من هدى القرآن - ج ١٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-17-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

بصورة دقيقة كمية الحركة التي يقوم بها جسيم بسيط وأن نحدد في الوقت عينه موضعه في الموجة المرتبة به بحسب الميكانيكا الموجبة التي نادى بها «لويس دوبروغلى» فكلما كان مقياس موضعه دقيقا كان هذا المقياس عاملا في تعديل كمية الحركة ، ومن ثم في تعديل سرعة الجسيم بصورة لا يمكن التنبؤ بها ، ومهما تعمقنا في تدقيق المقاييس العلمية ابتعدنا أكثر عن الواقع الموضوعي.

هذا في الذرة الذي نادى فيها بعض بمبدإ النظام في اللانظام. وأما في المجرة أكبر وحدة وجودية فإنّ أحدث النظريات الفلكية أثبتت أنّه بالرغم من وجود نظام متناسق فيها فان فيها مجالا واسعا لما نسميه بالصدف؟ (١).

فالنظام إذا ليس كل شيء ، حتى نتخذه ربّا ـ فهو بالاضافة إلى كونه دليلا الى العليم العزيز الذي قدّر ، كما أنّ الأثر دليل على المؤثر ـ فإنّ هناك إرادة فوق النظام تمضيه أو تعطله متى ما شاءت وهي إرادة الله ، ولقد أودع الله ثغرة في كل نظام وسنة تدل عليه ، فهذا ماء المزن العذب يصيّره ربنا أشد ملوحة من الملح إن شاء ، فلا نقدر على شربه ، أو يستحيل من سبب للحياة ، الى وسيلة للموت والدمار.

(لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً)

يعني أشد ما تكون الملوحة ، وربّنا قادر على جعله كذلك حال كونه غيثا أو في مخازن الأرض ، بحيث لا يؤثر قانون التبخر في فصل ماء البحر عن أملاحه ، أو يجعل أساس تركيب الماء قائم بالملح فلا يمكن فصله عنه بالتحليل والتحلية كما يفعل الآن لمياه البحار ، أو أنّه لا ينزله من السحاب فلا يجد الناس إلّا ماء البحر الأجاج ، ولكنه بلطفه جعل درجة تبخر الماء تختلف عن الأملاح ، كما نظم دورة

__________________

(١) الفكر الاسلامي مواجهة حضارية / ص ١٨٨ ـ ١٨٩ للمؤلف.

٤٤١

سقوط الغيث وجميع جوانب الحياة بالصورة التي تنسجم مع متطلبات حياتنا. وعدم جعله ماء شربنا أجاجا ليس لعجز في مشيئته ، أو لأنّ القانون يفرض نفسه عليه بل لرحمته بنا ، فلم يرد ذلك حيث وضع القوانين الأساسية للغيث وإذا شاء في المستقبل تغييرها فله البداء «يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ».

وإدراكنا لهذه الحقيقة يعرّفنا بخالقنا ويسوقنا إلى التصديق به وبقدرته المطلقة ، وما يجب هو أن يصير التصديق مسئولية وبرنامجا عمليا في حياتنا ، يفرض علينا التزامات يعبر عنها القرآن بالشكر.

(فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ)

إذ لا فائدة من معرفة لا تقود إلى العمل ، ولا معنى للتصديق إذا فرّغ من أهم مضامينه وأهدافه أي الشكر. والمهم هنا التذكير بأن الشكر لا ينحصر في تلك الأذكار المتعارف عليها ، فهي جانب منها أو هي رمز لها أما الشكر الحقيقي فهو معرفة المنعم وتذكر نعمته عليه ، والتصرف في النعمة حسب تعاليمه. وبالتالي التسليم الشامل له.

قال الامام الصادق (ع) : «ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فعرف أنّها من عند الله إلّا غفر الله له قبل أن يحمده» (١) وقال : «شكر النعمة اجتناب المحارم ، وتمام الشكر (أي ما يكمله) قول الرجل الحمد لله رب العالمين» (٢) وقال في تفسير الآية : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) : «نعم من حمد الله على نعمة ، وشكره ، وعلم أن ذلك منه لا من غيره» (٣).

__________________

(١) أصول الكافي / ج ٢ ـ ص ٩٦.

(٢) بح / ج ٧١ ـ ص ٤٠.

(٣) المصدر / ص ٥٣.

٤٤٢

وقال الإمام العسكري (ع) : «لا يعرف النعمة إلّا الشاكر ، ولا يشكرها إلّا العارف» (١) وقال الإمام زين العابدين (ع) : الحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة ، وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة ، لتصرفوا في مننه فلم يحمدوه ، وتوسّعوا في رزقه فلم يشكروه ، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانية إلى حد البهيمة ، فكانوا كما وصف في محكم كتابه : «إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً» (٢).

وما شكر الله من أسرف في نعمه ، أو تقوّى بها على معصيته ، ونستوحي من أمر الله بالشكر بعد الإنذار المبطن المتمثل في قدرة الله على تحويل الماء أجاجا ، أنّ سلوك الإنسان فيما يتصل بربّه أو بنعمه سبحانه ينعكس على الطبيعة من حوله. فربما ضرب الجفاف بلدا ، فقلّت المياه وانعدمت لعدم شكرهم ربّهم.

[٧١ ـ ٧٢] والنار هي الأخرى نعمة هامة وأساسية تتدخل في كثير من مرافق حياتنا ، فهي مصدر للطاقة ، ووسيلة للتدفئة والطبخ والإضاءة ، وعامل أساسي في الصناعة إلّا أنّ القرآن في هذا السياق لا يريد الفاتنا إلى هذه الجوانب على أهميتها ، بقدر ما يريد الحديث عن النار باعتبارها آية من آياته ونعمة عظيمة لا بد من شكر الله عليها.

(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ)

أي توقدون وتشعلون ، والملاحظ أنّ الله يوجهنا إلى أشياء متميزة (الحيمن والجنين ، والموت ، والحرث ، والماء ، والنار) ، وتميّزها ليس فقط في كونها من أبرز وأهم الأشياء ، بالنسبة للإنسان أو لأنها من أعظم تجليات الله في الخليقة ، بل لأنها قد أصبحت لا تثير اهتمامنا كثيرا ولا تدعونا إلى التذكرة والاتعاظ ، إنّما

__________________

(١) المصدر / ج ٧٨ ـ ص ٣٧٨.

(٢) الصحيفة السجادية الدعاء الاول.

٤٤٣

نتعامل عادة معها باعتبارها متوفرة قد تعودنا عليها ، فمنذ أن بدأنا ندرك الحياة تعايشنا مع الماء والنار وما أشبه ، ولكن ألا فكرنا في مدى حاجتنا أليها؟ وكيف أنّ الله وفّرها لنا؟ وماذا لو انعدمت عنا؟ هنالك يتحول موقفنا منها تماما .. إنّها سوف تنطق بأسرار الحياة وتسبّح بحمد الرّب الذي وفّرها وتصبح جسرا بيننا وبين معرفة الخالق العظيم.

(أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ)

قالوا إنّها المرخ والعقار الذين كانت العرب توقد النار بضربهما ببعضهما ويبدو أنّها كل شجرة تتقد فهل كنا نحن الخالقين لها أم الله؟ أفلا نؤمن بقدرة ربّنا الذي خزن النار في هذه الأشجار الخضر أولا نصدق بأنّه قادر على إحياء الموتى؟

مشكلة البشر في قضية البعث أنّه يقيس الأمور حسب قدراته ، فحيث يجد في نفسه الضعف والعجز ينكر الآخرة ، أما إذا نظر إلى القضية من خلال إرادة الله المتجلية في الكون فلن يرى البعث إلّا أمرا هينا وربما تكشف هذه الفكرة سر التساؤل المتكرر (أَأَنْتُمْ أَمْ نَحْنُ) ، فلو كانت الإجابة فرضا أننا نحن (البشر) نخلق ونزرع وننشئ وننزل لأمكن الكفر بالبعث ، بينما الإجابة المعروفة لدى كل بشر أن من يفعل ذلك غيرنا ، هنالك نسعى لمعرفته ، والإيمان به ومعرفة أسمائه وبالتالي نعرف واقع البعث والنشور.

[٧٣] وربّنا لم يخلق النّار وينشئ شجرتها وحسب ، وإنّما جعل لخلقها أهدافا محددة.

(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً)

٤٤٤

للناس بربّهم من حيث هي نعمة إلهية عظيمة ، كما أنّها تذكرنا بنار جهنم الكبرى فهدفها الأول والأهم هو تزكية نفس الإنسان ، ففي الخبر عن الإمام الصادق (ع) : «إنّ ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ، وقد أطفيت سبعين مرّة بالماء ، ثم التهبت ، ولو لا ذلك ما استطاع آدمي أن يطفيها ، وإنّها ليؤتى بها يوم القيامة حتى توضع على النار فتصرخ صرخة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلّا جثى على ركبتيه فزعا من صرختها» (١).

أما الهدف الآخر للنار فهو الانتفاع المادي بها في مختلف مرافق الحياة ، والمجالات التي يكتشف الإنسان منافعها فيها وطرق استخدامها سواء بصورتها المباشرة (اللهب والشعلة) ، أو غير مباشرة (عموم الطاقة).

(وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ)

قالوا : المقوي الذي ينزل القي وهو الصحراء القاحلة ، وإنّما جعلت متاعا لهم بالخصوص لمزيد حاجتهم إليها ليس للتدفي والطبخ فقط وإنما لطرد الوحوش في الليل أيضا.

وقال بعضهم : المقوي الجائع كما قال الشاعر :

وإنّي لأختار القوي طاوي الحشى

محافظة من أن يقال لئيم

ويقال : أقوى الرجل إذا لم يكن معه زاد. (٢) وهذا أقرب ، ولعل القي سمي كذلك لانعدام الطعام فيه. وفي حالة الجوع وفناء الزاد تكون النار متاعا عظيما خصوصا للمسافر.

[٧٤] ويختم ربّنا هذا الدرس القرآني بدعوة إلى التسبيح باسمه للخلاص من

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٢٢٤.

(٢) القرطبي / ج ١٧ ـ ص ٢٢٣.

٤٤٥

النار ومصير أصحاب الشمال وكوسيلة للتقرب إلى رضوانه.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)

وهذه الدعوة هي محصلة طبيعية لحديث الآيات السابقة ، ومتممة لها ، فتلك دعتنا إلى التصديق وعرفتنا بربّنا من خلال نعمه وآياته المتجلي فيها سبحانه ، وحرضتنا على التذكر والشكر ، وهذه الخاتمة أوضحت لنا البرنامج العملي لتلك المعرفة والتذكر والشكر المتمثل في تنزيه الله عن الشريك وعن أي نقص وعجز وحد.

ولأننا لا نعرف كنه ذاته سبحانه فليست لنا وسيلة اليه وإلى تسبيحه إلّا أسماؤه الحسنى المتجلية في الطبيعة ، والمذكورة في كتابه ، وأسمى أذكار التسبيح قول العبد (سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله والله أكبر) وهو سبحانه عظيم واسمه كذلك عظيم ، وتنكشف لنا عظمته وعظمة اسمه كلما تقدمت وتعمقت معرفتنا بآياته وآثار عظمته في الخليقة كلها.

والملاحظ في هذه الآيات (٥٨ ـ ٧٣) ذكرها لأهم النعم الفطرية والحضارية بالنسبة للإنسان ، فاهم النعم الفطرية هي خلقة الإنسان التي تبدأ من المني وتستمر ، وبنعمة المطر ، وأهمها حضاريا مما يعتبر اكتشافها انعطافات كبري في تاريخ الحضارة البشرية. اكتشاف الزراعة والنار ، ولا ريب أنّ لنعمة الزراعة تأثيرا في سائر مرافق حياة الإنسان ، فهي مرتكز لحاجاته الأساسية كالتغذية والبناء ، والكمالية كالزينة والظل والتمتع ، حتى قالوا إنها أصل كل حضارة.

ومعرفة هذه الحقائق يهدينا إلى أنّ الحضارة التي بأيدينا الآن ظاهر الأمر أنّنا الذين صنعناها وأوجدناها ، إلّا أنّها من صنع الله وفضله ، لأنّ الحضارة المادية

٤٤٦

(الإنسان+ الزراعة+ الماء+ الطاقة) هي من خلقه وتنشئته ، ثم إنّها لا تكتمل إلّا بالإيمان مما يأتي التأكيد عليه في الدرس القادم.

٤٤٧

فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ

___________________

٨١ [مدهنون] : متهاونون ـ كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه تهاونا ، وأصله استعمال الدهن للين الجسم.

٨٦ [مدينين] : أي محاسبين ومبعوثين ، وقيل مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم.

٤٤٨

الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)

٤٤٩

إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ

هدى من الآيات :

إنّ خلقنا وموتنا ، والزراعة والغيث ، وكذلك النار ، من الآيات التكوينية الهادية إلى الإيمان بالله الخالق ، وباليوم الآخر ، أمّا الآية التشريعية فهي القرآن الذي هو انعكاس لسائر سنن الحياة وواقعياتها في صورة نهج شامل وكامل ، وهو أعظم آية تجلّى فيها الخالق لخلقه ، إذ لا ينتفع البشر من سائر آيات الله في الخليقة من دون القرآن الذي ترتفع به حجب الغفلة والشهوات ، وتتكامل به التذكرة والتبصرة ، وتتنامى المعرفة والإيمان بتلاوة آياته المبصرات.

وفي أوّل هذا الدرس يطالعنا الذكر قسما مؤكّدا وعظيما على كرامة القرآن ، وأنّه حفظ في كتاب لا تناله إلّا الأيدي الطاهرة ، وأنّه ليس إلّا من عند خالق الوجود ومبدعه ، الأمر الذي يجعل الإيمان به مفروضا على الإنسان المخلوق فرضا.

ثم تلخّص الآيات الأخيرة حديث السورة عن البعث (الواقعة) ، وتبدأ

٤٥٠

بالاستنكار على البشر استخفافهم بحديث الواقعة ، وتتحدّاهم بالموت الذي قهر الله به عباده ، والذي هو في نفس الوقت دليل الجزاء والمسؤولية اللذان يزعم الإنسان القدرة على تحدّيهما. ثم تؤكّد الآيات انقسام الناس إلى ثلاثة أزواج ، وأنّ التحاق كل امرء بأصحابه يتمّ عند الموت ، فأمّا من المقربين ، وأمّا من أصحاب اليمين ، وأمّا من أهل الشؤم والنار. وهذه الحقيقة واقعية ، وحق يقين لا يغيّر فيه تكذيب المكذّبين وضلالهم شيئا ، كأيّ واقع آخر لا ينتفي بمجرّد إنكاره. وكفى بحتمية وقوعه أنّه وعد من ربّنا القادر العظيم.

وفي الأخير يأمرنا بالتسبيح لأنّه السبيل إلى النجاة من النار ، وإلى المزيد من القربى اليه والتي ينتمي بها الإنسان إلى المقربين أفضل الأزواج ، أوليس هو النهج الأنجح لمقاومة دواعي الشرك به والتكذيب بوعده؟

بينات من الآيات :

[٧٥ ـ ٧٦] إنّ عظمة الله وأسمائه تتأكد لدى الإنسان كلّما لاحظ الوجود من حوله وتفكّر فيه ، لأنّه بكلّه آيات هادية إلى تلك الحقيقة ، وعرصة تتجلّى فيها العظمة والأسماء ، فبعظمة الخلق وروعته نهتدي إلى أسمائه الجمالية فهو الحيّ القوي المقتدر الجميل الرحمن.

وبما في الخلق من صفات التحوّل ، والعجز ، والضعف ، والمحدودية ، نهتدي إلى صفات الخالق الجلالية ، وأنّه القدّوس السبحان المتعالي الواسع ، ولعلّ هذا ما يفسر إشارته بالقسم إلى الكواكب والنجوم المتوزعة في الفضاء الرحب ، فإنّها بحسنها ونظامها الدقيق وعلاقتها بالحياة على الأرض تكشف جانبا من عظمة الخالق عزّ وجل وربّنا يفتح أفق البشرية ويثيرها نحو التطلع إلى علم الفضاء ، ولكن ليس في هذا العصر الذي تقدّمت فيه معارف الإنسان بهذا الجانب من

٤٥١

العلم ، وتخصّص فيه الباحثون والمراقبون ، إنّما قبل عدّة قرون ، وفي وقت كانت معلومات البشر بهذا العلم وتوجّهاته ضئيلة ومحدودة ، بل ومخلوطة بالخرافات والأساطير.

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ)

ولم يقل بذات النجوم ، وذلك ليبيّن حقيقة علميّة مهمة وهي أنّ الكواكب ليست منثورة في السماء اعتباطا ، كما يظنّ الجاهل بنظرته الخاطفة إلى ظاهرها ، بل هي خاضعة لنظام دقيق ومحكم بحيث تأخذ كلّ نجمة موقعها فيه ، بما يجعل النظام متكاملا ، ويجعلها تؤدّي دورها المطلوب والمناسب في الوجود. ولا ريب أنّ هذه الحقيقة حريّة بالدراسة والبحث من جانب المختصين لما فيها من فوائد علمية تهمّ الإنسان ، وتجلّيات لعظمة خالقها ومدبّرها تزيد إيمانه وتصديقه وتسبيحه.

«ويقول الفلكيون : إنّ من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدّة بلايين نجم (تزداد كلّما تقدّم العلم بالإنسان) ما يمكن رؤيته بالعين المجرّدة ، وما يرى إلّا بالمجاهر والأجهزة ، وما يمكن أن تحس به الأجهزة دون أن تراه ، هذه كلها تسبح في الفلك الغامض ، ولا يوجد أيّ احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم من نجم آخر ، أو يصطدم بكوكب آخر ، إلّا كما يحتمل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسط بآخر في المحيط الهادي ، يسيران في اتجاه واحد ، وبسرعة واحدة ، وهو احتمال بعيد ، جدا ، إن لم يكن مستحيلا» (١).

ويقول العلماء المختصون أنّهم اكتشفوا لحدّ الآن نصف مليارد مجرّة ، ولا يزالون يكتشفون المجرّة تلو الأخرى في هذا الفضاء الرحب ، وإنّما يدرك عظمة قسم الله بمواقع النجوم الذي يطّلع على مثل هذه الحقائق ، أمّا الذي يجهلها فانّ القسم بها

__________________

(١) في ظلال القرآن / نقلا عن كتاب : الله والعلم الحديث ص ٣٣

٤٥٢

عنده ليس ذا أهمية.

(وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)

فكلّما تقدّم الإنسان خطوة في العلم كلّما ظهرت وتأكّدت له عظمة هذا القسم ، وكفى بذلك عظمة أنّه قسم منه تعالى بمواقع النجوم. ونخلص الى القول بأنّ عدم قسمه مباشرة بها يعود الى أمرين رئيسيين : أحدهما : أنّ القسم بشيء يحقّق غرضه حينما تكون عظمته معروفة عند الطرف المقابل ، والآخر : لأنّ الناس في الجاهلية كانوا يعتقدون في النجوم ومواقعها بالخرافات والشرك فلم يقسم الله بها لكي لا تتعمّق اعتقاداتهم الباطلة ، أو يتخذونه مبرّرا لها. قال الامام الصادق (عليه السلام) : «إنّ مواقع النجوم رجومها للشياطين ، فكان المشركون يقسمون بها ، فقال سبحانه : فلا أقسم بها» (١) ، وقال (عليه السلام) : «كان أهل الجاهلية يحلفون بها ، فقال الله عزّ وجل : الآية» (٢).

ولعلّ في الآية ايحاء واشارة من قبل الله الى الناس بعدم جواز حلفهم هم بها ، حيث لا يصح للمخلوق القسم إلّا بالخالق ، وفي الروايات تصريح بذلك ، قال الامام الصادق (عليه السلام) بعد ان تلى الآية : «عظم إثم من يحلف بها» (٣) ، وفي هاتين الآيتين دعوة الى نبذ الظنون والأساطير في موقف الإنسان من النجوم ، والتي تضر أكثر مما تنفع ، الى العلم ، مما يظهر اهتمام الإسلام وموقفه من العلم ، ودعوته الرائدة اليه ، وأنّه ليس كما يظن البعض أو يصوّرونه يعارض العلم والحضارة.

[٧٧ ـ ٧٩] وبعد التمهيد الآنف بالقسم يصارحنا الوحي بتلك الحقيقة

__________________

(١) مجمع البيان / ج ٩ الموضع.

(٢) نور الثقلين / ج ٥ / ص ٢٢٥.

(٣) المصدر

٤٥٣

العظمى ، والتي كانت الغرض من القسم العظيم.

(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)

أليس يتجلّى فيه ربنا بكلّ جماله وجلاله ، وأي كرامة اسمي من كتاب تنفتح آياته عن جمال الخالق ، وروعة المخلوق ، وعن جلال الخالق ، وعظيم خلقه؟

قالوا : الكرم مجمل الصفات الحميدة (١).

وكيف لا يكون القرآن كريما وقد رغبنا الى مكارم الأخلاق وحسان الآداب ، الى العدل والحرية والفضائل الانسانية ، كما نهانا عن الخبائث والرذائل والسيئات؟

وإذا عدنا الى أنفسنا وما فطرت عليه من حب الخير والفضيلة لعرفنا ان القرآن كتاب ربنا أوليس يدعو الى ذات الصفات الحسنى التي نحبها ونعتقد ان ربنا يحبها ، فكيف يكفرون به وكل آية آية منه شاهد على انه من عند الله؟

والسؤال هنا : ما هو وجه ذكر السياق للقرآن وبهذه الصورة المؤكدة؟

أولا : لان الدرس السابق ذكرنا بالآيات الهادية الى التصديق بالخالق. فكان من البديهي ان يأتي ذكر القرآن ، لأنه السبيل الى معرفة الآيات ، والبصيرة لرؤية تجليات الرب. ومن لا يهتدي بالقرآن كيف يتسنى له وعي حقائق الخليقة ، وفك رموزها ، ومشاهدة غيبها ، والعروج منها الى معرفة خالقها؟

ثانيا : لان التصديق بالخالق ، والتذكر ، والشكر ، وبالتالي التسبيح باسم الرب العظيم الذي دعا اليه الدرس السابق ، لا يتم بالوجه الأكمل إلّا بالقرآن ،

__________________

(١) راجع مفردات الراغب

٤٥٤

فالقرآن معراج السابقين ، ومنهج أصحاب اليمين. انه شريعة سمحاء لمن أراد الذكر ، وابتغى الشكر ، وبحث عن سبيل التقوى. إنّك تسأل كيف أصدّق بالخالق؟ وكيف أتذكّر وأشكر؟ وكيف أسبّح؟ كل ذلك بالقرآن (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١) فالتسبيح الحقيقي الذي يأمر به الله بقوله : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٢) لا يتلخّص في الذكر ، انما يكون باسم الله العظيم وقرآنه أعظم أسمائه الظاهرة ، بل وفيه الاسم الأعظم.

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «من أعطاه الله القرآن فرأى ان أحدا أعطي شيئا أفضل مما أعطي فقد صغر عظيما وعظّم صغيرا» (٣) وقال (صلّى الله عليه وآله) : «فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه» (٤) وقال : «القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم إن هذا القرآن هو حبل الله ، وهو النور المبين ، والشفاء النافع ، فاقرأوه فان الله يأجركم على كل تلاوته بكل حرف عشر حسنات. أما اني لا أقول (الم) حرف واحد ، ولكن الف ، ولام ، وميم ثلاثون حسنة» (٥) وقال : «القرآن أفضل كلّ شيء دون الله ، فمن وقّر القرآن فقد وقر الله ، ومن لم يوقّر القرآن فقد استخفّ بحرمة الله ، وحرمة القرآن على الله كحرمة الولد على والده» (٦) وقال : «إن أردتم عيش السعداء ، وموت الشهداء ، والنجاة يوم الحسرة ، والظل يوم الحرور ، والهدى يوم الضلالة ، فادرسوا

__________________

(١) المائدة / ١٦

(٢) الواقعة / ٧٤

(٣) بح / ج ٩٢ / ص ١٣

(٤) المصدر / ص ١٩

(٥) المصدر

(٦) المصدر

٤٥٥

القرآن فانه كلام الرحمن ، وحرز من الشيطان ، ورجحان في الميزان» (١) وقال : «من استظهر القرآن وحفظه ، وأحل حلاله ، وحرم حرامه ، أدخله الله به الجنة ، وشفعه في عشرة من أهل بيته ، كلهم قد وجب له النار» (٢) وقال (صلّى الله عليه وآله) يعظ سلمان المحمدي : «يا سلمان! المؤمن إذا قرأ القرآن فتح الله عليه أبواب الرحمة ، وخلق الله بكل حرف يخرج من فمه ملكا يسبّح له الى يوم القيامة .. وان أكرم العباد الى الله بعد الأنبياء العلماء ثم حملة القرآن ، يخرجون من الدنيا كما يخرج الأنبياء ، ويحشرون من قبورهم مع الأنبياء ، ويمرون على الصراط مع الأنبياء ، ويأخذون ثواب الأنبياء ، فطوبى لطالب العلم وحامل القرآن مما لهم عند الله من الكرامة والشرف» (٣).

ولكننا نحن المسلمين لا زلنا بعيدين عن القرآن ، بالرغم من هذه التأكيدات ، وبالرغم من تجربتنا معه ، أوليس قد أنقذنا من ظلمات الجاهلية ، وشيد لنا حضارة كانت ولا زالت منارا للبشرية ، فلما ذا هجرناه حتى عاد بيننا غريبا؟ أفكارنا لا تشير إلى بصائره ، وسلوكنا لا تستوحى من قيمه. وبكلمة : خسرنا كرامة القرآن وعزّه ، ولا يزال يدعونا الى مأدبته وكرامته ، بيد اننا لن نبلغه الا بسعي منّا ، ذلك لأنه كما يصفه الله عزّ وجلّ :

(فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ)

فلا بد إذا نستظهره كما يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) (٤) ، ونستنطقه كما يقول الامام علي (عليه السلام) ، حتى نطلع على مكنونه ، فهو بالرغم من اشتماله على تبيان لكل شيء لن ينطق ، «ذلك القرآن فاستنطقوه ، ولن ينطق ،

__________________

(١) المصدر

(٢) المصدر

(٣) المصدر / ص ١٨ وللمزيد راجع المصدر

(٤) المصدر / ص ١٣

٤٥٦

ولكن أخبركم عنه ، فيه علم ما يأتي ، والحديث عن الماضي ، ودواء دائكم ، ونظم ما بينكم» (١) ، وقد أراد الامام (عليه السلام) من قوله : «ولن ينطق» أننا لن نقرأ في ظاهر القرآن كل المناهج الحضارية للحياة ، ولا مضامينه العلمية ، انما نجدها بالتفكير والتدبر في آياته ، الذي يفتح لنا كن الذكر الحكيم ويبصرنا محتوياته وتأويلاته الواقعية في جوانب الحياة المختلفة ، والعقل إذا أعمل على هدى الآيات والسنة والعلم الصحيح هو مفتاح القرآن. قال تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢) ، وقال : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (٣) ، وقال : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٤)

ولأننا تعوّدنا على الأفكار الجاهزة ، ولان العملية الفكرية عملية مجهدة ، ولان مناهجنا في فهم القرآن وتفسيره متخلّفة وخاطئة في أغلبها ، فلا زلنا بعيدين عن الثقافة القرآنية التي نحتاجها في حياتنا الفردية والاجتماعية ، ولم ننتفع عمليا بالرغم من الحاجة الملحّة إليها. وما أشبه حالنا بظمآن يجري بقربه نهر فرات لم يكتشفه ، أو فقير تحته كنز كبير!

ولا يفوتنا القول بان من معاني «مَكْنُونٍ» محفوظ ، لم ولن تصل اليه يد التحريف ، ولن يطفئ نوره المشركون ولا الكافرون. وقال بعض المفسرين ان معنى الاية انه كتاب محفوظ عند الله ، والكتاب هنا كتاب في السماء (٥) ، ولكن

__________________

(١) المصدر / ص ٢٣ عن أمير المؤمنين (ع)

(٢) آل عمران / ٧

(٣) العنكبوت / ٤٣

(٤) ص / ٢٩

(٥) القرطبي / ج ١٧ / ص ٢٢٤

٤٥٧

يبدو ان الاية التالية تفسر هذه الاية ، فهو مكنون عن غير المطهرين.

(لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)

قال المفسرون والفقهاء تبعا للآيات يعني لا يجوز ان يمس القرآن الا من كان مسلما طاهرا. قال أبو الحسن (عليه السلام) : «المصحف لا تمسه على غير طهر ، ولا جنبا ، ولا تمس خطه ولا تعلّقه. ان الله يقول : الآية» (١) ، وسئل الامام الصادق (عليه السلام) عن التعويذ تعلّقه على الحائض؟ قال : «نعم لا بأس ، تقرأه ، وتكتبه ، ولا تصيبه يدها» (٢).

وهذا التفسير هو ظاهر الاية ، وإذا تدبرنا في الاية أكثر لعرفنا ان الطهارة الجسدية بعد واحد من الطهارة ، والبعد الاخر هو طهارة الروح التي هي الأهم.

ولا يمس حقائق القرآن الا المطهرون ، عن الإثم والفواحش ، البعيدون عن العقد والأفكار الدخيلة والمسبقة ، والأغلال والإصر ، وسائر الأدران التي تحجب الإنسان عن كتاب الله. قال ربنا سبحانه : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً* وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) (٣) وقال : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٤) ، كما جاء أمره تعالى بالاستعاذة من الشيطان في قوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ) (٥) لأنه لون من ألوان النجاسة المعنوية التي تحجب الإنسان عن الآيات.

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ / ص ٢٢٦

(٢) المصدر / ص

(٣) الإسراء / ٤٥ ـ ٤٦

(٤) محمد / ٢٤

(٥) النحل / ٩٨

٤٥٨

وأئمة الهدى الذين تنزل الوحي في بيوتهم هم الأعلم بمعاني القرآن ، لأنهم أظهر مصاديق الطهر لقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١).

ومن الدقة في التعبير انه تعالى لم يقل الطاهرين انما قال «المطهرين» مما يؤكد تأويل هذه الآية في أهل البيت العصمة (عليهم السلام) حيث طهرهم الله ، ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «فان القرآن الذي عندي لا يمسه الا المطهرون والأوصياء من ولدي» (٢) ولعل المراد مما عنده القرآن بتفسيره وتأويله وما تلقى من الأحاديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله) فيه.

وقد قال الامام الصادق (عليه السلام) : «وانما القرآن أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم ، ولقوم يتلونه حق تلاوته ، وهم الذين يؤمنون به ويعرفونه ، فاما غيرهم ، فما أشد اشكاله عليهم وأبعده من مذاهب قلوبهم ، ولذلك قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : إنه ليس شيء بأبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن ، وفي ذلك تحير الخلائق أجمعون الا ما شاء الله .. الى ان يقول يخاطب السائل .. وإيّاك وتلاوة القرآن برأيك فان الناس غير مشتركين في علمه كاشتراكهم فيما سواه من الأمور (يعني كعلم الائمة) ، ولا قادرين عليه ولا على تأويله الا من حده وبابه الذي جعله الله له ، فافهم ان شاء الله ، واطلب الأمر من مكانه تجده إنشاء الله» (٣).

[٨٠ ـ ٨٢] وانما يقصر غير المطهرين عن مسه ولا يجوز لهم ذلك لأنه كلام الله رب العالمين.

__________________

(١) الأحزاب / ٣٣

(٢) نور الثقلين / ج ٥ / ص ٢٢٦

(٣) بح / ج ٩٢ / ص ١٠٠ وص ١٠١

٤٥٩

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)

وقد تجلى الرب فيه بأسمائه ، وآياته ، ورسالاته ، وشرائعه ، وكتاب هذا شأنه يحجب عنه من اتبع هواه ، وتمكّنت الشهوات من قلبه ، لان معرفة الله معراج القلب اليه ، وحضور النفس في مقامه الأعلى ، فكيف يسمح لمن تراكمت عقد الذنوب على قلبه بذلك؟! حاشا بذي العرش ان يسمو الى مقامه الذين اخلدوا الى الأرض واتبعوا أهواءهم!

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ)

انه حديث عظيم لا بد من أخذه بقوة وعزم ، والاستقامة عليه في مواجهة الضغوط. أما اللين في أمره ، والاستسلام للضغوط بالاعراض عنه ، فهو لا يتناسب وعظمة القرآن. وهذا المعنى هو المفهوم من مختلف الآراء في تفسير المدهن ، قالوا : مكذبون ، وقالوا : منافقون ، وقال بعضهم : ممالقون الكفار على الكفر به ، وقال آخر : المدهن الذي لا يعقل ما حقّ الله عليه ويدفعه بالعلل ، وقال بعض اللغويين : مدهنون تاركون للجزم في قبول القرآن (١). وقال آية الله الشيرازي : متهاونون ، كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه تهاونا ، وأصله استعمال الدهن للين الجسم (٢) ، ومنه قول الله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ* فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ* وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ* وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) (٣).

ونستفيد من الاية انه لا يجوز لأحد التهاون في احكام القرآن في اي حال ، ولأي سبب ، لأنه حديث الله المفروض تطبيقه والالتزام به على الخلق ، ولا يجوز ان يبرر

__________________

(١) القرطبي / ج ١٧ / ص ٢٢٨

(٢) تفسير تقريب القرآن للأذهان / الموضع

(٣) القلم / ٧ ـ ١٠

٤٦٠