من هدى القرآن - ج ١٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-17-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

[١٢] ويسقط المكذّبون من حسابهم حقيقة الجزاء ، فلا يشعرون بالمسؤولية ، ممّا يجعل حياتهم عبثية ، بعيدة عن الضوابط والكوابح ، هائجة في غمرات اللهو واللعب.

(الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ)

وهذا التعريف لشخصية المكذّبين يهدينا الى حقيقتين هامتين :

الأولى : إنّ المكذّب ليس الذي يقول ببطلان الرسالة الاسلامية وحسب ، بل هو كلّ إنسان لا يتحمّل المسؤولية في الحياة.

الثانية : إنّ المكذّبين إنّما يكذّبون بالرسالة من أجل التهرّب من تحمّل المسؤولية ، أو ليست الرسالة تدعو الى الجدّ والجهاد والإنفاق و.. و.. ، إذن فليكفروا بها لكي لا يتحمّلوا شيئا من ذلك! ولكن أين المفرّ من عذاب الله؟

[١٣] ولأنّ الحديث عن هؤلاء الفريق من الناس فإنّ جرس الخطاب يأتي عنيفا وغليظا.

(يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا)

والدعّ ربما يكون الدفع بعنف وجفوة وتكرار ، وقد يؤيّده قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) (١) ، ولعلّ احتمال شمول كلمة «الدع» لمعنى التكرار يأتي نصّا من وجود المفعول المطلق الجنس لا المفرد ، فلم يقل الله : ويدعّون دعّة ، إنّما قال «دعّا» ، ولعلّ المكذّبين يحاولون يومئذ الخلاص من جهنم لعظيم عذابها ، فلا يتقدّمون إليها ، فيدفعون نحوها مكرهين المرة بعد

__________________

(١) الماعون / (١ ـ ٢).

١٠١

الأخرى.

[١٤] وعند ما يوقفون عليها يأتيهم الخطاب :

(هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ)

وهي جزء من تكذيبهم العام للحقائق التي جاءت بها الرسالة.

[١٥] وهناك حيث يرون جهنم ويصلون بنارها يسألون :

(أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ)

إنّ الحقائق الغيبية التي يتحدّث عنها الوحي الالهي ظاهرة كظهور الحقائق الشاخصة أمام الإنسان ، بل هي في بعضها أشدّ تجلّيا ووضوحا ، ولكنّ بصيرة البشر محجوبة بالغفلة والشهوة ، وقلبه محاط بالجحود والكبر ، فتراه لا يصدّق بها ، ويفسّر آياتها وعلائمها بما لها من قوة التأثير عليه بأنّها ضرب من السحر ، عجبا لهذا الإنسان الخصم اللدود كيف يتعالى على الحقائق وينكرها ، ويزعم أنّ آثارها على نفسه ليست سوى الخيال المركّز الذي يسمّى بالسحر ، فهل يستطيع أن يفسّر نار جهنم أيضا بأنها سحر؟

[١٦] إنّ النار حقّ جلي يراه المتقون في كلّ إثم ومعصية ، فالكذب والغش والنفاق والخيانة و.. و.. كلّ ذلك في بصيرتهم قطعات من نار جهنم ، لهذا تجدهم يتجنّبون الموبقات اتقاء جهنم ، أمّا المكذّبون فهم محجوبون عن هذه الحقيقة ، لذلك تجدهم يتخبّطون في النار من حيث لا يشعرون ، باقترافهم الذنوب التي تتجسد غدا نارا حامية ، وتتوضح لهم هذه الحقيقة في الآخرة عند ما تتحوّل جرائمهم الى تلال من الأفاعي والعقارب.

١٠٢

(اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

الآخرة بعكس الدنيا تماما ، فلا الصبر والاحتمال ينفع ثمّة ولا التحدي والمواجهة ، بينما يتألّم المرء في الدنيا فيتحمّل الألم بالصبر فيجديه سكينة ، كما يستمطر بذلك رحمة الله ، وقد يتحدّى الألم بعمل مضاد فيرتفع ويخفّف عنه ، أمّا الآخرة فإنّ الاستسلام للعذاب لا يخفّف عنه ، كما أنّ مواجهته لا تجديه نفعا ، ذلك أنّ العذاب الذي يصلاه المكذّبون في الآخرة هو بالضبط أعمالهم الدنيوية ، وهناك حساب ولا عمل.

بلى. يستطيع الإنسان أن يتقي النار في الدنيا باجتناب السيئات وبالتوبة منها ، ومتى ما عرف الإنسان بأنّه هو الذي يحدّد مستقبله بنفسه ترك الاسترسال مع الظروف والخوض في اللعب ، ونظر إلى الحياة نظرة جادّة ، وانطلق نحو تحمّل المسؤولية بثبات.

[١٧] وهذا الايمان نجده عند المتقين.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ)

إنّ الحياة الدنيا (دار الابتلاء) تشبه الى حدّ بعيد حقلا مزروعا بالألغام ، والفرق بين المتقين فيها وغيرهم أنّهم آمنوا بهذه الواقعية فاتبعوا هدى ربّهم ، وساروا ضمن الخط المرسوم لهم ، فوقاهم الله شرّ ذلك اليوم ، ولقّاهم نظرة وسرورا ، بينما كذّب الآخرون بذلك فصاروا طعمة للعذاب ، ووقودا لجهنم.

[١٨] إنّ الله خلق الناس ليرحمهم ، كما صرّح بذلك في قوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ

١٠٣

رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (١) ، وما على الإنسان لكي ينال الرحمة إلّا أن يتقي ما يسخط الله فهنالك تشمله رحمات الله.

(فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ)

مهما بلغ الإنسان في الدنيا من الملك والغنى فإنّه لا يحسّ بتمام الراحة ، إمّا لنقص في النعم أو لنقص فيه ، فلذّته محدودة ، وهي تتعب صاحبها مهما أوتي من ثراء عريض ، وآخر ما قرأناه في ذلك أنّ واحدا من أصحاب البلايين دفع أخيرا مبلغ ربع مليون دولار وسيارة ثمنا لقتله بعد فشل في عدة محاولات انتحار ، ففعل الأجير ذلك مأثوما. هكذا لا تتم نعم الدنيا لأحد.

بينما في الجنة يبلغ المؤمن غاية اللذة ، فهو لا يعاني من نقص ينغّص عليه ، كما أنّ الله يرزقه حالة الرضى بنعمته ، فلا يحس بالشبع ، إنّما يستلذّ ويستلذّ بالنعيم أبدا وبلا ملل.

قال الامام الصادق (ع) عن رسول الله (ص) مبيّنا ثواب المؤمن : فيرفع رأسه فإذا هو بزوجته قد كادت يذهب نورها نور عينيه ، قال : فتناديه : قد آن لنا أن تكون لنا منك دولة ، قال : فيقول لها : ومن أنت؟ قال : فتقول : أنا ممّن ذكر الله في القرآن : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) ، فيجامعها في قوّة مائة شاب ، ويعانقها سبعين سنة من أعمار الأوّلين ، وما يدري أينظر إلى وجهها أم إلى خلفها أم إلى ساقها (٢) وفي حديث آخر : «فيعتنقان مقدار خمسمائة عام من أعوام الدنيا لا يملّها ولا تملّه» (٣).

__________________

(١) هود / (١١١).

(٢) موسوعة بحار الأنوار / ج (٨) ـ ص (٢١٤).

(٣) المصدر / ص (١٥٩).

١٠٤

وقال الامام الصادق (ع) : «إنّ الرجل في الجنة يبقى على مائدته أيّام الدنيا ، ويأكل في أكلة واحدة بمقدار أكله في الدنيا» (١).

ومن أعظم النعم التي يبلغها المتقون هي نعمة الشكر لله التي تزيدهم نعيما إلى نعيمهم (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) ، ويكون الاحساس بالنعيم وبالتالي الشكر أعمق عند الاطّلاع على أهل الجحيم بين ألوان من العذاب ممّا يذكّرهم بلذة النجاة منها ، وهذا يوضح العلاقة الوثيقة بين ذكر الله للتفكّه بالنعيم ، وذكر نجاة المتقين من النار.

(وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ)

[١٩] كما تتميّز الجنة عن الدنيا بإباحة نعيمها جميعا لأصحابها ، فلا حرام فيها ، ولا مكروه ، ولا تكليف ، ولا مسئولية ، إنّما يأكلون ويشربون ما يشاءون.

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً)

ولا يكون الأكل أو الشرب هنيئا إلّا إذا كان ذاته طيّبا ، ومذاقه لذيذا ، وكان نافعا لا يعقبه ضرر ، ولا يتصل به ما يسلب صاحبه الراحة أو الاطمئنان أو المتعة ، ولكن لا طريق إلى تلك النعم إلّا بالعمل الصالح ، لذلك يترافق مع دعوة المتقين الى النعيم «كُلُوا وَاشْرَبُوا» بيان لهذه الحقيقة :

(بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

هذا هو السبب الوحيد الى الجنة ، فمن يتقي الله يقيه عذاب الجحيم. وعند المقارنة بين جزاء أهل النار وبين هذه الآية نرى القرآن يعبّر هناك عن سبب

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) ـ ص (٦١٤).

١٠٥

العذاب بقوله : (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، بينما يعبّر عن سبب الرحمة هنا بقوله : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بإضافة كلمة الباء الدالة على البعضية ، مما يدلّ بأنّ الجزاء هناك هو ذات أعمالهم ومساو لها نوعا وكمّا ، بينما ثواب الله لأصحاب الجنة مضاعف ، وإنّما عملهم سبب ووسيلة له فقط.

[٢٠] (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ)

قال الراغب في مفرداته : والسرير الذي يجلس عليه من السرور ، إذ كان ذلك لأولي النعمة ، وجمعه أسرة وسرر ، وسرير الميت تشبيها به في الصورة ، وللتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى جوار الله تعالى وخلاصه من سجنه (يعني الدنيا) (١) ، وسرر المتقين في الجنة تكون مرتبة في نظام بحيث يتقابلون فيها لا يستدبر أحدهم الآخر ، ويعمّق ذلك النظام حالة السرور ، لأنّ النفس تهوى الترتيب.

(وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ)

عند التعمّق في هذه الآية والتي سبقتها نجد علاقة بين النعم الثلاث التي يذكرها القرآن جزاء للمتقين ، فأولا ذكر الاباحة في الأكل والشرب كجزاء لالتزامهم بالحلال والحرام في الدنيا ، وكبحهم لشهوات البطن ، ثم ذكر الاتكاء على السرر مما يرمز الى الراحة جزاء تركهم الراحة وتحمّلهم أعباء المسؤولية في الدنيا ، وأخيرا يذكر نعمة الحور العين جزاء وفاقا لتجنّبهم الحرام من الجنس ، وهذا التدبر يتصل بعمق مع كلمة المتقين.

[٢١] ولأنّ المتقي كأيّ إنسان آخر يتطلّع إلى خير أسرته ، يعرج القرآن ليعالج

__________________

(١) مفردات الراغب / ص (٢٣٤).

١٠٦

هذه المسألة علاجا مبدئيّا ، وذلك بإعطاء المؤمنين وعدا بإلحاق ذريتهم بهم في الجنة ليتمّ لهم السرور ، ولكن بشرط أن يتبعوهم بإيمان.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)

وهكذا الإسلام لا يرى وسيلة الى الجنة سوى العمل الصالح ، فلا يتم التحاق الذرية لمجرد الانتساب ، بل بالاتباع الواعي لمسيرة الجيل المتقدّم «بإيمان» ، أمّا مجرّد الانتماء النسبي أو حتى الاتباع الأعمى لا يغني شيئا حسب منهج القرآن ، بغضّ النظر عن كون العمل صالحا أو فاسدا.

إنّ المنطلق في ممارسة العمل الصالح ينبغي أن يكون منطلقا سليما. أترى لو مارس أحد الطقوس الدينية بغير نية التقرب ، بل لأنّه ولد في أسرة مسلمة أو يعيش في مجتمع مسلم ويتماشى مع المحيط ، أو خوفا من سلطان ، أو لأهداف مصلحية ، فهل يكون عمله مقبولا عند الله؟

إنّ الانتماء الحقيقي للصالحين ليس بالنسب والحسب ، ولا بالانضمام الى تجمّعهم ، إنّما بالعمل الخالص لوجه الله.

يقول تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) (١) ، والقرآن يضرب أمثلة لهذه الحقيقة من تاريخ أقرب العباد إليه وهم الأنبياء ، يقول تعالى : (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) ـ وأغلظ له الخطاب قائلا ـ (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٢) وقال : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ

__________________

(١) العنكبوت / (٩).

(٢) هود / (٤٦).

١٠٧

الدَّاخِلِينَ* وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١).

بلى. إنّ الانتماء النسبي إلى المقرّبين والصالحين يزيد ذريتهم شرفا ، ويضاعف لهم الجزاء ، إكراما لآبائهم ، وإكمالا للنعم عليهم ، فلعلّ واحدا من الذرية لا ينهض به عمله ليبلغ درجة آبائه هنالك قد تدركه شفاعتهم فيلتحق بهم بدعائهم ليجتمع شمل الاسرة في مقام أمين ، ولعلّ تتمة الآية تدلّ على ذلك حين يقول ربّنا :

(وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)

فما ينقص الله من أعمال الأوّلين شيئا حين يلحق الآخرين بهم إكراما لهم.

(كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ)

وكون الإنسان مرهون بما كسب دليل على أنّ شفاعة الصالحين لذراريهم التي تهدي إليها هذه الآية ليست بعيدة عن سنّة الجزاء ، فهم إن لم يتبعوا آباءهم لم يدخلوا معهم الجنة.

ولعلّنا نجد انعكاسا وتفسيرا لهذه الآية في الحديث المروي عن الرسول (ص) إذ قال : «من سنّ سنّة حسنة عمل بها من بعده كان له أجره ومثل أجورهم ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا» (٢) فالآباء يضاعف لهم الجزاء لأنّهم ساهموا في هدايتهم الى ربّهم.

__________________

(١) التحريم / (١٠ ـ ١١).

(٢) ميزان الحكمة / ج (٤) ـ ص (٥٦٦) نقلا عن كنز العمّال.

١٠٨

ومن هذه الآية نهتدي إلى أنّ القرآن يعارض صراع الأجيال ، بل ويسعى لامتصاص هذا الصراع وتحويله الى صلة الحب والتعاون والتكامل ، فهو يرسم للجيل السابق شعارا تجاه اللاحقين هو قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١) ، كما يرسم شعارا للجيل الصاعد تجاه السابقين فيقول : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢).

والآن دعنا نقرأ شيئا من الأخبار الواردة في تفسير هذه الآية الكريمة.

عن الامام الصادق (ع) في قوله عزّ وجلّ : «الآية» قال : «قصرت الأبناء عن عمل الآباء فألحق الأبناء بالآباء لتقرّ بذلك أعينهم» (٣).

وعن أبي بصير قال : قال أبو عبد الله (ع) : «إذا مات الطفل من أطفال المؤمنين نادى مناد في ملكوت السموات والأرض ألا إنّ فلان ابن فلان قد مات ، فإن كان قد مات والداه أو أحدهما أو بعض أهله من المؤمنين دفع إليه يغذوه ، وإلّا دفع إلى فاطمة (ع) تغذوه حتى يقدم أبواه أو أحدهما أو بعض أهل بيته من المؤمنين فتدفعه إليه» (٤).

[٢٢ ـ ٢٣] ويعود السياق يحدّثنا عن نعيم الجنة.

__________________

(١) الحشر / (٩).

(٢) المصدر / (١٠).

(٣) نور الثقلين / ج (٥) ـ ص (١٤٠).

(٤) المصدر / ص (١٤١).

١٠٩

(وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ)

وهما معا غذاء متكامل ، وهذه النعمة لا تنفذ ولا تنقطع عن المتقين ، بل وتصلهم بالشكل والحجم والنوع الذي تهواه نفوسهم ، فالعنان هناك مطلق للشهوة يبلغ الشخص ما يريد وما يتخيّل ، وفي الرواية عن النبي (ص) قال : «فإذا اشتهوا الطعام جاءهم طيور بيض يرفعن أجنحتهنّ فيأكلون من أيّ الألوان اشتهوا ، جلوسا إن شاؤوا أو متكئين ، وإن اشتهوا الفاكهة تسعّبت (تدلت واقتربت) إليهم الأغصان فأكلوا من أيّها اشتهوا» (١).

(يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً)

قال الراغب : والتنازع والمنازعة : المجاذبة ، ويعبّر بهما عن المخاصمة والمجادلة ، قال تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) ، وقال : «فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ» (٢) ، أمّا المؤمنون فلا مخاصمة بينهم. إنّهم يمرحون مع بعضهم ، ويتبادلون كؤوس المحبة.

والكأس التي يشربونها ليست مسكرة تسلب عقولهم فيلغون ، ولا هي حرام عند الله.

(لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ)

[٢٤] وفي الأثناء ترى الغلمان الذين ملّكهم الله في طواف دائم عليهم ، يخدمونهم ويسرّون ناظرهم ، جزاء لاجتهادهم في طاعة الله وخدمة الناس في دار الدنيا.

__________________

(١) بح / ج (٨) ص (٢١٤).

(٢) مفردات الراغب / ص (٥٠٩).

١١٠

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ)

ويشير القرآن هنا إلى صفتين مهمتين (يريدهما المخدوم) في الغلام ، إحداهما الطاعة ، وغلمان الجنّة للمتقين يطيعونهم في كلّ شيء ، ولا يكونون عليهم فهم «لهم» دائما ، والأخرى الشمائل الحسنة (الجمال) وذلك مما تميل إليه فطرة الإنسان ، ويرتجى به الخير عند صاحبه ، قال رسول الله (ص) : «اطلبوا الخير عند حسان الوجوه فإنّ فعالهم أحرى أن تكون حسنا» (١) ، ولا ريب أنّ الجمال وحده ليس ذا اعتبار في الإسلام ، إنّما إذا اجتمع مع طهارة القلب وحسن السيرة ، قال الامام علي (ع) : «لا ينفع الحسن بغير نجابة» (٢) ، وقد جمع الله الاثنين في غلمان المتقين.

[٢٥ ـ ٢٦] ويتعمّق إحساس أهل الجنة بنعيمها ولذّته عند تذكّر نعمة النجاة من النار.

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ)

عن حالهم في الدنيا ، وصفة التشاور والتفاعل بين أفراد المجتمع المؤمن من الصفات الحضارية ، وهي في الآخرة امتداد لما كانوا عليه في الدنيا ، فهم مقبلون على بعضهم ، وعلى العكس من ذلك فإنّ التمزّق والتدابر من معالم التخلّف عند الأمم والمجتمعات.

(قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ)

إنّ خشية الله هي التي تبعد الإنسان عن حياة الهزل واللعب إلى حياة الجدّ

__________________

(١) بح / ج (٧٤) ص (١٨٧).

(٢) غرر الحكم.

١١١

والسعي والنصب ، وتزرع في قلبه التقوى ، ومن ثمّ تدفعه نحو تنفيذ الحق بعزم راسخ. إنّها القوّة المحرّكة التي تدفعه نحو التطبيق المستمر والمتقن لمناهج الوحي ، وبما أنّ الخوف من القوى الأخرى ، والغرور بالذّات وبالعمل ، وحبّ الراحة ، وضغط الشهوة ، وما أشبه ، كلّها قيود تكبّل الإنسان عن السعي والتسليم لله ، فإنّ خشية الله تحرّر الإنسان من كلّ تلك القيود.

وربما تقابل كلمة المشفقين في هذه الآية كلمة المسرور التي جاءت في قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ* فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً* وَيَصْلى سَعِيراً* إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) (١) والتي تعني الفرح والاختيال ، والله لا يحبّ المختال ولا الفرح ، ذلك أنّ هذا النوع من السرور (عدم الجد والمبالاة) يضلّ سعي الإنسان أو يعطّله تماما عن الكدح إلى ربّه ، بل ويدفعه نحو أهداف تافهة أو فاسدة.

[٢٧] وإشفاق المتقين ليس لأنّهم لا يعملون بطاعة الله ، وإنّما لايمانهم الراسخ بأنّ العمل وحده لا يدخلهم الجنة ، ولا يخلّصهم من العذاب ، إلّا بفضل الله ، وتتأكّد لهم هذه الحقيقة عند الحساب ، وحينما يصيرون إلى النعيم.

(فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا)

فأدخلنا الجنة.

(وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ)

وهو الحرّ الشديد الذي يلفح الوجوه في النار.

[٢٨] وما كان المتقون يغفلون دور الدعاء الذي يزكّي نفوسهم ، ويرفع

__________________

(١) الإنشقاق / (١٠ ـ ١٣).

١١٢

أعمالهم ، ويستنزل فضل الله ورحمته.

(إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ)

ولم نكن نعتمد على عملنا وحده ، إنّما نتوكّل على الله ، ونسأله القبول والرحمة.

(إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)

والبرّ : فاعل الخير والإحسان.

١١٣

فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩)

___________________

٣٠ [نتربّص] : ننتظر.

٣٣ [تقوّله] : اختلقه.

١١٤

أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))

___________________

٤٠ [مغرم] : التزام غرم.

٤٤ [كسفا] : قطعا.

٤٥ [يصعقون] : يموتون.

١١٥

سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ

هدى من الآيات :

يعالج هذا الدرس الحجب التي منعت الكفّار عن الايمان بالرسالة. إنّهم لم يعرفوا كيف يمكنهم أن يبرّروا موقفهم من الوحي ، فقالوا عن الرسول بأنّه كاهن ، ثم اتهموه بالجنون ، بل وسمّوه شاعرا ، ثم أكّدوا ضلالتهم بعد ما تبيّن لهم بطلان التهم السابقة وقالوا بأنّه ساحر ، ولكنّ الأمر ليس كذلك ، إنّما هم طاغون لا يريدون الايمان بالحق تهرّبا من المسؤولية فبحثوا لموقفهم عن تبرير فلجئوا إلى تلك التهم الرخيصة ، فموقفهم كما تبريراتهم إذا ليس بمعقول ، والجدال معهم لا ينبغي أن يكون جدلا عقليّا ، إنّما ينبغي أن يهزّ ضمائرهم ، لذلك نجد في الآيات تهديدا مبطّنا بالعذاب : «قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ» كما نجد في الآيات من جهة أخرى إثارة للكفار نحو التفكّر في الخلق من حولهم ، ليكبحوا جماع الغرور في أنفسهم ، ويخرجوا من قوقعة الذات إلى الآفاق الواسعة.

إن استشارة عقل الإنسان نحو التدبّر في الآفاق (الطبيعة والقوانين التي

١١٦

تحكمها) ركيزة أساسية للتربية والتوجيه في نهج القرآن ، ولكنّ ربط هذا التدبر بما يجري داخل النفس البشرية هو المهم في المنهج ، لذلك يبدو واضحا في كثير من الآيات أنّ القرآن يريد بناء جسر بين الآفاق حتى أبعد مدى فيها وبين النفس حتى أعمق غور منها.

بينات من الآيات :

[٢٩] تزدحم التهم والاشاعات ضد كلّ مصلح رسالي بمجرّد أن يرفع راية الإصلاح ، فإذا به يدعى كاهنا أو مجنونا أو عميلا يتصل بجهات خارجية ، من أجل تحطيمه أو الضغط عليه في اتجاه التخلّي عن رسالته ، فيجب إذن أن لا يفاجأ أيّ عامل إذا ما تعرّض لذلك في مسيرته ، بل يعتبره أمرا طبيعيّا ، ويستمر في حركته حتى يبلغ إحدى الحسنيين ، متوكّلا على ربّه ، ومهتديا بوحيه ، واثقا بنفسه.

ورسولنا الأكرم محمّد بن عبد الله (ص) وهو الأسوة العظمى لنا ، كان عرضة لمختلف الدعايات والتهم ولأنواع شتى من الأذى ، وإذا لم تكن ثقته بربه وبرسالته وبنفسه ثقة عميقة لم يستمر ، ومع ذلك أمره الله بالاستمرار في دعوته قائلا :

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ)

وهذه الآية تنفي عن النبي (ص) جميع التهم التي وجّهت اليه بالتالي :

١ ـ أنّ رسالته تثير دفائن العقول البشرية بالتذكرة.

٢ ـ أنّ التذكرة التي جاء بها الرسول ليست من عنده ولا من أحد ، إنّما هي نعمة من الله تصله عبر الوحي ، ومن دونها لا يكون رسولا ولا مذكّرا.

١١٧

وبهذين الدليلين نهتدي إلى أنّ الرسول ليس بكاهن لأنّ الكاهن هو الذي يتنبّأ بالمستقبل دون أن يستثير العقل ، فتراه يصيب مرة ويخطئ مرات ، بينما لا نجد ولا خطأ واحدا في آيات الله ، وليس بمجنون لأنّ ما يصدر عن المجنون لا يلتقي مع العقل ، بينما تلتقي الرسالة معه بكلّ مفرداته دون استثناء ، وهو يعتمد خطّة واضحة في تحرّكه هي رسالته ، وليس بمجنون ـ حاشا لله ـ لأنّه ينبعث عن منطلقات إيمانية وعقلية ، وحسابات علميّة بالغة الدقة نافذة الحكمة.

كما يتميّز النبي بالشجاعة والتوكّل والثقة ، بينما المجنون لا يعتمد على شيء ، وليس الرسول بشاعر لأنّه يستثير العقل ، بينما يعتمد الشاعر على إثارة مشاعر الإنسان ، وأداته الخيال والمبالغة ، وأخيرا ليس بساحر لأنّ الساحر إنّما يلعب بخيال البشر ، ويسحر عيونهم ، ولا يفلح الساحر حيث أتى ، فهل رأيت ساحرا يقود أمّة أو يصنع تاريخا أو حتى يجمع ثروة طائلة أو يكتسب جاها عريضا؟ كلّا .. لأنّ الساحر لا يعيش حقائق الحياة حتى يسخّرها لمصلحته أو لقضيّته بل يتقلّب في سحره مع التمنّيات والظنون ، هذا أولا ، وثانيا تلتقي التهم الموجهة إلى النبي (ص) في كون المذكورين يعتمدون على قوى ليست مشروعة في نظر العرب أنفسهم ، فالكاهن يعتمد على اتصاله بالشياطين أو على مجرّد الحدس ، والمجنون هو الذي سحرته الجن فهي توحي له بتصرّفاته وأقواله ، والذي اعترته الآلهة بسوء كما قالوا من قبل لهود (ع) : «إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ» والشاعر هو الذي يحس بما لا يحس به الآخرون ، ويتلقّى الإلهام من الآلهة أو قوى أخرى كالجن ، والساحر هو الذي يستغني بالشياطين والعفاريت أو يسخّرهما ، أمّا الرسول (ص) فهو يتصل عبر الوحي بالله خالق الخلق ويعتمد عليه.

والقرآن إنّما يثبت هذه التهم ليعكس للرساليين عبر التاريخ طبيعة المسيرة التي ينتمون إليها من جانب ، ومن جانب آخر لبيان اعتراف الأعداء بجوانب من

١١٨

شخصية الرسول (ص) ، فهم بهذه الاتهامات يعترفون ضمنيّا بقوته وتأثيره في الناس ، فتهمة الكهانة تعكس صدقه ، وتهمة الجنون تعكس شجاعته ، وتهمة الشعر تعكس بلاغته وقوته على الاقناع ، وتهمة السحر تعكس تأثيره العملي في المجتمع ، إلّا أنّهم يسعون بهذه التسميات إلى النيل من شخصيته ، وتحوير الحقيقة لكي لا يتأثّر به أحد.

[٣٠ ـ ٣١] إنّ الحيرة التي وقع فيها المشركون والكفّار وعدم ثباتهم على تهمة معينة دليل واضح على اتباعهم الظنون لا العقل في تقييم رسالته وشخصيته ، ممّا يدلّ على أنّه جاء بحركة جديدة لم يستطيعوا لها تفسيرا ولا تأويلا ، وقد يدلّل اتهامهم له بالشعر بعد الكهانة والجنون ـ مع كون الشاعر في نظر العرب أعلى ثقافة من الآخرين ـ على تنازلهم أن الأخريتين الماضيتين.

(أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ)

ولكنّ الرسول يختلف عن الشاعر ، ورسالته ليست شعرا للأسباب الأساسية التالية

١ ـ إنّ الشاعر ـ وفي ذلك العصر بالذات ـ يعبّر تعبيرا بليغا عن الثقافة القائمة ، بينما الرسالة خارجة عن إطار الثقافة الفاسدة الواقعية الشائعة في المجتمع ، والذي يقرأ أشعار العرب يلاحظ فيها وبوضوح تعبيرا صريحا عن الروح القبلية ، وعن الأضغان والفرقة وسائر مفردات الثقافة القائمة على الواقع ، كقول الفرزدق :

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

أو كقول جرير :

فغضّ الطرف إنّك من ثقيف

فلا كعبا بلغت ولا كلابا

١١٩

٢ ـ أنّ الشعر يعبّر في كثير من الأحيان عن المصالح والأهواء الشخصية ، بينما الرسالة كلّها قيم ، وربما تعارضت مع شهوات الإنسان.

٣ ـ إنّ الشعراء عندهم ثقافة ولكنّها لا تستمر مع الزمن وعبر الأجيال ، أمّا الرسول فخطه يبقى أبدا ، والمستقبل لرسالته التي لا تبلى ، ولا يتجاوزها تقدّم البشرية ، ولعلّ السبب في ذلك أنّ الشاعر ثقافته مربوطة به تموت عند موته أو بعده بقليل ، بينما الرسالة يرعاها الله ، وليست متصلة بشخص الرسول حتى تذهب بذهابه ، ولذلك أمر الله تعالى نبيّه (ص) بتحدّي الكفّار والمراهنة على أنّ المستقبل في صالحه ولرسالته.

(قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ)

والتربّص هو الانتظار ، ولكن مع توقّع شيء ما يحدث ، ومنه قوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١)

والكفّار ينتظرون نهاية للرسالة بموت النبي (ص) في أيّ لحظة ، بينما يعلم النبي أنّ الرسالة تزداد على الزمن بهاء وإشراقا.

[٣٢] ثم يأتي القرآن على بيان المنطلقات الحقيقية للكفر بالرسالة مؤكّدا بأنّ التهم التي وجّهوها للرسالة لا أساس لها حتى عند أصحابها ، بل جاؤوا بها رغبة عن الحق ، وتهرّبا من المسؤولية.

(أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا)

والحلم هو الجانب العملي من العقل ، والحليم الذي يستخدم عقله في مواقفه

__________________

(١) البقرة / ٢٢٦

١٢٠