من هدى القرآن - ج ١٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-17-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

(يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ)

لأنّه يوم الدّين والحق ، وقد أعرضوا عن الدّين ، واتبعوا الأهواء والظنون ، أمّا المؤمنون الذين آمنوا بالآيات الربّانية ، وصدّقوا بالحسنى ، واتبعوا داعي الله في الدنيا ، فذلك يوم سعادتهم ، وأيّ سعادة أسمى من لقاء العبد بربّه ، وبلوغه الوعد الذي طالما تاقت إليه نفسه؟! «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ* لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ* لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» (١) ، «وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ» (٢).

قال الامام علي (ع) يحدّث الناس عن أحداث المحشر : «إذا كان يوم القيامة بعث [بعثهم] الله تبارك وتعالى من حفرهم عزلا بهما جردا مردا في صعيد واحد ، يسوقهم النور ، وتجمعهم الظلمة ، حتى يقفوا على عقبة المحشر ، فيركب بعضهم بعضا ، ويزدحمون دونها ، فيمنعون من المضي فتشتدّ أنفاسهم ، ويكثر عرقهم ، وتضيق بهم أمورهم ، ويشتدّ ضجيجهم ، وترفع أصواتهم» ، قال : «وهو أوّل هول من أهوال يوم القيامة» قال : «فيشرف الجبّار تبارك وتعالى عليهم من فوق عرشه في ظلال من الملائكة ، فيأمر ملكا من الملائكة فينادي فيهم : يا معشر الخلائق! أنصتوا واسمعوا منادي الجبّار» قال : «فيسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم» قال : «فتنكسر أصواتهم عند ذلك ، وتخشع أبصارهم ، وتضطرب فرائصهم ، وتفزع قلوبهم ، ويرفعون رؤوسهم إلى ناحية الصوت ، (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) ، قال : «فعند ذلك يقول الكافر هذا يوم عسر» (٣)

__________________

(١) الأنبياء / (١٠١ ـ ١٠٢).

(٢) النمل / (٨٩).

(٣) نور الثقلين / ج (٥) ـ ص (١٧٥).

٢٢١

[٩ ـ ١٢] ثم انّ التكذيب بالرسالة أمر طبيعي واجهه كلّ الأنبياء السابقين.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا)

التكذيب الأوّل بالآيات والرسالة ، والتكذيب الثاني بنبوّته (ع) ، ولم يقفوا عند حدّ التكذيب وحسب بل سعوا إلى النيل من سمعته.

(وَقالُوا مَجْنُونٌ)

لإصراره على الحق ، واستبساله في الدعوة ، بالرغم من تكذيبهم ، فهو في نظرهم يطلب المستحيل اللّامعقول ، وحيث وجدوا فيه الشجاعة التي تحدّى بها ثقافاتهم وعاداتهم ولم يريدوا الاعتراف له بهذه الايجابية ، حوّروها إلى الجنون حتى يصنعوا بينه وبين الناس حجابا يمنعهم من التأثّر به ، وهذه من طبيعة الطغاة ، فهم اليوم يسمّون الأصالة تطرّفا ، والجهاد في سبيل الله إرهابا ، وعلى المؤمنين أن لا يهزمهم الاعلام المضاد فهم امتداد لخط الأنبياء ، وهم على حق ، وعليهم أن يتحمّلوا ما تحمّل الرسل من أذى في سبيله ، فهذا شيخ الأنبياء نوح (ع) يزجره قومه قصد ثنية عن رسالته والاساءة إليه.

(وَازْدُجِرَ)

وهذه الكلمة هي تلخيص لمجمل ما تعرّض له نوح ـ عليه السلام ـ من البلاء والإيذاء ، وهي ليست معطوفة على «مَجْنُونٌ» ممّا يجعلها داخلة في جملة القول ، بل معطوفة على «فَكَذَّبُوا» كما يبدو ، فهم كذّبوه نفسيّا ، وسعوا في تشوية سمعته بألسنتهم وما أمكنهم من وسائل الاعلام ، وآذوه فعلا ، وإنّما استفتح السياق بذكر نوح بين الأنبياء لأنّه أشدّهم ابتلاء بسبب الاعراض عنه فقد لبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم فيعرضون عنه.

٢٢٢

(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)

وهذه الآية تدلّ على المعنى المتقدم لكلمة «ازدجر» ، إذ لو لا دعاؤه لتأثّر بزجرهم نفسيّا ، أو صار ضحية له ، كما تدل على أنّ نوحا ـ عليه السلام ـ وصل إلى حدّ اليأس من قومه ، قال الرازي : إنّ الرسول لا يدعو هذا الدعاء ما دام فيه نفس احتمال ، وما دام الايمان منهم محتملا ، واستجاب ربنا دعاء نبيه ، ففتح السماء ماء منهمرا ، وفجّر الأرض عيونا ، فنصره وأهلك الكافرين.

وبنظرة شاملة ودقيقة إلى القصة التي يعرضها القرآن في ثلاثة فصول ، يحدّثنا في الأوّل عن معاناة نوح مع قومه ، وفي الثاني عن دعائه الذي يلخّص موقفه منها ، وفي الثالث عن عذاب الله لقومه الكافرين ، نكتشف حقيقة هامّة هي أنّ دعاء المؤمنين بالنصر لا يستجاب إلّا إذا تحرّكوا في سبيل الله ، وإلى تحقيق النصر بأقصى ما يمكنهم معنويّا وماديّا. إنّ الله كان قادرا على نصر نوح من أوّل لحظة كذّبوه فيها ، ولكنّه تركه يدعوهم جيلا بعد جيل (٩٥٠ عاما) حملت في أحشائها ألوان الأذى والابتلاء ، فكان يعده ثمّ يؤخّر عنه النصر مرة بعد أخرى إتماما للحجّة على الناس.

وفي سورة نوح استشهاد مفصّل بدعاء نوح (ع) يكشف عن عمق المعاناة التي واجهها ، ويسلّط الضوء على كثير من الأفكار المتقدّمة ، ولكنّه هنا يختصر الحديث اعتمادا على تفصيله في مواضع أخرى ، ويقول :

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ* وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً)

قال الامام الصادق (ع) : «لمّا أراد الله عزّ وجلّ هلاك قوم نوح (وذكر حديثا طويلا ، ثمّ قال :) فصاحت امرأته لمّا فار التنّور ، فجاء نوح إلى التنّور فوضع عليها طينا وختمه حتى أدخل جميع الحيوان في السفينة ، ثم جاء إلى التنور ففضّ

٢٢٣

الخاتم ، ورفع الطين ، وانكسفت الشمس ، وجاء من السماء ماء منهمر صبّا بلا قطر ، وتفجّرت الأرض عيونا» (١) والتاريخ يؤكّد أنّ الأرض قد غطّاها الماء في يوم من الأيّام ، ويستدل الباحثون على ذلك بآثار الحيوانات البحرية ، كالأصداف وهياكل السمك الموجودة في كلّ مكان حتى على الجبال ، إلّا أنّ التحليل التاريخي يختلف عن القرآن بأنّه يبقى تحليلا ماديّا بحتا ، وبغضّ النظر عن عدم مطابقته للواقع في اعتقادنا فإنّه يبقي القضية علما مجرّدا عن الموعظة والعبرة ، فأصحاب النظريات في هذا المجال يفسّرون الطوفان ـ مثلا ـ بأنّه نتج صدفة ، حيث مرّت بالأرض عواصف باردة تسبّبت في تكوّن جبال جليدية ضخمة ، ثم حدث انفجار في الشمس أخذت الثلوج على أثرها بالذوبان ، فتكوّنت السيول التي أغرقت اليابسة ، والقرآن يقول : كلّا .. إنّه لم يكن صدفة ، بل بتقدير إلهي حكيم نقرأ لمساته على هذه الظاهرة الكونية الخارقة للعادة ، حيث سبق إخبار نوح به ، وحيث لم يغرق فيه ولا مؤمن واحد ، ولم ينج منه ولا كافر واحد ، فهل هذا مجرّد صدفة؟!

(فَالْتَقَى الْماءُ)

المنهمر من السماء ، والمنفجر من الأرض.

(عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)

ونجد إشارة إلى هذا الأمر الالهي في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ) (٢) ، وكان الأمر حكيما في جميع دقائقه ، فهو مقدّر من حيث الزمن بدء ونهاية ، ومن حيث العوامل وطريقة تنفيذه ، فلو تقدّم مثلا عن زمنه المحدود لربما كان يغرق نوح (ع) ومن معه لعدم الاستعداد ، ولو تأخّر أمر الله بإنهائه ربما لم تكن

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٥) ـ ص (١٧٨).

(٢) هود / (٤٠).

٢٢٤

الأرض بعدها صالحة للحياة عليها.

[١٣ ـ ١٦] (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ)

وهي السفينة التي تتكوّن من الجذوع المقطّعة شرائحا ، ولا يقال لوح إلّا للصفائح ، أمّا الدسر فهو ما يشدّ الألواح إلى بعضها ، سواء كان ذلك المسمار أو الحبل أو غيرها ، وإذ يتعرّض القرآن إلى المواد الأوّليّة التي تتألّف منها سفينة نوح فلكي يؤكّد بأنّ الأمر لم يكن صدفة ، بل هو مقدّر تقديرا حكيما من قبل الله ، وإلّا كيف ينجو راكب سفينة هذه طبيعتها من الغرق بطوفان هائل أمواجه كالجبال؟!!

ويؤكّد القرآن على هذه الحقيقة مرة أخرى ، حينما يبيّن بأنّ سير الفلك في غضب الطوفان وبالتالي نجاة ركّابها كان برعاية مباشرة من الله ، وفي ظلّ رحمته.

(تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ)

وعين الله لطفه ورحمته ورعايته لنبيّه (ع) إذ نجّاه ومن معه جزاء معاناته وإيمانهم ، فقد لبث في قومه مدّة طويلة يدعوهم إلى الله بإلحاح رغم كفرهم به وأذاهم له ، ولم تكن نجاته صدفة ، ولا لعنصره ، ولا لركوبه في السفينة وحسب ، بل لعمله وسعيه ، إذ أكّد ربّنا أنّه كان جزاء لنوح الذي كان قد كفر من لدن أولئك الكافرين ، وهذا رأي في التفسير ، وهناك آراء أخرى لا أراها تنسجم مع ظاهر السياق.

وفي الوقت الذي دمّر الله أولئك ونجّى هؤلاء ، أبقى قصصهم ـ وربما السفينة أيضا ـ علامة تهدينا إلى الحق ، ولكن لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

(وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)

٢٢٥

إنّها واقع مر لفريق ، ونعمة لفريق آخر في وقتها ، ولكن دورها لا ينتهي عند هذا الحدّ ، بل تبقى موعظة للّاحقين ، لذلك يسجّلها الله في كتابه لكي لا تنساها البشرية ويفوتها نفعها ، وأن يتذكّر الإنسان بغيره خير من أن تدور رحى التجارب عليه فيصير عبرة للآخرين ، وكما في الخبر : «السعيد من اتّعظ بتجارب غيره» ، من هنا ينبغي أن ندرك مدى أهمية القرآن للبشرية ، ودوره في حفظ تاريخها وتجاربها التي تطاولت عليها السنون ، وكانت لولاه تبيد وتنسى أو تنتزع منها عبرتها ولبابها ، وتضحى قشرة بالية لا تكسب الناس حكمة ، ولا تهديهم سبيلا ، كما نجد في التواريخ التي تمجّد قصص الغابرين لا تحكي سوى ظواهرها ، أمّا ما ينفع الأجيال المتلاحقة فإنّه ينسى. حقّا : إنّها سمة مميّزة لمنهج الرسالة في بيان قصص الأوّلين ، حيث تحوّلها إلى حقائق معاشة بيننا ، وذلك بالتركيز على بيان عبرها الدائمة والخطوط المشتركة بيننا وبينهم.

وهكذا أشار ربّنا سبحانه في آيات أخر إلى جانب من ذلك بعد بيان قصة نوح فقال : «قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ* تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» (١). أترى كيف وصل الحدث الموغل في التاريخ بالحدث الراهن المتمثّل في الصراع المستمر بين المتقين وغيرهم وأنّ العاقبة لهم؟ وهذه من أبرز العبر في قصة نوح (ع) ، ولكنّ السفينة ذاتها آية أيضا ، ذلك أنّها حافظت على النوع البشري من الانقراض ، ومن الآيات التي تجلّت في القصة آية العذاب الالهي المهول الذي تشير إليه الآية الكريمة التالية بهدف إصلاح النفسية البشرية القائمة على الظنون والتمنّيات ، حيث يستبعد البعض العذاب من قبل الله بناء على تصوّر خاطئ بأنّه رحيم ورؤف وقد

__________________

(١) هود / (٤٨ ـ ٤٩).

٢٢٦

خلق الخلق ليرحمهم لا ليعذبهم ، ويتخذ البعض من هذا التصوّر مبرّرا للذنوب التي يمارسها ، كلّا .. يقول تعالى :

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)

بلى. إنّ الغضب الالهي عذاب للأقوام التي يحلّ بها ، ولكنّه في ذات الوقت نذير للّاحقين ، فلا يعتمدوا إذن على التمنّيات ، ليتفكّروا في التاريخ ، وليذكّروا آياته الواعظة المنذرة ، والاستفهام الوارد في الآية يفيد التعظيم ، ويستهدف استثارة العقل نحو الموعظة بوقعه الخاص ، ذلك أنّ الاستفهام بحاجة إلى وقفة تفكّر وتدبّر.

[١٧] وتلك الآية وآية العذاب ، وما تنطوي عليه قصة نوح مع قومه من نذر ، تلتقي مع القرآن في هدف واحد هو التذكرة ، إذن فهي الهدف الأسمى للقرآن ، وإليها تهدي كلّ سوره وآياته ومفرداته ، ولكن كيف يحقّق القرآن هذا الهدف؟ وكيف ينفذ إلى أعماق ضمير الإنسان وعقله ، ويخترق حجب الهوى والغفلة والجهل التي تلوث فطرته ، وتستر عقله عن الحق؟ لا بدّ أن يكون ميسّرا بعيدا عن العسر والتعقيد للأسباب التالية

أوّلا : لأنّه كلام الخالق العليم القدير إلى المخلوق الجاهل الضعيف ، وليست ثمّة نسبة بينهما في علم ولا منطق.

ثانيا : لأنّه يحدّث الإنسان عن حقائق كبري في الحياة وفوق الحياة ، بعضها يحسها ويراها والبعض الآخر يغيب عنه.

ثالثا : لأنّ الله أراد لهذا الكتاب الصغير في حجمه الكبير في محتواه أن يكون تبيانا لكلّ شيء يهمّ الإنسان في حاضره ومستقبله ، وفي دنياه وآخرته ، ويرسم له مناهج الحياة في أبعادها المختلفة ، في الشؤون الشخصية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية .. ولقد يسّر ربّنا القرآن إذ

٢٢٧

جعله عربيّا مبينا ، وأنزله في أرفع الأساليب البلاغية والنفسية والعقلية فإذا به الحكمة البالغة ، والقصص القرآني التي تبلغ (٤٠ خ) من عموم آياته تقريبا هي من أبرز معالم منهجه في تيسير التذكرة ، لذلك نجد الآية الكريمة : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) تتكرّر في هذه السورة بعد كلّ قصّة مباشرة ، وهي قصص واقعية بتفاصيلها التي تعرّض لها القرآن.

إذن لا نقص في كتاب ربّنا سبحانه ، ولا غموض ، ولا يكلّف الإنسان أكثر من وسعه ، بل هو ميسّر ، وإذا كانت ثمّة تزمّت أو تعقيد عند بعض المؤمنين به فهو من عند أنفسهم ، ولأنّ قلوبهم قد ملئت بثقافات دخيلة ، بأساطير الشعوب البدائية ، بأفكار الجاهلية الوافدة ، بالاسرائيليّات المتلصلصة إلى كتبهم ، وبالعقد المتراكمة من جرّاء التخلّف ، وإذا لم يتذكّر البشر به فلا حجّة له.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)

والسعيد من صدّق بالقرآن وتذكّر به فتجنب العذاب.

[١٨ ـ ٢٠] إنّ الله ضرب للبشر مثلا من واقع المكذّبين وعاقبتهم بقوم نوح (ع) ، ولكنّ الأهم بيانه مصير أولئك الذين لم ينتفعوا بتجارب السابقين من الأقوام ، تحذيرا للناس من تكذيب القرآن وعصيان الرسول.

إنّ الله ترك قصص قوم نوح آية للّاحقين ، وكان بإمكان من بعدهم أن يتجنّبوا غضب الله لو اعتبروا بها ، ولكنّهم كذّبوا فحلّ بهم العذاب.

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)

وعاد هم القوم الذين أرسل إليهم النبيّ هود (ع) فلمّا كذّبوه أهلكهم الله

٢٢٨

بالريح ، وهذا نذير آخر لنا يسوقنا إلى التصديق بالرسالة.

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً)

وهي الريح شديدة البرد ، وذات الصوت الرهيب ، عن عليّ بن إبراهيم (١) ، وأصله الصرير ، وعن أبي بصير قال : قال أبو جعفر (ع) : إذا أراد الله عزّ ذكره أن يعذّب قوما بنوع من العذاب أوحى إلى الملك الموكّل بذلك النوع من الريح التي يريد أن يعذّبهم بها ، قال : فيأمرها الملك فتهيج كما يهيج الأسد المغضب ، قال : ولكل ريح منهم اسم (٢) والذي يجعل الريح ذات أثر أعمق أنّها أرسلت في يوم رفع الله عنه الرحمة.

(فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ)

دائم ، بدأ في الدنيا بثمانية أيّام حسوما ، ولكنّه يمتدّ إلى الآخرة حيث العذاب المقيم ، وإنّما أرسل الله عليهم الريح تقتلعهم من الأرض لأنّهم تكبّروا على الحق ، وتحدّوا هودا وربّه ، وجحدوا بالآيات ، فكانوا يتصوّرون أنّهم باقون وأنّه لا غالب لهم ، قال تعالى : (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ* فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) (٣) ، ويشير هذا النص القرآني إلى الفكرتين المتقدّمين وبالربط مع قوله تعالى : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) (٤) نفهم أنّ «مُسْتَمِرٍّ» صفة للنحس وليس لليوم ، لأنّ اليوم ينقضي

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٥) ص (٤٠١).

(٢) المصدر / ص (١٨١).

(٣) فصلت / (١٥ ـ ١٦).

(٤) الحاقة / (٧).

٢٢٩

ويأتي آخر غيره ، بينما بقي النحس عاملا مشتركا مستمرا.

أمّا ما قيل من أنّ النحس مختص ببعض الأيّام كالأربعاء أو الثالث عشر من كلّ شهر فإنّه بعيد ، لأنّ الأقدار ليست مرهونة بالأيّام ، بل بعمل الإنسان فردا ومجتمعا ، فاليوم الذي يطيع الله فيه ويعمل صالحا هو يوم خير وبركة ويمن ، سواء في الدنيا حيث الشعور بلذة فراغ الذمة وأداء الواجب ، وجلب التوفيق ، أو في الآخرة حيث يرقى به درجة من الرضى والجنة ، وهكذا اليوم الذي تتنزّل فيه رحمة الله وآلاؤه مبارك وسعيد ، كيوم أنزل المائدة على بني إسرائيل وحواري عيسى (ع) ، وليلة أنزل القرآن على نبيّه التي هي خير من ألف شهر ، وفي المقابل يكون يوم المعصية يوم نحس ، يقطع عن صاحبه التوفيق ، ويجعله عرضة لسخط ربّه في الدنيا والآخرة. أترى كيف صار عقر الناقة سببا لدمار أمّة برمّتها؟

قال سويد بن غفلة : دخلت عليه (يعني الامام علي (ع) فإذا عنده فاثور (خوان) عليه خبز السمراء (الحنطة) وصفحة فيها خطيفة (اللبن يختطف بالملاعق) وملبنة (ملعقة) فقلت : يا أمير المؤمنين يوم عيد وخطيفة؟! فقال : «إنّما هذا عيد من غفرله» (١)

وعنه أيضا : «إنّما هو عيد لمن قبل الله صيامه ، وشكر قيامه ، وكلّ يوم لا تعصي الله فيه فهو يوم عيد» (٢).

وتتصل الآيات تحدّثنا عن عاقبة المكذّبين من قوم هود (ع) لتضع أمام أعيننا لقطات رهيبة من العذاب ، وما فعلته الريح بهم إنّها من الشدة بحيث تنتزع الإنسان من الأرض ، كما تنزع أعجاز النخل المسنّة اليابسة المنخورة من جذوعها لتلقي بها أرضا من أساسها!

(تَنْزِعُ النَّاسَ)

__________________

(١) بح / ج ـ ص (٧٣).

(٢) نهج / حكمة (٤٢٨).

٢٣٠

وكلمة «تَنْزِعُ» تدل بوضوح على مدى تشبّثهم بالحياة ، واعتمادهم على أسباب القوة والبقاء الظاهرية ، بالرغم من أنّهم يعيشون في داخلهم الضعف والانهيار ، كسائر الأنظمة الطاغوتية التي يشبّهها الله ببيت العنكبوت مع أنّ ظاهرها القوة والمتانة ، وهذا الضعف ناتج من اتباعهم الباطل ، ومخالفتهم سنن الحياة ، ذلك أنّ أسباب القوة الحقيقية تكمن في اتباع الحق والتسليم لله ، وقد اعتمد قوم عاد على ذاتهم كما بيّنا ذلك في الآيتين (١٥) من سورة فصّلت.

يقول تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (١) ، وهنا يشبّههم بشيء آخر فيقول عزّ من قائل :

(كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)

اهترأ وتجوّف بمرور الزمن وتعرّضه للعوامل الطبيعية المتلفة ، وتقطّعت عروقه ، فهو لا يحتاج حتى يهوي إلى الأرض من أصوله فيتحطّم إلّا لأدنى دفع ، وقد شبّههم الله بالنخل الذي اجتثّ من قعره (وإنّما أراد تعالى أنّ هؤلاء اجتثوا كما اجتثت النخل الذاهب في قعر الأرض فلم يبق لهم رسم ولا أثر) (٢) ، «فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ» (٣) تهاوت على بعضها ومتفرقة هنا وهناك.

[٢١ ـ ٢٢] ومع ما تحمل هذه الآيات الكريمة من بلاغة وأسلوب أدبي رفيع ، إلّا أنّها ما جاءت لكي يظهر ربنا إعجازه البلاغي والأدبي للناس وحسب ، أو لتكون ميدانا للصراع بين علماء البلاغة واللغة أو بين المفسّرين ، بل جاءت موعظة

__________________

(١) العنكبوت / (٤١).

(٢) مفردات الراغب / ص (٤٠٩).

(٣) الحاقة / (٧).

٢٣١

ونذيرا للبشرية.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)

أترى هيّنا أن يحلّ غضب الله القوي العزيز على الإنسان الضعيف الذي خلقه أساسا للرحمة؟! لنتفكر في تضاعيف الآيات الماضية ، ونقف على آثار الماضين وقصصهم نتعظ من قبل أن نذلّ ونخزى ، فهذه الآيات إنّما جاءت لتحملنا إلى التذكرة ، وتيسّر علينا حقائق القرآن.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)

نحن لا نرى جهنّم بأعيننا لأنّها من الغيب الذي حجب عنّا علمه ، ولكن لننظر إليها بقلوبنا ومن خلال بصائر القرآن الحكيم ، ليهدينا عذاب الله في الأقوام السالفة إلى شديد عذابه في الآخرة ، وليزجرنا قبل ذلك عن التكذيب بالحق .. فهل يكون ذلك منّا ، أم نكون أنفسنا عبرة لمن بعدنا؟ إنّ الحجّة بليغة وبالغة ، والسبل مشرعة ، والأعلام واضحة ، والآيات ميسّرة ، وبأيدينا القرار ، وبه نرسم مصيرنا ومستقبلنا ، بتوفيق الله سبحانه.

٢٣٢

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ

___________________

٢٥ [أشر] : أي بطر متكبّر ، يريد أن يترفّع ويتعظّم.

٢٨ [محتضر] : يحضره صاحبه ، ولا حق لأحدهما في الماء في اليوم الآخر.

٢٣٣

صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا

___________________

٣١ [كهشيم المحتظر] : الهشيم هو حطام الشجر المنقطع بالكسر والرض ، الذي يجمعه صاحب الحظيرة ، يتخذه لغنمه حظيرة ، تمنعها من برد الريح ، والمعنى : أنهم بادوا وهلكوا فصاروا كيبس الشجر المفتّت إذا تحطم ، وقيل : معناه صاروا كالتراب الذي يتناثر من الحائط فتصيبه الرياح فيتحظّر مستديرا.

٣٤ [حاصبا] : ريحا ترميهم بالحجارة ، يقال : حصبه أي رماه بالحجارة.

٣٦ [فتماروا] : أي تدافعوا بالإنذار على وجه الجدال بالباطل ، وقيل : معناه فشكّوا فيه ، ولم يصدّقوه ، وقالوا : كيف يهلكنا وهو واحد منّا؟!

٢٣٤

بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠)

___________________

٣٧ [راودوه] : المراودة : الرواح والمجيء ، فقد جاء لوط (ع) ضيوف فأراد قومه أن يلوطوا بهم ، فكانوا يراودونه من أجل ذلك.

[فطمسنا أعينهم] : أي محوناها ، ومسحناها ، وسوّيناها بسائر الوجه حتى عميت عيونهم ، وشوّهت خلقتهم.

٣٨ [بكرة] : البكرة أول الصبح.

٢٣٥

فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ

هدى من الآيات :

إنّه لأسلوب جديد في القرآن الكريم في هذه السورة والتي تليها : أن تتكرّر الآية الواحدة مرّة بعد الأخرى ، ممّا يهدي المتدبر ـ ومن أوّل وهلة ـ إلى كونها محورا أساسيّا بين أخواتها في السورة الواحدة ، ففي سورة الرحمن تتكرّر الآية الكريمة : «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ، وهنا قوله تعالى : «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» ، ويطرح الذكر الحكيم هذا الاستفهام مدويّا في أفق الزمان والمكان وفي قلب كلّ بشر : هل هناك من يتذكّر بالقرآن الذي يسّر الذكر بقصص الماضين؟

الإنسان من جهته لا يعلم بعواقب الأمور ، وبسنن الحياة الفردية والاجتماعية من حوله ، إلّا عبر منهجين :

١ / تجارب الآخرين. علما بأنّ الإنسان لا يعاد إلى الحياة مرة أخرى بعد الموت

٢٣٦

حتى يجرّب في الأولى ويتعظ في الثانية.

٢ / الوحي الالهي.

وقد يكشف القرآن السنن الالهية في الخليقة بصورة مباشرة ، وقد يبيّنها عبر قصص الغابرين ، فهو إذا يجمع بين المنهجين ومن أراد أن يتذكّر (ينبّه ضميره وعقله) فعليه بالقرآن ، كمكمل وهاد لفطرته وعقله ، فإن لم ينتفع به فليس ينفعه شيء أبدا.

بينات من الآيات :

[٢٣] قصة ثمود (قوم صالح (ع)) من النذر التي تكشف لنا عن عاقبة التكذيب بالحق ، ولكنّ ربنا لا يقول أنّهم كذّبوا بالحق ، بل قال كذّبوا بآياته ونذره ، وذلك ليكشف لنا عمق الضلال والانحراف في نفوسهم ، فالإنسان يكذّب بالحق تارة ثم يزعم أنّه لا يجد آية تدلّه عليه ، وتارة يكذّب به بالرغم من الآيات الهادية إليه. قوم صالح دعاهم نبيّهم إلى الله ، وحذّرهم من التكذيب ، وأظهر لهم أكثر من آية منذرة بيّنة ، ولكنّهم أصرّوا على باطلهم ، وكذّبوا بكلّ شيء.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ)

قال بعض المفسرين أنّها نذر العذاب المباشرة حيث اصفرّت وجوههم في اليوم الأوّل ، واحمرّت في الثاني ، واسودّت في الثالث .. والذي يظهر من سياق القرآن أنّ النذر هو كلّ ما يحذّر الإنسان ويخوّفه من غضب الله وعذابه ، وقد كذّبت ثمود بالرسول ، ورسالته ، وبآياته العذاب ، وبالناقة ، وكلّها من نذر الله.

[٢٤] وحيث يحتاج الإنسان إلى تبرير مواقفه وتصرّفاته مهما كانت ، فقد لجأوا بعد رفض الحق إلى الأفكار والضلالات الجاهلية ، التي تناقض أبسط المعايير

٢٣٧

المنطقية عند البشر. إنّهم حاولوا تقييم الرسالة وقيادة الرسول (ص) من خلال مصلحتهم وواقعهم المادي المنحرف ، فما داما لا يلتقيان معهما فليسا بحق. هم أرادوا الرسالة رسالة هوى وتبرير فجاءت بالحق والمسؤولية ، وأرادوا الرسول مثلهم في قيادته ومظهره فوجدوه قدوة الخير والصلاح.

(فَقالُوا)

ويبدو أنّ القائلين هم الملأ المستكبرون الذين كانت قيادة صالح (ع) مناقضة لمصالحهم ، لذلك سعوا جهدهم إلى محاربته ، ويذلّ على ذلك قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) (١) ، وأرادوا بذلك تشكيكهم في شرعية قيادته ، وهنا أرادوا نفس الغاية ، وحيث لم يجدوا سبيلا لمواجهة الرسالة نفسها سعوا إلى النيل من شخصية الرسول ، فقالوا : إنّه ليس مرسلا من قبل الله لأنّ الله لا يرسل بشرا ، وبالتالي فاتباعه ليس واجبا ، وهذه الفكرة تشبه إلى حدّ بعيد قول البعض عن الرسول (ص) أنّه عبقري وحسب ليثبتوا عدم لزوم طاعته ، وقد أضاف قوم صالح إلى ذلك أنّه مثلنا ومن محيطنا ولا شيء يميّزه عنا يدعونا إلى اتباعه ، ثم انه واحد لا مال له ولا أعوان ، فهو مجرّد عن عوامل القوة التي تبعثنا إلى طاعته والخضوع له ، وقد يكون معنى «واحِداً» أنّه جاء بنظام سياسي يدعو إلى قيادة موحدة ، ونبذ النظم النظم القبلية والعشائرية القائمة على أساس تعدّد القيادات ، والتي تفسح المجال لكلّ مترف ومستكبر لممارسة شهوة الرئاسة ، وهذا لا يتفق مع أهوائهم ، كما قال كفّار قريش : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٢)

(أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ)

__________________

(١) الأعراف / (٧٥).

(٢) ص / ٥

٢٣٨

واعتبروا اتباعه مع هذه الصفات ضربا من التيه ، بل الجنون ، واعترافا صريحا منهم بخطإ سيرتهم الماضية ، إضافة إلى كونه يجرّدهم من الرئاسة ، ولذلك رفضوا قيادته واتباعه.

(إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ)

السعر هو الجنون الشامل المستمر ، والحق أنّ هذه كلّها مقاييس باطلة لا تصلح لتشخيص القيادة الحقيقية في المجتمع ، إنّما الكفاءة الادارية والعملية والسياسية ، ومدى الالتزام بالحق (التقوى) ، والتصدي الفعلي للقيادة ، ثم إذن الله وإعطاؤه الشرعية هي المقاييس الصادقة للرئاسة.

[٢٥] بلى. إنّهم اعتبروا الوجاهة الاجتماعية ، وكثرة المال والأتباع ، هي المقاييس ، ولو تجرّد صاحبها عن الكفاءة والتقوى ، وهذه متوفّرة لديهم ، وهذا منطق المترفين والمستكبرين على مرّ التاريخ ومع كلّ الأنبياء والمرسلين ، «وَقالُوا» لرسولنا الأعظم «لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ». (١)

وهكذا قال مترفو بني إسرائيل من قبل ، قال الله عزّ وجلّ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ* وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ). (٢)

وهذه بالضبط هي كانت مقاييس قوم صالح ، لذلك استنكروا أن يصطفيه الله

__________________

(١) الزخرف / ٣١

(٢) البقرة / ٢٤٦ ـ ٢٤٧

٢٣٩

من بينهم وهو لا يضاهيهم مالا ولا أتباعا ، بل اتهموه بأرذل أنواع الكذب.

(أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ)

قال البعض : الأشر الذي يتجاوز الحد في الكذب ، ويبدو أنّه الطمع في الرئاسة بلا استحقاق لها ، ولعلّ معنى كلام سيد الشهداء الامام الحسين (ع): «إنّي لم أخرج (أشرا) ولا بطرا ولا ظالما ولا مفسدا» أنّني حيث نهضت وطالبت بالامامة فهي من حقّي ، ولست أدّعي ما هو للغير ، وظاهر كلمة «مِنْ بَيْنِنا» في هذه الآية يؤيد هذه الفكرة ، لأنّ المعنى بها يكون : إنّه طلب يصلح ويحق لنا دونه ، وربما دلّت هذه التهمة الباطلة على أنّ خشية أولئك الكافرين من تحويل الرئاسة عنهم كانت وراء تكذيبهم برسالة صالح ، حيث أنّهم اتهموه بأنّه طالب رئاسة بالباطل قياسا على أنفسهم الذين تسلّطوا على الناس بغير حق.

[٢٦] وأمام هذا المنطق المتوغّل في التكبر على الحق ، والاستهزاء بوليّ الله ورسوله صالح (ع) ، والإعراض عن الآيات والنذر ، ومن ثمّ مبارزة الحق تعالى ، يتوعّدهم ربّنا بالعذاب.

(سَيَعْلَمُونَ غَداً)

في المستقبل الدنيوي والأخروي إذا نزل بساحتهم العذاب.

(مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ)

وحينئذ سيكتشفون مدى ضلالتهم وهوانهم على الله ، كما يوقنون عين اليقين صدق النذر ، ولكن دون جدوى ، لأنّ العلم والايمان ينفعان ما بقيت فرصة للتغيير والعمل ، والآية تهدينا إلى أنّ حبل الكذب قصير ينقطع بصاحبه سريعا ، وعاقبته

٢٤٠