من هدى القرآن - ج ١٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-17-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

كيف لا نبصر ما في أقرب الأشياء إلينا ، وهل يستحق الإكرام من يغفل عن آيات الله في ضميره ووجدانه .. في عواطفه الخيرة .. في إرادته الماضية .. في عقله الوقّاد .. في تركيبة عينه وإذنه .. في أعصاب دماغه .. في حلقه وما أطبقت عليه شفتاه من لسانه ذي الوظائف المتعدّدة ، إلى أضراسه وأسنانه ، إلى حلقه وبلعومه؟

دعنا نتفكر قليلا في هذه الشبكة المعقّدة من الأعصاب ، وهذه المنظومة الواسعة من الأوردة والشرايين التي تقدّر بعشرات الألوف من الكيلومترات .. وإلى هذا الحشد الهائل من الخلايا التي تقدّر بعشرة ملايين مليار ، وكلّ خليّة عالم عظيم تعكس آيات الصنع الالهي. أو تدري ان الخلية الواحدة هي في الواقع مدينة صناعية ضخمة بحيث لو استطاع الإنسان فرضا تقليدها لكان عليه ان يبني مصانع في ساحة ألف هكتار يزرعها بمختلف الاجهزة المعقدة والمتطورة؟ (١) ، ولكن أين تلك البصيرة التي تنفذ إلى أعماق وجود الإنسان لعلها تهتدي إلى بعض آيات الله العظيمة .. وتؤمن بالبعث من بعد الموت من خلال الإيمان بقدرة الله وحكمته؟

[٢٢] وبعد ذكر الأرض وآياتها ، والإنسان وما فيه من تجلّيات القدرة ، يذكّرنا السياق بالسماء وآياتها ، وكيف يرزقنا الله منها ، فهذا الغيث ألا ترى كيف يتنزل من السماء برزق مبارك ، وهذه الأشعة التي تبثّ إلينا من الشمس والنجوم وما فيها من فوائد عظيمة نعرف بعضها ونجهل الكثير؟ كلها آيات التدبير الدقيق. أفلا نتذكر؟

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ)

وفي السماء تلك الإمكانات المستقبلية التي يهدينا الرب إليها ففيها من البركات أضعاف ما ننتفع به حاليّا كما فيها من النقمات ما ينبغي اتقاؤها بالعمل

__________________

(١) راجع المصدر / ص ٣٣٣

٤١

الصالح ، ويبدو أنّ الآيات التالية تأويل لهذه الكلمة ، حيث أنّ ربنا سبحانه قد وعد ـ ووعده الصدق ـ إبراهيم بأن يرزقه ذريّة كما أوعد قوم لوط بالعذاب فجاءته الملائكة بهما جميعا.

وقال البعض : معنى «وَما تُوعَدُونَ» الجنة جعلها الله في السماء. ولعل هذا صحيح في بعض رياض الجنة أما الجنة جميعا فعرضها كعرض السماوات والله العالم.

وفي الآية تفسير آخر : هو ان الله قد قدر عنده في السماء (الجهة الأعلى) كل أرزاق العباد فلما ذا الحرص والتكالب؟

بلى. السعي واجب ولكن الفرق كبير بين السعي وراء الرزق بل وحتى الكد والكدح من أجله وبين التهالك عليه (الذوبان في بوتقته) حتى لا يكون لدى المرء هم سواه ، فتمسخ شخصيته ، وتختصر انسانيته في آلة اقتصادية ، كلا .. ان للإنسان تطلعات سامية وانما الرزق وسيلة البلوغ إليها فقط. لذلك جاء في الحديث المأثور عن النبي صلّى الله عليه وآله أنّه قال : «الرزق لا يجره حرص حريص ولا يصرفه كره كاره» (١).

بل اننا نجد ان الرزق يرتبط بجوانب عديدة من حياة الإنسان منها السعي والكدح. فمن ألغى سائر جوانب حياته واختصر نفسه في البحث عن الطعام لم يوفق فيه كيف؟

أليست الأمة الجاهلة المفككة التي لا تهتم بالسياسة ولا تعي التطورات الكبرى في العالم ولا تتكامل عواطفها أدبيا وفنيا هذه أمة متخلفة ، وهل نصيب الأمة

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ / ص ١٢٦.

٤٢

المتخلفة غير الفقر والمسكنة حتى لو واصل أبناؤها الليل والنهار في طلب الرزق؟

وكما في الأمة كذلك في الفرد فمن تدانت عزيمته وهمته ، وضاق أفق علمه ووعيه ، وساءت أخلاقه وآدابه ، لم ينفعه اجتهاده في طلب الرزق. بينما الآخر الذي تسامت همته ، وازداد علمه ووعيه ، وحسنت أخلاقه وآدابه اكتفى بقليل من الجهد المركز ، وحصل على الكثير من المكاسب أليس كذلك؟ من هنا جاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق عليه السلام :

«والذي بعث جدي بالحق نبيا إنّ الله تبارك وتعالى يرزق العبد على قدر المروة ، وان المعونة تنزل على قدر شدة البلاء» (١) ، وقال عليه السلام : «كف الأذى وقلة الصخب يزيدان في الرزق» (٢) ، وروي عن الرسول صلّى الله عليه وآله انه قال : «التوحيد نصف الدين ، واستنزل الرزق بالصدقة» (٣) واخطر ما في التهالك على طلب الدنيا انه يشغلك عن ذكر الله ، والتسامي إلى قربه ، والنظر إلى آيات قدرته في نفسك والخليقة ، والاجتهاد في طلب الآخرة التي هي دار مقرك.

وكلمة أخيرة :

لان ما وعدنا الله من رحمته في السماء فقد أمرنا بالتوجه إليها عند الدعاء. جاء في حديث مأثور عن أمير المؤمنين عليه السلام انه قال :

«إذا فرغ أحدكم من صلاته فليرفع يديه إلى السماء ، ولينصب في الدعاء». فقال ابن سبا : يا أمير المؤمنين أليس الله في كل مكان؟ قال : «بلى». قال : فلم يرفع يديه إلى السماء؟ فقال : «أو ما تقرأ : «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ»

__________________

(١) المصدر / ص ١٢٥.

(٢) المصدر / ص ١٢٦

(٣) المصدر

٤٣

فمن أين تطلب الرزق إلّا من موضع الرزق ، وموضع الرزق وما وعد الله عزّ وجلّ السماء» (١).

[٢٣] أقرب الأشياء إليك نفسك ، وتتجلى النفس لذاتها حين تفكر ، وأعظم لحظات التفكر هي عند ما تنطق ، وإذا قال بعضهم : أنا أفكر فاذا أنا موجود. وقال آخر : الإنسان حيوان ناطق فلأن التفكر حالة يقظة النفس لذاتها ، أما النطق فهو ذروة هذه اليقظة. وقد يشك العقل في معطيات الحواس لان بعض أحاسيس الاذن طنين الدم من داخل البدن ، والبصر قد يزيغ واليد قد تصاب بالبرد دون سبب خارجي. أما النطق فلا يشك العقل فيه لأنه من أعظم آيات الله في البدن ، ومن أصعب الفعاليات عند البشر ، حيث يشترك فيه الجسم والروح معا. انه قمة الوعي عند الإنسان ، لا يشكّ فيه أحد حتى المثاليون والسوفسطائيون يزعمون بأنّهم على يقين من انهم ينطقون ، وعلى ثقة بما يقولون.

من هنا يحلف القرآن يمينا برب السماء ان وعد الله حق ، وأن البعث والنشور حق ، كما أن نطق الإنسان حق عند نفسه.

(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)

وحين يكون القسم بربّ السماء والأرض يكون أقرب إلى وعينا ـ نحن البشر ـ لأننا نعرف شيئا من ضخامة السماء والأرض ، فلا بد أن نهتدي بذلك إلى بعض جوانب قدرة الرب وتدبيره إذا عرفنا انه ـ سبحانه ـ هو رب السماء والأرض.

ثم يكون التأكيد بالغا حيث يضاف إلى القسم ان ولام التأكيد ، ويشتد التأكيد بأن يضرب له مثل الحق بحالة النطق.

__________________

(١) المصدر / ص ١٢٤

٤٤

وقال البعض : ان النطق هو سمة أساسية في حضارة الإنسان ، فمن دونه كيف كانت التجارب تنتقل من شخص لآخر ، ومن جيل لجيل ناشئ.

وقالوا : ان القسم هو على ضمان الرزق وعلى استجابة الدعاء اللذين ذكرا في الآية السابقة ، ويبدو لي أنه على كل الحقائق التي تواصلت في الآيات السابقة وأبرزها حقيقة الجزاء في الدنيا والآخرة.

[٢٤] وهذا مثل ظاهر لما في السماء من رزق ومن وعد مستوحى من قصة إبراهيم الخليل (عليه السلام) حينما جاءته الملائكة يبشرونه باستجابة دعائه في نفسه (بغلام) وفي قوم لوط (بإهلاك الكافرين).

إن استجابة الدعاء في الذرية التي نزلت بها الملائكة كانت أعظم نعمة ينزلها الله على بشر ، فلقد وهب الله له غلاما زكيّا يرفع اسمه ، ويصبح امتدادا لرسالته كما أن الوعد بإهلاك قوم لوط كان أعظم ما ينتظره الرسول بعد أن يكمل رسالته.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ)

ان الضيافة كانت جانبا هامّا من ثقافة العرب ، وكانت للضيف مكانة خاصة عندهم ، ولعله لذلك يتخذه القرآن وسيلة لبيان الحقائق التاريخية ، ويقول عن ضيوف إبراهيم :

(الْمُكْرَمِينَ)

لقد أكرمهم إبراهيم بضيافته وخدمته لهم.

[٢٥] (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ)

٤٥

حينما دخلوا عليه قالوا : سلاما ، فرد سلامهم قائلا : سلام ، وكأنهم استأذنوه فأذن لهم. ولكنه لم يعرفهم ، فقال لهم : انا لا نعرفكم أو أسرّه في نفسه.

(قَوْمٌ مُنْكَرُونَ)

حيث نظر إليهم فعرف بأنهم ليسوا من أهل بلده ، ولعل صورهم لم تكن مطابقة مع صور البشر ، انما كانوا يشبهون البشر فقط.

[٢٦] بعد ذلك جلسوا ، فتسلل نبي الله الكريم إلى أهله :

(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ)

أي ذهب بخفية. وهذه من الآداب التي تتعلق بإكرام الضيف ، إذ ليس من اللائق أن يقول المضيف لضيفه : أتأكل كذا ، أو ماذا تشرب؟

(فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)

جلب لهم عجلا قد شوي على النار ، ولعله فعل ذلك بالرغم من قلة عدد الضيوف (٣ أو ٤ أو على الأكثر ٩) لمزيد من الإكرام ، أو لأنهم كانوا ضخاما ، أو لكي يطعم بفاضل طعامهم سائر المساكين ، وهذا كان ولا يزال من سنن الكرماء.

[٢٧] (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ)

ودعاهم إلى الطعام ، فلم ير أيديهم تصل إلى العجل.

(قالَ أَلا تَأْكُلُونَ)

[٢٨] (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)

٤٦

ولعل السبب في إحساسه بالخوف منهم انه كان من عادة من يضمر شرا ألّا يأكل من بيت عدوه حتى لا يتصف بالغدر.

وهكذا قالوا : من لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمامك.

(قالُوا لا تَخَفْ)

وما لبثوا أن بشّروه بتحقّق أمنيته التي كادت تخيب لكبر سنه. وقد جاءت البشارة بعد الخوف ليكون أبلغ أثرا وأحلى.

(وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)

ويبدو أن الغلام ليس مجرد الذكر من الأولاد ـ حسب بعض علماء اللغة ـ بل «يلحظ في المادة معنى أخص من النشاط لما هو أصل الحياة ، فيقال : غلم كفرح : هاج شهوة ، والغلمة : شهوة الضراب ، ومن هذا يطلق الغلام على الفتى الذكر الطار الشارب ، لاكتمال حيويته» (١).

وإذا صح هذا التفسير فقد بشرته الملائكة بولد ذكر ، يرعاه الرب حتى يبلغ أشدّه ، ولعل وصفه ب «عَلِيمٍ» يدل على ذلك ، إذ من المعروف أن الغلام لم يولد عليما ، بل نمى حتى أضحى كذلك عند ما أصبح غلاما.

يا لها من بشارة كبري لمن بلغ من العمر عتيّا ، وحسب التوراة ، وبعض المفسرين : كان قد جاوز سنة المائة ، أما زوجته سارة فقد بلغت التسعين.

انه قد قضى عمرا ممتدا ، يدعو إلى ربه ولم يؤمن به إلّا قليل ، والآن حيث يكاد يودع الحياة لا يفكر إلّا فيمن يحمل مشعل الدعوة ، ويحقق آمال داعية التوحيد

__________________

(١) معجم ألفاظ القرآن الكريم الصادر عن المجمع العلمي / ج ٢ / ص ٢٧٢.

٤٧

الكبير الذي كاد يكون وحيدا في عالم كان يغوص في دنس الشرك ، وظلام الجاهلية.

يا لها من بشارة عظيمة : ان يستجيب الرب لعبده رأفة به ، وتخليدا لذكره في الآخرين ، فيرزقه ولدا يرعاه حتى يصبح غلاما ويعلمه حتى يضحى عليما.

[٢٩] وسمعت زوجته (سارة) بهذه البشارة ، ربما لقربها من الضيوف حيث كانت تخدمهم ، أو لأنها جاءت إليهم فأخبرت بها.

(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ)

تصيح صياحا يشبه صوت الريح لما أصابها من فرحة مزيجة بالعجب!!

(فَصَكَّتْ وَجْهَها)

أي ضربته ـ على عادة النساء العجائز عند مواجهتهن لموقف لا يحتملنه ـ وعبّرت عن عمق تعجبها من هذه البشارة العظيمة ..

(وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)

فهل ألد وأنا عجوز يائس؟! بل كيف ألد وأنا امرأة عقيمة ، ولم أنجب في شبابي؟!

[٣٠] (قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ)

نعم هكذا قال الله القدير ، فالرزق بيده ، ولأنه أراد إثبات هذه الحقيقة أنّه وهب عجوزا عقيما غلاما عليما.

(إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)

٤٨

ولم يذكر القرآن شيئا عن رد فعل إبراهيم (عليه السلام) لماذا؟ ربما لأن انجاب رجل كبير في مثل سنه ممكن عقلا بعكس امرأة عقيم في مثل عمرها ، والدليل على ذلك أن إبراهيم (ع) تزوج بهاجر فأنجبت له إسماعيل (ع).

والمعروف أن الولد كان (اسحق) وتدل على ذلك الآية المباركة : «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ».

وهذه الحادثة توحي ببصائر ثلاثة :

أولا : إن الله قادر على تغيير ما نعرفه من السنن بقضائه النافذ ، وحكمه الذي لا يرد.

ثانيا : إنه يستجيب دعاء من دعاه بفضله وبوسائل غير معروفة لدينا ، وعلينا ألّا نقنط من رحمته في أشد حالات الأزمة ، وألّا نحرص على الدنيا خشية المستقبل فهو الرزّاق ذو القوة المتين.

وإلى هذا تشير الرواية المأثورة عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) : «قال : خرجت حتى انتهيت إلى هذا الحائط ، فاتكيت عليه ، فاذا رجل عليه ثوبان أبيضان ، ينظر في وجهي ، ثم قال لي : يا علي بن الحسين! ما لي أراك كئيبا حزينا؟! أعلى الدنيا حزنك فرزق الله حاضر للبر والفاجر ، فقلت : ما على هذا أحزن ، وإنه لكما تقول ، قال : يا علي بن الحسين! هل رأيت أحدا سأل الله عزّ وجلّ فلم يعطه؟! قلت : لا ، قال : نظرت فاذا ليس قدامي أحد» (١).

ثالثا : إن كلّ ذلك دليل يهدينا إلى البعث بعد الموت. أليست العقبة الرئيسية عند الكفار به هي جهلهم بقدرة الله على إحياء الموتى ، أو خرق الأنظمة السائدة على

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ / ص ١٢٦.

٤٩

الخليقة ، فهذه القصص تزيل عنهم هذه العقبة ، مما يمهد الطريق أمامهم للإيمان بالآخرة.

[٣١] بشارة إبراهيم (ع) بالغلام العليم جانب من وعد الله ، أما الآخر فهو عذاب الاستئصال الذي صب على قوم لوط.

وحين عرف إبراهيم الملائكة سألهم عن الأمر العظيم الذي نزلوا من أجله ، إذ حسب نصّ مأثور عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «كانوا أربعة أملاك : جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وكروبيل عليهم السلام» (١). ومثل هؤلاء لا ينزلون إلّا لخطب جلل.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ)

لا بد انكم تقومون بعمل عظيم في الأرض فما هو؟

[٣٢ ـ ٣٣] (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ* لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ)

ونتساءل أولا : ما هو هذا الطين؟ .. هل هو ذلك الطوب الذي بنيت به مدينتهم باعتبار ان المدينة قد ارتفعت ثم هبطت مرة أخرى ساعة تدميرهم؟ أم هو حمم بركان تفجّر عليهم فشبهت بالطين؟ أم أصل الحجارة التي أهلكوا بها كانت من الطين؟ .. لا ندري بالضبط ، ولكن الظاهر من الآية أنه ذات «السجيل» التي جاءت في آية أخرى ، والتي قالوا : انها معربة فارسية وأصلها (سنك كل) أي حجارة من الطين ، والأقرب انها قطعات من طين متصلب ومتحجر.

__________________

(١) المصدر / ١٢٧.

٥٠

ثانيا : ماذا كانت جريمتهم التي استحقوا بها ذلك العذاب الشديد؟ يبدو انهم كانوا قد تدرجوا في عدّة مراحل ، حتى بلغوا الدرك الأسفل ، والذي مثّل في الشذوذ الجنسي ، اما غيره فقد جاء في الحديث : «انهم لم يكونوا يتنظّفون من الغائط ، ولا يتطهرون من الجنابة ، بخلاء ، أشحّاء على الطعام» (١).

[٣٤] وان هذا الهبوط المستمر كان بسبب إسرافهم المقيت.

(مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ)

يبدو من هذه الآية ان الإسراف ينتهي بالإنسان إلى الجريمة ، فهو يسرف حتى يستوعب حقه ، فيبادر على الاعتداء على حقوق الآخرين ، وفي الحديث عن الامام علي عليه السلام : «ما رأيت نعمة موفورة إلّا وإلى جانبها حقّ مضيع» لان من يأكل أكثر من حقه يأكل ـ وبشكل طبيعي ـ حقوق الناس ، والحجارة التي أصابتهم كانت مسومة ، قد عرفت باسمهم ، ولعل كل حجارة كانت باسم واحد منهم ، فلم تكن تطيش هنا وهناك ، لأنها كانت مسجلة باسمه وحسب جريمته.

[٣٥] وكما كانت مسومة باسم المجرمين كانت بعيدة عن المؤمنين الذين أخرجوا من تلك البلاد.

(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)

ولكن من كان فيها من المؤمنين؟

[٣٦] (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)

[٣٧] وبعد أن خرجوا من تلك القرى ، أرسل الله الحجارة المسومة ، فأهلكتهم.

__________________

(١) المصدر / ص ١٢٩.

٥١

أين كانت قرى قوم لوط؟ يقال انها واقعة اليوم في الأردن ، على مقربة من البحر الميّت ، وانها كانت تسمى ب : (سدوم) ، وأنها هي المؤتفكات أي القرى المنقلبة.

ويقال ان إبراهيم (عليه السلام) الذي بعث لوطا إلى تلك القرى ليدعوهم إلى ربهم كان يسكن في مدينة (حبرون) قريبا من (سدوم) وقد شاهد آثار العذاب حين نزل عليها.

ويزعم البعض : ان بعض الآثار قد ظهرت في قاع البحر الميت ، مما يدل على أنه يغطي قرى قوم لوط ، ولا ريب أن تلك المناطق تشهد بذلك العذاب الرهيب ، الذي نزل بأولئك المجرمين ، بيد أن هذه الآثار كثيرة في أرضنا ، وان عبرها كافية للإنسان ليرتدع عن غيه ، بيد أن أكثر الناس في غفلة منها ، وإنما يتعظ بها الخائفون من عذاب الله.

(وَتَرَكْنا فِيها آيَةً)

علامة بيّنة بما وقع فيها ، قيل : أنّها آثارهم في القرية الخربة ، وقال البعض : إنّها الحجارة المسوّمة ، ويظهر من حديث مأثور عن النبي (صلّى الله عليه وآله) عن جبرئيل (عليه السلام) أنّ الآية بيت لوط حيث قال وهو يروى كيف دمّر بأمر الله تلك القرى

«وإنّي نوديت من تلقاء العرش لمّا طلع الفجر : يا جبرئيل! حقّ القول من الله ، تحتّم عذاب قوم لوط فاهبط إلى قرية قوم لوط وما حوت فاقلبها من تحت سبع أرضين ، ثمّ أعرج بها إلى السماء فأوقفها حتى يأتيك أمر الجبّار في قلبها ، ودع منها آية بيّنة من منزل لوط عبرة للسيّارة» (١).

__________________

(١) المصدر / ص ١٢٨

٥٢

حقّا : إنّها آية بيّنة أن تدمّر كلّ تلك القرى شر تدمير ويبقى بينهما بيت واحد عبد الله فيه سالما. أولا يهدينا ذلك إلى أنّ الدمار لم يكن بسبب زلزال طبيعي ، بل عذابا مقدّرا لجرائم ارتكبوها؟

(لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ)

أمّا الغافلون فهم لن ينتفعوا من مثل هذه الآية.

وهذه القصّة تذكّرنا بسنّة الجزاء ، وأنّ الله لم يخلقنا عبثا ، وأنّه سوف يحاسبنا ليجازينا إن خيرا فخير وإن شرّا فشر.

[٣٨] ومثل آخر يهدينا إلى حقيقة المسؤولية والجزاء أيضا نقرأه في قصّة فرعون التي بقيت هي الأخرى آية بيّنة للناس.

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)

لقد أرسل الله موسى إلى طاغوت عصره فرعون ، وزوّده بسلطان مبين يتمثّل في كلمة الحق والعصا واليد البيضاء.

[٣٩] ولكن ماذا كان جواب فرعون؟

(فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ)

كذّب بموسى وسلطانه بكلّ وجوده وقواه سواء قوّة جسده أو قوّة جيشه.

(وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)

لقد احتار كيف يفسّر حقيقة الرسالة إذا أنكرها ، فإذا كان صاحبه ساحرا

٥٣

يبحث عن مال ومقام فلما ذا يتحدّى سلطانه؟ لماذا لا يخضع له كما فعل سائر السحرة؟ وإذا كان مجنونا فما هذه الحجّة البالغة لديه والسلطان المبين؟ ما هذه المعاجز التي تتوالى على يديه؟

وهذا الترديد شائع عند كلّ الذين يكفرون بالحق ، ويعاندون أمام الحجج البالغة ، ذلك أنّ الحق يفرض نفسه على الساحة حتى لا يكاد أحد يقدر على التهرّب منه.

[٤٠] أنظر إلى عاقبة أمرهم ، لقد أخذهم الله بقوّته فلم يقدروا على الفرار من جزائه العادل بمثل ما تهرّبوا من الحق الذي دعاهم إليه ، ثم ألقاهم في البحر كما ينبذ شيء يسير لا وزن له ولا قيمة.

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ)

ولا يلام غيره. أفلم ينذره الله ، وأتمّ الحجّة عليه فلم تنفعه شيئا؟

(وَهُوَ مُلِيمٌ)

تلاحقه لعنة الله والملائكة والناس إلى يوم القيامة.

[٤١] وإذا تكرّرت صورة أخذ الطغاة والمجرمين فإنّ السنّة واحدة ، وتلك السنّة تصبح عبرة لمن شاء أن يعتبر ، ففي أرض الأحقاف الواقعة ـ حسب المفسّرين ـ بين حضرموت وعمان كانت قبائل عاد تطغى وتفسد وتبطش بالناس كما الجبّارون ، وجاءهم النذير فلم يستجيبوا له ، فأرسل الله عليهم الريح لا لكي تلقّح ثمارهم أو تحمل الغيث إلى أرضهم العطشى ، بل لكي تبيد ما أتت عليه من زرع وضرع وإنسان وأثاث وبناء حتى لا تخلّف وراءها شيئا فهي عقيم.

٥٤

(وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ)

وقالوا في معنى العقيم : أنّه الذي لا ينتج غيثا ولا لقاحا. ولعلّ العقيم هو الذي لا يذر شيئا بعده فتكون الآية التالية تفسيرا له.

[٤٢] ويبدو أنّ الإعصار كان يحمل نارا وسمّا ، وهكذا لم يدع شيئا قائما على حاله بل أباد الأرض وما عليها وجعلها رميما.

(ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ)

قالوا : من الرّمة العظم البالي ، والرّمة الحبل البالي ، والرّم ما يقع على الأرض من التبن ، وقال : البعض الرميم الرماد ، وقال آخر : إنّه الذي ديس من يابس النبات. إنّه التراب المدقوق ، وقال ابن عباس : كالشيء الهالك البالي.

ويبدو لي أنّ الكلمة توحي بانعدام الشيء ، فإذا كان البناء يتهدّم ، وإذا كان العظم أصبح مهشّما ، والحبل باليا ، والتراب رمادا لا حياة فيه .. وإذا صحّ هذا التفسير فإنّ تلك الأرض لا تصلح لإعادة الحياة فيها أبدا ، وهذا عاقبة طغيانهم وتحدّيهم لرسالات ربّهم.

[٤٣] ومن جنوب الجزيرة العربية إلى شمالها حيث سكنت قبائل ثمود في منطقة (حجر) نقرأ ذات القصة ، ونجد ذات العبرة ، وتتجلّى حقيقة المسؤولية والجزاء.

لقد كفروا بالرسالات ، وتمرّدوا على رسولهم ، وعقروا الناقة ، فأمهلوا ثلاثة أيّام ، فلم يقدروا على الفرار ، ولا نصرهم ما أشركوا به ، ولا نفعتهم الحيلة ، بل دمّروا بالصاعقة شرّ تدمير .. وهكذا كانت في ثمود آية بيّنة.

٥٥

(وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ)

قالوا : إنّها الأيّام الثلاثة التي أمهلوا فيها. ولعلّ المراد الفرصة التي سنحت لهم في الحياة الدنيا ، والحرية المحدودة التي منحوا ليبتلي الله إرادتهم ، ولكنّهم خالفوا رسوله بعقرهم الناقة التي كانت آية مبصرة لهم.

[٤٤] (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ)

[٤٥] وبالرغم من أنّ الصاعقة نزلت بهم بعد أن أنذروا بها ، وعلموا بوقوعها ، ونظروا إليها بالعين المجرّدة ، فإنّهم لم يقدروا على مقاومتها أو الفرار منها.

(فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ)

فلا قدروا على مقاومتها بأنفسهم ، ولا كان يقدر أحد على نصرهم.

[٤٦] العذاب الذي توالى على المجرمين في الدنيا نذير لنا بأنّ عذاب الله واقع ، وأنّ الجزاء حق لا ريب فيه ، وأنّه لا أحد يستطيع أن يهرب من مصيره الذي يرسمه بعمله.

(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ)

كذّبوا بآيات الله فأخذهم بالطوفان ولم تبق منهم إلّا العبرة.

(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ)

تجاوزوا حدود الله ، وفسقوا عن أمره ، فاختطفهم ، العذاب وفقا لسنّة الله التي لن تجد لها تبديلا.

٥٦

وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ

___________________

(٤٧) [بأيد] : بقوة ـ من آد ـ يئيد.

٥٧

(٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠))

___________________

(٥٩) [ذنوبا] : نصيبا من العذاب ، وأصل الذنوب الدلو المملوء ماء وجيء به للاشارة إلى كثرة ذنوبهم.

٥٨

وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ

هدى من الآيات :

إذا كان محور سورة «الذاريات» أن الهدف الاساسي من خلقة الجن والانس هو عبادة الله فان خاتمة السورة تبين ذلك بعد ان تمهد له بتوجيهنا : الى السماء كيف بناها ربنا بقوة ، ولا يزال يوسعها ، وإلى الأرض كيف فرشها ، ومهدها لنا أفضل تمهيد ، وإلى سنة الزوجية في كل شيء مخلوق ، تذكرنا بالخالق الغني المقتدر.

ثم يأمرنا بالاستعاذة بالله والفرار اليه من ضعفنا ، وعجزنا ، وشرور أنفسنا ، وشرور العالم المحيط بنا.

ولكي لا نستسلم للضغوط يذكرنا : ان الرسول نذير مبين من عند الله ، وانه يحذّر من مغبة الشرك بالله ، والكفر بالرسالة ، واتهام الرسول بأنه ساحر أو مجنون كما فعل الغابرون جميعا. حتى لكأنهم تواصوا بذلك بينما الحقيقة أنهم جميعا كانوا قوما طاغين ، فاذا تولى عنهم الرسول لا يكون ملوما لأنهم جحدوا بالرسالة ولكن

٥٩

يجب الاستمرار في رعاية المؤمنين بالتذكرة لأنها تنفعهم.

وبعد هذا التمهيد الذي فيه تذكرة بآيات الله في الخليقة ، وتبصرة بدور الرسول في الإنذار والبلاغ فقط فيما يتصل بالكفار ، ودور التذكرة فيما يتعلق بالمؤمنين .. ذكّرنا الله بأهم غاية في الخلق وقال : «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» وحقيقة العبادة التسليم لله وتهيئة النفس لاستقبال نور معرفته ، وتطهيرها من دنس الشرك والفواحش الباطنة ، ثم العمل بكتابه.

وعبادة الله دليل رحمته ، وهكذا كان الخلق بهدف التفضل على المخلوقين ، ولا تصل أية فائدة من خلقه اليه ، فهو لا يريد منهم رزقا ولا طعاما ، بل هو الرزاق الذي يغمرهم بنعمه ، وهو ذو القوة الدائمة التي لا تزول فلا يحتاج الى نصرهم.

وفي الخاتمة يحذر ربنا الظالمين بأن نصيبهم من العذاب مضمون لهم ، فلا يستعجلوه ، كما يحذر الكفار من ويلات اليوم الموعود.

بينات من الآيات :

[٤٧] هل نظرت الى السماء في ليلة صافية .. هل حاولت مرّة إحصاء نجومها؟ لا ريب انك لو فعلت ذلك كللت ، لأنه كلما أدرت عينك رأيت نجمة غائرة في الفضاء اللامتناهي ، وإذا علمنا ان كل مجموعة نجوم تشكل مجرة واحدة؟ لا بد أن نذهل فعلا مما اكتشفه العلم من عدد نسبي لعدد المجرات التي تبلغ المليارات .. فهل يأتي يوم يستطيع الإنسان أن يحصي نجوم السماء علما بأن ضخامة نجمة واحدة منها قد تبلغ حدا لو ألقى كوكبنا الأرضي فيها لضاعت كما تضيع حبة الرمل في الصحراء.

أي قوة بنت هذه السماء؟!

٦٠