من هدى القرآن - ج ١٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-17-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

وقد تكون الجنتان الدانيتان هما في الدنيا معدّتان لمن خاف مقام ربه قبل دخول جنة الخلد ، وبذلك جاءت رواية عن الامام الصادق عليه السلام ، قال عنهما : «خضراوتان في الدنيا يأكل المؤمنون منها حتى تفرغ (يفرغون) من الحساب» (١).

[٦٣] ومما يحدد درجة العبد ابتداء من أعلى درجة في الجنة وانتهاء بأسفل درك في النار موقفه من آلاء ربه ، وذلك بمدى تصديقه أو تكذيبه بها ، ومدى انتفاعه منها ، ومدى حسن تصرفه فيها.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

ما هو مدى التكذيب بها ، فقد يكون مستوى التكذيب هو الكفر والجحود ، وقد يكون عدم استغلال النعمة كما ينبغي ، فهو الآخر نوع من التكذيب بالنعمة قد لا يقصده الإنسان ، ولكنه ينعكس على مستقبله في الآخرة ، وربما يؤدي أحدنا شكر نعمة دون اخرى ، فيودي شكر نعمة العلم ، ويقصر في نعمة المال ، أو بطبق آية من القرآن ويترك اخرى ، أو يعصي بعينه من خلال النظر الى ما حرم الله ، بينما لا يستمع الى الغيبة والنميمة ، فيكون قد ادى شكر نعمة الاذن دون نعمة العين.

[٦٤ ـ ٦٥] ويضع الوحي أمامنا صورا عن ذات النعم التي ذكرها فيما يتعلق بالجنتين الاوليتين للمقارنة بينهما ، لنختار الأفضل بينهما ونجعلهما هدفا نسعى نحو تحقيقه ، بأقصى ما يمكن من السعي.

(مُدْهامَّتانِ)

والدهمة سواد الليل ، وقولنا : ليل أدهم يعني شديد الظلام ، ويعبر بها عن

__________________

(١) تفسير نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٠٠

٣٦١

سواد الفرس (١) والخضرة الشديدة الغليظة المتواصلة لأنها تضرب الى السواد ، ويقرب الإمام الصادق عليه السلام صورتهما حين يقول : «يتّصل ما بين مكة والمدينة نخلا» (٢) وحينما نعقد مقارنة بين كلمة «مُدْهامَّتانِ» وما يقابلها في وصف الجنتين الاوليتين «ذَواتا أَفْنانٍ» نعرف ان الاوليتين خضراوتان أيضا ولكن أشجارها ذوات أغصان كأشجار الفاكهة ، ولعل أغلبها منها ، بينما الجنتان اللتان دونهما ليستا كذلك ، وهذه الأشجار إذا انضمت الى بعضها واتصلت تضرب الى الخضرة ، وتكون جميلة ذات السوق الطويلة ، ولكن جمال ذوات الأفنان وفوائدها أكثر ، ولعل أحد أبرز أسباب التفاضل بين النوعين من الجنان هو مدى الشكر آلاء الله أو التقصير فيها. جاء في الأثر عن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله (ع) قلت له : ان الناس يتعجبون منا إذا قلنا : يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة! فيقولون لنا : فيكونون مع أولياء الله في الجنة؟! فقال (ع) : يا علي ان الله يقول : «وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ» ما يكونون مع أولياء الله (٣) فاذا كنا نرغب في درجات الأولياء ، يجب أن نستجيب لنداء القرآن المتكرر :

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

قائلين كما قال المؤمنون من الجن ، وكما امر الرسول الأعظم (ص) : «لا ولا بشيء من آلاء ربنا نكذب» (٤).

[٦٦ ـ ٦٧] ويأخذنا القرآن الى داخل الجنتين ، ويقف بنا هذه المرة على مقربة من عينين تنبعان بالماء وحيث نقارن بينهما وبين العينين اللتين مر ذكرهما

__________________

(١) مفردات الراغب

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٠٠

(٣) المصدر

(٤) المصدر / ص ١٨٨

٣٦٢

نجدهما أقل منهما لأنهما لا تجريان.

(فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ)

جاء في المنجد : نضخ الماء اشتد فورانه من ينبوعه ، وعين نضاخة فوارة غزيرة (١) وفي تفسير الدرّ المنثور : اخرج عبد الحميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن البراء بن عازب قال : العينان اللتان تجريان خير من النضاختين ولفظ عبد قال : ما النضاختان بأفضل من اللتين تجريان (٢). وهذا لا يعني ان ليس في هاتين الجنتين أنهار تجري من تحتها ، ولكن الله يضيف الى أصحاب الجنتين الاوليتين سواقي وأنهارا تجري من العيون حيث لا توجد هذه الميزة في اللتين دونهما.

وهذا بالطبع لا يقلل من شأنهما أبدا ، ذلك ان مجرد النجاة من النار فوز عظيم. قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) (٣).

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

وهذه الآية يجب ان تكون لنا شعارا ، فأي نعمة من نعم ربنا التي لا تعد ولا تحصى ـ والتي هي آية على رحمانيته ـ يمكننا أن ننكرها ونكذب بها؟! ثم لماذا نكذب بآلاء الرحمن؟! وانه يكشف لنا عن غيب رحمته ، ويفتح لنا أبوابها ، ثم يدعونا بلطفه لكي لا تفوتنا ، بلى. قد تفوتنا الجنتان الأوليتان ولكن دعنا نتقيه ما استطعنا لندخل الجنتين الأخريين ، أو ليست هذه نعمة وآية تدلنا الى رحمته؟

__________________

(١) المنجد / مادة نضخ

(٢) تفسير الدر المنثور / ج ٦ ص ١٥٠

(٣) آل عمران / ١٨٥

٣٦٣

[٦٨ ـ ٦٩] ثم لننظر الى آياته ونعمه في الطبيعة من حولنا ، ولنستمع الى كتابه وهو يحدثنا عن جنتين هما دون الدرجات العلى ، ولكنهما مظهر لرحمته تفوقان خير الدنيا ونعيمها.

(فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ)

وقد اختلف المفسرون في تحديد العلاقة بين الثلاثة (الفاكهة والنخل والرمان) فقال بعضهم : ان الفاكهة اسم الجنس العام وما يليها تفريع وتخصيص ، واعتبر البعض الثلاثة أجناسا مختلفة ، وليس ثمر النخل أو الرمان من الفاكهة ، وقال آخرون : انه ذكر الجنس (الفاكهة) وأشار الى أفضلها وأحسنها (ثمر النخل ، والرمان) لقول الامام الصادق (ع) : «الفاكهة مائة وعشرون لونا سيدها الرمان» (١) ولقوله : «خمس من فواكه الجنة : (منها) الرمان والرطب» (٢). والذي يهمنا ان الله ضرب الثلاثة مثلا مما في الجنتين للإشارة لا للحصر. ومع ذلك تبقيان دون الأوليتين علوا وسعة ونعيما ، فهناك قال الله فيهما «مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ» ليس واحدة ، بل «زَوْجانِ». وهنا قال «فِيهِما فاكِهَةٌ» فقط ، وربما قصرت الكلمة عن استيعاب الجنس بكل مفرداته وأنواعه ، وهذه المفارقة تشبه الى حد بعيد قوله في سورة الواقعة يصف ما في جنات السابقين المقربين : (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) (٣) ، وقوله يصف جنات أصحاب اليمين الأقل منهم درجة : (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ* لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) (٤). فأولئك ما يتخيرون ويشتهون حتى ولو لم يكن موجودا قبل التخير والشهوة ، ودون ذلك هؤلاء ، ولا غرابة فربنا يقول وهو الصادق : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٠١

(٢) المصدر / ص ٢٠٠

(٣) الواقعة / ٢٠

(٤) الواقعة / ٣٢

٣٦٤

بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) (١).

ان الجنتين إذا نظرنا الى نعيمهما وان كانتا دون الأوليتين فهما حقا مظهر لاسم الرحمن ، انه غني أن يخلقنا ولكنه بلطفه وحكمته خلقنا ، ثم لم يدعنا هكذا انما فطرنا على الحق والمعرفة به ، فهدانا الى النجدين ، وعلمنا ، ثم أعطانا العقل ، وأمرنا بالطاعة له ، وفتح لنا باب التوبة حتى تبلغ النفس التراقي ، وهو قادر بعد الموت أن لا يبعثنا ، وان بعثنا عذبنا ، ولكنه خلق الجنة ليكرمنا لا بعملنا ، فنحن لا نستطيع أن نؤدي شكر نعمة واحدة من نعمه ، بل بفضله الذي لولاه ما دخل أحد الجنة حتى رسوله الأكرم (ص) وهو القائل : «والذي نفسي بيده ، ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله» قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : «ولا أنا إلّا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» وقد وضع يده على رأسه وطوّل بها صوته (٢).

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

وليس لنا امام هذه النعمة إلّا القول : «لا بشيء من آلاء ربنا نكذب».

[٧٠ ـ ٧١] ثم يقول وصفا لنعيم الجنتين :

(فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ)

فلما ذا خرج عن التثنية الى الجمع فلم يقل فيهما؟! هناك وجوه :

الأول : ان ذلك يدل على تعظيم شأن هاتين الجنتين بالرغم من انهما دون ما سبق الحديث عنه في وصف الجنتين الأوليتين.

__________________

(١) الحديد / ١٠

(٢) بح / ج ٧ ص ١١

٣٦٥

الثاني : ان الكلام متصل بالآلاء في الآية السابقة ، باعتبار الخيرات الحسان من الآلاء.

الثالث : ان الحديث هنا ليس فقط عن الجنتين الأخريين بل عن كل الجنان بما فيها الجنتان الاوليان. وهذا أقرب الى السياق ، بالذات حينما نقول بأن معنى الخيرات الحسان هن النساء المؤمنات باعتبارهن الأفضل والأجمل ، وهكذا قال الامام الصادق (ع) : «الخيرات الحسان من نساء أهل الدنيا ، وهن أجمل من الحور العين» (١) ، وبقوله : «هن صوالح المؤمنات العارفات» (٢).

وفي الخبر حدث الرسول (ص) عن نعيم الجنة ، ثم ذكر الحور العين فقالت أم سلمة : بأبي أنت وأمي يا رسول الله أما لنا فضل عليهن؟ قال : «بلى بصلاتكن وصيامكن وعبادتكن لله ، بمنزلة الظاهرة على الباطنة» (٣).

ومن معاني الآية ما قاله رسول الله (ص) : «يعني خيرات الأخلاق ، حسان الوجوه» (٤) وانما تسمى ذوات الأخلاق بالخيرات ، لأن صلاح المرأة يعود على زوجها وعلى المجتمع بالخير الكثير ، كما ان فسادها يؤدي الى شر كبير. وحينما يسأل النبي (ص) عن خير الخير وشر الشر يقول : «خير الخير المرأة إذا صلحت ، وشر الشر المرأة إذا فسدت».

وتتجلى هذه النعمة أكثر فأكثر في الجنة فقد جاء في الحديث المأثور عن النبي صلّى الله عليه وآله وهو الصادق المصدق يصف لنا جانبا من نعمة الخيرات الحسان في الجنة :

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٠١

(٢) المصدر

(٣) بح / ج ٨ ص ٢١٣

(٤) المصدر

٣٦٦

وان في الجنة لنهرا حافّتاه الجواري قال : فيوحي إليهن الرب تبارك وتعالى : اسمعن عبادي تمجيدي وتسبيحي وتحميدي ، فيرفعن أصواتهن بألحان وترجيع لم يسمع الخلائق مثلها قط ، فتطرب أهل الجنة ، وانه لتشرف على ولي الله المرأة ليست من نسائه من السجف فملأت قصوره ومنازله ضوءا ونورا ، فيظن ولي الله أنّ ربه أشرف عليه ، أو ملك من ملائكته ، فيرفع رأسه فاذا هو بزوجة قد كادت يذهب نورها نور عينيه ، قال : فتناديه : قد آن لنا أن تكون لنا منك دولة ، قال : فيقول لها : ومن أنت؟ قال : فتقول : أنا ممن ذكر الله في القرآن : «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ» فيجامعها في قوة مائة شاب ويعانقها سبعين سنة من أعمار الأولين ، وما يدري أينظر الى وجهها أم الى خلفها أم الى ساقها؟! فما من شيء ينظر اليه منها إلّا رأى وجهه من ذلك المكان من شدة نورها وصفائها ، ثم تشرف عليه أخرى أحسن وجها وأطيب ريحا من الأولى ، فتناديه فتقول : قد آن لنا أن يكون لنا منك دولة ، قال : فيقول لها ومن أنت؟ فتقول : أنا من ذكر الله في القرآن : «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ»

قال : وما من أحد يدخل الجنة إلّا كان له من الأزواج خمسمائة حوراء ، مع كل حوراء سبعون غلاما وسبعون جارية كأنهن اللؤلؤ المنثور ، كأنهن اللؤلؤ المكنون (١).

هذا نزر قليل من آلاء الله ورحمته ، التي تنتظرنا لو آمنا وخفنا مقامه تعالى فلم نعصه ونتجاوز حدوده.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

أيها الانس والجن.

__________________

(١) بح / ج ٨ ص ٢١٤

٣٦٧

[٧٢ ـ ٧٥] انهن يقلن ـ الحور ـ : «نحن الخالدات فلا نموت ، ونحن الناعمات فلا نيأس ، أزواج رجال كرام» (١) ، لو أشرفت إحداهن على أهل الدنيا لماتوا رغبة فيها.

(حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ)

قال علي بن إبراهيم : يقصر الطرف عنها ، وتابعه صاحب المجمع ، وقيل : قصر طرفهن على أزواجهن فهو شبه بقوله «قاصِراتُ الطَّرْفِ» واستلطف الفخر الرازي التعبير فقال : ان المؤمن في الجنة لا يحتاج الى التحرك لشيء ، وانما الأشياء تتحرك اليه ، فالمأكول والمشروب يصل اليه من غير حركة منه ، ويطاف عليهم ما يشتهون ، فالحور يكنّ في بيوت ، وعند الانتقال الى المؤمنين في وقت إرادتهم ، تسير بهم للارتحال الى المؤمنين خيام ، وللمؤمنين قصور تنزل الحور من الخيام الى القصور (٢) فهن يقصرن.

وفي حديث الامام الصادق (ع) يشير الى هذا المعنى قال : «الحور هي البيض المضمومات ، المخدرات في خيام الدرّ والياقوت والمرجان ، لكل خيمة أربعة أبواب ، على كل باب سبعون كاعبا (الجارية حين يبدو ثديها) حجابا لهن ، ويأتيهن في كل يوم كرامة من الله عز ذكره ، يبشر الله عزّ وجلّ بهن المؤمنين» (٣) وقال النبي (ص) : «الخيمة درة واحدة طولها في السماء ستون ميلا» (٤) فهن ملكات الجنة وحولهن الوصائف.

وهذا مما يعد الله الخائفين مقامه ، ولا ريب أن الوعد الالهي يلتقي بعمق وشمول

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٠٢

(٢) التفسير الكبير / ج ٢٩ ص ١٣٥

(٣) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٠٢

(٤) المصدر

٣٦٨

مع تطلعات الإنسان ، وان الجنة هي الصورة الفضلى التي يصيغها الإنسان بعمله في الدنيا ، وان المؤمن لا يتطلع الى أي زوجة ، وانما يبحث في شريكة حياته عن صفات معينة ، وأهمها العفة والطهر ، لأنهما عنوان الاسرة الصالحة ، وما هي قيمة العيش مع شريكة يمتد طرفها ، وتبيع طهرها ونفسها الى كل من هب ودبّ؟! أم كيف تكون الأسرة مصنعا للأجيال الفاضلة ، وتأخذ موقعها ودورها في بناء المجتمع إذا كانت الأم لا تعرف العفاف؟!

ان وعد الله للمؤمنين ان ينعم عليهم بالحور الباكرات ، ليس فقط إرضاء للتطلعات الجنسية عند الإنسان ، بل وقبل ذلك يحقق تطلعاته المعنوية إذ ان الفتاة العذراء أشد حبا لزوجها وإخلاصا من المرأة التي أعطت بكارتها لغيره.

وكلمة أخيرة : لعلنا نستفيد من ذكر القرآن لصفات الحور هنا وهي الأخلاق الطيبة «خيرات» ، والجمال «حسان» ، والعفة والطهر (مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) * و(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) ، ان هذه الصفات هي غاية ما ينبغي للمؤمن التطلع إليها في زوجته ، لتكون حياته معها سعيدة فاضلة.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ* لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ)

نعم .. هذا وعد الله ، وان المؤمن لتواجهه مختلف الضغوط باتجاه الانحراف عن الحق ، استجابة لشهواته ، وربما لعبت شهوة البطن ، والجنس ، وحب الراحة دورا في تخلفه عن مقام الخائفين من مقام ربهم ، ولكنه إذا ما تذكر الآخرة وما وعد الله المطيعين له الخائفين منه من النعيم ، فسوف يقاوم الضغوط ويميت فيه الشهوة الحرام ، ويستجيب لنداء ربه :

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

٣٦٩

يقول : لا بشيء من آلائك رب أكذب ، ويعمل على تحقيق ذلك في حياته ، ثم لما ذا يكذب بها وهو يعلم ان ذلك النعيم لا ينال إلّا بالتصديق؟!

[٧٦] لان المؤمن يشتري راحة الآخرة بتعب الدنيا لعلمه بان الذي يتخلف عن الحق هنا للراحة لا يجدها في الآخرة ، أما المؤمنون وقد رهنوا أنفسهم للحق ، وأجهدوها من أجله فإنهم يجلسون في غاية الراحة.

(مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ)

جاء في المنجد : الرف : ما تهدل من الشجر والنبات ، وكل ما فضل فثني ، والرقيق من ثياب الديباج ، وهي خرقة تحاط في أسفل الفسطاط (والخيمة) والعرب تقول : ضربت الريح رفرف الفسطاط أي ذيله ، وهو ما تدلى من الدرع ، ورفرف الدرع زرد يشد بالبيضة يطرحه الرجل على ظهره (١) وقالت العرب لكل ثوب عريض رفرف ، والذي يجمع هذه المسميات انها ترف بفعل الريح أو الحركة ، ولعل الرفرف المعني في الآية هي الوسائد والمساند المصنوعة من الديباج ، والغير محشوة كثيرا ، فهي ترف كلما اتكأ عليها ، بل الحرير يرف لرقته ونعومته كلما حرك أو ضربته الريح ، أما العبقري فهي : البسط الموشاة بالحرير ، وتقول العرب للثياب الحرير المصنوعة بدقة وإبداع عبقريات ، مبالغة في حسنها ، ويقال للإنسان : عبقري إذا تفتق عقله ، وتفجرت مواهبه بما هو فوق المألوف ، وربنا لم يقل : «عَبْقَرِيٍّ» وحسب بل أضاف إليها صفة «حِسانٍ» مبالغة في حسنها ، كما وصف الرفرف باللون الأخضر لأنه أجمل ما يمكن أن تكون عليه الوسائد لونا.

[٧٧] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

__________________

(١) المنجد مادة (رف) بتصرف

٣٧٠

وان نعم الله التي تحيط بالإنسان والخليقة في الدنيا ، ونعيمه الذي ينتظر المؤمنين به في الآخرة ، لدليل على أنه الرحمن.

[٧٨] (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ)

وتبارك من الأسماء الاربعة الرئيسية لله وهي «سبحان ، تعالى ، وتبارك ، والله» ، وقال العلامة المجلسي (ر ض) : واما تبارك فهو من البركة ، وهو عزّ وجلّ ذو بركة ، وهو فاعل البركة وخالقها وجاعلها في خلقه ، وتبارك وتعالى عن الولد والصاحبة والشريك وعما يقول الظالمون علوا كبيرا (١) ولعله الاسم الذي يتصل بجانب الفعل الإلهي في الخلق ، فهو مستمر ومتكامل ويزداد بركة ، فهو إذا قريب من اسم (الرحمن) ولعلنا نستطيع القول بأن السورة ابتدأت بالجانب المعنوي لتبارك (الرحمن) وانتهت بالجانب الظاهر منه (تبارك).

كما يبدو ان (الرحمن ، وذو الجلال والإكرام) من الأسماء الفرعية لتبارك ، ومظهر له ، وحينما نجاور الآية ٢٧ «وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ» بهذه الآية ، نهتدي الى حقيقتين :

الاولى : ان وجه الله هي أسماؤه ، كالرحمن ، والباقي ، وذو الجلال والإكرام.

الثانية : ان أسماء الله منزهة كما ذاته تعالى. فهناك قال «ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ» يعني وجه الرب ، وهنا قال «ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ» يعني ذات الرب ، ولكن تنزيه الأسماء ليس ذاتيا انما هو بالله ، كما لا نعني بذلك أن أسماء الله هي ذاته .. كلا .. فقد قال الامام أبو عبد الله (ع) : الله غاية من غيّاه ،

__________________

(١) بح / ج ٤ ص ٢٠٨

٣٧١

فالمغيّا غير الغاية ، وتوحد بالربوبية ، ووصف نفسه بغير محدودية ، فالذاكر الله غير الله ، والله غير أسمائه ، وكل شيء وقع عليه اسم شيء سواه فهو مخلوق ، ألا ترى قوله : (الْعِزَّةَ لِلَّهِ) ، العظمة لله ، وقال : «وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» وقال : «قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» فالأسماء مضافة اليه. وهو التوحيد الخالص (١).

والجلال اسم يحتوي على كل معاني العظمة والكبرياء ، بينما الإكرام يدل على كل معاني الجمال ، فهو رحيم ، حنان ، غفور ، منان ، عطوف ، عالم ، قادر ، وأسماء الرب أساسا تنقسم الى نوعين : الأول : تبين انه منزه عن النقص ، والثاني : تبين جوانب الكمال.

وكلمة أخيرة : هناك علاقة بين سورة الرحمن التي تحدثنا عن ثلاث فئات من الناس (المجرمين أصحاب الجنتين الأوليين ـ وأصحاب الجنتين التاليتين) وبين سورة الواقعة التي تحدثنا أيضا عن ثلاث فئات هي (السابقون ـ (أَصْحابُ الْيَمِينِ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) ، وبالتدبر نكتشف أن المجرمين هم أصحاب المشئمة ، والسابقون هم أصحاب الجنتين الأوليين ، وأصحاب اليمين هم أصحاب الأخريين.

__________________

(١) المصدر / ص ١٦٠

٣٧٢

سورة الواقعة

٣٧٣
٣٧٤

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

١ / عن الإمام أبي جعفر (ع) : «من اشتاق إلى الجنة وصفتها فليقرأ الواقعة ، ومن أحبّ أن ينظر إلى النّار فليقرأ سورة لقمان» (نور الثقلين ج ٥ ص ٢٠٣)

٢ / وعنه عليه السلام : «من قرأ الواقعة كلّ ليلة قبل أن ينام لقى الله عزّ وجلّ ووجهه كالقمر ليلة البدر» (البرهان ج ٤ ص ٢٧٣)

٣ / ذكر القرطبي في فضل السورة نقلا عن أبي عمر ابن عبد البر في «التمهيد» و «التعليق» والثعلبي أيضا : أنّ عثمان دخل على ابن مسعود يعوده في مرضه الذي مات فيه فقال : ما تشكي؟ قال : ذنوبي. قال : فما تشتهي؟ قال : رحمة ربّي. قال : أفلا ندعو لك طبيبا؟ قال : الطبيب أمرضني ، قال : أفلا نأمر لك بعطائك؟ قال : لا حاجة لي فيه ، حبسته عني في حياتي ، وتدفعه لي عند مماتي؟! قال : يكون لبناتك من بعدك؟ قال : أتخشى على بناتي الفاقة من بعدي؟ انّى أمرتهنّ أن يقرأن سورة الواقعة كلّ ليلة ، فانّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : «من قرأ سورة الواقعة كلّ ليلة لم تصبه فاقة».

٣٧٥
٣٧٦

الإطار العام

إنّ فلاح الإنسان في الحياة ينطلق من وعيه بحقائقها ومعايشتها ، وأخذها بعين الإعتبار عمليّا بأخلاقه وسعيه ، ومع أنّه مطالب بوعي مختلف الحقائق ، إلّا أنّ الأمر يكون أشدّ ضرورة وأهمية بالنسبة للحقائق الكبرى ذات الأثر الحاسم في حياته ومصيره. (والواقعة) هذه السورة المكّية التي نستقبل آياتها تذكرنا بواحدة من أعظم الحقائق وأخطرها بالنسبة للإنسان وهي الساعة التي إذا وقعت تطبع آثارها على كل ذرة في الدنيا ، فالأرض والجبال تستحيل هباء منبثا ، وتنطوي صفحة هذه الحياة التي خلقت لابن آدم ، لتفتح صفحات الحياة الآخرة في فصول أوّلها هلاك هذا الوجود بما فيه من البشر ، وآخرها الجزاء الذي يمتازون فيه ، وبينهما البعث والحساب.

فبقدر حضور الواقعة في وعي الإنسان ومعايشتها عمليا تكون منزلته هناك ، فامّا مع السابقين من الأبرار في أعلى علّيّين ، وأمّا مع أصحاب الشؤم وللفجور في أسفل سافلين ، وأمّا بينهما حيث أصحاب الميمنة ، ولكن من أين له الوعي بالواقعة وهي

٣٧٧

جزء من الغيب الذي حجب عنه؟!

بلى. إنّها غيب كما الملائكة والجن والمستقبل ، ولكن تعالى الله أن يلزمنا الإيمان بحقيقة حاضرة أو غائبة إلّا والآيات الهادية إليها قائمة وكافية أن تكون حجة بالغة لمن ألقى السمع وأعمل النظر والفكر وهو شهيد. فما هي آيات الواقعة؟

أوّلا : وقبل كلّ شيء ليس هنالك دليل ولا آية تكذّب هذه الحقيقة «لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ» ، وهذه من طبيعة الحق أنّه لا دليل منطقي على خلافه ، والذي يكذّب به هو الذي يحتاج إلى تبرير موقفه.

ثانيا : إنّ الإنسان يبرر غالبا ريبه في هذه الواقعة بالشك في إمكانيتها ، لأنّه ينظر إلى هذه الحقيقة العظمى من خلال قدراته المحدودة فيكفر بها. أمّا إذا تفكّر فيها من خلال قدرة الله التي لا تحد ، وسننه الحكيمة التي لا تتبدل ، فإنّه سيراها (حق اليقين). والإيمان بإرادة الله يأتي من التفكّر في آيات قدرته المتجلّية في النفس وفي الآفاق ، فإن ذلك يهديه إلى عظمة ربّه وتنزيهه عن العجز ، والآيات (٥٧) تثير العقل البشري بالحقائق وتجعل الشهود جسرا إلى الغيب.

ثالثا : والقرآن الكريم هو الآية العظمى التي تهدي إلى كل حقيقة ، بشرط أن يكون الإنسان عند ما يتدبره ويأول آياته طاهرا من كل دنس مادي (خبثا وحدثا) ، ونفسي (صفات وعقدا) ، وعقلي (الأفكار الضالة) وذلك لتجاوز الحجب التي تمنعه من لمس معانيه وتأويلاته العميقة الحقة ، فإنّه يرى بالفطرة السليمة ، والعقل المتقد الحقيقة مكشوفا عنه غطاءها ، وبما أنّ مشكلة البشر ليست عقلية وحسب ، بل هي نفسية أيضا فقد يسّر الله هذه الحقيقة العظمى بالشواهد العقلية والوجدانية والواقعية ، بأسلوب أدبيّ بليغ ، ومنهج نفسي مؤثر تضمن الترغيب

٣٧٨

والترهيب ، بما يقود كله إلى التسليم لها ، تسليما واعيا وعميقا ، يحمل صاحبه على المعادلة بين الحاضر والمستقبل ، والسعي بجد وفاعلية للفوز في الآخرة ، فإذا به وقد وقعت الواقعة مستعد للقاء ربّه والفوز بالجنة مع المؤمنين السابقين ، أولا أقل مع أصحاب اليمين.

ولأنّ الموت هو الواقعة الصغرى لكلّ إنسان فرد ، والحق الذي يحدّد به مصيره ، يتعرّض له السياق في نهاية السورة كآية على الجزاء ، ومعبر إلى المصير والعلم اليقين بذلك الغيب الذي بكذّب به الضّالّون المكذّبون.

٣٧٩
٣٨٠