي ، وهو كاف في السعة عقلا وإن لم يحرز الترخيص. ومن ثم استدل به على البراءة ، كما سبق في محله.

ومثله ما في التقرير المذكور من عدم المعارضة في استصحاب الطهارة من الخبث ، لأنها نظير الإباحة لا تحتاج إلى الجعل ، بل الأشياء كلها على الطهارة ما لم تعتبر النجاسة فيها شرعا ، وكذا الطهارة من الحدث لو فرض الشك في انتقاضها بمثل المذي ، لأن النقض هو المحتاج إلى الجعل ، بل استصحاب عدم جعل المذي ناقضا موافق لاستصحاب الطهارة.

لاندفاعه : بوضوح أن الطهارة بقسميها حكم شرعي مجعول كالنجاسة ، وعدم احتياج الطهارة الخبثية للبيان ، لموافقتها للأصل لا يستلزم كونها أزلية. وكون النقض محتاجا للبيان لا ينافي كون بقاء الطهارة بحكم شرعي مجعول. وإلا فأكثر الأحكام الوضعية من الملكية والزوجية والنجاسة مبنية على البقاء ونقضها محتاج للجعل والبيان.

واستصحاب عدم جعل المذي ناقضا مثبت ، لأن ترتب بقاء الطهارة على عدم جعل الشيء ناقضا ليس شرعيا ، بل خارجي. مع أنه لو تم كان حاكما على استصحاب الطهارة ، لأنه سببي.

٢٦٩

وكذا الحال في ما تضمنه تقريره الأول من أن الأحكام الوضعية بنفسها لا توجب الكلفة ولا السعة ، وإنما توجبهما باعتبار الأحكام التكليفية المترتبة عليها ، فكل حكم وضعي يوجب الكلفة يكون الاستصحاب الوجودي فيه معارضا بالاستصحاب العدمي ، وكل حكم وضعي يوجب السعة لا يكون الاستصحاب الوجودي فيه معارضا بشيء.

إذ فيه : أنه إن رجع إلى عدم المعارضة في نفس الحكم الوضعي المستوجب للسعة توجه عليه ما تقدم من عدم كون الأحكام المذكورة أزلية. كيف والحكم الواحد قد يوجب السعة من جهة والكلفة من جهة اخرى ، كالملكية الموجبة لجواز تصرف المالك في المملوك ووجوب الحج عليه.

وإن رجع إلى أنه بعد سقوط الاستصحاب في الحكم الوضعي بالمعارضة يجري في الأحكام الترخيصية المترتبة عليه من دون معارض ، أشكل : بأن السعة قد لا تكون مجرى للاستصحاب الوجودي ، لمخالفتها للأصل ، كما لو شك في طهارة الثوب ، فان مقتضى قاعدة الاشتغال بالصلاة عدم إجزاء الصلاة به ما لم تحرز طهارته.

فالإنصاف : أن ما ذكره من معارضة الاستصحاب الوجودي بالعدمي غير ظاهر في نفسه ، ولا بلحاظ الخصوصيات التي بناها عليه ، وزاد الأمر إشكالا تدافع التقريرين في بيانه فلاحظ. والله سبحانه وتعالى ولي العصمة والتوفيق.

٢٧٠

الفصل السادس

في استصحاب الحكم لو احتمل نسخه

تعرض غير واحد للكلام في استصحاب أحكام الشرائع السابقة بنحو يظهر من بعضهم المفروغية عن جريان الاستصحاب في حكم هذه الشريعة لو احتمل نسخه. بل عن المحدث الاسترابادي أنه من الضروريات.

لكن الذي ينبغي عدّه من الضروريات هو البناء على عدم النسخ واستمرار الحكم وإن لم يكن من جهة الاستصحاب ، إذ جريان الاستصحاب في ذلك مورد للكلام.

وتوضيح حاله يبتني على الكلام في حقيقة النسخ ، فينبغي الكلام فيه بإيجاز يناسب المقام ، لأنه بالمبادي التي تذكر في مقدمة العلم أنسب.

وقد ذكرنا في محله أنه وإن تردد في كلام غير واحد أن النسخ تخصيص في الأزمان ، فيكون مخالفا لأصالة العموم والظهور ، إلا أنه لا مجال للبناء على ذلك.

كيف! وقد يختص الحكم المنسوخ بواقعة واحدة لا استمرار لها ، كأمر ابراهيم عليه السّلام بذبح ولده ، وقد لا يكون له دليل لفظي قابل لأصالة العموم ، بأن يكون دليله لبيا ، أو لفظيا نصا في العموم ، بل كثيرا ما يلزم تخصيص الأكثر ، لقلة أمد بقاء الحكم بالإضافة إلى زمان النسخ ، إلى غير ذلك ، مما لا مجال معه لإرجاع النسخ للتخصيص.

٢٧١

وقد يدعى مخالفة النسخ لأصالة الجهة في الحكم المنسوخ ، لرجوعه إلى كون الحكم المنسوخ من أصله أو باستمراره صوريا حقيقيا ، لعدم كونه ناشئا عن ملاك في متعلقه ، إذ مع فرض الملاك يمتنع نسخ الحكم ، ومع عدمه يمتنع جعل حكم حقيقي إلا لخطأ الحاكم في تخيل ثبوته ، ومع وضوح امتناع الخطأ على الشارع لا بد من كون الحكم المجعول صوريا خاليا عن المصلحة في المتعلق وإن كان هناك مصلحة في نفس جعله من امتحان أو نحوه ، وهو خلاف أصالة الجهة في الكلام المعول عليها في كل مقام.

لكن أصالة الجهة مختصة بالأدلة اللفظية ، وقد يكون دليل الحكم الذي يطرؤه النسخ لبيا.

مع أنا ذكرنا في محله أن كون الحكم خاليا عن الملاك في المتعلق لا ينافي أصالة الجهة ولا يجعله صوريا ، لأن أصالة الجهة إنما تنهض بإثبات كون الكلام مسوقا لبيان المراد الجدي الحقيقي لا بداع آخر من هزل أو خوف أو نحوهما مما لا يصلح لإحداث الداعي للعمل ، ولا تقتضي صدور الحكم عن ملاك في متعلقه.

كما أن المعيار في كون الحكم حقيقيا صالحا لإحداث الداعي للعمل صدوره بداعي جعل السبيل ـ الذي هو نحو من الاعتبار من الحاكم خفيف المئونة عليه ـ وإن لم يكن عن ملاك في المتعلق.

ولزوم صدور الحكم عن ملاك فيه أو في متعلقه مما يحكم به العقل تنزيها للمولى عن العبث ، ولا دخل لظهور الكلام ولا لأصالة الجهة به ، ولذا لا تسقط أصالة الظهور أو الجهة في الكلام لو علم تعرّض الحكم للنسخ ولم يعلم وقته.

ومن هنا كان التحقيق أن الحكم المنسوخ كغيره حقيقي جدي صادر بداعي جعل السبيل وإن لم يكن عن ملاك في المتعلق ، بل عن مصلحة في نفس

٢٧٢

جعله كسهولة البيان ، أو الامتحان ، أو غيرهما.

وليس النسخ إلا رفعا للحكم بعد ثبوته ، نظير الابراء من الدين بعد انشغال الذمة به ، وفسخ العقد بعد نفوذه. ولا ينهض الكلام بنفيه لا بمقتضى أصالة العموم والظهور فيه ، ولا بمقتضى أصالة الجهة. فلا بد من وجه آخر للبناء على بقاء الحكم عند الشك في نسخه.

وقد يوجه بأنه مقتضى الاستصحاب ، كما تقدم.

ويشكل : بأنه إن كان المراد استصحاب عدم النسخ ، بلحاظ أنه أمر حادث مسبوق بالعدم ، فهو مثبت ، لأن ترتب بقاء الحكم على عدم نسخه كترتب حدوثه على جعله وارتفاعه على نسخه ليس شرعيا ، بل خارجي.

وإن اريد استصحاب نفس الحكم بلحاظ اليقين به سابقا تبعا لليقين بجعله والشك في بقائه تبعا للشك في نسخه. فهو قليل الفائدة ، لأنه إنما ينفع في الوقائع التي فرض فيها فعلية الحكم المتيقن قبل احتمال نسخه ، كما لو احتمل نسخ الحكم بنجاسة الميتة في فرض وجود ميتة قد علم بفعلية الحكم بنجاستها للقطع بعدم نسخ الحكم المذكور حين طروء الموت عليها ، أو احتمل نسخ الحكم بوجوب الصلاة بعد العلم بفعليته ، للعلم بعدم نسخه حين اجتماع شرائطه من البلوغ والوقت وغيرهما.

وأما بالإضافة إلى الوقائع التي لم يتيقن فيها بفعلية الحكم ، لاحتمال طروء النسخ قبل تمامية شرائطه ، فلا مجال لاستصحاب الحكم ، لعدم اليقين به سابقا ، بل المتيقن عدمه ولو لعدم تمامية موضوعه وشروطه ، فيكون هو المستصحب.

ودعوى : أن جريان استصحاب الحكم في الوقائع التي تمت فيها شرائطه وعلم بفعليته مستتبع للبناء على ثبوته في الوقائع الاخرى بعد تمامية الشرائط فيها ، للقطع باتحاد الوقائع في الحكم.

٢٧٣

مدفوعة : بأن اتحاد الوقائع في الحكم راجع إلى التلازم بين أحكامها الواقعية ، ومن الظاهر أن الاستصحاب ـ كغيره من الأصول ـ لا ينهض بإثبات لازم مجراه ، كي يكون جريانه في بعض الوقائع كافيا في إحراز الحكم في الوقائع الاخرى بعد عدم تمامية موضوع الاستصحاب فيها.

نعم ، لو ثبت التلازم بينها في الحكم حتى في مقام الظاهر ، بحيث يكون إحراز الحكم في بعضها لتمامية موضوع التعبد الظاهري فيه مستلزما لإحرازه في الباقي وإن لم يتم فيه موضوع التعبد فيه ، اتجه البناء على ثبوت الحكم في الجميع وإن اختص جريان الاستصحاب ببعضها. لكن لا مجال لدعوى ذلك ، لعدم الدليل عليه.

على أن الدعوى المذكورة لو تمت لزم سقوط الاستصحاب بالمعارضة ، لوضوح أنه كما كان مقتضى الاستصحاب في الوقائع التي سبقت فعلية الحكم فيها هو ثبوت الحكم المحتمل نسخه ، كذلك مقتضاه في الوقائع الاخرى عدم ثبوته ، وليس إشراك الثانية مع الأولى في ثبوته بأولى من إشراك الأولى مع الثانية في عدمه.

هذا ، ولا يخفى أن أصل الإشكال يبتني على أن الحكم بمجرد إنشائه كبرويا قبل فعليته بفعلية موضوعه ليس له ما بازاء حقيقي مورد للأثر صالح للاستصحاب ، وهو الذي وقع الكلام فيه بينهم ، وعليه يبتني الكلام في المقام وفي الاستصحاب التعليقي وغيرهما.

ومن ثم ينبغي الكلام في ذلك مستمدا منه تعالى العون والتسديد ..

فاعلم : أنه قد تصدى غير واحد لتقريب جريان الاستصحاب بوجوه ذكرت في الاستصحاب التعليقي جارية في المقام بتحرير يناسبه ..

الأول : ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من استصحاب نفس السببية والملازمة بين الموضوع والحكم ، فان لها نحوا من التحقق وإن لم يوجد

٢٧٤

طرفاها ، نظير ما قيل من أن صدق الشرطية لا يتوقف على صدق طرفيها.

وفيه : أن السببية والملازمة ونحوهما ـ بل جميع الأحكام الوضعية على مختاره قدّس سرّه ـ منتزعة من ترتب الأحكام على موضوعاتها ، وليس لها حقائق وراء ذلك. ومجرد وجود منشأ انتزاعها لا يصحح استصحابها بأنفسها.

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أنه يكفي كون المستصحب مما أمر رفعه ووضعه بيد الشارع ولو بتوسط منشأ انتزاعه.

فهو ـ لو تم ـ لا ينفع في المقام ، إذ ليس معنى كون السببية ونحوها انتزاعية أن لها واقعا مسببا عن منشأ انتزاعها الذي هو بيد الشارع ، نظير الوجوب الغيري التابع للوجوب النفسي المجعول له ، بل المراد أنه لا حقيقة ولا واقع لها في قبال منشأ انتزاعها ، وأن التعبير عنها مبني على ملاحظة منشأ انتزاعها بنحو يوهم وجود واقع لها.

على أنه لو فرض أن لها حقائق مجعولة فليست هي موضوع للعمل إلا بتوسط لازمها ، وهو فعلية الحكم تبعا لفعلية موضوعه ، ومن الظاهر أن التلازم بينهما ليس شرعيا ، بل خارجي ، فيكون الأصل الجاري فيها مثبتا.

نعم ، لو كان المدعى ترتب العمل عليها بنفسها لا بتوسط ترتب الحكم وفعليته اتجه استصحابها. لكن لا يظن من أحد الالتزام بذلك.

الثاني : ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه في مبحث الواجب المشروط ، فإنه مع اعترافه برجوع الشرط للهيئة ذكر أن مفاد الكبريات الشرعية بحسب ظهورها اللفظي وإن كان هو إناطة الأحكام بالقيد والموضوع بوجودهما الخارجي المستلزم لعدم فعلية الحكم إلا بفعلية موضوعه وشرطه في الخارج ، إلا أنه لا بد من رفع اليد عن هذا الظهور وتنزيلها على الإناطة بوجود الموضوع والقيد ذهنا في فرض الامر ولحاظه.

لأن الأحكام التكليفية منتزعة من تعلق الإرادة والكراهة التشريعيتين

٢٧٥

بأفعال المكلفين المبرزتين بالخطاب ، وحيث كان موطن الإرادة والكراهة ـ كغيرهما من الامور النفسية ، كالحب والبغض ـ ليس هو الخارج بل الذهن ، امتنع اشتراطهما بالامور الخارجية ، ولزم كون الشرط لهما هو لحاظ الموضوع والشرط ، لأن مبادي وجود كل شيء من سنخ وجوده ، فإن كان ذهنيا كانت ذهنية ، وإن كان خارجيا كانت خارجية.

وحيث كان لحاظ الشرط والموضوع فعليا كان الحكم فعليا ، غايته أن إناطته بلحاظ الشرط والموضوع موجبة لعدم محركيته عقلا إلا بفعليتهما في الخارج ، فالوجود الخارجي ليس شرطا في فعلية الحكم بل في محركيته عقلا ، كالعلم به.

وقد تعرّض لذلك في الجملة في مبحث الاستصحاب التعليقي ، وخصه بالأحكام التكليفية ، لبنائه على انتزاعها من الإرادة والكراهة التشريعيتين ، وليست من الجعليات الاعتبارية.

أما الأحكام الوضعية المتقومة بالجعل والاعتبار فلا مانع من دعوى إناطتها بوجود الموضوع خارجا ، على غرار القضايا الحقيقية ، فلا تكون فعلية إلا في ظرف فعلية موضوعاتها ، ولا بد من توجيه الاستصحاب التعليقي فيها من طريق آخر ، وقد اعتمد فيها على الوجه السابق ، الذي عرفت حاله.

أقول : حديث السنخية إنما يقتضي كون إرادة المولى الحاصلة حين الخطاب بالكبرى مسببة تكوينا عن لحاظ الموضوع ، كما هي مسببة عن لحاظ الملاك والمصلحة الداعية للخطاب ونحو ذلك من متعلق التكليف وغيره ، وهو الحال في الأحكام الوضعية الجعلية ، لأن الاعتبار لما كان مبنيا على الادعاء الذي هو أمر ذهني ، فهو مسبب تكوينا عما هو من سنخه من لحاظ الموضوع والمصلحة ونحوهما ، فلا وجه للفرق بين الأحكام التكليفية والوضعية من هذه الجهة.

٢٧٦

لكن هذا لا يقتضي كون الأمر المنوط به بحسب قصد الامر وجعله هو لحاظ الموضوع ، كيف واللحاظ وسيلة وآلة للملحوظ ، فلا يكون طرفا للاناطة ، بل ليس طرفها إلا الملحوظ الاستقلالي ، وهو الموضوع بوجوده الخارجي الذي هو موطن الغرض ومحط الأثر.

فاللحاظ شرط تكويني لتحقق الإرادة المقارنة للخطاب بالكبرى التكليفية ، ولانشاء الكبرى الجعلية الاعتبارية ، والملحوظ بوجوده الخارجي شرط شرعي للنسبة البعثية والزجرية الانشائية ، كما هو شرط للاعتبار الانشائي ، فيكون شرطا في فعلية الحكم التكليفي والوضعي تبعا لذلك ، كما هو مقتضى الظاهر الذي اعترف به قدّس سرّه.

فحديث السنخية لا ينافي الظهور المذكور ، كي يلزم رفع اليد به عنه ، وتكلف تنزيل الخطاب على إناطة الحكم الشرعي بالوجود اللحاظي ، أو إناطة المحركية العقلية ـ لا نفس الحكم الشرعي ـ بالوجود الخارجي ، بل كيف يمكن رفع اليد عن مثل هذا الظهور الارتكازي العام بمثل هذا الوجه المبني على نحو من الاجتهاد ، بل لو فرض التنافي بينهما كان كالشبهة في مقابل البديهة.

وإلى ما ذكرنا يرجع ما قيل من أن اللحاظ شرط للجعل ، والملحوظ بوجوده الخارجي شرط للمجعول ، وهو الحكم ، فقبله لا وجود للحكم.

وأما دعوى : أن الجعل عين المجعول ، وليس الفرق بينهما إلا اعتباريا.

فقد تقدم منعها عند الكلام في استصحاب عدم الجعل في أواخر الفصل السابق.

ثم إن المنوط بالوجود الخارجي ليس هو الإرادة الحاصلة حين الخطاب ، لأن الإرادة المذكورة فعلية خارجية لا تقبل الإناطة لا بالوجود الخارجي ولا الذهني ، بل النسبة البعثية والزجرية الكاشفة عن الحكم التكليفي ، أو النسبة الحملية المسوقة للحكم الوضعي ، فهي تدل على إناطة الأحكام وعدم فعليتها

٢٧٧

إلا بفعلية الموضوع والشرط ، كما ذكرنا.

وهو لا ينافي انتزاع الأحكام التكليفية من الإرادة والكراهة التشريعيتين ، إذ ليس المراد بهما ما يقارن الخطاب بالكبرى السابق على فعلية الموضوع والشرط والمقارن للحاظهما بل الإرادة والكراهة الفعليتان التابعتان لفعلية الموضوع وتمامية ملاكه ، المستكشفتان بالخطاب المذكور ، فالخطاب كما يدل على إناطة الحكم يدل على إناطة منشأ انتزاعه وعدم فعليته إلا بفعلية ما انيط به ، وليس الخطاب بالكبرى التعليقية إلا لبيان الضابط العام في حصول الإرادة وحصول الأحكام بتبعها.

أما سيدنا الأعظم قدّس سرّه فقد أصر على ما ذكره شيخه المذكور من أن الحكم منوط بوجود الشرط لحاظا ، لا خارجا ، وذكر أن الوجود الفرضي هو الذي يكون موضوع الإرادة والكراهة وغيرهما ، لأنها لا تتعلق بالخارج ، إذ قد لا يكون للمستعمل فيه وجود خارجي ، ولأن الوجود الخارجي في الإرادة والكراهة ملازم لسقوطهما ، لا مقوّم لهما ، بل موضوع هذه الامور نفس الوجود اللحاظي الذي يرى خارجيا غير ملتفت إلى كونه لحاظيا ، فهو فان فيه فناء الحاكي في المحكي.

ويظهر منه في مبحث الاستصحاب التعليقي عدم اختصاص ذلك بالأحكام التكليفية.

ويقتضيه ـ أيضا ـ ما ذكره في وجهه من امتناع التفكيك بين الجعل والمجعول ، وأنه أوضح فسادا من التفكيك بين العلة والمعلول ، لأن الجعل عين المجعول حقيقة ، وإنما يختلف معه اعتبارا.

ويظهر الإشكال فيه مما تقدم من أن متعلق الإرادة والكراهة وطرف الإناطة ليس إلا الملحوظ الاستقلالي ، وهو الوجود الخارجي ، واللحاظ شرط في تعلقها به.

٢٧٨

وفرضه فانيا في الملحوظ فناء الحاكي في المحكي أولى بتفنيد ما ذكره منه بتأييده.

ومعنى تعلق الإرادة والكراهة بالوجود الخارجي ليس هو عروضهما عليه عروض البياض على الجسم ، كي يستحيل تحققه دون موضوعه ، بل نحو من التعلق راجع إلى داعوية الإرادة إليه واقتضائها لتحقيقه ، ودافعية الكراهة له واقتضائها لعدمه ، فلا ينافي كون تحققه ظرفا لسقوطهما ، لكونه رافعا لموضوع اقتضائهما.

على أن ذلك مختص بمتعلق الإرادة والكراهة الذي هو المأمور به والمنهي عنه ، ولا يجري في شروطهما التي هي شروط التكليف ، والتي يكون وجودها الخارجي ظرف ثبوته لا سقوطه.

وأما حديث التفكيك بين الجعل والمجعول ، فقد ذكرنا آنفا أن الجعل مباين للمجعول وليس عينه.

كما أن المنفك عن الجعل الانشائي في المقام لما كان هو الحكم الشرعي الذي هو موضوع الإطاعة والمعصية فلا يلزم التفكيك بين الجعل والمجعول حقيقة.

وتوضيح ذلك : أن للامور الإنشائية وجودا ادعائيا استعماليا تابعا لإنشائها الذي هو فعل المنشئ غير منفك عنه ، لأنه علته التامة ، وهو في المقام الطلب التعليقي في التكليفيات والمضمون الإنشائي التعليقي في الجعليات ، لأن المضامين التعليقية المبنية على الاناطة كسائر النسب لها نحو من الوجود قائم بها ، إلا أنها ليست عين الحكم الشرعي ـ التكليفي أو الوضعي ـ ليمتنع انفكاكه عن الجعل ، بل هي كاشفة عنه وحجة عليه ، فلا محذور في انفكاكها عنه ، فالنسبة البعثية أو الزجرية التعليقية تكشف عن فعلية الإرادة أو الكراهة التشريعية تبعا لفعلية ما علقت عليه النسبة ، وحيث كانتا منشأ انتزاع الحكم كان الحكم

٢٧٩

مستكشفا بالنسبة المذكورة على النحو المذكور. كما أن النسبة التعليقية في الجعليات تكشف عن فعلية اعتبار الشارع الأقدس للأمر الانشائي تبعا لفعلية ما علق عليه أو تكون من سنخ المعد لتحقق الأمر الاعتباري بنظر العقلاء وتمام علته بتحقق ما علق عليه ، فلا يعتبر عندهم إلا حينئذ ، ولعل هذا هو الأظهر.

فهو نظير انفكاك المسببات التوليدية عن أسبابها الاختيارية لتوسط الأسباب غير الاختيارية بينها ، فالإحراق الذي هو فعل الإنسان ليس إلا إلقاء الثوب في النار ، والاحتراق قد ينفك عنه بزمان يتوقف عليه تأثير النار فيه ، وليس هذا في الحقيقة من انفكاك الجعل عن المجعول ، وإن أوهمه.

الثالث : ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه في مبحث الاستصحاب التعليقي ، ولعله هو مراده من الوجه السابق ، وإن لم يساعد عليه ما قرر به كلامه.

وحاصله : أن الأحكام التكليفية المستفادة من الكبريات الشرعية لا تنتزع من إرادة تشريعية فعلية ، تبعا لفعلية الموضوع والشرط ، كي لا يكون لها واقع قبل فعليتهما ، بل من الإرادة التشريعية المبنية على الإناطة ، الحاصلة حين الخطاب بالكبرى ، لوضوح أن الخطاب بالكبرى لا بد أن يقارن نحوا من توجه نفس المولى للمراد والمكروه مبنيّا على إرادته منوطا بموضوعه وشرطه ، وإن كان المنوط به هو الوجود الخارجي ، لا اللحاظي ، وحيث كانت الإرادة المذكورة فعلية كان الحكم المنتزع منها فعليا ، وليس أثر الاناطة إلا توقف محركية التكليف عقلا على فعلية الموضوع والشرط ووجودهما في الخارج ، من دون أن يكون التكليف منوطا بهما.

وبهذا يختلف التكليف المشروط الذي هو مفاد الكبريات عن التكليف المطلق سنخا ، لانتزاع الثاني من الإرادة التشريعية المطلقة الحاصلة حين الخطاب به ، تبعا لفعلية موضوعه وتمام ما هو الدخيل في ملاكه ، كما يختلف

٢٨٠