من هدى القرآن - ج ١٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-17-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

سورة الطور

٨١
٨٢

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

في كتاب ثواب الأعمال بإسناد ، عن أبي عبد الله وأبي جعفر (عليهما السلام) قالا : «من قرأ سورة (الطور) جمع له خير الدنيا والآخرة».

تفسير نور الثقلين / ج ٥ / ص ١٣٥

٨٣
٨٤

الإطار العام

قسما بالطّور ، والكتاب المسطور. قسما بالبيت المعمور ، وبالسقف المرفوع. قسما بالبحر المسجور : إن عذاب الله حق ، وإنّه واقع بالتأكيد.

بهذه الكلمات الصاعقة تفتتح السورة التي جاءت لشفاء الإنسان من مرض الجدل ، وما أكثره جدلا! متى يصدق بهذه الحقائق. أفي (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً ، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) ، وهل ينفعه التصديق يومئذ حيث يصب الويل للمكذبين؟

إنهم لم يكونوا يأبهون بالنذر ، كانوا سادرين في لعبهم ، فهل لهم أن يستمروا كذلك يوم يدعون الى نار جهنم دعّا ، وهل لهم أن يكذبوا بنارها التي تتّقد أمامهم؟!

أم يقولون يومئذ : انها خيال وسحر زائف؟! ليس المهم ما يقولون ، ولا أنهم يصبرون يومئذ على النار أم لا يصبرون ، لأنهم مواقعوا النار يصلون لهيبها بما كانوا يعملون.

٨٥

هكذا تتواصل الآيات تستزيح من نفس الإنسان حالات الجدل واللعب والتهرب من الحقائق بالاعذار التافهة ، ولكي لا يستريح الإنسان إلى الرخاء الظاهر والأمن الموقّت الذي يعيشه اليوم لا بد أن يتحسس ذلك اليوم الذي يهتز فيه كل شيء ، من السماء التي كانت سقفا محفوظا ، إلى الجبال التي كانت ركنا شديدا.

ثم يرسم السياق لوحة بارعة الجمال تتجلى فيها صورة أهل الجنة وهم يتنعمون في جنات واسعة ، بعيدين عن عذاب الجحيم ، يأكلون ويشربون بما عملوا من الصالحات في حياتهم الدنيا ، وقد استراحوا على سرر مصفوفة ، وزوجهم الله بحور عين ، وحولهم الصالحون من ذريتهم ، ووفر الله لهم النعم من الفاكهة واللحم والكأس الكريم ، ويتذاكرون نعم الله عليهم أفليس قد كانوا مشفقين في أهلهم ، وجلين من عذاب جهنم ، فقد وقاهم ربهم بمنه عذاب السموم.

وبعد أن نشاهد هذه اللوحة التي تثير اشتياق النفوس الكريمة يتناول السياق ما يبدو انه الموضوع الرئيسي للسورة ، وهو معالجة حالة الجدل في الحقائق الواضحة ، وذلك بتسفيه الاعذار التي يتشبّث بها الإنسان للتهرب عن قبول الحق ، وهي مظاهر مرض الجدل الخطير .. لقد قالوا : إنّ الرسول كاهن أو مجنون ، وقالوا بل هو شاعر فإذا مات انتهت دعوته ، وقالوا انه افتراه .. كل تلك الدعايات تتلاشى حينما يضعها الإنسان في إطار الحقائق الكبرى ، ويتصور نعم الله التي يسبغها عليه (من (الطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) و.. و..) وعند ما يتحسس يوم القيامة عند ما (تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً ، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) ، كذلك تتلاشى أفكار مشابهة مثل التفكير في عدم الحاجة إلى البارئ.

ويتساءل السياق : إذا هل هم خلقوا أنفسهم؟ أم أنهم خلقوا من غير شيء؟ ومن الذي خلق السموات والأرض؟ كلّا .. (بَلْ لا يُوقِنُونَ) ، وهذه هي مشكلتهم

٨٦

الأولى. ومن يريد الفرار من الحقيقة الواضحة لا يجد أمامه سوى هذه الخرافات.

ويمضي الذكر الحكيم في بيان ضلالاتهم وتفنيدها : فمن يا ترى يسيطر على خزائن السموات والأرض؟ ثم يقولون : ان لله البنات فهل لهم البنون ولله ما يعتبرونه الأدنى أي البنات! ما لهم كيف يحكمون؟!

أم تراهم يخشون من دفع غرامة إن هم آمنوا. أو يطالبوا بأجر. أم أنهم يعلمون الغيب بوضوح فيعتمدون عليه في تخرصاتهم.؟

وبهذه التساؤلات الحادة المتتالية يستثير القرآن عقولهم ووجدان ضمائرهم حتى يروا بطلان تلك الأفكار بأنفسهم.

ثم يقول : «أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً» ، ويبدو أن هذا هو جواب التساؤلات ، ولكن ، يعلموا أنهم هم المكيدون ، وأنّه لا إله إلّا الله الواحد لا شريك له ، ولا علاج لمثل هؤلاء إلّا عند ما يرون العذاب فيقولون سحاب مركوم ، فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون.

وبعد أن يذكّر القرآن أولئك الكفّار بأنّ عذاب الدنيا نذير لعذاب الآخرة يأمر الرسول والمؤمنين بالصبر لحكم الله فإنّه وهم في رعاية ربّ العزة ، ويأمره وإياهم بالتسبيح ليلا وعند الأسحار.

٨٧
٨٨

سورة الطّور

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ

___________________

١ [والطور] : الطور هو جبل سيناء ، وقيل : هو جبل بمدين.

٣ [رقّ] : الرق هو الجلد الرقيق المدبوغ.

٤ [البيت المعمور] : قيل : انه بيت الله الحرام ، ، وقيل : انه الضراح في السماء الرابعة ، وقيل السابعة ، وهو بيت يلي البيت الحرام فوقه.

٥ [السّقف المرفوع] : السماء.

٩ [تمور مورا] : المور الاضطراب : وهو تردد الشيء جيئة وذهابا.

٨٩

(١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ

___________________

١٣ [يدعّون] : الدّع الدفع بعنف وقوة.

٢١ [وما ألتناهم] : ما أنقصناهم.

٢٣ [يتنازعون] : يتعاطون ، وقيل : على سبيل المزاح والمفاكهة.

٩٠

(٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨)

___________________

٢٦٦ [مشفقين] : خائفين من العذاب ، إذ من لا خوف له لا يعمل صالحا إلّا في الأندر النادر.

٢٧ [عذاب السموم] أي النار النافذة في المسام وثقب الجسد.

٩١

إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ

بينات من الآيات :

[١ ـ ٦] للقسم الذي يرد في القرآن ، ويتركّز في السور المكية التي تعالج أكثر ما تعالج عقائد الإنسان ، عدّة أهداف ، أبرزها :

١ ـ الربط بين العقيدة التي يدعو الله الناس إليها وبين حقائق العالم ، وأصل القسم هو إبداء الصلة بين شيئين ، فالحلف بالله على فعل أمر أو عدم فعله ، صدقه أو كذبه ، هدفه الربط بين عقيدة الإنسان بالرب وبين ذلك الأمر لاقناعه به. أمّا القرآن ففيه نوع من التجاوز لهذه القاعدة ، لأنّ كلام الله لا يحتاج إلى إثبات من خارجه ، وإنّما الهدف من القسم فيه هو بيان الصلة بين الغيب والشهود ، بين ما يجهله البشر من حقائق الخلق وبين ما هو ظاهر منها.

يقول تعالى : «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى * وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى* وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى» (١) وقال : «وَالشَّمْسِ وَضُحاها* وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها* وَالنَّهارِ

__________________

(١) الليل / (١ ـ ٤).

٩٢

إِذا جَلَّاها* وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها* وَالسَّماءِ وَما بَناها* وَالْأَرْضِ وَما طَحاها* وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» (١) وقال : «وَالضُّحى * وَاللَّيْلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» (٢) ففي المثال الأوّل يربط القرآن بين الليل حين يلفّ الدنيا بظلامه ، والنهار عند ما يظهر ظهورا تامّا بأنواره ، وما بينهما من اختلاف نجده بصورة أخرى عند الذكر والأنثى ، وبين اختلاف السعي والمذاهب عند الناس .. وفي المثال الثاني يربط بين عظمة الشمس والقمر ، والليل والنهار ، والسماء والأرض ، والنفس وطبيعتها ، وبين فلاح من يزكّيها وخيبة الذي يغمسها في رواسب الذنوب والانحراف .. وفي المثال الثالث نجد ربطا بين الضحى بإشراقه الذي هو وقت الحركة والنشاط ، والليل الذي هو وقت الراحة والسبات ، وبين الحقائق التالية : أنّ الوحي لم ينقطع عن النبي ، وأنّ الآخرة أفضل من الدنيا ، وأنّ عطاء الله يعوّض للإنسان متاعبه وتضحياته وأكثر من ذلك حتى يرضى به.

وعند التدقيق في الأمثلة المتقدمة نجد أنّ المقسم به يمثّل الشهود (الجانب الظاهر من الحقائق) بينما المقسم عليه يمثّل الغيب (الحقائق الخافية أو المعنوية) ، والصلة بين الاثنين قائمة في عالم التحقيق ، ولكنّنا ربما جهلناها أو غفلنا عنها ، فتأتي الآيات لتوضّحها وتذكّرنا بها ، وهذا ما نجده في سائر آيات القرآن.

٢ ـ وفي القسم القرآني علاج لغرور البشر ، ليخرج من كبره وقوقعة ذاته الى رحاب الحقائق ، ذلك أنّ القسم ينطوي على تذكيره بما حوله من مخلوقات عظيمة ، كالبحار التي هي أعمق منه ، والسماء التي هي أوسع منه ، والجبال التي هي

__________________

(١) الشمس / (١ ـ ٤).

(٢) الضحى / (١ ـ ٥).

٩٣

أطول وأضخم من جسمه ، وهذا التوجيه والألفات إلى الحقائق التي تلتقي كلّها عند التذكير بالله ، لا شك أنّه سوف يحدث في نفسه انبهارا إيجابيّا بعظمة الخالق ممّا يقوده إلى التسليم إليه .. والقرآن يصرّح بهدف تحطيم كبرياء الإنسان من وراء ذلك عند ما يقول : «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً» (١).

٣ ـ كما تبيّن الآيات من خلال القسم في كثير من موارده حسن التدبير وسلامة الصنع في الخلق ، وبالتالي دلالة ذلك على هدفية الحياة ، هذه الحقيقة التي ينبغي للإنسان إدراكها ، وتكييف تفكيره وسلوكه وفقها ، فهل يعقل أن تكون مفردات الحياة (الجبل ، والكتاب ، والجلد الذي يسطّر عليه ، وبيت العبادة ، والسماء ، والبحر) كلّها ذات حكمة وهدف إلّا الإنسان حتى يخوض ويلعب؟! كلّا .. إنّه الآخر خلق لهدف فلا بد أن يتعرّف عليه ، ويسعى لتحقيقه ، وإلّا راح طعمة لنار جهنّم تقع به ألوان من العذاب لا يدفعها عنه شيء.

(وَالطُّورِ)

قسما بالجبل وما يمثّله من مظاهر قدرة الله وحكمته ، وأيّ جبل هو طور في اللغة ، ولكن أبرز الجبال وأعظمها والتي يتوجّه لها هذا القسم بصورة خاصة هو طور سيناء الذي تلقّى النبي موسى (ع) عنده الوحي ، والذي نتقه الله ورفعه على رؤوس بني إسرائيل حينما عصوا الرسول ، وكذلك جبال مكّة التي تلقّى فيها نبينا محمد (ص) الوحي عند غار حراء ، فذكر الطور إذن يذكّر المؤمنين بآيات وجوانب كثيرة من قصة رسالة إلهية عظيمة .. لهذا نجد ذكره يقترن بذكر الكتاب الذي

__________________

(١) الإسراء / (٣٧).

٩٤

أنزل على جنباته ، لذلك يقسم الربّ مباشرة بالكتاب فيقول :

(وَكِتابٍ مَسْطُورٍ)

وهذا التلازم نجده في دعاء لفاطمة عن أبيها (صلوات الله عليهما وآلهما) فيه : «الحمد لله الذي خلق النور ، وأنزل النور على الطور في (كِتابٍ مَسْطُورٍ ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) ، بقدر مقدور ، على نبيّ محبور» (١).

ولأنّ الكتاب بذاته لا يتم به النفع مهما بلغ من الكمال إذا كان معطّلا ومطويّا جاء القسم به حال كونه منشورا يرى ما فيه من الآيات.

(فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ)

والرق هو الجلد الرفيق اللامع ، يقال ترقرق الشيء إذا لمع ، وهو أفضل ما يكتب عليه من الجلد.

ثم يقسم الله بالبيت الذي يعمر بالعبادة كما يريدها أو بالبناء فيقول :

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ)

ومن أبرز تجلّيات هذه الآية بيت العصمة والنبوّة الذي قال عنه تعالى : «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ* رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ» (٢) والذي قال : «إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» (٣) وهكذا بيوت العلم والعبادة ، وأبرزها الكعبة

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٥) ص (١٣٦).

(٢) النور / (٣٦ ـ ٣٧).

(٣) الأحزاب / (٣٣).

٩٥

المطهّرة ، وقيل انّه بيت في السماء ، ولا تناقض بين القولين ، فالكعبة هي تجلّ دنيوي ظاهر لذلك البيت ، وانعكاس له في الأرض.

روي عن الامام الباقر ـ عليه السلام ـ أنّه قال : «إنّ الله وضع تحت العرش أربع أساطين ، وسمّاهنّ الضراح ، وهو (البيت) المعمور ، وقال للملائكة : طوفوا به ، ثم بعث ملائكته فقال : ابنوا في الأرض بيتا بمثاله وقدره ، وأمر في الأرض أن يطوفوا بالبيت» (١).

وفي رواية أخرى عن النبي (ص) قال : «البيت المعمور الذي في السماء الدنيا يقال له الضراح ، وهو بفناء البيت الحرام لو سقط لسقط عليه ، يدخله كلّ يوم ألف ملك لا يعودون فيه أبدا» (٢).

وفي رواية عن أبي عبد الله (ع) في حديث المعراج قال : «فلمّا فرغ مناجاته ردّ الى البيت المعمور ، وهو في السماء السابعة بحذاء الكعبة» (٣).

ويضيف القرآن قسما آخرا فيقول :

(وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ)

فما هو السقف ، وما هي دلالته؟

قد تصدق هذه الكلمة على سقف البيت أو المسجد ، إلّا أنّ أظهر المصاديق والذي وردت فيه الأدلّة هو السماء ، قال تعالى :

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٥) ـ ص (١٣٦).

(٢) المصدر.

(٣) المصدر.

٩٦

«وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ» (١) وعن الصادق (ع) : «فخلق السماء سقفا مرفوعا ولولا ذلك لأظلم على خلقه ، بقربها ، ولا حرقتهم الشمس بدؤبها وحرارتها» (٢) وقد أيّد صاحب المجمع (ر ض) ذلك عن علي (ع) (٣) ، وفي السقف دلالة على السلام والأمن.

وقد يكون من المصاديق الظاهرة والقريبة للكلمة طبقة الغلاف الجوي المحيطة بالأرض ، حيث تصدّ النيازك والشهب عن الوصول الى الأرض ، كما تمتصّ وتحجب كميّات من الوحدات الحرارية والضوئية الساقطة على الأرض من الشمس وغيرها ، والتي من شأنها لو سقطت بكلّها أن تضر بالحياة عليها.

(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ)

قيل : يسجر يوم القيامة (٤) ، يدلّ عليه قوله تعالى : «وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ» (٥) أي صيّرت محمية كالنار والتنّور ، ويبدو لي أنّ المسجور الممتلئ والمتلاطم الموج ، وهكذا في المنجد قال : سجّر التنّور : ملأه وقودا وأحماه ، والماء النهر ملأه ، والبحر فاض ، وسجّر البحر هاج وارتفعت أمواجه (٦).

والعلاقة بين هذه الأشياء التي أقسم بها الربّ قد تكون علاقة المعنى بالمادة ، والمدنية المادية بحضارة القيم ، فلو أخذنا ريشة ، وحاولنا رسم صورة أو تصوّر عن مجموع ما ذكر لكان التالي : جبال عمران مدني السماء البحار (ذات الأثر

__________________

(١) الأنبياء / (٣٢).

(٢) نور الثقلين / ج (٥) ـ ص (١٣٨).

(٣) مجمع البيان / ج (٩) ـ ص (١٦٣).

(٤) نور الثقلين / ج (٥) ـ ص (١٣٨) عن تفسير علي بن إبراهيم.

(٥) التكوير / (٦).

(٦) المنجد / باب سجر.

٩٧

الكبير في تحضّر الشعوب) ذلك المجتمع الذي تحكمه رسالة الله (الكتاب) ، وهذه هي معالم الحضارة الأساسية.

[٧ ـ ٨] ومن الغلط أن يعتمد الإنسان على نعم الله ، ويسخّرها دون أن يحسب حسابا للعذاب فيضلّ أو يتعاطاها بعيدا عن بصيرة الايمان ، إنّما ينبغي أن يكون من العقلاء ، «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ» ، وهكذا من التعرّف على هدفية كلّ شيء حوله يهتدي إلى هدفه في الحياة فيسعى له ، ومن الشهود الذي يراه ويتحسسه ينفذ ببصيرته إلى الإيمان بالغيب .. ومن هنا تكون العلاقة واضحة ووثيقة بين ما تقدّم من الآيات وهذا التأكيد على العذاب.

(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ)

ويبدو أنّ المقصود بالعذاب هو المعنى الشامل كما في الدنيا وما في الآخرة يدل عليه قوله في آخر هذه السورة : «وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ذلك أنّ عذاب الدنيا نفحة من عذاب الآخرة ، ودليل عليه ، ونذير ملموس من نذره.

والوقوع هنا ليس بمعنى الحدوث ، بل بمعنى التحقّق والواقعية ، فكما أنّ الجبال والكتب والبيت والسماء والبحار كلّها حقائق لا يشك الإنسان في وجودها ، فإنّ عذاب الله هو الآخر واقع حق ، يراه المخلصون باليقين وبالآيات والإشارات الدالّة عليه في الدنيا ، فيعملون على تجنّبه ، ويقيهم الله منه «وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» (١) ، بينما يعمى عنه الآخرون ، فيتخذون الحياة خوضا ولعبا ، فيقعون في

__________________

(١) الطور / (١٨).

٩٨

العذاب دنيا وآخرة ، ولا يكتشفون هذه الحقيقة التي ذهلوا عنها إلا عند الموت «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (١).

إنّ السعي من قبل الإنسان لتصحيح مسيرته والعمل الصالح يكون مجديا قبل تورّطه في النتائج العملية لأخطائه ، أمّا إذا حلّ به العذاب فلن يجد وسيلة للوقاية عنه ، وبالذات إذا كان عذابا من الله.

(ما لَهُ مِنْ دافِعٍ)

[٩ ـ ١٠] وماذا عسى أن تبلغ قدرة هذا الإنسان الضعيف والمحدود حتى يقدر على تحدّي الله ودفع عذابه؟ أم يحسب أنّه عذاب وغضب يصدر عن إنسان مثله حتى يكون ردّه ممكنا؟ كلّا .. إنّه من الرهبة والعظمة بمكان تمور به السماء مورا على سعتها وسمكها الذي لا تصل إليه عقولنا ، وتسير الجبال المتأصّلة في الأرض عن مواقعها.

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً)

أي تتحرك بسرعة هائلة ، ويتداخل بعضها في بعض ، كما يتداخل ماء البحر الهائج في بعضه ، إلّا أن المور هو الحركة السريعة من دون ضوضاء.

(وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً)

وبالتدبّر في القرآن نخلص الى أنّ للجبال يوم القيامة ثلاث حالات عبر مراحل ثلاث متتاليات أيضا ، وهي :

الأولى : الحركة من مكانها والسير ، كما في هذه الآية ، وفي قوله تعالى :

__________________

(١) ق / (٢٢).

٩٩

(وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) (١).

الثانية : تحوّلها الى جزئيات وذرّات صغيرة يقول تعالى : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (٢) ، (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) (٣).

الثالثة : وأخيرا تتلاشى ، قال تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) (٤) ، وقال حاكيا التتالي في هذه المراحل : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) (٥) ، ويبدو أنّ الجاذبية تنعدم يوم القيامة فتفقد الأجسام وزنها ، وحيث تقع في الفراغ من الجاذبية تتفكّك جزيئاتها فتصير أجساما وذرأت صغيرة ثم تتلاشى وتضحى كالسراب.

[١١] وحين تواجه النفس البشرية حقائق عظيمة تثقل عليها تتهرّب منها بالتكذيب بها زاعمة أنّ ذلك يجديها نفعا ، ويوقفها القرآن أنّ التكذيب ليس لا يغني عنها شيئا ، بل هو بذاته يستدرج عذابا عظيما ، فلا فرار إلّا إلى الله والتسليم للحقائق.

(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)

وبما أنّ المكذّبين يعتمدون على قيم وعلاقات مادية ، يزعمون أنّها تنفعهم شيئا عند ما يكذّبون بالحقائق ، فقد نسفها نسفا ، وبيّن أنّ النظام الكوني على عظمته لا يستقرّ يوم القيامة فكيف بهذه العلاقات والقيم؟

__________________

(١) التكوير / (٣).

(٢) القارعة / (٥).

(٣) المزمل / (١٤).

(٤) طه / (١٠٥).

(٥) النبأ / (٢٠).

١٠٠