المحكم في أصول الفقه - ج ٥

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨

بركعتين ، وإلا كان المناسب أن يقول : يأتي بركعتين.

كما أنه لا يناسب بقية الفقرات الناهية عن إدخال الشك في اليقين وخلط أحدهما بالآخر.

ومن هنا كان الأقرب الحمل على الإتيان بالركعة مفصولة ، ويراد باليقين ببراءة الذمة الحاصل من علاج الشك بصلاة الاحتياط ـ كما اشير إليه في موثقة عمار (١) ـ أو اليقين بمشروعية المأتي به ، وهي الثلاث ، مع حمل النقض على النقض الحقيقي لليقين بإحداث ما يوجب الشك في صحة العمل ومشروعيته ، وهو وصل الركعة المشكوكة به.

أو يراد نقض المتيقن بإبطاله واستئناف الصلاة ، كما أشار إليه في محكي الوافي (٢). فتكون أجنبية عن الاستصحاب.

هذا ، وقد اجيب عن ذلك بوجوه ..

الأول : ما أشار إليه المحقق الخراساني قدّس سرّه من أن أصل الإتيان بالركعة مقتضى الاستصحاب. ووجوب فصلها حكم آخر مستفاد من دليل آخر مقيد لإطلاق الاستصحاب ، المقتضي لترتيب تمام الآثار ، ومنها وصل الركعة ، فلا

__________________

(١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه السّلام عن شيء من السهو في الصلاة؟ فقال : ألا أعلمك شيئا إذا فعلته ثم انك أتممت أو نقصت لم يكن عليك شيء؟ قلت : بلى. قال : إذا سهوت فابن على الأكثر ، فإذا فرغت وسلمت فقم ، فصل ما ظننت انك نقصت ، فإن كنت قد أتممت لم يكن عليك في هذه شيء؟ وإن ذكرت أنك كنت نقصت كان ما صليت تمام ما نقصت. (الوسائل ج ٥ ، باب : ٨ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة. حديث : ٣).

(٢) قال : «قوله : «ينقض اليقين بالشك» يعني : لا يبطل الثلاث المتيقن فيها بسبب الشك في الرابعة بأن يستأنف الصلاة ، بل يعتد بالثلاث : «ولا يدخل الشك في اليقين» يعني : لا يعتد بالرابعة المشكوك فيها بأن يضمها إلى الثلاث ويتم بها الصلاة من غير تدارك ، «ولا يخلط أحدهما بالآخر» عطف تفسيري بيان للنهي عن الادخال ، «ولكنه ينقض الشك» يعني : في الرابعة بأن لا يعتد بها ، «باليقين» يعني : بالإتيان بركعة أخرى على الايقان ، «ويتم على اليقين» يعني : يبني على الثلاث المتيقن فيها.

٤١

يلزم في المقام إلا تقييد إطلاق الاستصحاب ، دون إلغائه بالمرة.

ولا يخفى أن هذا الوجه مبني على كون وجوب الإتيان بالركعة ظاهريا ، وهو منوط واقعا بعدم الإتيان بها ، بحيث لو لم يأت بها واكتفى بالسلام على ما تيقن به برجاء إتيانه بأربع ركعات وصادف الواقع صحت صلاته.

أما لو كان واقعيا ثانويا ، لتبدل الحكم الواقعي في حال الشك ، امتنع ابتناؤه على الاستصحاب الذي هو أصل عملي.

كما أن كون دليل فصل الركعة مقيدا لعموم الاستصحاب مبني على أن وجوب الفصل ظاهري ، بحيث لو وصل برجاء كونه قد صلى ثلاثا ، وصادف الواقع ، صحت صلاته ، أما بناء على كونه واقعيا ثانويا ، لتبدل الحكم الواقعي في حال الشك ، فوجوب الفصل مقيد لإطلاق وجوب وصل الركعات واقعا ، لا لعموم دليل الاستصحاب.

إذا ظهر هذا فأعلم : أنه يشكل هذا الوجه بعدم ظهور الحديث في مجرد بيان أصل الإتيان بالركعة ، بل هو ظاهر في بيان وجوب خصوص الركعة المنفصلة ، كما هو مقتضى السياق مع الصدر والتعقيب بعدم إدخال الشك في اليقين وخلط أحدهما بالآخر.

بل لا حاجة مع ذلك للتأكيد الشديد والاهتمام بتوضيح الحكم مع كون أصل الإتيان بالركعة ارتكازيا لمطابقته لقاعدة الاشتغال والاستصحاب.

بل تأكيد قوله عليه السّلام : «ولا ينقض اليقين بالشك» بقوله : «ولا يعتد بالشك في حال من الحالات» لا يناسب تخصيصه في وجوب فصل الركعة جدا.

وأضعف من ذلك دعوى أن دليل التقييد المذكور هو قوله عليه السّلام : «ولا يدخل الشك ...» لظهور الفقرات المذكورة في تأكيد قوله عليه السّلام : «ولا ينقض ...» والجري على ما يطابقه ، لا في بيان حكم آخر مناف له ومقيد لإطلاقه.

٤٢

على أن ما في روايات عمار (١) ، وكلام الفقهاء من لزوم البناء على الأكثر مع الشك ، ثم التدارك بصلاة الاحتياط ، ينافي ابتناء صلاة الاحتياط على الاستصحاب ، لأن مقتضاه البناء على الأقل ، فالمناسب أن يكون وجوب الإتيان بصلاة الاحتياط تقييدا لوجوب البناء على الأكثر ، لا أن فصلها تقييد للاستصحاب. فلاحظ.

الثاني : ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه واعتمده بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من حمل تطبيق كبرى الاستصحاب في المقام المقتضي لوصل الركعة على التقية ، من دون أن يخل ذلك بالاستدلال بها على الاستصحاب لأصالة الجهة فيه ، نظير ما ورد في قول الصادق عليه السّلام للسفّاح في الصوم : «ذاك إلى الإمام إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا» (٢) ، حيث استدل به على حجية حكم الحاكم في الهلال ، وإن كان تطبيقه في المورد تقية.

ويظهر اندفاعه مما تقدم من ظهور الحديث في إرادة فصل الركعة المخالف للعامة ولمقتضى الاستصحاب.

بل تأكيد الحكم المذكور بالفقرات المتتالية ظاهر في تبني الإمام عليه السّلام له واهتمامه به ، المناسب لسوقه مساق الرد على العامة ، لا لمجاراتهم.

الثالث : ما ذكره بعض مشايخنا من أن موضوع صلاة الاحتياط التي يكون بها علاج الشك عند الإمامية مركب من أمرين : الشك الوجداني ، وعدم الإتيان واقعا بالركعة المشكوك فيها ، فمع الدوران بين الثلاث والاربع يكون الجزء الأول ثابتا بالوجدان ، والثاني محرزا بالاستصحاب ، فالاستصحاب منقح لموضوع الوظيفة التي يكون بها علاج الشك لا مناف لها.

وفيه : ـ مع ابتنائه على كون وجوب الركعة ظاهريا. وعدم مناسبة ابتناء

__________________

(١) راجع الوسائل ج ٥ ، باب : ٨ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

(٢) الوسائل ج ٧ ، باب : ٥٧ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك حديث : ٥.

٤٣

صلاة الاحتياط على الاستصحاب لما في روايات عمار من التعبير بالبناء على الاكثر ، نظير ما تقدم في الوجه الأول ـ أن أخذ الشك في موضوع الوظيفة المذكورة ينافي عرفا أخذ عدم الإتيان واقعا بالركعة بنحو يحتاج إلى إحرازه بالاستصحاب ، لوضوح أن الإحراز ينافي الشك عرفا وإن لم ينافه حقيقة.

فغاية ما يدعى في المقام هو كون موضوع صلاة الاحتياط هو الشك ، وأن وجوبها ظاهري طريقي لإحراز الواقع ، لا واقعي ثانوي يرجع إلى تقييد الواقع بغير حال الشك ، وعليه لا يحتاج إحراز موضوعها إلى إحراز عدم الإتيان بالركعة بالاستصحاب زائدا على الشك.

بل جعل قوله عليه السّلام : «ولا ينقض اليقين بالشك» لبيان إحراز موضوع قاعدة الاحتياط ، وقوله عليه السّلام : «ولا يدخل الشك ...» لبيان كيفيتها ، ثم تأكيد الأول بقوله عليه السّلام : «ولكنه ينقض» تكليف يوجب انحلال الكلام وعدم تناسقه.

وقد ظهر بما ذكرناه بعد توجيه الحديث على ما يطابق الاستصحاب.

على أنه لو غض النظر عما ذكرنا في دفع هذه الوجوه فهي إنما تنهض ببيان إمكان إرادة الاستصحاب من الفقرة المذكورة ، ولا تنهض بتقريب ظهورها فيه بنحو يصلح الحديث للاستدلال عليه لو لم يكن عليه دليل آخر.

ومجرد اشتمال بعض نصوص الاستصحاب على العبارة المذكورة لا يكفي في ذلك ، ولا سيما بعد احتفافها في هذا الحديث بما لا يشعر بإرادته. ويأتي في رواية الخصال ما ينفع في ذلك إن شاء الله تعالى.

ثم إنه قد استشكل في الاستدلال بهذه الصحيحة بوجهين آخرين ..

الأول : أنه لا ظهور لها في عموم حجية الاستصحاب ، لعدم ظهور الفقرة المذكورة في ضرب القاعدة العامة ، بل لتأكيد وجوب الإتيان بالركعة في موردها ، الملزم بالحمل على العهد ، ولا مجال معه لظهور اللام في الجنس ، إلا أن تلغى خصوصية المورد للمناسبات الارتكازية ، المشار إليها في الصحيحة

٤٤

الأولى ، وفي بلوغ الكلام معها مرتبة الظهور الحجة إشكال ، كما تقدم.

وقد أجاب بعض مشايخنا عن ذلك : بأن تأكيد الحكم في الذيل بقوله عليه السّلام : «ولا يعتد بالشك في حال من الحالات» ظاهر في أن طبيعي الشك لا ينبغي الاعتداد به في قبال اليقين.

وما ذكره لا يخلو عن قرب ، لأن عدم الاعتداد بالشك وإن كان أعم من العمل باليقين السابق ، إلا أن تأكيد عدم نقض اليقين بذلك ظاهر في إرادة العمل باليقين ، الذي هو مفاد الاستصحاب.

الثاني : ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن أصالة عدم الإتيان بالركعة الرابعة لا يحرز كون الركعة المأتي بها رابعة ، ليترتب عليها آثارها من وجوب التشهد والتسليم بعدها إلا بناء على الأصل المثبت.

ويندفع : بعدم الدليل على وجوب إيقاع التشهد والتسليم بعد الرابعة بعنوان كونها رابعة بمفاد كان الناقصة ، بل يكفي تحقق الرابعة ثم الإتيان بهما بعدها ، وهو حاصل في الفرض على تقدير الإتيان بالركعة المشكوكة. وغاية ما يحتمل هو بطلان الصلاة بزيادة ركعة ، وهو مدفوع بالاستصحاب.

على أنه لو فرض كون الأصل المذكور مثبتا أمكن تصحيحه بنفس هذه الصحيحة لو فرض ظهورها في الاستصحاب ، حيث لا مانع من حجية الأصل المثبت لو دل عليه الدليل في خصوص مورد.

وقد أطال قدّس سرّه في دفع ذلك بما لا يسعنا عاجلا ، كما لا يهمنا تعقيبه. كما تعرض لوجه آخر للإشكال في الاستدلال لا يسعنا التعرض له. فراجع.

الرابع : صحيحة إسحاق بن عمار المتضمنة لوجوب البناء على اليقين ، قال لي أبو الحسن الأول عليه السّلام : إذا شككت فابن على اليقين. قلت : هذا أصل؟ قال : نعم» (١).

وقد تعرض غير واحد للاستدلال بها بتقريب : أنها تقتضي لزوم العمل

__________________

(١) الوسائل ج ٥ ، باب ٨ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث. ٢.

٤٥

باليقين عند الشك الذي هو مقتضى الاستصحاب. وليست مختصة بالشك في الركعات ، ليرد عليها ما سبق.

غاية ما يلزم تخصيصها في الشك في الركعات ، كما يلزم تخصيص سائر عمومات الاستصحاب ، لوجوب التسليم فيه على المتيقن ، على خلاف مقتضاه ، وهو غير مهم.

وفيه : أن البناء على اليقين لا يخلو في نفسه عن إجمال.

ولعل الأقرب إلى المعنى الحقيقي هو لزوم بناء العمل على اليقين وعدم الاعتناء بما لا يوصل إليه ، فيكون مساوقا لما تضمن لزوم العمل بالعلم وعدم التعويل على غيره.

ولو فرض عدم تعينه فكما يمكن حمله على الاستصحاب بتنزيل اليقين فيه على اليقين بالحدوث في ظرف الشك في البقاء ، كذلك يمكن حمله على قاعدة اليقين بتنزيل اليقين فيه على اليقين الزائل المتبدل بالشك ، أو على قاعدة الشك في الركعات بتنزيل اليقين على اليقين بما يوجب براءة الذمة من الوظيفة المعهودة أو الركعات المتيقنة المشروعية ، على ما تقدم شرحه في الصحيحة السابقة.

ولا طريق لتعيين الاستصحاب من قرينة حالية أو مقالية. بل ظاهر مثل الصدوق ممن ذكر الحديث في شكوك الصلاة كون ذلك هو المتيقن من مورده وهو مانع من حمله الاستصحاب.

ولا سيما بملاحظة ورود المضمون المذكور في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج وعلي عن أبي إبراهيم عليه السّلام ، في السهو في الصلاة. فقال : «تبني على اليقين ، وتأخذ بالجزم ، وتحتاط بالصلوات كلها» (١) ، ولا يخفى بعد حمله على الاستصحاب جدا. فلاحظ.

__________________

(١) الوسائل : باب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث : ٢.

٤٦

الخامس : ما في الخصال بسنده عن أبي بصير ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال : ـ في حديث الأربعمائة ـ «من كان على يقين فشك فليمض على يقينه ، فإن الشك لا ينقض اليقين» (١).

وسند الحديث لا يخلو عن إشكال ، لاشتماله على القاسم بن يحيى عن جده الحسن بن راشد مولى المنصور ، وقد ضعفهما العلامة قدّس سرّه وابن الغضائري في ما حكي عنه ، وضعف النجاشي الحسن بن راشد الطفاوي الذي يحتمل اتحاده مع مولى المنصور ، لعدم تعرضه له مع اشتهاره.

وبهذا يعارض توثيق ابن قولويه للرجلين المستفاد من روايته عنهما في كتابه.

اللهم إلا أن يقال : لا اعتماد على تضعيف ابن الغضائري مع ما هو المعروف من تسرعه في الطعن ، ولا على تضعيف العلامة قدّس سرّه مع تأخر عصره وأخذه عمن سبقه ، حيث يقرب متابعته لابن الغضائري.

كما لا طريق لإثبات اتحاد الطفاوي الذي ضعفه النجاشي مع مولى المنصور ، ولا سيما مع اختلاف النسبة ، لأن الطفاويين بطن من العرب ، والأول منهم بالنسب أو الولاء فكيف يكون مولى المنصور العباسي.

واقتصار النجاشي قدّس سرّه على الطفاوي لعله لعدم كتاب لمولى المنصور ، وقد التزم هو بذكر أصحاب الكتب.

فلا معارض لتوثيق ابن قولويه المؤيد برواية ابن أبي عمير وإبراهيم بن هاشم عن الحسن ، وإفراد الصدوق قدّس سرّه طريقا إليه ، وبرواية غير واحد من الأجلاء عن القاسم بن يحيى كإبراهيم بن هاشم ، وأحمد بن محمد بن عيسى ، ومحمد بن عيسى اليقطيني ، فاعتبار سند الحديث لا يخلو عن قوة.

__________________

(١) الوسائل ج ١ ، باب ١ من أبواب الوضوء ، حديث : ٦ ، وقد رواه في ضمن فقرات ذكرها في الخصال متفرقة ، ونقل هذه الفقرة في أول صفحة ٥٨٤ ، طبع النجف الأشرف.

٤٧

وأما الدلالة فيمكن تقريبها بعد الرجوع لما ذكره غير واحد بأن الحديث وإن اشتمل على الترتيب بين اليقين والشك فهو مردد بدوا بين قاعدة اليقين التي يكون فيها الترتب بين نفس الوصفين مع اتحاد متعلقهما بحسب الزمان ، والاستصحاب الذي يكون الترتب فيه بين متعلقي الوصفين مع اتحاد زمان نفس الوصفين واجتماعهما في الوجود ، بل الأول هو الأنسب بدوا بمفاد الحديث.

إلا أن الثاني هو الأقرب ، بل المتعين بعد كونه هو الأمر الارتكازي الصالح للتعليل ، وتداول التعبير عنه بنظير العبارة المذكورة في النصوص الأخر ، وظهور الكلام في فرض وجود اليقين حين المضي والعمل ، الذي هو مختص بالاستصحاب ولا مجال له في قاعدة اليقين ، لأن المفروض فيها تزلزل اليقين وتبدله بالشك لاتحاد متعلقهما فيها حقيقة ، فلا بد من تنزيل الترتيب بين اليقين والشك في الحديث على الترتيب بين متعلقيهما ، أو على الغالب من كون اليقين بالحدوث أسبق حدوثا من الشك في البقاء.

لكن الإنصاف أن ذلك لا ينهض بإثبات ظهور الحديث بنحو يصلح للاستدلال.

وتوضيح ذلك : أن ظاهر النهي عن نقض شيء بشيء ـ كالنهي عن نقض خبر زيد بخبر عمرو ـ اعتبار أمرين ..

الأول : تنافي مضمونيهما ، وهو موقوف على اتحاد موضوعهما ومتعلقهما من جميع الجهات.

الثاني : تحقق المنقوض في زمان الناقض ، وعدم ارتفاعه معه ، إذ نقض الطريق فرع تمامية اقتضائه للعمل ، ولا اقتضاء له مع ارتفاعه ، ولذا لا يصدق نقض خبر زيد بخبر عمرو إذا عدل زيد عن خبره حين إخبار عمرو.

إلّا أنه لا مجال لاعتبار الأمرين معا في النهي عن نقض اليقين بالشك ،

٤٨

لاستحالة اجتماعهما في موضوع واحد في زمان واحد ، بل لا بد من رفع اليد عن أحدهما.

ومن الظاهر أن رفع اليد عن الأول إنما يصح مع فرض جهة اتحاد بين المتعلقين تصحح التوسع بإطلاق النقض ، إذ مع فرض التباين بينهما من جميع الجهات يكون إطلاق النقض مستهجنا.

وحينئذ فكما يمكن حمله على الاستصحاب بلحاظ اتحاد متعلق الوصفين ذاتا واختلافهما زمانا ، كذلك يمكن حمله على قاعدة المقتضي والمانع ، بتنزيل العلم بالمقتضي منزلة العلم بالمعلول ، وتنزيل الشك في المانع منزلة الشك فيه لما بينهما من المناسبة والملابسة ، أو بإرجاع اليقين والشك إلى نفس المعلول مع ملاحظة اختلافهما من حيثية الاقتضاء والفعلية ، وربما يكون منه ما في حديث السجاد عليه السّلام مع الزهري في ردع الإنسان عن تخيل الرفعة على غيره ، حيث قال عليه السّلام : «فقل : أنا على يقين من ذنبي وفي شك من أمره ، فما لي أدع يقيني لشكي؟!» (١)

كما يمكن حمله على بيان عدم رفع اليد عن الحجة بغير الحجة ، فإن متعلق اليقين فيها والشك في ذلك وإن كان مختلفا ذاتا ، لتعلق اليقين بالوظيفة العملية والشك بالواقع ، إلا أن ذلك لا يمنع من إطلاق النقض توسعا بتنزيل العلم بالحجة على الشيء منزلة العلم به.

وربما يحمل على غير ذلك مما يفرض فيه جهة اتحاد تصحح إطلاق النقض ، وجهة اختلاف يمكن معها اجتماع الوصفين المتضادين.

أما رفع اليد عن الثاني مع المحافظة على الأول فهو يقتضي الحمل على قاعدة اليقين لا غير.

وبهذا يكون التعبير المذكور صالحا لجميع الوجوه ، وليس مرددا بين

__________________

(١) مجموعة ورام ج : ٢ ص ٨٩.

٤٩

الاستصحاب وقاعدة اليقين فقط ، لاشتراك جميع هذه الوجوه في الاحتياج إلى العناية المصححة للاستعمال وحسن إرادته من العبارة المذكورة بعد إعمال العناية.

وحمله على الاستصحاب في نصوصه لقرينة المورد لا يقتضي ظهوره فيه في مثل هذا الحديث المجرد عن القرينة ، حتى مثل فهم الأصحاب الذي هو من القرائن الخارجية ، لعدم ثبوت فهمهم الاستصحاب من الحديث المذكور ، وإن بنوا عليه في الجملة ، للنصوص الأخر أو غيرها.

واشتهار التعبير عن الاستصحاب بنحو العبارة المذكورة في العصور المتأخرة لاشتهار التمسك فيها بالنصوص المتضمنة لذلك لا يكشف عن ظهور مثل هذه العبارة فيه في عصر صدور الحديث.

كيف! وعن السرائر إطلاق العبارة المذكورة على ما يناسب قاعدة اليقين ، حيث استدلّ على عدم الاعتناء بالشك في الوضوء بعد الفراغ منه بأنه لا يخرج عن حال الطهارة إلا على يقين من كمالها ، وليس ينقض الشك اليقين ، وقريب منه في النهاية والغنية. بل قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «ويقرب من هذا التعبير عبارة جماعة من القدماء».

بل قلّ من عبر من القدماء عن الاستصحاب بالعبارة المذكورة ، لعدم توجههم للاستدلال عليه بالنصوص ، كما تقدم ، وإنما توجه له المتأخرون.

وصاحب الذخيرة الذي هو من أوائل من توجه لذلك ، استدل بصحيحة زرارة على نظير ما تقدم من السرائر ، فإن ظاهر ذلك أنه فهم منها العموم لقاعدة اليقين.

بل إطلاق العبارة المذكورة وما يقرب منها في صحيحة زرارة الثالثة وصحيحة ابن الحجاج اللتين عرفت صعوبة تنزيلهما على الاستصحاب ، بل في حديث السجاد عليه السّلام الذي لا ريب في عدم إرادته منه موجب للريب في ظهورها

٥٠

في نفسها في خصوص الاستصحاب مع قطع النظر عن القرائن.

وأما قرينة ارتكازية التعليل فهي إنما تنفع في تعيين المراد من التعليل بعد الفراغ عن تشخيص الحكم المعلّل ، لا في مثل المقام مما شك في نفس الحكم المعلّل.

على أنه لا ريب في ارتكازية عدم نقض الحجة بغير الحجة بوجه أقوى من ارتكازية الاستصحاب ، لأنه أمر عقلي قطعي يكثر تسامح الناس فيه وخروجهم عنه باعتمادهم على الشبه والظنون بنحو يحسن الردع عنه بالإرشاد لذلك والتنبيه عليه.

كما أن قاعدة المقتضي والمانع لا تقصر في الارتكازية عن الاستصحاب.

بل لا مجال لإنكار ارتكازية قاعدة اليقين في ما لو لم يكن ارتفاع اليقين ناشئا من انكشاف خطأ مستنده ، بل من الجهل بحال المستند ، لنسيانه ، فإن البناء على مقتضى اليقين حينئذ ارتكازي لمشابهته لقاعدة الصحة.

وأما ما تقدم من ظهور الحديث في فعلية اليقين حين المضي والعمل.

فهو إنما يمنع من الحمل على قاعدة اليقين ، ولا يعين الاستصحاب ، لاشتراك بقية القواعد المتقدمة معه في ذلك.

على أن ظهوره في ذلك لا يقصر عن ظهوره في تنافي الشك واليقين لاتحاد موضوعهما من جميع الجهات ، حتى الزمان الملزم بالحمل على قاعدة اليقين.

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن الظهور المذكور ـ لو سلم ـ بدوي لا ينهض بمعارضة ظهور الكلام في فعلية اليقين حين العمل.

فهو غير ظاهر لنا.

وأشكل منه إنكاره للظهور المذكور من أصله ، وأنه يكفي الاتحاد التسامحي العرفي المبني على إلغاء خصوصية الزمان. فإنه من الغرابة بمكان!

٥١

وكأن الذي أوجب ذلك استحكام انصراف الاستصحاب من العبارة المذكورة عند المتأخرين ، كما تقدم. وإلا فلا يظن به ولا بغيره إنكار ذلك في نظائر المقام ، كما لو قيل : لا تنقض البينة الإقرار ، حيث لا يتوهم أن مقتضاه أن من أقرّ بالاقتراض لا تسمع بينته بالوفاء.

والمتحصل : أن الحديث الشريف لا ينهض بالاستدلال في المقام ، لعدم انطباق المعنى الحقيقي على الاستصحاب ، وعدم القرينة المعينة له من بين المعاني التي يصلح الكلام لبيانها توسعا.

اللهم إلا أن يقال : الوجوه المشار إليها وإن أمكن إرادة كل منها بالقرينة ، إلا أن الترتيب بين اليقين والشك مانع بظاهره من حمل الحديث على قاعدة المقتضي والمانع ، وعدم رفع اليد عن الحجة باللاحجة ، ونحوهما ، لعدم الترتيب فيها بينهما ، لا حقيقة ولا بلحاظ المتعلق ، بل يتردد الأمر بين قاعدة اليقين والاستصحاب ، وحيث يعلم بعدم حجية القاعدة ، لعدم بناء الأصحاب عليها ، إلا في موارد قاعدة الفراغ التي لا يكون المعيار فيها على اليقين ، بل على مضي العمل ، تعين الحمل على الاستصحاب ، الذي يناسبه قوة الظهور في فعلية اليقين حين العمل.

لكن الإنصاف : أن في بلوغ ذلك حدا يوجب الظهور العرفي الصالح للاستدلال إشكالا ، ولا سيما مع عدم أخذ الترتيب في الكبرى المعلل بها ، بل في موردها ـ وهو الحكم المعلل ـ فإن الترتيب في مورد القاعدتين الاخريين غير عزيز ، وإن لم يكن لازما لهما ولا دخيلا في كبراهما.

وخصوصا مع ما أشرنا إليه من ورود المضمون المذكور وما يشبهه في صحيحة زرارة الثالثة ، وصحيح ابن الحجاج الذي يصعب حملهما على الاستصحاب.

هذا ، وربما يدعى في المقام أن عدم القرينة على تعيين شيء من هذه

٥٢

الوجوه يقتضي الحمل على جميعها أخذا بعموم المجاز بعد تعذر الحقيقة.

وفيه .. أولا : ان الحمل على عموم المجاز إنما يتعين بعد العلم بارادة معنى مجازي وتحديده ثم الشك في تقييده ، لأن التقييد خلاف الأصل ، كما في المعنى الحقيقي ، بخلاف ما إذا كان الكلام صالحا لكل من المعاني المجازية وحده والشك في إرادة الجامع بينها ، لأن الجامع بحدّه معنى مستقل بنفسه في قبال خصوصيات المعاني يحتاج إلى قرينة تعينه ، وبدونها فالمتيقن إرادة معنى واحد منها على إجماله.

إلا أن يفرض كون الجامع أقرب المجازات عرفا للمعنى الحقيقي ، ولا مجال لدعوى ذلك في المقام.

بل هو هنا أبعدها ، لما فيه من التسامح في كلتا الجهتين اللتين تقدم ظهور الاستعمال الحقيقي فيهما ، وهما التنافي بين الناقض والمنقوض لاتحاد متعلقهما ، وفعلية المنقوض حين العمل ، بخلاف أحد المعاني بخصوصه ، فإنه لا يستلزم إلا التسامح في إحدى الجهتين.

وثانيا : أن ذلك موقوف على وجود جامع عرفي بين المعاني ، ومن الظاهر أنه لا جامع في المقام بين الوجوه الأربعة المتقدمة.

كما لا جامع بين الاستصحاب وقاعدة اليقين لو فرض انحصار الأمر بهما ، لفرض الاتحاد الحقيقي بين المتيقن والمشكوك في القاعدة ، والاتحاد الادعائي بينهما في الاستصحاب ، لابتنائه على إلغاء خصوصية الزمان ، ولا جامع بينهما عرفا.

ودعوى : أن الجامع بينهما هو تعاقب اليقين والشك على الموضوع المتحد ذاتا سواء اتحد زمانا أم اختلف.

مدفوعة : بأن ذلك يقتضي أيضا عدم نقض اليقين اللاحق بالشك السابق

٥٣

الذي هو مفاد الاستصحاب القهقري ، وحيث لا إشكال في عدم إرادته كشف عن عدم لحاظ الجامع المذكور.

ودعوى : خروج الاستصحاب القهقري بمقتضى فرض تأخر الشك عن اليقين وترتبه عليه.

مدفوعة : بأن الترتب المذكور لم يؤخذ في الكبرى ، بل في الصغرى ، وهو لا يقتضي تقييد الكبرى ، كما أشرنا إليه آنفا.

مع أن ترتب الشك على اليقين في القاعدة حقيقي بلحاظ ذاتيهما ، وفي الاستصحاب تسامحي بلحاظ متعلقيهما ، ولا جامع بينهما عرفا.

فلا بد في فرض عموم الحديث لهما معا من رفع اليد عن الترتب المذكور ، وعدم الاكتفاء بالجامع المذكور.

بل يفرض الجامع بنحو يختص بصورة اتحاد المتيقن والمشكوك زمانا وصورة تأخر المشكوك عن المتيقن ، وليس هو جامعا عرفيا ليحمل الكلام عليه بإطلاقه.

على أنه لو كان عرفيا لم يكف في شمول القاعدتين ، لاختلافهما بفعلية اليقين في الاستصحاب ، وزواله في قاعدة اليقين ، فلا بد في الشمول لهما من التعميم من هذه الجهة ، ولازمه الاكتفاء في الاستصحاب باليقين بالحدوث وإن زال ، ولا يظن من أحد الالتزام به ، لظهور أن مفاد الاستصحاب التعبد بالبقاء بعد الفراغ من الحدوث لإحرازه وجدانا باليقين الفعلي أو تبعدا بالطريق أو الأصل الشرعي ، وإن كان بقاعدة اليقين ، لفرض حجيتها ، لا مع الشك في أصل الحدوث من دون إحراز له أصلا.

فلا بد من أخذ بقاء اليقين في خصوص أحد فردي الجامع المذكور ، وهو صورة تأخر المشكوك عن المتيقن ، وهو محتاج إلى تكلف يمتنع حمل الكلام عليه.

٥٤

وقد تحصل أن الحمل على العموم متعذر ، بل لا بد من اختصاص الحديث بأحد المعاني ، وحيث لا قرينة على تعيينه لزم البناء على الإجمال.

وقد أطال غير واحد في ذكر الوجوه المانعة من الجمع بين قاعدة اليقين والاستصحاب بما لا مجال لإطالة الكلام فيه بعد ما ذكرنا.

وقد ظهر بذلك امتناع استفادة قاعدة اليقين من نصوص الاستصحاب المتقدمة والآتية ، إذ بعد قيام قرينة المورد على إرادته منها يمتنع عمومها للقاعدة المذكورة ، لما تقدم.

فلا وجه لما تقدم عن الذخيرة من الاستدلال عليها بصحيحة زرارة مع استدلاله بها على الاستصحاب.

بل لا بد في القاعدة المذكورة من قيام الدليل عليها بالخصوص غير هذه النصوص.

وهو مفقود إلا في مورد قاعدة الفراغ التي يكون المدار فيها على مضي العمل ، ولو مع عدم سبق اليقين بصحته للغافلة ، على ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى.

ومنه يظهر الحال في ما رواه المفيد في الإرشاد مرسلا عن أمير المؤمنين عليه السّلام : «من كان على يقين فاصابه شك فليمض على يقينه ، فإن اليقين لا يدفع بالشك» (١) ، فإن ما تقدم من جهات الكلام جار فيه. على أنه ضعيف بالارسال.

السادس : ما رواه الصفار عن علي بن محمد القاساني ـ على ما في التهذيب والوسائل ـ قال : «كتبت إليه وأنا بالمدينة أسأله عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب : اليقين لا يدخله الشك. صم للرؤية

__________________

(١) الإرشاد في الفصل الذي عقده لكلامه عليه السّلام في الحكمة والموعظة ، ص ١٥٩ طبع النجف الأشرف سنة ١٣٨٢ ه‍.

٥٥

وأفطر للرؤية» (١).

أما السند فقد يشكل بعلي بن محمد ، لتردده بين علي بن محمد القاشاني الذي ضعفه الشيخ ، وعلي بن محمد بن شيرة القاساني الذي يظهر من النجاشي توثيقه ، والذي يحتمل اتحاده مع علي بن شيرة الذي وثقه الشيخ أيضا.

ودعوى : أن المراد به في هذا الحديث الثاني ، لأنه بالسين المهملة.

مدفوعة : بالإشكال في ثبوت الفرق المذكور ، لقرب التصحيف ، كما يظهر من التباس الأمر على الأصحاب. مع أن الموجود في الاستبصار المطبوع في النجف الاشرف القاشاني بالشين المعجمة.

مضافا إلى ما قيل من أنه هو الذي يروي عنه الصفار.

وأما دعوى : اتحاد الجميع ، وأن تضعيف الشيخ للأول مبني على تخيل التعدد ، واعتمادا على ما عن أحمد بن محمد بن عيسى من طعنه بأن له مذاهب منكرة. وحيث كان واحدا وقد أنكر النجاشي على أحمد بن محمد بن عيسى طعنه بذلك ظهر بطلان تضعيف الشيخ أو اضطرابه فيه ، ويتعين الاعتماد على توثيق النجاشي المستفاد من قوله فيه : «كان فقيها ، مكثرا من الحديث ، فاضلا».

ولا سيما مع تأيده بعدم استثنائه من رجال نوادر الحكمة.

فهي مدفوعة : بعدم الشاهد على الاتحاد ، بل هو خلاف الأصل. ولعل الذي هو من رجال نوادر الحكمة هو الذي وثقه النجاشي والشيخ. فلا طريق لإثبات وثاقة الرجل وتصحيح سند المكاتبة. فلاحظ.

وأما الدلالة فقد قربها غير واحد. بل قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «والإنصاف أن هذه الرواية أظهر ما في هذا الباب من أخبار الاستصحاب».

وكأن وجه أظهريتها من الصحيحتين الأوليين أن الكبرى ظاهرة في العموم لظهور اللام في الجنس ، لعدم سبق ما يقتضي العهد ، بخلاف

__________________

(١) الوسائل ج ٧ ، باب : ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان حديث : ١٣.

٥٦

الصحيحتين على ما سبق.

لكنه موقوف على حمل اليقين على اليقين بالحالة السابقة ، والشك على الشك في الحالة اللاحقة ، وعدم الدخول على عدم الانتقاض.

ولا ملزم بذلك بعد عدم كونه هو المعنى الحقيقي المتعين بنفسه ، وعدم القرينة له. بل كما يمكن الكناية عن ذلك يمكن الكناية عن أن ما يعتبر فيه اليقين لا ينبغي الاكتفاء فيه بالشك ، فيكون مساوقا لما ورد في كثير من النصوص من النهي عن صوم يوم الشك ، بل لعل ذلك هو الانسب بالتعبير بالدخول.

وليس ذلك راجعا إلى أخذ العلم بالشهر في موضوع وجوب الصوم والإفطار ، بل إلى الردع عن توهم وجوب صوم يوم الشك واقعا أو احتياطا ، وعن التسامح في إثبات الشهر ، كما هو مفاد ما استفاض من إناطة الصوم والإفطار بالرؤية ، الذي هو مطابق لمفاد الاستصحاب ، وإن أمكن أن لا يبتني عليه.

السابع : صحيح عبد الله بن سنان : «سأل أبي أبا عبد الله عليه السّلام وأنا حاضر : إني اعير الذمي ثوبي وأنا أعلم أنه يشرب الخمر ، ويأكل لحم الخنزير ، فيردّه عليّ ، فأغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله عليه السّلام : صل فيه ، ولا تغسله من أجل ذلك. فإنك أعرته إياه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنه نجسه ، فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه» (١).

ولا ريب في ظهوره في الاستصحاب ، لعدم الاقتصار في التعليل فيه على الشك الذي هو موضوع قاعدة الطهارة ، بل اخذت فيه الحالة السابقة ، التي هي المتمم لموضوع الاستصحاب ، كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

نعم ، قال قدّس سرّه : «الرواية مختصة باستصحاب الطهارة ، دون غيرها ، ولا يبعد

__________________

(١) الوسائل ج ٢ ، باب : ٧٤ من أبواب النجاسات حديث : ١.

٥٧

عدم القول بالفصل بينها وبين غيرها مما يشك في ارتفاعها بالرافع».

لكن لا مجال لدعوى عدم الفصل بعد ما نقله قدّس سرّه من التفصيل منهم بين الاستصحاب الموضوعي والحكمي الكلي والجزئي ، بل التفصيل بين أقسام الشك في الرافع.

وإلا فالظاهر أن استصحاب الطهارة والنجاسة إجماعي مستغنى فيه عن هذه الرواية.

على أنه لا يكفي مجرد عدم القول بالفصل ، بل لا بد معه من القول بعدم الفصل الراجع إلى الإجماع على الملازمة بين المورد وغيره ، ولا مجال لإثبات ذلك.

هذا ، وقد تقرب دلالته على العموم : بأنه مقتضى ورود مضمون الاستصحاب فيه مورد التعليل ، لأنه المناسب لارتكازيته ، لما أشرنا إليه في الصحيحتين الأوليين من عدم دخل الطهارة في الجهة الارتكازية التي يبتني عليها الاستصحاب ، وإن كانت مختصة بكونها مقتضى القاعدة بمجرد الشك.

اللهم إلا أن يقال : لا يظهر من التعليل الإشارة لقضية عدم نقض اليقين الارتكازية ، المقتضية لإحراز بقاء المتيقن واستمراره ، ليلزم البناء على عمومها بقرينة الارتكاز ، كما تقدم في الصحيحتين الاوليين ، بل مجرد ترتيب أثر الطهارة عند الشك في تنجيس ما هو الطاهر ، الذي هو متفرع على البناء على البقاء والاستمرار ، وليس هو ارتكازيا ، بل تعبدي.

ولعل التعليل به بلحاظ اشتهار تعبد الشارع بذلك ووضوحه ، بنحو يكفي الإحالة إليه في استيضاح الحكم ، نظير ما تقدم في توجيه التعليل في الصحيحة الثانية بابتنائه على إجزاء الحكم الظاهري. ولعله لذا لم يبلغ ظهور هذا الصحيح مبلغ ظهور الصحيحتين المذكورتين. وإن كان صالحا للتأييد. فتأمل جيدا.

الثامن : بعض ما تضمّن من النصوص من التعبد بقاعدتي الحل والطهارة ،

٥٨

وحيث كان الكلام فيها على وجه واحد تقريبا كان المناسب جمعها في مقام واحد.

وهي موثق مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السّلام : «سمعته يقول : كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ...» (١).

وموثق عمار عنه عليه السّلام في حديث قال : «كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر ، فاذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك» (٢).

وحديث حماد عنه عليه السّلام : «الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر» (٣).

وقد اختلفوا في مفاد هذه النصوص على أقوال كثيرة ، لترددها ـ بعد النظر في كلماتهم ـ بين قاعدة الحلية أو الطهارة الواقعية للأشياء بعنوانها الأولي ، وقاعدة الحلية أو الطهارة الظاهرية للاشياء بعنوان كونها مشكوكة الحكم ، واستصحابهما ، حيث اختلفوا بين من جمع بين القواعد الثلاث ، ومن جمع بين اثنتين منها ، ومن خصها بواحدة منها ، على اختلاف بينهم في تعيين المراد منها من غير المراد على أقوال ..

الأول : ما ذهب إليه المحقق الخراساني قدّس سرّه في حاشيته على الرسائل من الجمع بين القواعد الثلاث ، بدعوى : أن النصوص بصدرها قد تضمنت الحكم على الأشياء والماء بالحلية والطهارة ، وظاهر ذلك كون موضوع الحكم هو الشيء والماء بعنوانهما الأولي ، لا بعنوان ثانوي آخر ، كالمشكوك ، لأنه خلاف ظاهر أخذ العنوان ، وبعمومها الافرادي تكون دالة على قاعدتي الطهارة والحلية الواقعيتين. كما أن مقتضى الإطلاق الأحوالي هو سراية الحكم بالحلية والطهارة في جميع الأحوال ، ومنها حالة الشك فيهما ، وهو مفاد قاعدتي الحلية والطهارة

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ ، باب : ٤ من أبواب ما يكتسب به حديث : ٤.

(٢) الوسائل ج ٢ ، باب : ٣٧ من أبواب النجاسات ، حديث : ٤.

(٣) الوسائل ج ١ ، باب : ١ من أبواب الماء المطلق ، حديث : ٥.

٥٩

الظاهريتين.

هذا كله في الصدر الذي تضمن الحكم المغيى.

وأما الذيل الذي تضمن الغاية فهو ظاهر في استمرار الحكم المذكور إلى حين العلم بالنجاسة والحرمة ، الذي هو مفاد استصحاب الحلية والطهارة.

وفيه .. أولا : أن مجرد ثبوت الحكم في حال الشك بمقتضى الإطلاق لا يجعله ظاهريا ، لما هو المعلوم من اشتراك جميع الأحكام الواقعية بين العالم والجاهل والملتفت والغافل ، ولا يجعلها ذلك ظاهرية ، بل الحكم الظاهري متقوم بالتعبد بالحكم الواقعي في مقام العمل الراجع إلى البناء عليه في رتبة متأخرة عن جعله ثبوتا ، نظير إحرازه عند الشك فيه بقيام الحجة عليه ، وإن افترق عنه بعدم توسط الكشف في البين.

فهو في طول الحكم الواقعي ومباين له سنخا ، فلا مجال لاستفادته من إطلاقه الاحوالي بل إرادتهما معا تبتني على جواز الاستعمال في معنيين ، الذي منع منه قدّس سرّه ، وهو الحق في الجملة ، على ما يذكر في محله.

ولا سيما في مثل المقام مما كان أحدهما في طول الآخر ومترتبا عليه ، نظير ترتب مقام الإثبات على مقام الثبوت ، فإن المنع هنا اكد ، لاستحالة جعل المترتبين في عرض واحد.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من عدم تكفل الكلام بجعل الحكم ، بل بإبراز الاعتبار النفسي الذي يمكن تعلقه بالمترتبين.

فهو مبني على ما سلكه في حقيقة الخبر والإنشاء وكيفية استعمال الكلام معهما بما لا مجال لتفصيله هنا ، بل يوكل إلى ما يناسبه من مباحث الألفاظ ، لئلا يضطرب نظم الكلام في المقام.

وثانيا : أن الغاية لا تقتضي الاستصحاب ، لأن الغاية لما كانت راجعة إلى تقييد المغيى فهي لا تقتضي إلا استمرار الحكم المذكور في الصدر ، لا الحكم

٦٠