من هدى القرآن - ج ١٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-17-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

ثانيا : الاغترار بالقوة.

(أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ)

هل يعرضون عن الآيات ، ويكذّبون الحق ، ويتبعون أهواءهم ، ثمّ يتحدّون سنن الحياة ، اعتمادا على جمعهم وقوّتهم؟!

وما عسى أن تكون قوّتهم وجمعهم بالنسبة إلى الأمم السابقة؟! (أَوَلَمْ يَعْلَمْ) (كلّ واحد منهم) (أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) (١) ، (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) (٢) ، ثمّ (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٣).

ويؤكّد الله لأولئك الذين اعتمدوا على عدّتهم وعددهم أنّ المستقبل كفيل بالكشف عن مدى ضلالتهم في الاعتماد عليهما ، حيث يهزمون ، وتبطل تبريراتهم ومزاعمهم بأنّ العذاب لا يطالهم.

(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)

وقد رأينا كيف أنزل الله عذابه بهم على أيدي المؤمنين في مواطن كثيرة ، وأظهر رسوله ودينه عليهم بالرغم منهم ، وبالرغم من أنّهم كانوا في موقعة كبدر أكثر جمعا وعدّة من المسلمين بثلاثة أضعاف أو أكثر!

__________________

(١) القصص / (٨٧).

(٢) ق / (٣٦)

(٣) الأنعام / (٦).

٢٦١

[٤٦] ومع ذلك فإنّ الأدهى من هزيمتهم وعذابهم في الدنيا ما ينالهم من العذاب في الآخرة.

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ)

إنّها أكثر رعبا في مظهر عذابها وأساليبه ، وأعمق ألما ومرارة على أبدانهم ونفوسهم.

ونستلهم من هذه الآية أنّه حتى إذا كان عذاب الاستئصال مرفوعا عن أمّة محمّد (ص) ببركته ودعائه ، فإنّه لا ينبغي أن نجعل هذه الفكرة مبرّرا لنا لاقتحام الذنوب ، فإنّ من ورائنا الساعة في الآخرة ، وتهدّدنا في الدنيا ألوان من العذاب التي لا تقل ألما عن الاستئصال ، كالتخلّف ، والتفرقة ، وتسلّط الظلمة ، والصراعات الداخلية ، و.. و.. أترى هزيمة الأمّة أمام أعدائها في الدنيا أمرا هيّنا؟! كلّا .. لأنّها تفقد بذلك الكثير الكثير.

[٤٧ ـ ٤٨] ويعود القرآن مؤكّدا بأنّ تلك المزاعم : الأفضليّة على الآخرين ، والبراءة من العذاب ، والاغترار بالنفس ، باطل ، وإنّما تدلّ على مدى ضلال أصحابها وعذابهم.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ)

وقد سمّاهم الله بالمجرمين لأنّ تلك المزاعم لا شك سوف تقودهم إلى التوغّل في الجريمة ، والسعر قد يكون الجنون أو النار ، وهما من ألوان العذاب التي يؤدي إليها الضلال في الدنيا والآخرة.

(يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ)

٢٦٢

وهنا إشارة إلى نوعين من العذاب : أحدهما المادي حيث يسحبون نكاية بهم ، والسحب وحده يعتبر عذابا للإنسان ، فكيف إذا كان على الوجوه أكرم مناطق الجسم ، وأكثرها حسّاسية ، وفي أعظم أودية جهنّم عذاب وهو سقر؟! الذي قال الامام الصادق (ع) عنه : «إنّ في جهنّم لواديا للمتكبّرين يقال له سقر ، شكا إلى الله شدّة حرّه ، وسأله أن يتنفّس ، فأذن له فأحرق جهنّم» (١) «إن في سقر لجبّا يقال له هبهب ، كلّما كشف غطاء ذلك الجبّ ضجّ أهل النار من حرّه ، وذلك منازل الجبّارين» (٢).

والآخر العذاب المعنوي الذي يفوق في بعض حالاته عذاب الجسم ، فهناك تتلقّاهم زبانية جهنّم قائلة : «ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ» ، «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ» (٣).

ولعلّنا نفهم من المس أنّ النار لا تحرق كلّ أبدانهم ، بل تحرق جلودهم التي فيها تتركّز أعصاب الإحساس عند الإنسان ، ممّا يجعل العذاب أكثر ألما ، وهذا ما تؤكّده الآية الكريمة : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) (٤).

[٤٩] وهذا العذاب لا شك ليس اعتباطيّا وبلا حكمة ، كلّا .. فهو كسائر مفردات الوجود مقنّن مقدّر من قبل الله ، فلو أنّنا كشف لنا الغطاء لرأينا أنّ العمل السيء الذي نقوم به هو نفسه الجزاء الذي نلقاه.

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ)

__________________

(١) بح / ج (١) ص (٢٩٤).

(٢) المصدر / ص (٢٩٧).

(٣) الدخان / (٤٩ ـ ٥٠).

(٤) النساء / (٥٦).

٢٦٣

حينما يسأل الامام علي (ع) عن هذه الآية يجيب : يقول عز وجل : إنا كل شيء خلقناه لأهل النار بقدر أعمالهم (١) وقال الامام الصادق (ع) : «انّها ردّ على القدرية الذين نفوا تقديرات الله ، وفيهم نزلت هذه الآية» (٢) وقد استدلّ البعض بهذه الآية على أنّ أعمال الإنسان هي الأخرى مقدّرة فزعم أنّها تدل على الجبر ، بينما الصحيح أنّ كلّ شيء مقدّر من قبل الله ، ومن تقديراته الاختيار الذي وهبه للإنسان.

والذي يظهر أنّ الآية تثبت أكثر من أيّ فكرة أخرى حكمة الله في الحياة ، التي تهدينا معرفتها إلى الايمان بالمسؤولية ، والدار الآخرة أعظم تجلّياتها ، حيث يحاسب الناس على سعيهم ، ويلقون جزاءهم الأوفى خيرا أو شرّا ، جنة أو نارا ، يقول السيد قطب في تفسيره (في ظلال القرآن) : (وإنّ هذا النص القرآني اليسير ليشير إلى حقيقة ضخمة هائلة شاملة ، مصداقها هذا الوجود كلّه ، حقيقة يدركها القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود ، ويتجاوب معه ، ويتلقّى عنه ، ويحس أنّه خليقة متناسقة تناسقا دقيقا ، كلّ شيء فيه بقدر يحقّق هذا التناسق المطلق ، الذي ينطبع ظلّه في القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود) ، ويضرب أمثلة للحكمة الالهية في الخلق فيقول نقلا عن كتاب «الله والعلم الحديث» للاستاذ عبد الرزّاق نوفل : (إنّ الجوارح التي تتغذى بصغار الطيور قليلة العدد ، لأنّها قليلة البيض ، قليلة التفريخ ، فضلا على أنّها لا تعيش إلّا في مواطن خاصة محدودة ، وهي في مقابل هذا طويلة الأعمار ، ولو كانت مع عمرها الطويل كثيرة الفراخ مستطيعة الحياة في كلّ موطن لقضت على صغار الطيور ، وأفنتها على كثرتها وكثرة تفريخها ، أو قلّلت من أعدادها الكبيرة اللازمة بدورها لطعام هذه الجوارح وسواها من بني الإنسان ، وللقيام بأدوارها الأخرى ووظائفها الكثيرة في هذه الأرض.

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٥) ص (١٨٦).

(٢) المصدر / ص (١٨٥).

٢٦٤

بغاث الطير أكثرها فراخا

وأمّ الصقر مقلات نزور

وذلك للحكمة التي قدّرها الله كما رأينا ، كي تتعادل عوامل البقاء وعوامل الفناء بين الجوارح والبغاث!).

ويستطرد قائلا : (والذبابة تبيض ملايين البويضات ، ولكنّها لا تعيش إلّا أسبوعين ، ولو كانت تعيش بضعة أعوام تبيض فيها بهذه النسبة لغطّى الذباب وجه الأرض بنتاجه ، ولغدت حياة كثير من الأجناس وأوّلها الإنسان مستحيلة على وجه هذه الأرض ، ولكن عجلة التوازن التي لا تختل في يد القدرة التي تدبّر هذا الكون أوزنت بين كثرة النسل وقصر العمر فكان هذا الذي نراه!

والميكروبات ـ وهي أكثر الأحياء عددا ، وأسرعها تكاثرا ، وأشدها فتكا ـ هي كذلك أضعف الأحياء مقاومة ، وأقصرها عمرا ، تموت بملايين الملايين من البرد ومن الحر ، ومن الضوء ، ومن أحماض المعدات ، ومن أمصال الدم ، ومن عوامل أخرى كثيرة ، ولا تتغلّب إلّا على عدد محدود من الحيوان والإنسان ، ولو كانت قوية المقاومة أو طويلة العمر لدمّرت الحياة والأحياء!).

ويستعرض مثلا من واقع الإنسان فيقول : (والثدي يفرز في نهاية الحمل وبدء الوضع سائلا أبيض مائلا إلى الاصفرار ، ومن عجيب صنع الله أنّ هذا السائل عبارة عن مواد كيميائية ذائبة تقي الطفل من عدوى الأمراض ، وفي اليوم الثاني للميلاد يبدأ اللبن في التكوين ، ومن تدبير المدبّر الأعظم أن يزداد مقدار اللبن الذي يفرزه الثدي يوما بعد يوم ، حتى يصل الى حوالي لتر ونصف في اليوم بعد سنة ، بينما لا تزيد كميته في الأيّام الأولى على بضع أوقيات ، ولا يقف الاعجاز عند كمّية اللبن التي تزيد حسب زيادة الطفل ، بل إنّ تركيب اللبن كذلك تتغير مكوّناته ،

٢٦٥

وتتركّز مواده ، فهو يكاد يكون ماء به القليل من النشويات والسكريات في أوّل الأمر ، ثم تتركّز مكوّناته فتزيد نسبته النشوية والسكرية والدهنية فترة بعد أخرى ، بل يوما بعد يوم ، بما يوافق أنسجة وأجهزة الطفل المستمر النمو).

هكذا قدّر الله شؤون الحياة والخلق ، وهكذا تتجلّى حكمته في كلّ شيء ، ونحن يجب أن نهتدي إلى ما غاب عنّا بما نراه ونشاهده ، كما نستدل على وجود التيار الكهربائي بالمصباح والمروحة ، ينبغي أن نهتدي إلى الآخرة بالحكمة الربّانية الظاهرة في الدنيا ، وحتى في الدنيا نفسها يجب أن نؤمن بالسنن الحاكمة فيها ، ونكيّف أنفسنا وفقها ، فالذي يصلّي من دون خشوع وإخلاص لا تقبل صلاته ، والذي يتصدّق من دون تقوى تبطل صدقته ، وهكذا الذي يعرض عن آيات الله ويكذّب برسالاته ويتبع الهوى فإنّه يلقى العذاب في الدنيا والآخرة ، مهما زعم وتمنّى بأنّه لا يعذّب أو أنّه قادر على الانتصار على سنن الله في الحياة.

[٥٠ ـ ٥١] وفوق تلك الأقدار والسنن تبقى لله المشيئة العليا والارادة المطلقة يهيمن بها على كلّ شيء ، ويخرق بها القدر أو ينفذه متى شاء في أسرع من طرفة العين ولمح البصر ، فلا يجوز للإنسان إذن أن يعبد السنن ، إنّما يجب عليه عبادة ربّها.

(وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ)

سواء كان هذا الأمر ممّا يختص بشؤون الدنيا أو الآخرة ، والأشياء كلّها تستجيب لأمر الله بمجرد نزوله من عنده دون تردّد أو إقناع ، فلا يحتاج تعالى إلى تكرار الأمر أبدا ، ولعلّ «واحِدَةٌ» إشارة إلى وحدة زمنية ، كما نقول نحن لحظة أو جزء من الثانية ، بل فوق الزمن إذا نسب الأمر إلى الله ، وحيث لا نستوعب نحن المسافة بين أمر الله ونفاذه ، ولا حتى أضخم الكومبيوترات الحديثة ، فإنّه تعالى قرّب

٢٦٦

لنا المعنى مشبّها بقوله :

(كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)

أي كما لو أغمض بشر عينه ثم فتحها ليلمح شيئا ما ، واللمح هو النظرة السريعة الخاطفة ، ولعلّ تقدير الزمن إنّما هو من جانب المخلوق ، فهو بحاجة الى زمن حتى يتحقّق فيه أمر الله ، أمّا جانب الخالق فلا يتصوّر زمن مديد أو قصير تعالى ربنا عن أوصاف المخلوقين.

نعم في مثل هذا الزمن المحدود ينفذ أمر الله لو أراد إهلاككم أيّها الكافرون المكذّبون ، دون أن يمنعه مانع ، والتاريخ شاهد على هذه الحقيقة ، وقد قدّم القرآن في آياته السابقة قوم نوح وعاد وثمود ولوط مثلا لها ، ولا زال يؤكّد ذلك للكافرين فيقول :

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ)

نظائركم وأشباهكم ، وربما أراد القرآن بذلك الذين عاصروهم ممّن أهلكوا لا الذين من قبلهم وحسب ، وربّنا قادر على أن يفعل بهم ذلك ، ولكنّه برحمته ولطفه يقدّم النذر على العذاب والتذكرة على الجزاء ، ويدعوهم إلى الايمان ، لأنّه خلق البشر ليرحمهم وليربحوا عليه لا للشقاء والنقمة ، لذلك يهتف بهم كتابه الكريم :

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)

وقد كرّر ربّنا هذا المقطع بعد قوله : «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ» ، فكما يجب على الإنسان أن يتعظ بالقرآن ويتذكّر بآياته كذلك يجب عليه أن يستنصح التاريخ ، ويعتبر بأمثاله وقصصه ، فإذا وجد نظائره وقد أهلكوا فلا يمنّي نفسه

٢٦٧

بالنجاة. أترى لو ذهب شخص إلى الطبيب ، وشخّص فيه مرضا مات به آخرون قبله ، أيمنّ نفسه بالحياة؟!

[٥٢ ـ ٥٣] وحينما أهلك أولئك لم ينته حسابهم وجزاؤهم ، بل سجّلت أعمالهم ليلاقوا جزاءهم الأوفى في الآخرة.

(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ)

أي الكتب (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً* اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١).

وقد فسّر البعض هذه الآية بما يخدم مذهبه الجبري زاعما أنّ كلّ أفعال الإنسان مكتوبة سلفا عليه في الزبر ، وهذا التفسير لا يتناسب والسياق ، كما لا يتناسب وما نعرفه من حرية الإنسان في حدود قدر الله وقضائه.

ويؤكّد القرآن أنّه (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها).

(وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ)

يجدونه في سطور ذلك الكتاب.

وهاتان الآيتان تهديانا إلى فكرة المسؤولية ، وأن الإنسان هو الذي يرسم مستقبله بنفسه من خلال أفعاله صغيرها وكبيرها ، وما دامت الأعمال لا تذهب إلى الفراغ ، بل تكتب له أو عليه عند الله ، وما دام مستقبله الأخروي الأبدي مرتكز على حياته هنا ، فحري به إذن أن يتحمّل الأمانة بصدق وقوة.

__________________

(١) الإسراء / (١٣ ـ ١٤).

٢٦٨

[٥٤ ـ ٥٥] ويختم الله هذه السورة التي تلاحقت فيها النذر المخوّفة بالترغيب ، لكي لا ينتهي التخويف إلى اليأس ، بل يبقى الإنسان متوازنا يتحرك باتجاه الحق بين الخوف من العذاب ورجاء الرضى والاثابة ، فيحدّثنا عن عاقبة المتقين في مقابل عاقبة المكذّبين فيقول :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ)

أي الأنهار ، وقال بعض المفسّرين أنّه المكان الواسع ، وهو بعيد ، وقوله «فِي» يدلّ على دوام النعيم وخلودهم فيه ، وذلك ممّا يميّز نعيم الآخرة عن الدنيا المحدودة.

وإلى جانب النعم المادية هناك النعم المعنوية ، وأعظمها وأهمّها رضى الله عزّ وجلّ الذي ينالها المتقون.

(فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ)

ويدل المقعد على الدوام والثبات ، فهم لا يزحزحون عن النعيم ، «لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ» (١) ، كما تدل كلمة «صِدْقٍ» أنّهم استحقّوا الجلوس في ذلك المقعد بعملهم وإيمانهم بعد توفيق الله ، فلأنّ عملهم كان صادقا مخلصا استحقوا مقعد الصدق ، ولكن عند من؟

(عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)

حيث النظر إلى نور الربّ ، وهذا بدوره يكمّل النعيم ، بل هو النعمة الكبرى! وما الجنان والنهر وسائر النعم الأخرى إلّا مظهر لمقعد الصدق ، وهذان النوعان من

__________________

(١) الواقعة / (١٩).

٢٦٩

النعم (الجنات والنهر ، وحبّ الله وجواره) يلبّيان تطلّعات المؤمن المادية والمعنوية إلى أقصاهما.

والمليك هو مالك الأشياء المهيمن عليها ، ولكن قد يوجد من هو أقوى منه ، إلّا أنّ ذلك ينتفي بإضافة «مُقْتَدِرٍ» ، وفي هاتين الصفتين ضمان للمؤمنين بأنّ ما يوعدون واقع حاصل ، لأنّ الذي يعدهم يملك ما وعدهم ، ويقدر على تحقيقه فهو لا يمنعه مانع ، كقدرته على إنزال العذاب بالمكذّبين ، بلى. إنّ المؤمنين يتطلّعون إلى نعيم الآخرة ، ولكن طموحهم الأكبر يبقى هو جوار الله ورضاه ، فهذا زين العابدين وسيّد الساجدين يناجي ربه : «فقد انقطعت إليك همّتي ، وانصرفت نحوك رغبتي ، فأنت لا غيرك مرادي ، ولك لا لسواك سهري وسهادي ، ولقاؤك قرّة عيني ، ووصلك منى نفسي ، وإليك شوقي ، وفي محبّتك ولهي ، وإلى هواك صبابتي ، ورضاك بغيتي ، ورؤيتك حاجتي ، وجوارك طلبي ، وقربك غاية سؤلي ، وفي مناجاتك روحي وراحتي ، وعندك دواء علّتي ، وشفاء غلّتي ، وبرد لوعتي ، وكشف كربتي ، فكن أنيسي في وحشتي ، ومقيل عثرتي ، وغافر زلّتي ، وقابل توبتي ، ومجيب دعوتي ، ووليّ عصمتي ، ومغني فاقتي ، ولا تقطعني عنك ، ولا تبعدني منك ، يا نعيمي وجئتي ، ويا دنياي وآخرتي ، يا أرحم الراحمين» (١).

ونقرأ في دعاء كميل : «يا وليّ المؤمنين ، يا غاية آمال العارفين ، يا غياث المستغيثين ، يا حبيب قلوب الصادقين».

__________________

(١) مفاتيح الجنان / مناجاة المريدين.

٢٧٠

سورة الرّحمن

٢٧١
٢٧٢

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

١ ـ في كتاب ثواب الأعمال بإسناده عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : لا تدعوا قراءة سورة «الرحمن» والقيام بها ، فإنها لا تقرّ في قلوب المنافقين ، ويؤتى بها يوم القيامة في صورة آدمي ، في أحسن صورة ، وأطيب ريح ، حتى تقف من الله موقفا لا يكون أحد أقرب إلى الله منها ، فيقول لها : من ذا الذي كان يقوم بك في الحياة الدنيا ، ويدمن قراءتك؟ فتقول : فلان وفلان فتبيض وجوههم ، فيقول لهم : اشفعوا فيمن أحببتم ، فيشفعون ، حتى لا يبقى لهم غاية ،

٢٧٣

ولا أحد يشفعون له ، فيقول لهم : ادخلوا الجنة ، واسكنوا فيها حيث شئتم.

تفسير نور الثقلين / ج ٥ / ص ١٨٧

٢ ـ وبإسناده عن أبي عبد الله (ع) قال : من قرأ سورة «الرحمن» فقال عند كل «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» : لا بشيء من آلائك ربّ اكذّب ، فإن قرأ ليلا ثم مات مات شهيدا ، وإن قرأها نهارا ثم مات مات شهيدا.

المصدر

٣ ـ وعن الصادق ـ عليه السلام ـ أنه قال : من قرأ سورة «الرحمن» ليلا ، يقول عند كلّ «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» : لا بشيء من آلائك يا رب أكذب ، وكل الله به ملكا إن قرأها من أول الليل يحفظه حتى يصبح ، وإن قرأها حين يصبح وكلّ الله به ملكا يحفظه حتى يمسي.

المصدر

٤ ـ عن جابر بن عبد الله (ر ض) قال : لما قرأ رسول الله (ص) سورة «الرحمن» على الناس سكتوا ، فلم يقولوا شيئا ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : الجنّ كانوا أحسن جوابا منكم ، لما قرأت عليهم «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» قالوا : لا ولا بشيء من آلاء ربنا نكذّب.

المصدر

٢٧٤

الإطار العام

لما ذا خلق ربّنا الغني العزيز هذه الكائنات؟ أو ليس لأنّه سبحانه الرحمن؟ آيات رحمته الواسعة تجلّت في كلّ شيء : في هذا الكتاب الذي يهدينا إلى نوره ولولاه لما عرفناه. في هذا الإنسان الذي أحسن خلقه وأكرمه وعلّمه البيان ليفضله على كثير ممّن خلق. في الشمس المضيئة ، والقمر المنير. في النجم المسخّر برحمته ، وفي الشجر الساجد لعظمته. في السماء التي رفع سمكها وجعلها سقفا محفوظا. في النظام المحسوب الذي قدّره ، وفي الميزان الذي وضعه للناس حتى يحكّموا العدل بينهم ولا يطغون ...

بلى. سبحات وجهه الكريم تتجلّى في آياته. أفلا تتجلّى في قلوب عباده ليعرفوه وليسكنوا إلى رحمته فلا يبتغوا عنه بدلا؟ ما أعظم خيبة من عاش على شاطئ رحمة الله ظامئا لأنّه لم يهتد إليها؟

هكذا تتواصل آيات سورة الرحمن مذكّرة بهذا الاسم المبارك الذي لو انعكس

٢٧٥

نوره في أفئدتنا غمرها بالسكينة والأمل ، بالتطلع والتوكّل ، بالعطاء والكرامة.

لماذا اليأس وربّنا الرحمن؟

لماذا الانغلاق وخالقنا الرحمن؟

أفلم يجعل الأرض للأنام ، فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام ، فلما ذا التكذيب بآلاء ربّنا والكفر بنعمه؟ (ومن التكذيب : تحريم الطيبات على أنفسنا بعد أن خلقها لنا ، ومن الكفر : القنوط من روحه ، والانطواء على أنفسنا يائسين).

خلق الله الإنسان هذا العالم الكبير ابتداء من صلصال كالفخّار (أو ليس بقادر على أن يبعثه مقاما محمودا ليكون أكرم من خلقه ، فلما ذا اليأس والتكذيب؟).

وخلق الجان من مارج من نار فبأيّ آلاء الربّ يكذّب الجن والإنس؟

ويبصّرنا السياق بتجلّيات رحمة الله في اختلاف الفصول بحساب دقيق ، وبحركة المياه عبر نظام قاهر يفصل بين الفرات والأجاج ، وإذا باللؤلؤ والمرجان يستخرجان منهما ، وأجرى فيهما السفن الكبيرة بتقدير حكيم ، فأنّى يكذّبون بآياته؟

وبعد أن يشير إلى أنّ الثقة ليست بنظام الخليقة لأنّها فانية ، بل بخالقها لأنّ وجهه الكريم باق لا يفنى ، يعود ويذكّرنا بأنّ خزائن رحمته لا تنفذ ، ومنها يسأل من في السموات والأرض فلنسأله أيضا. لماذا نكذّب ونخسر عطاءه؟

إنّ التكذيب بآيات الله ونعمائه ليس فقط خيبة أمل في الدنيا ، بل خسارة عظمي في الآخرة ، وهكذا تنذرنا الآيات من عاقبة التكذيب يوم الحساب العظيم فأنّى يمكن أن نهرب من حكومته؟ هب أنّنا نفذنا من أقطار السموات والأرض

٢٧٦

فهل ننفذ إلّا بسلطان منه؟ أفلا نحسب حساب شواظ النار والنحاس ، فهل نقدر على مقاومتها؟ فلما ذا إذا التكذيب بآلاء ربّنا الغني العزيز؟ فيوم تنشق السماء وتتحوّل حمراء كأنّها وردة أنى يمكن التكذيب بآلاء الرحمن؟

يومئذ لا داعي للسؤال عن المجرمين. أو ليسوا معروفين بسيماهم؟ فيؤخذ بالنواصي والأقدام ويلقى بهم في نار جهنّم التي كذّبوا بها (حينما كذّبوا بالحساب وكذّبوا بآلاء الله).

تعالوا نؤمن بربّنا المقتدر الجبّار ونخشاه حتى يرزقنا الجنّة ، فلمن خاف مقام ربّه جنتان ذواتا ظلال وارفة ، وعيون جارية ، وفواكه متنوّعة ، وأسرة موضونة عليها الحرير والإستبرق ... هنالك تجد قاصرات الطرف من الحور الطاهرات كأنّهن الياقوت والمرجان ، بلى. ذلك جزاء إحسانهم ، وأقل منهم بدرجة جنتان ملتفّة الأغصان ، تتفجّر فيهما عينان ، فيهما من أنواع الثمار ، كما فيهما الخيرات الحسان من النساء حور محفوظات في الخيام لم تصل إليهنّ يد إنس ولا جان .. هنالك يستريح الصالحون على رفرف خضر وعبقريّ حسان .. كلّ هذه النعم التي يبشّر بها القرآن لماذا التكذيب بها بعدم السعي إليها؟ (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ).

٢٧٧
٢٧٨

سورة الرّحمن

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠)

___________________

٥ [بحسبان] : يجريان بحساب معلوم مقدّر ، بلا زيادة ولا نقصان.

٦ [والنجم] : هو نبت الأرض الذي ليس له ساق ، وقيل :

أراد بالنجم نجم السماء ، فهو ينجم أي يظهر من الأفق.

١٠ [للأنام] : للنّاس.

٢٧٩

فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨)

___________________

١١ [الأكمام] : الأوعية والغلف ، وثمر النخل يكون في غلف ما لم ينشق.

١٤ [صلصال] : هو الطين اليابس ، الذي له صلصلة أي صوت.

[كالفخار] : الفخّار هو الطين الذي طبخ بالنار حتى صار خزفا.

١٥ [مارج] : اللهب الذي يتداخل بعضه في بعض.

٢٨٠