من هدى القرآن - ج ١٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-17-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

وأفكاره فلا ينطلق في أيّ موقف أو حكم من ردّات الفعل وإثارة المواقف المضادة ، والكفّار كبشر لديهم مناهج عقلانية ولكنّهم خرجوا عن دائرتها فصاروا يعارضون الرسول ويتهمونه بالكهانة والجنون أو بالشعر والسحر ، ليس لأنّهم وجدوا ما عنده باطلا ، وإنّما نتيجة اتباع الهوى والطغيان وردود الفعل.

(أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ)

و «أَمْ» هنا ليست بمعنى التخيير وعدم التأكّد ، بل هي تأكيد لما بعدها ، ولعلّ السبب أنّ الاحتمالات السابقة واضحة البطلان مما يبعث السامع إلى البحث عن الاحتمال الصحيح ، ويتساءل : إذا لماذا يعارض هؤلاء الرسالة؟ ويأتي الجواب بصيغة احتمال ، ولكنّ السامع يتقبّله رأسا ، فيكون كما لو أنّه هو الذي اكتشف الحقيقة.

ومن عموم هذه الآية نستفيد فكرة كثيرا ما يشير القرآن إليها ، وهي أنّ الاحتياط من العقل ، فينبغي للمؤمن أن لا يستعجل في رفض فكرة يسمعها ، بل يفترض إمكان صحتها ، ثم يفكّر فيها مليّا ، ويتخذ موقفه منها على ضوء تفكير موضوعيّ دقيق.

وإنّ الذين رفضوا الرسالة لم يعتمدوا في رفضهم على العقل بل على الطغيان ، لأنّ العقل يقيّد الشهوة ويقنّنها ، بينما الطغيان يسيّرها ، بل ويجعلها هي القانون ، ولو أنّهم اتبعوا هدى عقولهم لآمنوا بها ، لأنّها تهدي إلى العقل كما يهدي العقل إليها.

[٣٣] ومن نتائج اتباعهم الهوى في تقييم الرسالة والنبي (ص) اتهامهم له بأنّه لا ينطق عن الله ، وأنّ ما عنده ليس رسالة من الرب ، إنّما هي من صنيع فكره. إنّ

١٢١

عقولهم تهدي إلى صحة ما جاء به ، ولكنّهم لا يريدون إلزام أنفسهم بالمسؤولية ، لذلك تراهم يبحثون عن تبرير لعدم إيمانهم ، فقالوا : نحن نؤمن بعظمة الرسول وبعظمة ما جاء به ولكنّه من عبقريته ، ولسنا ملزمين باتباع ما تفتقت عنه عبقريّات البشر ، إنّما نحن ملزمون باتباع وحي الله وحسب ، وهذا هو منهج المستشرقين وكثير من المسيحيين في تقييم الإسلام والرسول الأعظم (ص).

(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ)

[٣٤] ويتحدّاهم القرآن بأنّه إذا كان القرآن من عبقرية الرسول فهو بشر مثلهم فهل يستطيعون صناعة كلام يشبه القرآن؟

(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ)

وتنكير كلمة «بِحَدِيثٍ» يدل على التبعيض ، فالتحدي إذن واقع على جزء من القرآن كالسورة أو الآية ، وتبقى هذه المعجزة الالهية الخالدة تتحدّى ضلال البشر عبر الزمن وفي كلّ جيل من الانس والجن ، يقول تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١)

[٣٥ ـ ٣٦] ومن الحديث المنطلق من واقع التشريع ينتقل السياق إلى الحديث من واقع الخلق ، فبعد أن أثبت بأنّ الرسالة ليست من صنيع البشر فلا هي كهانة ولا جنون ولا شعر ولا مخالفة للعقل ، وأنّ الدليل على كونها من الله عدم قدرة البشر على المجيء ولو بحديث واحد يشبهها ، نجد السياق هنا ينعطف لاثبات وجود الخالق عزّ وجل عبر تساؤلات ثلاث :

الأولى : أن يكونوا (الكفّار وعموم الخلق) قد خلقوا من غير خالق.

__________________

(١) الإسراء / ٨٨.

١٢٢

الثانية : أن يكونوا هم الذين خلقوا أنفسهم.

الثالثة : أن يكونوا هم الذين خلقوا السماوات والأرض.

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ)

والتعبير هنا عن الخالق بالشيء ليس من باب أنّه سبحانه يشبه الخلق ، وإنّما لاثبات أنّه حق فالشيء في مقابل العدم ، ففي مقام الربوبية ليس لنا سبيل إلّا بقدر الخروج من حدّ النفي والتعطيل ، أو بتعبير آخر : نفي النفي وإعدام العدم ، أمّا أن نثبت ـ وراء ذلك ـ لربّنا القدوس ذاتية معلومة أو موهومة أو متخيلة فلا ، فهو شيء أي أنّه حق قائم قيّوم ولكن لا كالأشياء الكائنة التي يحيط بها العلم ويتصوّرها القلب.

وليس أحد يعتقد في نفسه ولا يعتقد فيه الآخرون العقلاء بأنّه مصداق لأحد هذه الفروض الثلاثة ولا التي ستأتي بعدها ، ذلك أنّ المخلوق لا يأتي من الفراغ ما دامت شواهد الصنع ظاهرة فيه ، بل لا بد له من خالق ، وواضح أنّه لا يمكن للشيء أن يخلق نفسه إنّما يحتاج إلى صانع غيره ، ويكفي الإنسان شاهدا على نفسه بأنّه ليس الخالق أن ينظر حوله إلى السماوات والأرض هل يعقل أن يكون قد خلقهما هو أو بشر مثله؟

(أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ)

ان المشكلة مشكلة نفسية ولو كانت عقلية لا نحلت بشيء من التفكير في مثل هذه الفرضيات انهم لا يريدون الايمان لكي لا يلزموا أنفسهم بمسؤولياته ، اذن فالنقص موجود فيهم لا في حجج الحق التي تقوى عليهم!

[٣٧] ثمّ دعنا عن حديث الخلق ولنسأل : ماذا لدى الكفّار من الملك والسيطرة

١٢٣

حتى يتكبّرون على الحق اعتمادا عليهما؟ إنّ أكثر من ٩٩ خ من ثروات البشر وقدراته هي رزق مباشر من عند الله. والذي يحتاج الحصول عليه من الثروة مع السعي أقل من ١ خ ، وما هي نسبة ما يقع في أيدي الناس حتى يتفاخروا به ويكون سببا لكفرهم؟

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ)

والخزائن هي أماكن حفظ الثروات ومقاليدها ، ومن مصاديق الخزائن المنابع الأوّلية للثروة في الحياة ، كمناجم المعادن ، وينابيع الغيث ، ومصادر الطاقة ، ومواد الحياة في الأرض ، وهي جزء بسيط جدا من خزائن الله التي خلقها ووزّعها في الكون.

وإذا نظرنا إلى جانب التدبير في الحياة فلن نجد سلطة فعليّة تحكمها غير سلطان الله ، فالإنسان لا سلطان له حتى على حياته الشخصية إلّا قليلا ، فطالما تصوّر نفسه متمكّنا وقادرا فوجد العكس ، وطالما قرّر شيئا فاكتشف عجزه المضي فيه.

(أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ)

بالطبع لا سيطرة لهم على الحياة فليحاولوا دفع الموت عن أنفسهم إن استطاعوا.

[٣٨] ويسترسل الوحي في طرح السؤال تلو السؤال ، وهذا جزء من منهج القرآن في علاج الانحرافات النفسية والعقائدية لدى البشر ، أن يضعه أمام الحقيقة من خلال أسئلة تسوق الاجابة الموضوعية عليها إلى ذات الحقيقة ، كما يحاول بها ضرب الفلسفات والاعتقادات المنحرفة عنده.

(أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ)

١٢٤

إنّ الذي ينبغي الطاعة له والتسليم لقيادة ليس الذي يملك ظاهرا من الثروة والسيطرة قدرا ضئيلا لا يقاس إلى ما عند الله ، وهم معترفون بأنّهم لا يملكون أداة لالتقاط الغيب ، فما ذا في أعماق الأرض وأغوار الفضاء ، وما الذي تخبّؤه الأقدار ، وماذا يحدث غدا ، وما هي الأرواح والملائكة والجن وعالمهم؟

وإنّما القيادة والفضل لمن يتصل بالله عبر الوحي وهو الرسول (ص) ، ولعلّ اختيار كلمة «فِيهِ» في الآية وتجنّب التعبير بكلمة «به» لأنّ الاستماع لا يكون بسبب السلّم بل في السلّم الذي يعرجون فيه.

وإذا كانوا يزعمون أنّهم مطّلعون على الغيب إذا دعهم يأتوا عليه بحجة داحضة.

(فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)

كالقرآن بشموليته ، وكماله ، وروعة أسلوبه ، وهيمنته على عقل الإنسان ونفسه ، ولن يستطيعوا إلى ذلك سبيلا.

[٣٩] وكيف يأتي هؤلاء ببرهان قاطع وهم لا يتبعون إلا الظن ، ولا يعتقدون إلّا بالباطل ، وإلّا فكيف قالوا بأنّ البنات لله ولهم البنون؟! ما هو دليلهم على ذلك؟

(أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ)

وفي سورة الزخرف نجد علاجا أشمل لهذه العقيدة المنحرفة لدى المشركين ، يقول تعالى : «أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ* وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ* أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ* وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ

١٢٥

سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ* وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» (١)

وهنا يشير السياق مجرّد إشارة إلى سفاهة هذا القول ويسوقه مثلا لضلالاتهم الدالة على بعدهم عن الغيب.

[٤٠] والرسل لا يطالبون الناس بالأجر بإزاء تعبهم ونصبهم من أجلهم حتى يمكن الكفّار تفسير رفضهم الرسالة بأنّهم لا يقدرون على إعطاء الأجر.

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ)

إنّ الرسول لا يتطلّع إلى أهداف ماديّة مصلحيّة من وراء قيادته للناس. إنّه ليس كالذين يتسلّطون على المجتمع من أجل فرض الضرائب وامتصاص خيرات البلاد والعباد ، إنّما يريد أن يعطيهم شيئا هو الغنى بعد الفقر ، والأمن بعد الخوف ، والوحدة بعد الفرقة ، وبعبارة أخرى يريد أن يتقدّم بهم نحو الحضارة الربّانية التي فيها خيرهم ، وهذا ما تتميّز به رسالات الله عن الدعوات البشرية المادية حيث لا يجد فيها المجتمع إلّا الكلفة والغرم الثقيل.

[٤١ ـ ٤٢] ثم يشير القرآن إلى حاجة فطرية عند الإنسان تدعوه إلى معرفة الغيب والاتصال به ، وكلّ إنسان يخشى من الغيب ، ويعلم بأنه لا سبيل له اليه ، لأنّ الاختيار في هذا الأمر ليس مرتبطا به ، إنّما يختار الله من يشاء من عباده ، «وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ» (٢) والبعض يدّعي الاتصال بالغيب ولكن دون أن يدّعي أنّه قادر على معرفة أبعاد الغيب بحيث تمكّنه من كتابته بوضوح كما كتب الرسول أبعاد الوحي ، أي أنّهم

__________________

(١) الزخرف / ١٦ ـ ٢٠

(٢) آل عمران / ١٧٩.

١٢٦

ليست عندهم معرفة شاملة واعية بالغيب ، إنّما يتبعون الظنون وجانبا من أخبار الشياطين.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ)

بلى. إنّهم لا يعتمدون على الغيب ، إنّما يعتمدون على الكيد ، وكلمة «أم» التي تأتي في الآية للتأكيد لا الاحتمال والتردّد.

(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً)

والكيد هو القوّة المخططة والمقنّنة كالاستراتيجيّة ، وإنّما نكّر الله الكيد ليجعله دالا على أنّه لا ينفع أيّ نوع أو أيّة درجة منه.

(فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ)

لأنّهم مهما بلغوا من المكر والحيلة فلن يستطيعوا الغلبة على الحق (سنن الله في الخلق ومشيئته القاهرة) ومنهجه المتكامل إذا اتبعه المؤمنون ، والتاريخ شاهد على هذه الحقيقة.

[٤٣] ويعود القرآن إلى بيان الانحرافات النفسية العميقة عند الإنسان فيقول :

(أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)

إنّ الله منزّه عن الشركاء ، والإنسان يشرك به غيره للتهرّب من المسؤولية ، وليس اعتمادا على عقيدة راسخة بيّنة ، إنّه إذا لم يدع شريكا مع الله فهو ملزم بالتسليم لرسالته عقلا وضميرا ، لذلك نجده يسعى لتخليص نفسه من هذا الالتزام بالشرك.

١٢٧

[٤٤] ولأنّ العقائد المنحرفة عند الكفّار والمشركين ، والتي استعرضتها الآيات الماضية ، تنتهي كلّها إلى غاية واحدة هي محاولة التملّص من المسؤولية ، فإنّ القرآن لا يني يؤكّد المسؤولية من خلال بيان سنّة الجزاء الحاكمة في الحياة ، ففي الدنيا تجلّيات عديدة لهذه السنّة ممّا يؤكّد وجود حياة أخرى للجزاء أيضا ، ولكنّ الإنسان حينما يكفر أو يشرك لا تهديه العلامات إلى الحقيقة ، بل يفسّرها تفسيرا ماديّا منحرفا ، بل حتى لو رأى آية ظاهرة فسّرها تفسيرا بعيدا.

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ)

وفي سورة الأحقاف يضرب القرآن لنا مثلا على هذا النوع من التفسير عند الكفّار فيقول : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (١).

[٤٥] وحينما يصل الإنسان إلى هذه الحالة النفسية من الضلال والجحود تصعب هدايته إلى الحق ، لأنّه لن ينظر إلى الآيات نظرة عقلانية مجرّدة ، إنّما سينظر إليها من خلال أفكاره ، ويسعى جاهدا لاستلابها دلالاتها الواقعيّة الحقّة ، لذا لا ينبغي للداعية أن يصرّ ويبخع نفسه لهدايته ، إنّما يبيّن إليه الحق ثم يتركه يواجه مصيره بنفسه ، لأنّ الإصرار الزائد عن حدّه قد يسبّب حالات وصفات خاطئة كالديكتاتورية والغصب ، أو أن يغيّر هو من الدّين ليدخلهم فيه.

(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ)

إشارة إلى العذاب الذي ينتظر الكفّار يوم القيامة ، فلأنّهم كفروا بالآخرة

__________________

(١) الأحقاف / ٢٤ ـ ٢٥

١٢٨

وغفلوا عنها في حياتهم فإنّهم يفاجأون بذلك.

[٤٦] وإذا كان مكرهم وكيدهم في الدنيا نفعهم بعض الشيء وخدم مصالحهم ، فربما انتصروا عسكريّا على المؤمنين ، أو ظهروا على البلاد وأضلّوا الناس عن الحق ، فإنّهم في الآخرة لا ينفعهم المكر شيئا ، ولا يدفع عنهم خطرا.

(يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً)

كما أنّ القوى الأخرى التي اعتمدوا عليها في كفرهم وكيدهم للحق والمؤمنين لا تعينهم ، وإن أعانتهم فهي لا تبلغ بهم سبيلا إلى الغلبة والنصر.

(وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)

[٤٧] ولكنّ دعوة الله لرسوله (وللمؤمنين من خلاله) إلى ترك الظلمة والكفّار يلاقون عذاب الآخرة لا يعني أنّ الدنيا لهم ، يلعبون فيها كيفما شاءت أهواؤهم ومصالحهم ، كلّا .. إنّما يلقون فيها نصيبا من العذاب متمثّلا في غضب الله المباشر أو على أيدي أوليائه ، ولكنّه مهما بلغ لا يكون كعذاب الآخرة.

(وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ)

أي غيره ، وأقلّ منه ألما ، وهو دليل على عذاب الآخرة ، قال تعالى : (كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (١) وقال : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢) ، ولكنّهم لا ينظرون إلى الآيات ببصيرة الايمان ومن ثمّ لا يصلون إلى الحق.

__________________

(١) القلم / ٣٣

(٢) السجدة / ٢١

١٢٩

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

وبالتالي فإنّ جهلهم يوقعهم في العذاب الدنيوي والأخروي معا.

[٤٨ ـ ٤٩] وبعد أن عالج القرآن مشكلة التكذيب بالعذاب والكفر بالله من الناحية النفسية والعقلية ، أكّد ضرورة الاستمرار والاستقامة على الحق في سبيل الله.

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ)

وحيث حذف متعلّق الصبر دلّ ذلك على كلّ معانيه (الصبر عند البلاء ، والصبر على الطاعة ، والصبر عن المعصية) ، فيجب إذن على المؤمن أن يتنازل عن جميع تطلّعاته ومصالحه وآرائه في سبيل رسالته ، مهما كان الصبر على ذلك صعبا ، وأن يترك العجلة في الأمور ، بل يصبر حتى يأتي أمر الله متمسّكا بمنهج الوحي ، وهذا يوحي بأنّ على المؤمن تطبيق أحكام الله أثناء الصبر ، وليطمئنّ أنّ عين الله تحرسه وتسدّد خطاه.

(فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا)

وعيون الله تتجسّد في سننه وملائكته وإرادته المباشرة التي تؤيّد المؤمنين ، وكما يقاوم المؤمن الضغوط ، ويستمر في الطريق ، ويلتزم بحدود الله وأوامره بعامل الصبر ، فإنه يستمدّ إرادته من الاتصال بالله في الصلاة ، ولو تدبّرنا في القرآن فإنّنا لا نكاد نجد دعوة إلى الصبر إلّا وقد اقترنت بها دعوة إلى الصلاة أيضا ، إذ بهما نستعين على الأمور ، بلى. قد تختلف التعابير من موضع إلى آخر ، فتأتي تارة صريحة كما في قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (١) ، وأخرى دون ذلك بالدعوة

__________________

(١) البقرة / ٤٥

١٣٠

إلى التسبيح أو الركوع والسجود كمظهر أو جوهر للصلاة ، أو بإضافة أمر آخر مثل ضرورة الاحساس بالرعاية الالهية كما في هذه السورة ، ولكنّ الحقيقة واحدة وهي اقتران الصبر بالتبتّل ، وفي هذه الآية نجد شاهدا على ذلك فبعد أن دعا الله رسوله للصبر والاطمئنان لرعايته أمره بالتسبيح.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ)

قال علي بن إبراهيم : «لصلاة الليل» (١)

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ)

قال الباقر والصادق (عليهما السلام) : إنّ رسول الله (ص) كان يقوم من الليل ثلاث مرات ، فينظر في آفاق السماء ، ويقرأ الخمس من آل عمران التي آخرها «إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ» ثم يفتتح صلاة الليل(٢)

والتسبيح هو تعظيم الله عزّ وجل وتنزيهه ، وما أحوج الإنسان وهو يقاوم مختلف الضغوط في مسيرته حتى لا ينهزم أمامها إلى ذلك. ولماذا يستسلم الإنسان إلى الضغوط؟ أليس لأنّه يجدها أكبر من إرادته؟ إذن فهو بحاجة إلى تذكّر الله ليقاوم الهزيمة والانبهار في داخله.

(وَإِدْبارَ النُّجُومِ)

يعني نافلة الصبح ، عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال : قلت له «وَإِدْبارَ النُّجُومِ» قال : «ركعتان قبل الصبح» (٣)

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ١٤٣

(٢) المصدر

(٣) المصدر / ص ١٤٤

١٣١

وقد يكون القيام عموم الصلاة ، ولكنّ القرآن يخصّ بالذكر صلاة الليل ونافلة الصبح لغرض ما.

١٣٢

سورة النجم

١٣٣
١٣٤

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

في كتاب ثواب الأعمال باسناده الى أبي عبد الله (ع) قال : «من كان يد من قراءة والنجم في كل يوم أو في كل ليلة عاش محمودا بين الناس ، وكان مغفورا له ، وكان محبوبا بين الناس».

بحار الأنوار / ج ٩٢ / ص ٣٠٥

١٣٥
١٣٦

الإطار العام

بالرغم من أنّ كثيرا من آيات هذه السورة تحدّثنا عن الوحي ممّا يدع القارئ يظنّ لأوّل الأمر أنّها تعالج هذا الموضوع ، إلّا أنّ المتدبّر يرى أنّ السياق يهدف معالجة المسؤولية البشرية ، وتزداد هذه الفكرة وضوحا عند التأكيد على المسؤولية المباشرة للإنسان عن أفعاله وأن ليس له إلا سعيه ، وأنّه سوف يراه إن عاجلا في الدنيا أو آجلا في الآخرة.

والعلاقة بين هاتين الفكرتين (فكرة المسؤولية وفكرة الوحي) علاقة عضوية واضحة ، ذلك أنّ إحساس الإنسان بمسؤوليته نتيجة مباشرة لإيمانه العميق بالوحي ، وهل تنزّل الوحي برسالات الله للأمم على الأنبياء عبر التاريخ إلّا لإتمام الحجة على الناس ، وتقرير مسئوليتهم أمام الله؟

كما نجد في السورة خطا موازيا لهذا السياق يهدف تصحيح منهجيّة التفكير عند الإنسان ، إضافة إلى علاجه العقائد المنحرفة معالجة مباشرة.

١٣٧
١٣٨

سورة النجم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ

___________________

٥ [شديد القوى] : هو الله وقيل جبرئيل (ع).

٦ [مرّة] : قوّة ، وأصل المرة خلط في العروق كالصفراء والسوداء ، وسمّي مرة لقوّة البدن به ، أو المراد بذي مرّة :

الحصافة في العقل والرأي.

٨ [فتدلى] : أصل التدلّي استرسال مع تعلّق وهو مثل تدلّي الدلو في البئر.

١٣٩

نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨)

___________________

١٤ [سدرة المنتهى] : سدرة في الأفق الأعلى بلغها الرسول (ص).

١٤٠