من هدى القرآن - ج ١٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-17-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ

___________________

٢٨ [سدر مخضود] : السدر شجر النبق ومخضود أي خضر شوكة فلا شوك فيه.

٢٩ [وطلح منضود] : قيل شجر الموز ، ومنضود قد نضد ورتّب ثمره بعضه فوق بعض ، والمنضود أيضا ما نضد بعضه على بعض نضد بالحمل من أوّله إلى آخره فليست له سوق بارزة فمن عروقه إلى أفنانه ثمر كله.

٣٥ [إنشاء] : بدون ولادة وبدون انتقال من حال إلى حال.

٣٧ [عربا] : أي متحنّنات على أزواجهن متحببات إليهم ، وقيل عاشقات لأزواجهنّ وقيل العروب اللعوب مع زوجها أنسا به كانس العرب بكلام العربي.

[أترابا] : جمع ترب ، وهو أي المثيل.

٤٠١

الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦)

___________________

٤٢ [سموم] اليحموم الأسود الشديد السواد باحتراق النار ، وهو يعقول من الحم وهو الشحم المسود باحتراق النار يقال حممت الرجل إذا سخمت وجهه بالفهم ، وقيل دخان أسود شديد السواد ، فالكافرون في نار ذات دخان لا يرون مكانا.

٤٦ [الحنث العظيم] : هو الشرك حيث لا يتوبون عنه.

٥٥ [الهيم] : هو الإبل العطشان الذي لا يروي من الماء لداء يصيبه.

٤٠٢

هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ

هدى من الآيات :

في هذا الدرس يحدّثنا ربّنا عن مصير الفريقين الآخرين (أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال) ، «وشمائل ضد اليمين ، يقال : فلان عندي بالشمال إذا خسّت منزلته ، وهو عندي باليمين أي بمنزلة حسنة» (١).

وأصحاب اليمين يدخلون الجنة إلى نعيم مقيم ، ولكنّه دون نعيم السابقين كثرة وتنوّعا وكيفا ، كما أنّهم دونهم في الإيمان والعلم في الدنيا ، وينتمي إلى هذا الفريق عامة المؤمنين والمسلمين من الناس ، الذين عنوان مسيرتهم الصلاح ، فهم وإن دخل بعضهم النار ، أو تأخّر في الحساب ، إلّا أنّه لا يلبث أن ينقلب إلى نعيمه وأهله مسرورا برحمة من الله ، وبسبب أعماله الصالحة ، أو شفاعة السابقين. وهم ثلّة في كلّ أمة وجيل ، ولا يطيل القرآن الحديث عنهم ، بل يختصره في أربعة عشرة

__________________

(١) المنجد / مادة شمل

٤٠٣

آية قصيرة ، ثم ينتقل بنا إلى بيان مصير أصحاب الشمال ، حيث أنواع العذاب المؤلم المهين (سموم الحميم ، وظلّ اليحموم ، وشجر الزقوم ، وشراب الحميم) ، وكلّ ذلك تذكره السورة في كلمات ترعب النفوس ، وبلاغة تنفذ إلى أعماق من يلقي السمع شهيدا ، بما يكفي زاجرا للإنسان وعلاجا للترف ، والإصرار على الضلال والتكذيب بالآخرة.

وحين يقسّم القرآن الناس إلى هذه الطوائف فلكي يكون التقسيم المشروع هو القائم على أساس الإيمان والعمل ، أمّا الأسس الأخرى فهي لا تصلح سببا لتفريق الناس مثل اللغة واللون والعنصر.

بينات من الآيات :

[٢٧ ـ ٣٠] ما هي صفات أصحاب اليمين ، وما هو جزاؤهم؟

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ)

الميمنة من اليمن أي النصيب الحسن ، وقد جعل الله إعطاء الكتاب للإنسان بيده اليمنى يوم القيامة دليلا على العاقبة الحسنى ، ولأنّ كاتب الحسنات على اليمين وكاتب السيئات على الشمال فإنّ أصحاب اليمين هم الذين زادت حسناتهم على السيئات ، والصحبة من التلازم والمقارنة ، فقد يكون هؤلاء ذوي الصلة المتينة بملائكة الحسنات لكثرة الصالحات عندهم ، فهم لا يبرحون يصلونهم بها بين الحين والآخر ، فيصحبهم أولئك الملائكة عند الحساب ، يبيّنون حسناتهم ، ويشفعون لهم عند الله. ومن كانت هذه صفته فإنّه يصير إلى منزلة عظيمة من الجزاء والرضوان عند الله.

(فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ)

٤٠٤

يعني منزوع الشوك ، ممّا يجعل قطف ثماره خال من الأذى والمشقّة ، والمخضود : مثني الأغصان من غير كسر (أيضا) إشارة إلى كثرة ثمارها وورقها اللذان يثقلان الغصن فيثنيانه ، والسدر : شجر النبق (الكنار) (١) ، وله فوائد جمّة منها : ثمره ، وظلّه ، ومنظره الجميل.

جاء في الحديث عن سليم بن عامر قال : كان أصحاب النبي (ص) يقولون : إنّه لينفعنا الأعراب ومسائلهم ، قال : أقبل أعرابي يوما فقال : يا رسول الله! لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية ، وما أرى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها؟ قال رسول الله : وما هي؟ قال : السدر فإنّ له شوكا مؤذيا؟ فقال (ص) : أو ليس يقول : «فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ»؟ خضد الله شوكة فجعل مكان كلّ شوكة ثمرة ، فإنّها تنبت ثمرا يفتق الثمر منها عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيه لون يشبه الآخر (٢) وقال سعيد بن جبير : ثمرها أعظم من التلال. (٣)

والحرف «فِي» يفيد الإحاطة والدوام ، فهم محاطون بما يذكر من النعم.

(وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ)

أي متسق منظّم مضموم بعضه إلى بعض ، وتنضّدت الأسنان تراصفت (٤) ، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال : «بعضه إلى بعض» (٥) وقال تعالى : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) (٦) متسق ، واختلف في الطلح على أقوال

__________________

(١) قال صاحب المنجد : الكنار النبق (بالعامية والفارسية)

(٢) القرطبي / ج ١٧ ص ٢٠٧

(٣) المصدر

(٤) المصدر مادة نضد

(٥) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢١٥

(٦) ق / ١٠

٤٠٥

أشهرها وأقربها أنّه الموز ، وهو من ألذّ الفواكه وأشهاها.

(وَظِلٍّ مَمْدُودٍ)

أي دائم متصل واسع ، وقال تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) (١).

وفي حديث آخر عن الرسول (ص) قال : «في ظل ممدود في مثل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس» (٢) وفي الخبر : إنّ في الجنة شجر يسير الراكب في ظلّها مائة سنة لا يقطعها. اقرءوا إن شئتم : «وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» (٣) وكان الظل يعني شيئا كثيرا في محيط الجزيرة العربية حيث يتعرّض الناس عادة لأشعة الشمس الحارقة.

[٣١ ـ ٣٣] ونعمة أخرى لأصحاب اليمين هي الماء (قوام الحياة) ، يشربونه ويتلذّذون بمنظره الرائع ، وهو ينحدر من عل منسكبا لا ينقطع.

(وَماءٍ مَسْكُوبٍ* وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ)

تنوّعا وعددا ، وهي لا تنفذ مهما بالغ المؤمنون في التفكّه بها ، كما أنّها ليست محدودة ثمرتها بموسم بل هي دانية قطوفها دائما ، ومن جانب آخر لا يمنعهم عنها ولا يمنعها عنهم مانع أبدا ، فهي مباحة شرعا ، نافعة أبدا ، لا شوك في أشجارها يمنعهم ، ولا ارتفاع يصعّب عليهم الانتفاع بها.

(لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ)

__________________

(١) الرعد / ٣٥

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢١٦

(٣) المصدر

٤٠٦

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يصف شجرة طوبى : «وأسفلها ثمار أهل الجنة وطعامهم متذلّل في بيوتهم ، يكون في القضيب منها مائة لون من الفاكهة ممّا رأيتم في دار الدنيا وممّا لم تروه ، وما سمعتم به وما لم تسمعوا مثلها ، وكلّما يجتنى منها شيء نبتت مكانها أخرى ، (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) (١).

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حاكيا حال أهل الجنة : والثمار دانية منهم وهو قوله عزّ وجلّ : «وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً» ، من قربها منهم يتناول المؤمن من النوع الذي يشتهيه من الثمار بفيه وهو متكئ ، وإنّ الأنواع من الفاكهة ليقلن لولي الله : يا وليّ الله!! كلني قبل أن تأكل هذا قبلي (٢).

وللمتدبّر أن يلاحظ مدى أثر الوعد بهذه النعم في مجتمع يحلم بالماء ويتقاتل عليه ، ويتنقّل عبر المفاوز الشاسعة بحثا عن الماء بل سعيا وراء السراب! كما لا يعرف الفاكهة التي لا تنبت في محيطه إلّا كبراؤه ، يجلبونها في تجارتهم وبكميّات قليلة محدودة ، أو يزرعون شجرها طمعا في بضع وحيدات منها! وهي مع قلّتها تقطعها الأسباب ، وتمنعها الموانع المختلفة عنهم ، فكيف بهم وهم يجدون أنفسهم أمام تلك النعم العظيمة الوافرة؟ إنّ العاقل منهم لا ريب يسعى لنيلها حينما تطمئن بها نفسه.

وهنا فكرة لطيفة تفسّر اهتمام القرآن بالتركيز على التذكير بجوانب من نعيم الآخرة ، والتفضيل فيه والتشويق إليه في كثير من المواضع ، وهي : إنّ ذلك يأتي لمقاومة كثير من الانحرافات المعنوية والعملية في حياة الإنسان ، والناتجة من

__________________

(١) المصدر

(٢) المصدر

٤٠٧

الاغترار بنعم الدنيا ، والخضوع لجاذبيتها ، فقد جاء في كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : «فمن اشتاق إلى الجنّة سلا عن الشهوات» (١).

[٣٤ ـ ٣٨] (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ)

افترش الشيء : وطئه ، وعرضه : استباحه بالوقيعة فيه ، وحقيقته : جعله لنفسه فراشا يطؤه (٢) ، فالكلمة فيها دلالتان : الأولى : الفراش الذي ينام عليه الإنسان ، والثانية : الزوجة التي يستبيحها ويطؤها ، وهذا من بلاغة القرآن أن يشير إلى نعمتين بكلمة. وقد ورد في النصوص الإسلامية استخدام للكلمة في المعنى الثاني. قال العلامة الطبرسي : ويقال لامرأة الرجل هي فراشه ، ومنه قول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) : «الولد للفراش ، وللعاهر الحجر» (٣) ، وقال الإمام الصادق (عليه السلام) يصف إناث الجنة : «نعم. ما يفترش منهنّ شيئا إلّا وجدها كذلك» (٤) (يعني باكرا).

و(مَرْفُوعَةٍ) يعني عالية المكان ، وهي أصلح في الفراش من الآخر الذي على الأرض ، كما تعني الكلمة ارتفاع الشأن حسنا وكمالا أيّا كان المقصود ظاهر الفرش أو الزوجة.

(إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً)

والإنشاء هو الإبداع والصناعة ، وقد خلق الله لكلّ مؤمن زوجات مخصوصات به ، وهذا من عناية الله ولطفه بالمؤمن ، وعلى هذا المعنى يكون المراد حور العين ، وقال البعض : إنّهنّ من نساء الدنيا أنشأناهن الله من جديد فتيات جميلات وأبكار ،

__________________

(١) قصار الحكم المعجم المفهرس لالفاظ نهج البلاغة ص ٧٠٤

(٢) المنجد مادة فرش

(٣) مجمع البيان / ج ٩ ص ٢١٩

(٤) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢١٧

٤٠٨

هكذا روي عن أمّ سلمة أنّها سألت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن الآية فقال لها : «يا أمّ سلمة هنّ اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطا عمشاء رمصا جعلهنّ الله بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الإستواء» (١).

وهكذا قيل حور العين للسابقين ، بينما العرب الأتراب لأصحاب اليمين.

(فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً)

وكلمة الجعل تشير إلى أنّ بكارتهنّ دائمة ، وهكذا جاء في الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : «كلّما أتاهنّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارا» فلمّا سمعت عائشة بذلك قالت : وأوجعاه! فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : «ليس هناك وجع» (٢) ومن صفة الحور عروبتها وانسجامها.

(عُرُباً أَتْراباً)

في تفسير علي بن إبراهيم : «لا يتكلّمون إلّا العربية» (٣) وهي لغة أهل الجنة ، والعروبة من النساء الضاحكة (٤) فهي تعرب وتفصح عن ثناياها حين الابتسام ، والبشاشة من جمال المرأة ، وقال الراغب الأصفهاني : وامرأة عروبة : معربة بحالها عن عفّتها ومحبّة زوجها (٥).

وقيل الغنج والدلال عن أمير المؤمنين (ع) في رواية هذا نصّها : قال عليه السلام

__________________

(١) القرطبي / ج ١٧ ص ٢١٠

(٢) جوامع الجامع في الموضع

(٣) تفسير القمي / ج ٢ في الموضع

(٤) المنجد / مادة عرب

(٥) مفردات الراغب مادة عرب

٤٠٩

يصف غرف الفردوس : «في كلّ غرفة سبعون خيمة ، في كلّ خيمة سبعون سريرا من ذهب ، قوائمها الدرّ والزبرجد (فهي مرفوعة إذا) موصولة بقضبان الزمرد ، على كلّ سرير أربعون فراشا ، غلظ كلّ فراش أربعون ذراعا ، على كلّ فراش زوجة من الحور العين عربا أترابا» فقال (أحد) : أخبرني يا أمير المؤمنين عن عروبة؟! قال : «هي الغنجة ، الرضية ، الشهية ، لها سبعون ألف وصيف وسبعون ألف وصيفة ، ضعف الحلي ، بيض الوجوه ، عليهنّ تيجان اللؤلؤ ، على رقابهنّ المناديل ، بأيديهنّ الأكوبة والأباريق» (١).

وفي الأتراب أقوال : فعن علي بن إبراهيم : يعني مستويات الأسنان ، وقيل أنّهن متماثلات ، يقول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) لأمّ سلمة : «جعلهنّ الله أترابا على ميلاد واحد في الإستواء» (٢).

وقيل وهو الأشهر والأظهر والأشمل : أنّهنّ ينسجمن مع أزواجهن من المؤمنين في ظاهر أجسامهن وفي خلقهن وسلوكهن ونفسيّاتهن.

وللام في «لِأَصْحابِ» وجهان : أحدهما : أنّها موصولة بما قبلها مباشرة فيكون المعنى المتقدّم (متاربتهنّ لهم) ، والآخر : أنّها موصولة بكلّ ما تقدّم فهو ملك (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) ومن أجلهم ، وهذا أظهر.

[٣٩ ـ ٤٠] أمّا عن نسبة هذا الفريق في البشرية وفي كلّ جيل من أجيال المسلمين فهي ثلّة (أكثر من القليل) لأنّ المنتمي إليه هم عامّة المؤمنين والمسلمين.

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ)

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢١٨

(٢) المصدر / ص ٢١٩

٤١٠

قال الإمام الصادق (عليه السلام)(يعني (الْأَوَّلِينَ)) : من الطبقة التي كانت مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، (ويعني (الْآخِرِينَ)) : «بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) من هذه الأمّة» (١) ، وهذه النظرة الواقعية المتوازية تنفي موقف المغالات في الأوّلين من المسلمين بأنهم كلّهم سابقون ، وأنّ الهداية تتحقق باتباع أيّ منهم ، على التفسير المطلق للحديث : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» ، فإنّ الجيل الأوّل وإن كانت الحضارة الإسلامية تأسست بجهودهم ، وسطّروا الملاحم والمجد ، إلّا أنّ بعضهم السابقون وأقلّ من ذلك أصحاب اليمين ، كما أنّ بعضهم المنافقون بصريح القرآن : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) (٢) ، وهي تنفي موقف اليأس من حال المسلمين اليوم ، كلّا .. فقد يصبح الواحد منّا من السابقين أولا أقل من أصحاب اليمين كما الجيل الأوّل سواء بسواء.

ذلك لأنّ الأمة الإسلامية كانت ولا تزال خير أمّة أخرجت للناس ، وفي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) : «إنّي لأرجو أن يكون من تبعني ربع الجنة» قال : فكبّرنا. ثم قال : «إنّي لأرجو أن يكونوا ثلث أهل الجنة» فكبّرنا ، ثم قال : «إنّي لأرجو أن يكونوا شطر أهل الجنة» ثم تلا (صلّى الله عليه وآله وسلم) «الآيتين» (٣). وفي الخصال للشيخ الصدوق (ر ض) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : «أهل الجنّة مأة وعشرون صفا ، هذه الأمّة منها ثمانون صفّا» (٤).

ويكفي بالثلّة هنا كثرة إذا اعتبرنا الأوّلين هم الأمم السابقة حسب بعض

__________________

(١) المصدر

(٢) التوبة / ١٠١

(٣) مجمع البيان / ج ٩ الموضع

(٤) الخصال / ج ٢ ص ٦٠١

٤١١

الروايات ، والآخرين هي أمّة الإسلام ، وقد عدلها الله بهم ، فقال : ثلّة من أولئك وثلّة منها.

[٤١ ـ ٤٢] ويبدأ السياق شوطا جديدا من الحديث يتمحور حول الفريق الثالث من الناس وهم أصحاب المشأمة والذين يتسلمون كتابهم بشمالهم أو من وراء ظهورهم ، والذكر الحكيم لا يكتفي بذكر مصيرهم البئيس وحسب ـ كما هو الحال بالنسبة للسابقين وأصحاب اليمين ـ بل يبيّن أهمّ الأسباب التي تصير بالبشر الى ذلك ، هداية لنا الى النجد الصحيح ، وإنذارا من التورط فيها.

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ)

والشمال كناية عن الشؤم (١) ، وهذا المعنى واضح إذا فسّرنا الكلمة هنا بالآية التاسعة ، فهذا الفريق هم المعنيّون بالمشأمة ، ومع أنّهم يعطون كتابهم بشمالهم (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) (٢) ، إلّا أن القرآن لا يسميهم بأصحاب اليسار ، لأنها مأخوذة من اليسر تفاؤلا كالمفازة للصحراء ، ذلك ان قوة الإنسان في يمينه ، ويستخدمها بيسر وسهولة ، بينما يواجه حرجا وعسرا في إعمال شماله ، فقيل يسار رجاء اليسر. ونستوحي من ذلك ان سيرة المتقين والمؤمنين هي المسيرة الطبيعية التي تنسجم مع واقع الإنسان والحياة ، وان مسيرة أهل النار هي الشذوذ عن مسيرة الخليقة. أو ليس كل شيء في العالم يسلم لله ويخضع لسننه ويسبح بحمده؟ وكيف لا يكونون كذلك (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (٣) ، بينما نجد هؤلاء يكفرون بالله ، ويشركون به ، وينكرون الحقائق الكبرى كالبعث ، ويخالفون سنن الله وأوامره.

__________________

(١) المنجد مادة شمل بتصرف

(٢) الحاقة / ٣٥

(٣) الإسراء / ٤٤

٤١٢

وإذا كان تجلّي الشمال واليمين والمشأمة والميمنة في يوم الدين هو إعطاء الكتاب بإحدى اليدين فان تجليهما في الواقع الاجتماعي والسياسي هو القيادة الصالحة بالنسبة لليمين ، والفاسدة بالنسبة للشمال ، وقد وردت بهذا التأويل روايات كثيرة من بينها : قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للإمام علي (عليه السلام) : «هم شيعتك» (١) يعني أصحاب اليمين ، وقول أبي عبد الله (عليه السلام) : «والكتاب الامام ، ومن أنكره كان من أصحاب الشمال الذين قال الله : الآيات» (٢) ، ومن هذه الاخبار وأمثالها استلهم علي بن إبراهيم (ر ض) تفسيره للآية : يعني من كان من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) (٣) ، ومثل الشمال : الجبارون والمشركون والكافرون والطواغيت ومن أريد هوانه وشقوته» (٤).

وهنا نجد السياق القرآني يختلف عما سبق ، فحين ذكر أصحاب اليمين من بعد السابقين لم يبين صفاتهم ، بينما هنا يذكر صفات أصحاب الشمال مما يثير التساؤل : لما ذا؟ ويبدو أنّ الاجابة تتوضّح إذا عرفنا أنّ الإنسان خلق أساسا ليكون من أصحاب الجنة. أو ليس خلقنا ليرحمنا؟ فدخول النار شذوذ عن هدف الخلقة لا بد ان نبحث عن سبب له ، وهكذا يبيّن القرآن عوامل دخول النار التي من تجنّبها تفضّل الله عليه بالجنة ، والأسلوب القرآني بديع في بيان موجبات النار حيث يجعل بيانها مسبوقا ببيان جانب من العذاب الشديد ، ثم يلحقه بإشارة الى ألوان اخرى منه أيضا ، وذلك لكي يخوفنا من مصيرهم ، فما هو مصيرهم؟ إنّهم :

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٢٩ نقلا عن روضة الكافي

(٢) المصدر / ص ٢٢١

(٣) تفسير القمي / ج ٢ ص ٣٥٠

(٤) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢١٤

٤١٣

(فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ)

والسموم الريح الحارة التي تدخل مسام الجسم ، ولعلّه في الآخرة نوع من النيران يعذب به أصحاب المشأمة ، قال تعالى : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (١).

ولعلّ اللفح بريح السموم يوم القيامة متولّدة من حركة السنة النار وتداخلها في بعضها (المرج) ، وهو يصيب (أَصْحابُ الشِّمالِ) بحره إضافة الى كونهم في جهنّم مباشرة تحيطهم من كلّ جانب وصوب.

أمّا الحميم فهو السائل الفائر المغلي الى درجة ، من حم الماء إذا وضعه على النار وسخّنه ، قال تعالى : (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) (٢) ، وقال : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) (٣) ، من شدّة حرارته. والحرف «فِي» يفيد الاحاطة الشاملة.

والذي يظهر من تعبير القرآن بفي أنّه يسقط الزمن من الحساب ، بالرغم من انّ ظاهر الآيات الذي يلاحظه المتدبّر ـ أنّها تنصرف الى المستقبل «يوم الدين» ، وقد أراد ربنا بذلك هدايتنا الى حقيقتين :

الاولى : انّ العذاب والثواب حقائق واقعية يعيشها الإنسان في الدنيا فور مبادرته الى عمل الخير والشر ، لان ذات السيئات والحسنات هي التي تصير نارا أو جنة في الآخرة ، بيد ان الناس محجوبون عن هذه الحقيقة الحق. قال تعالى : (كُلُّ أُمَّةٍ

__________________

(١) الحجر / ٢٧

(٢) الواقعة / ٥٤

(٣) محمد / ١٥

٤١٤

تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١) ، وقال : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢) ، «وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ» (٣).

الثانية : ان جزاء الإنسان ليس بعيدا عنه من الناحية الزمنية ، فالدنيا وان طال عمره فيها ـ الى المأة عام مثلا ـ لا تكاد تبين في ميزان الخلود الاخروي ، (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٤) ، ولكن أكثر الناس لا يستوعبون هذه الحقيقة ولا يدركونها بعمق الا في الآخرة (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) (٥) ، «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ» (٦).

[٤٣ ـ ٤٤] فلا يظنّ أصحاب الشمال ان العذاب بعيد عنهم ، فهم الآن وغدا محاطون به.

(وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ)

قال صاحب المنجد : الأسود من كلّ شيء (ويسمى بذلك) الدخان (٧) ، وقال علي بن إبراهيم : ظلمة شديدة الحر (٨) ، وهذا النوع يقابله الظل الممدود في جنان المؤمنين ، ولعلّه المشار اليه في قوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) (٩) ، وهو إن صحّ فاليحموم نار سوداء تجعلهم في ظلام حالك.

__________________

(١) الجاثية / ٢٨

(٢) الطور / ١٦

(٣) الزمر / ٢٤

(٤) الحج / ٤٧

(٥) طه / ١٠٤

(٦) الروم / ٥٥

(٧) راجع مادة حم

(٨) تفسير القمي / ج ٢ ص ٣٤٩

(٩) الزمر / ١٦

٤١٥

(لا بارِدٍ)

كظلال الجنة ، وظلّ الدنيا.

(وَلا كَرِيمٍ)

فهم يلقون من جهة عذابا للجسم بسبب الحرارة في ذلك الظل ، ومن جهة اخرى يتلقّون الاهانات والاذلال والخزي ، ويعيشون انعدام الكرامة على خلاف المؤمنين والسابقين الذين تتابع عليهم كرامات الله ونعمه ، ولا يسمعون ، «إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً».

وقيل : الكريم : العذب ، وقال بعضهم : حسن المنظر ، وقال آخرون : كل ما لا خير فيه فليس بكريم.

[٤٥ ـ ٤٨] وهذه الألوان من العذاب التي تحيط بأصحاب المشأمة في الآخرة ، لا شك انها تجليات لما قدموه في الدنيا ، وما كانوا عليه من الأعمال السيئة والأفكار الضالة ، ونتيجة لمنهجهم فيها ، فما هي العوامل التي جعلتهم من هذا الزوج المشؤوم لعلّنا نتعرف عليها ونتجنّبها؟

أولا : الترف. قال تعالى :

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ)

قالوا : ترف النبات كثر ماؤه ونضر ، وانما سمي صاحب النعمة بالمترف لأنه كثرت لديه النعمة وظهرت عليه نضارتها ، ولعلّه لا يسمى كل صاحب نعمة مترفا ، انما الذي جاوز الحد في الاهتمام بنفسه ، وجعل النعم هدفه الاساسي ، وقد توالت آيات الذكر في ذم هذا الفريق ، وبيان صفاتهم الذميمة التي أبرزها كفرهم بكل

٤١٦

رسالة جديدة.

قال الله : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (١) ، وإنّهم يجعلون النعمة قبلتهم فيتبعونها أنّى كانت ، وهي ـ بالطبع ـ تجرّهم إلى ألوان من الظلم والانحراف والجريمة ، كما قال تعالى : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) (٢) ، كما انهم يعتمدون اعتمادا كليّا على ما أترفوا فيه فلا يسعون لعمل الصالحات ، (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (٣) ، بل ويزداد المترفون ضلالا وذنوبا ، وبالتالي قربا من النار كلما ازدادت النعم عليهم ، قال تعالى : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٤) ، ولا يعلم هؤلاء بان اعتمادهم على المال والقوة وسائر صنوف النعمة كان خطأ إلّا في الآخرة ، حيث يغمرهم الندم ولا حيلة لهم يومئذ ولا هم ينصرون ، قال تعالى :

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ* وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ* يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ* ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ* هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) (٥) ، وفي صفة المترفين من أهل الدنيا قال الامام علي (عليه السلام) : «سلكت بهم الدنيا طريق العمى ، وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى ، فتاهوا في حيرتها ، وغرقوا في نعمتها ، واتخذوها ربّا ، فلعبت بهم ولعبوا بها ، ونسوا ما وراءها» (٦).

والسؤال : لماذا يقول ربنا «مُتْرَفِينَ» بصيغة المبني للمجهول ، كأنّما قد

__________________

(١) سبأ / ٣٤

(٢) هود / ١١٦

(٣) سبأ / ٣٥

(٤) آل عمران / ١٧٨

(٥) الحاقة / ٢٥ ـ ٢٩

(٦) نهج كتاب / ٣١ ص ٤٠١

٤١٧

جرهم الى الترف شخص آخر ، وإذا كان الأمر كذلك الأمر فلما ذا يعذبهم الله؟ والجواب : ان الله هو الذي ينعم على العبد ، ولكن الإنسان هو الذي يختار ان يجعلها وسيلة يتسابق بها الى الخير والفضيلة والرضوان ، أو يصيّرها سببا للتسافل والعذاب ، وبتعبير آخر : انه قادر ان يبتغي بالنعم ان شاء الدار الآخرة ، وان شاء الدنيا فيتبع هو بنفسه ما يترف فيه.

وكلمة أخيرة :

إنّ المفسّرين اختلفوا في معنى هذه الآية ، فقال بعضهم : المراد انّهم تنعّموا بالحرام ، وقال الآخرون : معنى المترفين المشركين ، بيد ان كلمة المترف قد أصبحت علما لفئة معينة من الناس ذكر القرآن الكريم صفاتهم وأعمالهم ، مما أخرج الكلمة عن وضعها اللغوي الى وضع جديد فلا نحتاج فيها الى تأويل.

ثانيا : الإصرار على الحنث.

(وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ)

الْحِنْثِ : هو الميل الى الباطل ، وفي اليمين : لم يف بموجبها (١) ، وهو من الذنوب الكبيرة ، لذلك فسر البعض الكلمة بأنّها الكبائر ، وقال آخرون منهم ابن عباس انّها اليمين الغموس ، وعليه كثير من المفسرين المتقدّمين والمتأخرين ، ولعلّ (الْحِنْثِ) هو مخالفة الميثاق عموما ، ولكن بما انّ أعظم ميثاق هو الذي قطعه الإنسان على نفسه امام الله في عالم الذر فان أبرز مصاديق الحنث العظيم هو الشرك ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (٢) ، وكيف لا يكون المشرك من أصحاب المشأمة وقد قال

__________________

(١) المنجد مادة حنث

(٢) النساء / ٤٨

٤١٨

الله : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (١) ، ولا ينحصر الشرك في قول النصارى : (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (٢) ، ولا في قولهم : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (٣) ، ولا في عبادة الأصنام والأوثان ، بل في التسليم لأيّ منهج أو قيادة باطلة ، فقد يكون الشرك سلوكا اجتماعيّا وقولا باطلا ، قال الله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ* حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) (٤).

والآية تبيّن لنا حجم الذنب الذي يمارسه فريق المشأمة بثلاثة حدود : الأوّل : هو الإصرار الذي يجعل الذنب الصغير كبيرا ، فكيف وهو واقع على ذنب كبير؟ والثاني : الحنث أي مخالفة ما تعهّد به الشخص ، وألزم نفسه باتباعه. ولا ريب ان مخالفته لا تنعكس على ضياع حقوق المجتمع ، بل على سحق كرامة المحنث نفسه ، حيث يسقط اعتباره وشخصيته فلا يعود أحد يثق به ، بل لا يعود يثق هو بنفسه ، ذلك انّ أساس الأخلاق احترام الإنسان لنفسه ، وثقته بكرامته ، فاذا فقد ذلك فلا يبقى لديه أي أساس للالتزام بالقيم ، والثالث : الشرك الذي هو أعظم الحنث ، وعموما كل حنث عظيم ، والذي يهتك أعظم عهد ويمين في حياته هل تبقى عنده حرمة واعتبارات لاي يمين وعهد آخر؟!

ثالثا : الجحود بالآخرة ، الذي كان يتناسب مع الترف الذي يحصر الإنسان في حدود الدنيا ، ومع الشرك الذي يبرر للنفس انحرافاتها وتبرّيها من المسؤولية ، وهم لا يكفرون بها وحسب بل ويسفّهون فكرتها وقيمها عند الآخرين بالتشكيك

__________________

(١) المائدة / ٧٢

(٢) المصدر / ٧٣

(٣) المصدر / ٧٢

(٤) الحج / ٣٠ ـ ٣١

٤١٩

فيها ..

(وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)

للحساب والجزاء ، وقولهم هذا يكشف عن شكّهم في قدرة الله ، وسعيهم لتشكيك الآخرين فيها ، بانّه تعالى لا يقدر على بعث الخلق ، وربنا يردّ هذه الشبهة في الآيات القادمة : ٥٧ ـ ٧٤.

وليس القول هنا مجرّد الكلام ، بل يشمل مجمل موافقهم وسلوكهم ، وكانوا يتساءلون تعميقا لشبهتهم : هل أنّ آباءنا الأولين الذين صاروا عظاما نخرة يبعثون؟!

(أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ)

وربما يستهدف تعرّضهم لذكر الآباء الأولين بالذات اثارة ثقافة التخلّف التي كانت تقدّس الآباء في أعينهم ، إثارتها في نفوس الناس لتكون حاجزا دون الايمان بالبعث ، ذلك انّ الرسالة كانت تخبرهم بأنّ الآباء سوف يبعثون من جديد ، ويحاكمون علنا ، ويلقون الجزاء العادل إن خيرا فخير وان شرا فشر .. وكان من الصعب على من يقدس آباءه انّى كانوا قبول فكرة محاكمتهم ومجازاتهم ، على أنّ بعث الاباء أبعد في ذهن السذّج من بعث من هم لا يزالون أحياء. والشيء الآخر أنّهم لا يرون حديثهم عن المستقبل كافيا لتدعيم فكرتهم ونظرتهم الشيئية المغرقة بواقع محسوس ، والآباء الأوّلون هم تراب وعظام بالفعل ، وهذا يتناسب مع ضلالهم وإضلالهم غيرهم عن فكرة الآخرة والتي هي جانب من الغيب المستقبل.

[٤٩ ـ ٥٠] ويرد ربنا على هذه الشبهة ردا موضوعيا صاعقا على لسان رسوله (ص) بالوحي :

٤٢٠