من هدى القرآن - ج ١٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-17-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ

هدى من الآيات :

إنّ أهمّ حكمة وراء خلق الإنسان والكائنات أن يتعرف الرب لخلقه في كل شيء حتى لا يجهلوه في شيء فيعبدونه حق عبادته ، ولا ينظرون إلى شيء إلا ويرونه قبله ومعه وبعده. لقد كان سبحانه وتعالى كنزا مخفيا فأراد أن يعرف فخلق الخلق (١) ، لا لحاجة منه إليهم ، بل لحاجة منهم إليه ، ولا ليربح عليهم ، بل ليربحوا عليه.

وهكذا فان السمة البارزة في الخليقة هي رحمة الله ، وإن طبيعة الخلق الأولى للإنسان قبل أن تدنّس من المخلوقين أنفسهم لهي طبيعة إيجابية حميدة ، وإنّ فطرته ليست نابية ولا معادية. إنّه يتفكّر في نفسه فيراها غارقة في محيط من النعم والآلاء ، خلقه رحمة ، وتعليمه وبيانه نعمة أيضا ، ثم يجول بفكره في العالم من حوله فيرى

__________________

(١) محتوى حديث قدسي معروف.

٢٨١

الشمس والقمر ، والنجوم والشجر ، والسماء ، والميزان ، وهكذا الأرض وما تحتويه كلّها نعم ، وكلّها خلقت ولا زالت تؤدي دورها ضمن نظام محكم في صالحه .. لذلك تجد سلوكه تجاه الخلق سلوكا وديعا نابعا من حبّه له ، فهو يأبى أن يسلب نملة جلب شعيرة ، وإذا مشى على الأرض وطأها برفق وهون.

بينات من الآيات :

[١] [(الرَّحْمنُ)]

هكذا تأتي هذه الكلمة وحدها آية قرآنية ، ولعلّها أقصر آية بعد الحروف المقطّعة ، ولكنّها من حيث المعنى تشكّل محورا في السورة بتمامها ، يتصل بآية آية فيها ، ويعكس ظلّه على كلماتها ، وحينما تنطلق من هذه السورة المباركة إلى العالم الواسع تجد هذا الاسم الالهي منبسطا على كلّ مفردة فيه ، لأنّه تعالى كتب الحياة بلغة الرحمة واللطف ، ولك أن تتصور كم ينبغي أن يكون الإنسان ضالا ومجرّدا عن أي إحساس حتى يكون جاهلا بربّه وبرحمته ، بل جاحدا بآلائه ، حتى يتساءل بصلافة : «وَمَا الرَّحْمنُ»؟! (١) إنّه لا شك أقلّ قدرا ووعيا من البهيمة ، لأنّها تعي رحمة ربّها ، وتؤمن به بقدر شعورها ، بينما الإنسان وقد أعطاه الله العقل ولكنّه لا ينتفع به! وصدق عزّ وجلّ حين قال عنهم : «أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً» (٢)

[٢] إذا تعال معا نستمع الوحي وهو يعرّفنا جانبا من رحمة الله ، ويهدينا إلى تجلّيات اسم الرحمن في الخلق وفي أنفسنا قبل ذلك.

(عَلَّمَ الْقُرْآنَ)

__________________

(١) الفرقان / ٦٠

(٢) الفرقان / ٤٤

٢٨٢

إنّ للرحمة الالهية درجات ، ولكنّ أعظمها بالنسبة للإنسان الهدى المتمثّل في القرآن ، فالخلق بحدّ ذاته رحمة وهي تسبق تعليم القرآن ، إلّا أنّ ذكره يأتي متأخرا ، ذلك أن الهدى هو الهدف من الخلق ، ولو لم يهد الله عباده إليه تكون الحكمة من وجودهم وإيجادهم قد انعدمت. أو لم يقل ربنا سبحانه : «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»؟.

والقرآن يهدي البشر إلى معرفة ربّه ، ولأنّه لا يمكنه ذلك إذا كانت بينه وبين الله حجب الغفلة والجهل والذنوب ، فانّ القرآن يزكّيه حتى يتجاوز تلك الحجب ، وحتى شرائع الدين تهدف في النهاية تمهيد السبيل إلى معرفة الرب. كيف؟ لأنّه لا يقدر الإنسان على معرفة الرب ما دام يعيش في مجتمع فاسد منحرف عن سنن الحق لا يني يعتصره حتى يكون متوافقا معه ، فكيف يتخلّص من ضغوطه ، ويتحدّى فساده؟ هذا ما تضمنه تعاليم الدين ، وكيف يبني مجتمعا فاضلا بديلا عنه؟ هذا ما تفصّله أحكامه القيّمة ، وبالتالي كيف يتجنّب عوامل الخطيئة حتى يعرف الله؟ هذا ما يتكفّل به القرآن بهداه وبيّناته ، ببصائره ومفصّلاته ، بأحكامه وشرائعه. إنّه يحقّق بكلّ ذلك الحكمة من خلق الإنسان ألّا وهي معرفة الله ، التي هي بدورها تجلّ لرحمانيّته تعالى. أليست معرفته عين الكمال ، ومحض النعمة ، ووسيلة الزلفى ، وسبب تسخير الخليقة؟

والسؤال : كيف علّم الله القرآن للإنسان؟

أولا : بأن علّمه رسوله (ص) وهو علّمه للبشرية تبليغا وبيانا.

ثانيا : بأنّ القرآن تعبير صريح عن الحقائق التي أودعها الله في فطرة كلّ بشر ، ممّا يجعل إيداعها بمثابة تعليم القرآن نفسه ، ممّا يجعل دوره بالنسبة للحقائق دور المذكّر بما ينطوي عليه وجدان الإنسان.

٢٨٣

ويبدو أنّ حذف : مفعول التعليم الثاني فلم يفصح عمن علّم القرآن كان لحكمة بالغة هي : إن جعل القرآن علما بحيث ينتفع به كلّ من شاء هو المناسب لرحمانية الله ، كما قال ربنا سبحانه : «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ».

[٣ ـ ٤] وحينما نوجّه نظرنا صوب الإنسان نفسه نراه بكلّه مظهرا لرحمة الله.

إنّه لم يكن شيئا ، فأوجده الله من غير استحقاق منه ، ومن دون أيّ جبر أو اضطرار ، إلّا رحمة منه عزّ وجلّ.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ)

وكفى بخلق الإنسان دليلا على رحمته. ألا تراه عالما كبيرا بذاته ، تماوجت في كيانه بلايين النعم التي لو فقد واحدة منها انتقصت الرحمة؟

بيد أن أعظم ما في الإنسان قلبه (مخّه وعقله) ، ذلك أنّ الله خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وفضّله على كثير من خلقه ، ثم أكمل خلقه بالعقل ، وأكمل العقل بالقرآن ، وأكمل كلّ ذلك بنعمة البيان ، الذي يقوم بدور تواصل المعلومات وتناقل الخبرات من إنسان لآخر ، ومن أمة لأخرى ، ومن جيل إلى جيل ، ولو لا هذه الميزة لما كانت حضارة ، وكان البشر وسائر الأحياء سواء ، فحياة الهرّة قبل مليون سنة هي حياتها الآن ، لأنّ كلّ فرد من هذا الجنس يعيش في حدود غرائزه أو تجاربه الذاتية ، بينما تنمو حضارة البشر بتواصل التجارب والمعلومات وتراكمها ، وهذا كلّه مرتكز على البيان ، وما كان قادرا عليه لو لا فضل الله ورحمته إذ تلطّف عليه به.

(عَلَّمَهُ الْبَيانَ)

وهذه النعمة هي الأخرى مظهر لاسم الرحمن ، وآية هادية إليه ، وما يجب على الإنسان هو الاعتراف بهذه الآلاء ، وأداء شكرها ، ولكنّك تراه بدل ذلك يمارس

٢٨٤

الخطيئة بتلك النعم ، فاذا به يسخّر البيان من أجل الباطل.

[٥ ـ ٦] ومن الحديث عن آثار رحمة الله في كيان الإنسان تنقلنا الآيات إلى آفاق العالم لعلّنا نرى فيها تجلّيات اسم الرحمن ، هكذا يوصل القرآن الحديث عن الإنسان والكون لكي يخرجنا من قوقعة الذات الى الآفاق الواسعة ، لكي يؤكد لنا بأن الكائنات جميعا خاضعة لله ، حيث يؤدي كلّ شيء دوره وهدفه من الخلق بالتزامه بالنظام الذي رسمه الله له. أنظر الى الشمس تجدها تتحرّك بدقة متناهية جدا ، وبتناسق رائع مع حركة القمر ، (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (١). إذن فأي خروج من قبل الإنسان عن حدود الله هو شذوذ وشقاق وضلال وتيه.

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ)

لقد خلق الله الخلق متناسقا يكمل بعضه بعضا ، فلو لا الإنسان ما خلق الله الشمس والقمر والنجوم ، والشجر ، والسماء والأرض وما فيهما ، ولو لا هذه الأشياء ما كان للإنسان أن يجد سبيلا للحياة .. والشمس والقمر لهما آثار مباشرة في حياة الإنسان ، بل في الحياة على كوكبنا كلّه ، فالشمس توفّر لنا الضوء ، ولها صلة ماسّة بالنباتات على الأرض ، وهكذا يؤثر القمر في بحار الأرض ومحيطاتها ، وفوائد أخرى لهما لا يزال العلم الحديث يحث الخطى لاكتشافها ، ولكن تبقى أعظم فائدة لهما ولكلّ شيء أنّهما آيتان تهديانا إلى الله ، ونلمس هذا الهدى بصورة أجلى وأفضل بالاطلاع على دقّة النظام الذي يتحكّم فيهما.

فلو أنّ الشمس اقتربت إلى الأرض أو ابتعدت عنها أكثر ، أو تبدّل نظامها في الغروب والشروق ، أو تصاعدت حرارتها أو انخفضت ، لأصبحت الحياة صعبة أو

__________________

(١) يس / ٤٠

٢٨٥

مستحيلة .. وكذلك القمر فاذا رأيناه يحمل ملايين الأطنان من مياه البحر فانّه لا شك يؤثّر في مخّ الإنسان الذي يشكّل الماء حوالي ٧٠ خ منه.

(وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ)

قال بعض المفسرين : إنّ النجم هو النباتات الصغيرة ، والشجر هي النباتات الكبيرة ذات الساق ، وذلك ليوجدوا ارتباطا بين الإثنين ، والذي يبدو من ظاهر الآية أنّها لا تحتاج إلى هكذا تأويل ، فالنجم هو الذي في السماء ، والشجر هو الشجر الذي نعرفه ، وربما الهدف من ذكرهما معا بيان العلاقة بين أبعد الأشياء عنّا وأقربها إلينا في الطبيعة ، فهي وإن كانت في نظرنا جوامد إلّا أنّها تملك قدرا من الوعي والإحساس يدعوها لعبادة ربّها «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (١).

وحيث يدل السجود على غاية الخضوع والعبودية ، فإنّ سجود النجوم والشجر يتجلّى في خضوعها لسنن الله المرتبطة بها ، فإنّك لا تجد نجمة تنحرف عن مسارها ، ولا شجرة تنبت غير ثمرها.

ولا ريب أنّهما مظهر لرحمة الله بالإنسان ، فللنجوم علاقة وثيقة بتنظيم هيكلية الجاذبية في هذا الفضاء الرحب ، ثمّ أنّها تؤثّر بأشعتها على الأرض وعلى الكائنات فيها ، حتى قيل بأنّ كلّ مادّة في جسم الإنسان تستمد قدرا من وجودها وكيانها ـ بلطف الله ـ من الأشعة المبثوثة في الفضاء ، والعلاقة بين النجوم والشجر ليست علاقة علمية وحسب ، بل انّ الزرّاع والفلّاحين يستدلّون بها على ميعاد زراعة الأنواع المختلفة من النبات ، وأوقات اللقاح والتشذيب وما إلى ذلك. إذن فلا ينبغي أن

__________________

(١) الإسراء / ٤٤

٢٨٦

نتصوّر بأنّ تلك النجوم التي تفصلنا عنها ملايين السنين الضوئية لا علاقة لها بنا ، كلّا .. وهذا يفسّر الحديث القدسي : «خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي» الذي يشير إلى العلاقة بين كلّ شيء وبين الإنسان ، وقد قدّم ربّنا الإشارة إلى خلق الإنسان على الحديث عن الكون لأنّه الهدف.

[٧ ـ ٩] ثم أنّ السورة المباركة تذكّرنا بتجلّ آخر لاسم الرحمن في نعمة السلام والأمن ، سواء كان أمن وجود الإنسان أو أمن حقوقه ، فالسماء رفعت كي تحافظ بطبقاتها على وجوده ، فهي تمنع عنّا النيازك والشهب الساقطة ، كما يمتص الغلاف الجوي الأشعة الضارّة أنّ تصل إلينا ، ويخفّف من الأشعة الأخرى التي من شأنها لو وصلت إلينا بصورة مركّزة الإضرار بنا أيضا ، وهكذا .. وكما ضمن الله حياتنا بالسماء ضمن برحمته الحقوق للإنسان عند ما وضع الميزان.

(وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ)

الحياة كلّها من النبتة الصغيرة حتى الشجرة الكبيرة ، ومن الذرة المتناهية في الصغر حتى المجرّة المتناهية في السعة والضخامة ، وفيما بينها الإنسان والشمس والقمر ، كلّ ذلك يتجلّى فيه التدبير اللطيف والنظام الدقيق ، حتى قالوا أنّ الحياة كتبت بلغة رياضية ، ولذلك فإنّها تنعكس في ضمير الإنسان وفي رسالات الله بصورة موازين وقيم. أليس الفكر مرآة صافية؟ أو لا تعكس هذه المرآة ذلك النظم الدقيق ، والتدبير الحسن؟ بلى. وكذلك الوحي يذكّرنا بالعقل ، ويفصح عن تلك الموازين الحق التي انبثّت في الخليقة.

فالإنسان يعرف الخير من الشر ، والحسن من القبيح ، بل ويزن أيضا أيّ الشرّين أهون وأيّ الحسنيين أفضل ، كما أنّه يتمتع بحسّ جمالي. ألا تراه كيف يميّز بين لوحة وأخرى ، ووجه وآخر ، كما أنّه بحواسه يفرّق بين الأحجام ، والألوان ،

٢٨٧

والمسافات ، والأصوات. هل فكّرت كيف يميّز الإنسان بأذنه بين الأصوات المختلفة ، يقيس ـ مثلا ـ صوتين متقاربين لأخوين ، بل صوت الإنسان الواحد في حالتين أو مرحلتين ، حينما يستيقظ من نومه ، وحينما يكون مريضا .. ولو أنّك قارنت بين أكثر المسجّلات تطوّرا وبين الأذن ، أو بين المصوّرات المتقدمة وبين العين ، لوجدت حواس الإنسان تتميّز بدقة الموازين ، وهذه الموازين عكسها الإنسان في صور محسوسة ، فصنع للثقل ما يسمّى بالميزان ، وللمسافات المتر والذراع وما إلى ذلك ، وللزمن الساعة ، وللحرارة والرطوبة مقياسا آخر ، كما وضع قوانين وأنظمة تجسّد موازين العدل والأخلاق والقيم والأعراف. إذن ربّنا هو الذي خلق الموازين في الطبيعة ، إذ خلق كلّ شيء بحسبان وقدر ، ضمن زمن ، وحجم ، ولون ، وشدّة ، وضعف ، وعدد من الموازين الأخرى ، وعكس ذلك في ضمير الإنسان وحواسه وعقله.

وهناك علاقة بين رفع السماء ووضع الميزان في الآية الكريمة ، فالسماء رفعت بالميزان ومن أجل الميزان (القوانين والأنظمة الطبيعية الخاصة بها) ، ولولاها لكانت تقع على الأرض ، وهكذا كلّ شيء في الحياة ، فحياة الإنسان تستحيل عذابا لو لم يلتزم بالميزان ، لذلك يؤكّد ربّنا مباشرة بعد هذه الآية وبآية أخرى على ضرورة احترامه وإقامته.

إنّ الله وضع الميزان في الطبيعة ، ولكنّ رحمته لا تتجلّى فيها فقط بل على يد الإنسان أيضا ، فهو بحكم حريته قد ينغّض صفو الأمن على نفسه ويفسد السلام ، كما أنّه يستطيع أن يساهم في جلب السلام والسعادة إليها لتتجلّى رحمانية الله على يديه ، وذلك إذا لم يطغ في الميزان وأقامه بحق ، فلم يسرف في الأكل والشرب ، ولم يبذّر في الصرف ، ولم يستهلك أكثر ممّا ينتج ، ولم ينم أكثر من حاجته ، بل أقام الوزن في جوانب حياته الشخصية والاجتماعية.

٢٨٨

(أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ)

والطغيان هو إخسار الميزان بصورة فظيعة ظاهرة ، وربّنا ينهانا عن ذلك ، ويلحق بالنهي دعوة إلى إقامة الوزن باحترامه والالتزام الدقيق به ، وبأفضل صور العدل وهو القسط.

(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ)

وهو أقرب الى التقوى حتى من العدل ، ذلك أنّ القسط ليس مجرّد العدل ، بل العدل بإضافة الاحتياط الذي يضمن حصوله بالفعل ، فمثلا إذا كنت صاحب محل تزن للناس تعادل ما تبيع بالوزن المطلوب ثم تضيف إليه شيئا ، وإذا كنت تشتري تنقص ما تشتريه عن الوزن المتفق بينك وبين البائع ، وذلك للتأكّد من فراغ الذّمّة في الحالتين. هذا هو القسط ، وكم تكون البشرية سعيدة لو عملت بهذه القاعدة.

والإقامة هي الالتزام بالشيء وأداؤه على أحسن وجه ، وإقامة الوزن تكون في أفضل صورها عند العمل بالقسط.

وربّنا لا ينهى عن إخسار الميزان بصورة ظاهرة وفظيعة ، بل وينهى حتى عن مخالفته بصورة بسيطة ، أو خفية باستغلال غفلة الناس وثقتهم ، أو بالاحتيال على القانون ، فيقول :

(وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ)

والعمل بالقسط يضمن من جانب تحقّق العدالة ، ومن جانب آخر يجنّب الإنسان مخالفة الحق والنظام ، والسؤال : كيف يخسر الإنسان الميزان؟

من المفاهيم الحضارية بل من الإنجازات الهامة في عالمنا اليوم وحدة الموازين

٢٨٩

(الكيلوغرام ، الكيلومتر مثلا ، وكذلك المقاييس والأوزان الأخرى) وهذه يتفق عليها الناس ، ويعتمدونها في معاملاتهم ، ولعل هذا من أبرز معاني إقامة الميزان واحترامه وعدم التلاعب به ، بأن يعتبر البعض الكيلوغراما ٩٠٠ ، والبعض الآخر ١٠٠ غراما ، فذلك يفقد البشرية إنجازا حضاريّا ، ويفسح المجال للمزيد من الظلم والتلاعب بالحقوق ، بل إنّ إقامة الوزن (الهدف) لا يتحقّق إلا بالميزان ، وإخساره تضييع لهذا الهدف.

وكلمة «الْمِيزانَ» واسعة تشتمل على كثير من المضامين ، فالعقل ميزان ، والقرآن ميزان ، والعهد ميزان ، وما تتفق عليه التنظيمات في اجتماعها إلى بعضها ميزان ، ولا يصح لأحد أن يخرج عليه مهما كان مخالفا لمصالحه الشخصية ، ولكنّ أظهر معاني الميزان هو القيادة الرسالية ، بأقوالها وأفعالها وآرائها باعتبار قربها من القيم فهما وتطبيقا ، قال الإمام الرضا (ع) : «والميزان أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) نصبه لخلقه ، قال الراوي : قلت : (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ)؟ قال : لا تعصوا الإمام ، قلت : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ)؟ قال : وأقيموا الإمام بالعدل ، قلت : (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ)؟ قال : لا تبخسوا الإمام حقّه ولا تظلموه» (١) والقرآن يضرب لنا مثلا لإخسار الميزان في الحقل الاجتماعي والاقتصادي فيقول متوعّدا : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (٢) والتطفيف كما يظهر من الآية يناقض بالضبط إقامة الوزن بالقسط.

[١٠] والأرض هي الأخرى تجلّ لرحمة الله الشاملة ، حيث خلقها ووفّر فيها عوامل الحياة التي من شأنها أن تجعل عيش الإنسان عليها ممكنا بل طيّبا ، كالجاذبية والأكسجين والماء ومختلف أنواع الأكل ، وكذلك وفّر فيها الضوء والحرارة

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ١٨٨

(٢) المطففين / ١ ـ ٣

٢٩٠

بقدر حاجة البشر.

(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ)

والقرآن يشير إلى معنى الوضع هنا في آية أخرى إذ يقول : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١) ولو لا رحمة الله وتمهيده الأرض لنا لاستحال عيشنا على هذا الكوكب كما هو مستحيل على الأجرام الأخرى كالشمس والزهرة وغيرهما ، وفي الآية فكرتان حضارية وشرعية نستفيدهما من كلمة «وَضَعَها» :

الأولى : أنّ الله سخّر الأرض عمليّا للإنسان ، وأعطاه الوسائل والقدرات العلمية والمادية يسمّيها القرآن «سبلا» للانتفاع بها والهيمنة عليها من قمم الجبال الشاهقة إلى قعر المحيطات ، فعليه أن يسعى لتسخيرها في مصلحته ، وأي بقعة لم يسخّرها الإنسان من الأرض أو أيّ فرصة أو طاقة فإنّما ظلم نفسه ، وألحق بها خسارة وغراما ، والتبصّر بهذه الحقيقة يزيل عن البشر الانطواء والتردّد والخشية من التقدّم ، وهكذا تحرّض هذه الحقيقة الإنسان نحو المزيد من التقدم ، وتفتح له آفاقا واسعة.

الثانية : ثم انّ الآية تهدينا شرعا إلى أنّ الإباحة هي الأصل في النعم حتى يدل الدليل على الحرمة ، كما قال الله عزّ وجلّ : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٢).

ولعل النصوص الشرعية لا تدلّ فقط على إباحة كلّ شيء للإنسان (إلّا ما أقيمت الحجة على حرمته) ، بل وأيضا على ضرورة الانتفاع بما في الأرض ، ممّا

__________________

(١) الزخرف / ١٠

(٢) الأعراف / ٣٢

٢٩١

يدلّ على أنّ تحريم الطيبات والجمود والانغلاق نوع من السفه بل من الظلم للنفس.

قال تعالى : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) (١) وقال الإمام علي (ع) : اتقوا الله في عباده وبلاده ، فإنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم (٢) وفي احتجاجه على عاصم بن زياد حين لبس العباء ، وترك الملاء (أي تصوّف فتخلّى عن الدنيا واعتزل الناس) وشكاه أخوه الربيع بن زياد إلى أمير المؤمنين (ع) أنّه قد غمّ أهله ، وأحزن ولده بذلك ، فقال أمير المؤمنين (ع): «عليّ بعاصم بن زياد» ، فجيء به فلمّا رآه عبس في وجهه فقال له : «أما استحيت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟» ثم دعاه إلى عمارة الأرض والانتفاع بالطيبات فيها قائلا : أترى الله أحلّ لك الطيبات وهو يكره أخذك منها؟! أنت أهون على الله من ذلك. أو ليس الله يقول : «وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ»؟! إلى أن قال : فبالله لابتذال نعم الله بالفعال أحبّ إليه من ابتذالها بالمقال ، وقد قال عزّ وجلّ : «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» فقال عاصم : يا أمير المؤمنين فعلى ما اقتصرت في مطعمك على الجشوبة ، وفي ملبسك على الخشونة؟! فقال : «ويحك! إنّ الله عزّ وجلّ فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة النّاس كيلا يتبيّغ بالفقير فقره» (٣).

إذن ليست النعم والإمكانات في الأرض مباحة للإنسان فقط ، بل ينبغي له أن يسعى لتسخيرها والانتفاع بها أيضا.

[١١ ـ ١٢] ثمّ إنّ القرآن يذكّرنا ببعض النعم التي مهّد الله بها العيش على الأرض ، والتي هي مظهر لاسم الرحمن أيضا ، ويبدأها بالفاكهة وهي ذات فائدة

__________________

(١) هود / ٦١

(٢) نهج / خ ١٦٧

(٣) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ١٨٩ وتتمته ص ١٩١

٢٩٢

ونفع للجسم بما تحتويه من فيتامينات ومواد أخرى.

(فِيها فاكِهَةٌ)

ويبدو أنّ تقديم ذكرها على النخل النعمة الوسط ، وعلى الحبّ المأكول الرئيسي للإنسان ، لأنّها كمال نعمة الخلق وكمال نعم المائدة ، وهذا يتناسب مع سياق هذه السورة التي جاءت لبيان تجلّيات رحمة الله أن تشير إلى النعمة ابتداء من أكمل النعم ، ولا شك أنّ رحمة الله أكثر تجلّيا في المائدة ذات الفاكهة من الأخرى التي لا فاكهة فيها.

(وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ)

وهي كذلك مظهر لرحمة الله ، ولعلّنا نقترب أكثر إلى مهمّ هذه الحقيقة إذا رجعنا إلى الوراء في التاريخ بذاكرتنا ، وتعرّفنا على أهمية النخل ودورها بالنسبة للإنسان آنذاك ، إنّه يستفيد منها حتى النخاع ، من النواة التي يقدّمها مع العلف للحيوان ، إلى جذعها وخوصها وكلّ شيء فيها ، فبكر بها يوقد النار للطبخ والتدفئة ، وبسعفها وجذوعها يبني بيته ، ومن ثمرها يأكل طيلة السنة.

ولكنّ القرآن يلفت انتباهنا إلى أكمام النخل ، لأنّ ما تحتويه من الثمر هو أهمّ النعم بالنسبة للإنسان. إنّه يستطيع العيش من دون بيت السعف ، ومن دون التدفئة بالنار أيضا ، ولكنه لا يعيش من دون الأكل ، والأكمام هي التي تحفظ الثمر من الآفات والسموم ، بل وتقوم بدور أساسي جدّا في تكوينه ، لأنّها تشبه الرحم الذي يتكوّن فيه الجنين ، والقرآن في آية منه يوجّهنا إلى هذا الدور عند ما يلحق ذكر الأكمام التي تحمل بالثمر ثم تلده بانشقاقها بذكر المرأة حينما تحمل وتلد ، قال تعالى : «وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ

٢٩٣

إِلَّا بِعِلْمِهِ» (١) ، ولولاها لانعدم الثمر ، وانقرض النخل بمرور الزمن حين تتوقّف دورته الحياتية. إذا فهي أظهر لرحمة الله من كلّ شيء في النخل.

وكما النخل كذلك مختلف الحبوب كالحنطة والأرز والشعير حيث يتجلّى فيها اسم الرحمن ، فهي ذاتها ينتفع بها الإنسان غذاء يحتوي على ما يحتاجه ، كما يستفيد من حطامها كالأعواد والقشرة والورق بعد الحصاد وقبله في أغراض عديدة كالبناء ، كما يقدّمها علفا للحيوان ، وهو عصف الحب.

(وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ)

قال الراغب : (العصف والعصيفة الذي يعصف من الزرع ، ويقال لحطام النبت المتكسّر عصف ، قال : (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ) ، (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) ، ريح عاصف). (٢)

(وَالرَّيْحانُ)

الرائحة الطيبة الزكية ، وسمّي به نوع من الورد ، ويقال لكلّ نبات طيّب الرائحة (٣) ، فتلك نعمة تلبّي الحاجات المادية للإنسان ، وهذه تلبّي حاجة معنوية بشمّها ، وإضافة طيبها إلى الأكل والشراب ليضفي عليهما نكهة خاصة.

[١٣] هكذا تحيط نعم الله وآياته بنا ، وأخرى كثيرة يتعرّض السياق لذكرها فيما بعد ، ولكنّه قبل ذلك يستوقفنا بآية محورية في السورة ليطرح علينا من خلالها أهمّ سؤال يجب طرحه على أنفسنا ونحن نرى آلاء الله.

__________________

(١) فصّلت / ٤٧

(٢) مفردات الراغب الاصفهاني / مادة : (عصف).

(٣) المنجد.

٢٩٤

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

إنّها من الكثرة والوضوح بما لا يجد أحد سبيلا لإنكارها ، لنقف ساعة تفكّر. كم هي نعم الله علينا؟ كلّ ذرّة في كياننا وفي المحيط من حولنا هي نعمة من الله ، وكلّ لحظة نمارس فيها الحياة هي الأخرى نعمة. ولو أنّنا صيّرنا أغصان الشجر أقلاما والورق كتبا ، والبحار مدادا ، فإنّنا لا نزال عاجزين عن إحصائها ، وربّنا إذ يكرّر هذه الآية الكريمة بعد كلّ مقطع يشتمل على ذكر لشيء من آلائه ، فإنّما ليؤكّد لنا بأنّ ما ذكر هو شيء بسيط من النعم الكثيرة ، كما في قوله عزّ وجلّ : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ* وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (١)

بلى. إنّ نعم الله جاءت لكي تلبّي حاجات الإنسان المادية والمعنوية ، ولكنّ هدفها الأعظم أن يهتدي بها إلى المزيد من المعرفة بربّه ، وربّنا في سورة النحل يقول وقد تعرّض لذكر جانب من نعمه في (١٥) آية : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ* أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ* وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

إذا فالأهمّ من الاهتداء بالسبل في الأرض وبالنجوم إلى معرفة الطرق والوصول إلى الأهداف المحدودة ، والأهمّ من معرفة عدد النعم ، أن يهتدي الإنسان بذلك كلّه إلى ربّه عزّ وجلّ. وكم يكون البشر ظلوما وجهولا إذا أشرك بربّه أو كفر به وهو

__________________

(١) إبراهيم / ٣٢ ـ ٣٤

٢٩٥

في هذه البحبوحة من النعم؟!! ولك أن تدرك مدى ضلال أولئك الذين أنكروا على الله أظهر أسمائه إذ «قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ»؟!! وأنا وأنت قد لا نقول ذلك ، ولا نكذّب بآلاء الله بألسنتنا ، ولكنّنا كثيرا ما نكذّب بها بأعمالنا وسلوكنا ، وبغفلتنا عن الشكر.

الخليقة كلّها تجلّيات لرحمة الله ، فهي وجهه «وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ» (١) ، ولكنّ الإنسان حينما يضل ليس فقط لا يهتدي بالآثار إلى معرفة رحمة ربّه وشكره ، بل ويتخذ النعم مطيّة للمزيد من التكذيب ، فإذا أصبح غنيّا ووجب عليه الشكر تراه يبطر معيشته ، ويزداد ترفا وفسادا في الأرض ، أو حين يمنّ عليه بالملك تراه يستعلي على الناس ويطغى ويستبد ، ولعلّنا نجد إشارة إلى ذلك عند قوله (فَبِأَيِّ آلاءِ) إذا اعتبرنا الباء سببية.

إنّ الحياة وهي وجه الله بكلّ مفرداتها السلبية والإيجابية تدعونا إلى الإيمان بالله ، والتصديق بآياته ، والتسليم بالطاعة لأوامره ، فما هو تبريرنا ونحن نكذّب بآلائه؟! لماذا ندخل في سجن ذواتنا أكثر فأكثر عند كلّ نعمة ، بدل أن ننطلق منها إلى آفاق الإيمان بربّنا وربّها عزّ وجل؟! إنّنا عوض ذلك يجب أن نقول كلّما تذكّرنا النعمة ، وكلّما انتفعنا بها ، بل وكلّما قرأنا آية تذكّرنا بآلاء ربّنا ، ومن بينها وأهمّها الآية الكريمة «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ، يجب أن نقول : لا بشيء من آلائك ربّنا نكذّب ، وذلك زيادة في الهدى والشكر والفضل من الله ، ولا ريب أن هدف الإمام الصادق (ع) من هذه العبارة ليس مجرّد الكلام ، فالأهمّ من تصديق اللسان بالنعمة هو تصديق القلب والجوارح ، فالذي يصدّق بآلاء الله هو الذي يؤدّي واجب الشكر له عزّ وجلّ ، «ولا يعرف النعمة إلّا الشاكر ، ولا يشكر النعمة إلّا

__________________

(١) النحل / ١٦ ـ ١٨

٢٩٦

العارف» كما قال الإمام العسكري (ع). والشاكر كما يقول الإمام الهادي (ع): «أسعد بالشكر منه بالنعمة التي أوجبت الشكر ، لأنّ النعم متاع ، والشكر نعم وعقبى» (١) ، «وشكر المؤمن يظهر في عمله ، وشكر المنافق لا يتجاوز لسانه» (٢) وجاء في الصحيفة السجادية : الحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة ، وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة ، لتصرّفوا في مننه فلم يحمدوه ، وتوسّعوا في رزقه فلم يشكروه ، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانية إلى حدّ البهيمية ، فكانوا كما وصف في محكم كتابه : «إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً» (٣).

والذي يلاحظ سورة الرحمن يجد آياتها تنصبّ في منهج محدّد ، فمقاطعها ترتكز على اسم الرحمن الذي جاءت السورة لتعرّفنا به من خلال تجلّياته في جوانب الحياة المختلفة ، ومن هذا المنطلق يذكّرنا كلّ مقطع فيها ببعض آلاء الله ثم يضع أمامنا التساؤل الذي تكرّر (٣١) مرّة ، وهكذا تتوالى المقاطع بنفس الصيغة حتى الأخير. إذن فالسورة تستهدف تعريفنا بربّنا ، كخطوة أولى تنقلنا بها إلى الهدف الأسمى من المعرفة ألّا وهو العبادة بتمام المعنى. أترى هذه النعم كلّها جاءت لهدف ودور محدّد هو مصلحة الإنسان ، فما هو هدف الإنسان نفسه ، وما هو الدور الذي يقوم به لتحقيق ذلك الهدف؟ إنّه معرفة الله من خلال آياته ونعمه ، والقيام بها كما يريدها عزّ وجلّ خلال عبادته.

[١٤ ـ ١٦] وهنا يوجّه القرآن أنظارنا وعقولنا إلى تجلّ آخر لرحمة الله متمثّلا في خلقه الإنس والجن.

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ١٨٧.

(٢) بح / ج ٧٨ ـ ص ٣٧٨

(٣) الدعاء الأول.

٢٩٧

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ)

قيل أنّ الصلصال هو المنتن من الطين ، من قولهم صلّ اللحم (١) إذا تعفّن وتغيّر ، وقال عليّ ابن إبراهيم : هو «الماء المتصلّل بالطين» (٢). إذن خلق الله الإنسان من هذه المادّة الوضيعة في نظرنا (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٣) ، ولكنّه بقدرته صيّره خلقا محكما ، فيه الأذن التي تلتقط بمثلثاتها أدقّ الأصوات وتميّز بينها ، والكبد التي تقوم بأكثر من (٧٠٠) عملية ، والمخّ الذي هو أكثر الأشياء إعجازا في الإنسان ، والنخاع الذي هو امتداد لخلايا المخ ، والذي لو حاولنا استبدال سانتيمتر مربّع منه لاحتجنا إلى جهاز كمبيوتر ضخم بحجم الغرفة الكبيرة ، يستطيع أن يستوعب حسابات الدنيا كلّها!

إنّنا لا نستطيع أن نتصوّر العدم المحض حيث خلقنا الله ولم نك شيئا ، ولكنّنا قد نستطيع تصوّر المسافة الهائلة بين صلصال من طين وبين إنسان سوي لنعرف جانبا من عظمة الخلق. هذا في الجانب المادي ، أمّا إذا تجاوزناه إلى عالم الروح حيث نفخ الله في آدم من روحه فهنالك التجلّي الأعظم ، وسبحان الله أحسن الخالقين.

(وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ)

أي النار المختلطة فهي إذا قويت التهبت ، ودخل بعضها في بعض ، كما يتداخل ماء البحر في بعضه ، وأساس الخلق نعمة ينبغي على الجن شكرها ، فكيف وقد منّ الله عليه من القوة ما يستطيع بها نقل عرش عظيم كعرش بلقيس من اليمن حتى فلسطين قبل أن يقوم سليمان (ع) من مقامه! وإذا نظر كلّ منهما إلى أصله ،

__________________

(١) مفردات الراغب.

(٢) نور الثقلين / ج ٢ ـ ص ٧

(٣) السجدة / ٨

٢٩٨

وإلى نعم الله المسبغة عليه ، علم أنّه ما نال من الشرف إلّا بفضل الله تعالى ، فكيف يكذّبان بآلائه؟! (١)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

ومن آلاء الله عليهما أن خلقهما من مادّة تتناسب مع تطلّعات ودور كلّ منهما في الحياة ، فخلق الإنسان من صلصال نتن ضعيف ، ولكنّه قوّمه وقوّاه بالعقل والعلم ، بحيث يستطيع أن يسخّر حتى الجن ، وخلق الجن من النار ، وجعل تفوّقه في بعض جوانب القدرة والقوّة المادية ، ولكنّ هذا الاختلاف في الخلقة لا يعني تمايزا لعنصر على عنصر ، لأنّ القيمة للعمل الصالح ، سواء صدر من الصلصال أو من مارج النار ، ولا يعني أنّ أحدهما رب والآخر مربوب حتى يعبده ويشرك به ، بل هما مخلوقان وربّهما واحد وهو الله.

[١٧ ـ ١٨] وجانب آخر من الرحمة الإلهية يطالعنا كلّ يوم في حركة الشمس والأرض.

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ)

الآية الكريمة تلفت انتباهنا إلى حركة الأرض حول الشمس والتي تكتمل في كلّ عام مرّة ، وتتسبب في تغير الفصول الأربعة وخلالها تتبدل يوميا منازل الشمس بالنسبة الى الأرض شروقا وغروبا ، فهي تشرق في أول يوم من أول منزلة لتبلغ الأقصى في اليوم الأخير ، وفي المقابل تجد ذات الحركة وبذات النسبة غروبا ، وفي الاحتجاج للطبرسي رحمه الله ، قال أمير المؤمنين (ع): «وأما قوله تعالى : (الآية) فان مشرق الشتاء على حده ، ومشرق الصيف على حده. أما تعرف ذلك من غروب الشمس وبعدها»؟ ويفصل في بيان حركة الشمس قائلا : «وأما قوله :

__________________

(١) التفسير الكبير للفخر الرازي (بتصرّف).

٢٩٩

«بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ» فان لها ثلاثة وستين برجا تطلع كل يوم من برج ، وتغيب في آخر ، فلا تعود اليه إلّا من قابل في ذلك اليوم» (١) ولا شك ان الفصول الأربعة نعمة إلهية تدخل رقما أساسيا في تكامل الحياة ونموها. ولولاها لكانت تنتفي الكثير من صفات التنوع والتكامل عند الإنسان وفي الطبيعة والأحياء ومن حوله ، وقد قال بعض العلماء ان أكثر الحضارات نشأت في البلاد ذات الفصول القاسية ، فمن أجل مواجهة الحر الشديد دأب الإنسان على اكتشاف وسائل التكيّف في لباسه ومنزله والوسائل التي يستخدمها ، وبذات الروح تحدى قسوة البرد ، ولا شك أيضا ان تنوع الفصول يكمل الوجود النفسي والروحي والجسمي للإنسان ويخدم مصلحته ، ويفسح المجال أكثر فأكثر لتفجير طاقاته واستغلال الطبيعة وتسخيرها.

وتذكرنا الآية أيضا بحركة الأرض حول نفسها مرة واحدة في كل يوم ، وما ينتج من تعاقب الليل والنهار ، الذي يكمل هو الآخر مسيرة الإنسان ويخدم مصالحه وتطلعاته في الحياة ، فسباته بالليل ونشاطه وسعيه بالنهار ، وقوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) لا يحتاج إلى تفصيل وبيان ، لأنه وقد تقدم بنا العلم أصبح الكل يعي هذه الحقيقة وهي انقسام الأرض الى شطرين ، فاذا كان النصف الأول يستقبل الشمس بالشروق فانها لا ريب تودع الآخرين غروبا ، والعكس صحيح ، إذا فهناك مشرقان ومغربان يتعاقبان على الكرة الأرضية.

وكلتا الحركتين نعمة تعكس لنا اسم الرحمن ، ولكنك ترانا ونحن نعيش بكل ذرة في وجودنا محاطين بآلاء الله نكذب بها. أفلا يحق لربنا إذا أن يكرر معاتبتنا وتذكيرنا؟!

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ١٩٠

٣٠٠