من هدى القرآن - ج ١٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-17-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

وكانت من أهداف رسالات الله كسر هذه الحدود الوهمية ، وبعث الإنسان نحو آفاق العلم واثارة تطلعاته الكامنة. هكذا يقول ربنا سبحانه عن رسالة النبي محمد (ص) ، (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) (١).

لقد كانت السيارة في ذلك العصر أمرا مستحيلا لا يداعب مجرد خيال الناس ، فاذا بالقرآن يأخذهم بعيدا جدا ليحدثهم بما يتضمن التشجيع على الوصول الى أقطار الأرض وآفاق السماء. وكم ينمى مثل هذا الحديث من الله المقتدر الثقة في الإنسان بنفسه ، ويوسع من حدود طموحاته حينما يسمعه مصدقا به مؤمنا بقوله.

لقد اختلف المفسرون وهم يبحثون عن مضمون الآية (٣٣) مع انها واضحة. لما ذا؟ لأنّ فكر الإنسان يتحدد بالجو العلمي المحيط ، فبعد أن اتصل فكر المسلمين بالفكر الاغريقي وبالذات في مجال الهيئة البطليموسية التي كانت تتصور السماء من الجواهر غير القابلة للرتق والفتق لذلك نجد بعض المفسرين طرح آراء بعيدة ، فقالوا بما انه يستحيل على الانس والجن أن يصعد الى الآفاق فان «إِنِ اسْتَطَعْتُمْ» في الآية ظاهر في التحدي ، أي إنكم لا تستطيعون أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض بينما الآية ظاهرة في خلاف ذلك حيث نقرأ في نهايتها «لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ» ، فهم ينفذون ولكن بسلطان. وهكذا القرآن لم تنعكس على آياته النظريات العلمية الشائعة في عهد نزوله ، ولو كان من صنع البشر لكان يستحيل أن يبقى معتصما عن آثارها عليه أليس الإنسان يكون أفكاره من الجو العلمي المحيط به؟ ألا ترى كيف ان تفاسير الناس للقرآن تأثرت بالأجواء العلمية لعصر كتابتها ، مع انها كانت تحوم حول الكتاب المتعالي عن النقص ، ولا نجد كتابا ألفه البشر عبر التاريخ إلا وكان مرآة للمستوى العلمي الذي بلغه الناس يومئذ إلا القرآن. أو

__________________

(١) الأعراف / ١٥٧

٣٢١

لا يهدينا ذلك الى انه كتاب ربنا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟

وهكذا القرآن لا يزال هو المقياس للحضارة ، وإذا عارض نظرية علمية ما فاننا لا ريب سنجد قوله هو الثابت ، واما تلك النظرية فتذهب هباء.

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا)

هكذا يستثير القرآن التطلع الكامن داخل نفس الإنسان نحو العلم والمعرفة والتقدم ، فهو يحدثه عن بساط الريح الذي كان لدى سليمان (ع) ، وكيف انه سخر الحياة من حوله (الجبال والجن والطير و..) وجعلها في خدمة الحضارة البشرية ، ليؤكد له بان الطريق سألك أمامه للوصول الى هذه القمة السامقة من التحضر. وبالطبع إنه لا يرسم خريطة عن المركبة الفضائية حينما يستثيرنا في هذه الآية عن إمكانية اختراق الفضاء ، ولم تتنزل فيه سورة تحدثنا عن لغة الطير لماذا؟ لأنه ليس كتابا تكنلوجيا وإن كان يشير الى بعض الحقائق إشارة مباشرة ، إنما هو كتاب حياة يستثيرنا نحو العلم ، ويعطينا الثقة بأنفسنا ، ويوجه عقولنا وقدراتنا في قنواتها الاستراتيجية الصحيحة ، أما التقدم العلمي أو تحول التطلعات والحقائق التي يبينها الى واقع فذلك من وظائف العقل البشري ، ولو فعل ذلك لكان يشكل سقفا للفكر وحدا للعقل وعقبة أمام التطور ، بينما المطلوب أن يكون منهجا للفكر ومحرضا للعقل وباعثا نحو التطور.

والقرآن هنا وهو يريد ان يستثيرنا نحو تطلع حضاري كبير ، هو اختراق الآفاق وتسخير رقعة أوسع في هذا الكون الرحيب الذي خلق من أجلنا ، في خدمة الحضارة البشرية ، فانه يدخل الى ذلك بكلمة عميقة تحتمل من الأفكار الحضارية الشيء الكثير إذ يخاطبنا «يا مَعْشَرَ» والمعشر هو من العشرة والتعاشر وهو التجمع الذي تربط

٣٢٢

ببعضه ووشائج محدّدة ، بل إن الكلمة تفيض بأوسع معاني التعاون الاجتماعي بين الإفراد ، وبذلك يضع القرآن فكرة هامة أمام أبصارنا وبصائرنا ، وهي ان المنجزات الحضارية الكبيرة كالنفاذ من الآفاق لا يمكن أن تنتقل من التطلع الى الواقع العلمي والعملي ، إلا بجهد جمعي تتعاون فيه القدرات ، وتتلاقح فيه الأفكار ، وتتكامل فيه المعارف ، وتتظافر فيه الإرادات ، ولم يكتف بذكر الانس وحدهم ، بل قال الجن والانس بينما القرآن قدم الانس على الجن حينما تحدث عن الخلق في الآية (١٤ ، ١٥) وهنا حدث العكس ، وذلك لأن السياق في تلك الآيتين يتناول الأفضلية فتقدم الإنسان لأنه الأفضل ، بينما الحديث في هذه الآية عن الأكثرية «يا مَعْشَرَ» لذلك تقدم الجن وهم الأكثر ، ويبدو ان سبب ذكر الجن في هذا السياق هو :

١ ـ إن القرآن رسالة كونية شاملة ، وهي موجهة للجن كما هي موجهة الى الانس ، فهما قد خلقا لهدف واحد هو العبادة (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١) كما خلقت النار لمن عصى منهما ، (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٢) كذلك نزل القرآن لهما معا. وهناك إشارات واضحة وظاهرة الى هذه الحقيقة قال تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً .. وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً .. وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) .. (٣) ونداء كوني كهذا الذي يوجه القرآن لا يليق إلا برب العزة ، وحتى الإنسان مهما بلغ من التطلع العالمي لا يجد طريقا لمخاطبة الجن ولعل البشر يتقدم يوما حتى يصل الى مستوى التعاون مع الجن كما حدث للنبي سليمان حسب القرآن : (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ

__________________

(١) الذاريات / ٥٦

(٢) السجدة / ١٣

(٣) راجع سورة الجن.

٣٢٣

تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) (١).

٢ ـ وأراد الوحي من ذلك أن ينسف إحدى النظريات الخاطئة التي تقف عقبة في طريق خوض الإنسان لعلم الفضاء واكتشافه كنوز الأرض ومساحاتها ، وهي ان الإنسان عاجز عن النفوذ من أقطار السماء وان ما بعد البحر والصحراء ليس إلّا بحار الظلمات وعوالم غريبة مخيفة لا سبيل للبشر إليها ، وان الجن وحدهم يستطيعون ذلك ، فجاءت هذه الآية لتعيد للإنسان الثقة بنفسه ، وتؤكد له قدرة متساوية لا أقل مع قدرات الجن بالرغم من ان الجن خلق من مارج من نار فهو بطبعه ـ حسب نظرة البشر ـ ضعيف قابل للنفاذ بينما الإنسان خلق من صلصال من طين فهو بطبعه ـ حسب رؤية البشر ـ ليس قابلا للنفاذ.

٣ ـ ولعل في الآية معنى حضاريا يستهدف إثارتنا والجن نحو التسابق الى تحقيق التطلع الحضاري الذي تطرحه الآية بالنفاذ في أقطار السماوات والأرض ثم ان الآية تقول إن استطعتم ولا تقول لو استطعتم لأنها للامتناع ، بينما إن للشرط ، وربنا يعبر عن هذا الشرط بالاستطاعة أي القدرة بتمام المعنى وشموله وهذا يشبه قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (٢) ولكن الاستطاعة في النفاذ من أقطار السماء والأرض لا تتحقق إلا بدراسة التحديات الموجودة في الطريق الى ذلك التطلع وتجاوزها واهمّها اثنان :

الأول : الأخطار المحتملة كالأجرام السماوية الحارقة وهذا ما سيأتي الحديث عنه عند الآية (٣٥).

الثاني : تحدي طبقات السماء والأرض ، وهو التحدي الأساسي والثابت ، فاذا

__________________

(١) النمل / ٢٧

(٢) آل عمران / ٩٧

٣٢٤

ما أراد الإنسان أن يصل الى كنوز الأرض عمقا فلا بد أن يتحدى وهو يقطع المسافة من السطح الى المعدن الطبقات المختلفة.

وهكذا إذا أراد اختراق الآفاق باتجاه القمر أو أي هدف آخر في السماء ، فانه سوف يواجه تحديات أكبر إذ لا بد أن يصل إليه بالعلم أولا من قبل وصوله المادي إليه فربما يتحطم كما حدث في التجارب الأولية للإنسان في هذا الحقل ، فهناك تحدي الجاذبيات ، والطبقات التي يختلف بعضها عن بعض ، حيث تنعدم الجاذبية في بعضها ، ويرتفع الضغط في أخرى ، وينعدم الأوكسجين في أكثرها ، بل يحتوي بعضها على غازات مضرة بالإنسان ، ولعل معنى النفاذ وهو لا يكون إلا من المانع يدل على هذه التحديات وقد كشف العلم الحديث ولا يزال عن جانب من تلك التحديات ، وخبراء المحطات الفضائية الآن لا يرسلون الأقمار والخبراء إلّا بعد الدراسات المفصلة لطبقات الجو ، لكي يختاروا المكان الأضعف والمناسب للنفاذ منه.

وإذا ما استطاع الانس والجن الانتصار على تلك التحديات فإنهم ينفذون من الأقطار حيث يقول ربنا سبحانه : «فانفذوا».

وهذا الفعل ليس فقط يفيد الإمكان ، بل ينطوي حسب الظاهر على الدعوة والتحريض الى النفاذ ، فهي كقوله سبحانه : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) ، وقوله : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا) ، وقوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) ، وهكذا ينبغي للإنسان أن يستفيد من قدراته في تسخير أكبر مساحة من هذه الكائنات التي خلقت من أجله ، فربما وجد بالاضافة الى المعرفة شفاء لكثير من أمراضه وحلا لمشاكله وأزماته في الآفاق.

هكذا يسعى الإسلام من أجل رفع الأغلال التي تضعها الفلسفات البشرية على

٣٢٥

النفس والعقل عن الإنسان لينطلق نحو تطلعاته وأهدافه الكبرى. ولكن الإسلام الى جانب ذلك لا يطلق الثقة هكذا بلا حد لكي لا تصبح تمنيات وأحلاما ، إنما يؤكد ان الثقة وحدها لا تصل بالإنسان الى طموحاته ، ولا تحقق أهدافه ، بلى. هي الوقود الدافع له من داخله ، وحتى ينطلق في الواقع العملي ، لا بد أن يحصل على سلطان ، وهو العلم الذي يتحول الى برنامج ، فقدرة فعلية.

(لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ)

اللام هنا ليست للنهي وإلّا جاء الفعل بعدها مجزوما بحذف النون ، إنما هي للنفي ، وهذا يعارض قول من قال ان ظاهر الآية هو التحدي. نعم ربنا يتحدى الجن والانس إذا حاولوا النفاذ من دون سلطان ، لان في الطبيعة قوانين وواقعيات ، والهيمنة عليها وتسخيرها ممكن ولكن بما هو فوق ذلك كله من السلطان.

إن الإنسان البسيط الذي يعيش على ساحل البحر ، ويأكل ويسترزق من صيده نهارا ثم يعود الى بيته ليلا كل يوم ، يطبق من القوانين والسنن الحياتية الشيء القليل ، أما الذي يعيش الحياة العلمية المعقدة ، كرائد الفضاء الذي يريد الصعود الى القمر ، أو الى كوكب آخر أرفع منه ، فانه لا ريب سيواجه عشرات الآلاف من القوانين ، فهو بحاجة الى معرفتها بدقة ليتسنى له القدرة على تسخيرها لأن أعظم وسيلة لتسلط الإنسان على الطبيعة هي العلم ، وقد أنعم الله علينا بذلك كما أودع الطبيعة حالة الاستجابة لنا.

ثم ان التكذيب بواحد من القوانين أو الحقائق الواقعية من قبلنا كفيل بأن يقطع الطريق علينا فلا نصل الى ما نريد.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

٣٢٦

إن من نعم الله علينا أن جعل نفاذنا من أقطار السماوات والأرض ممكنا ، وجعل في ذلك خيرا كثيرا للبشرية ، ولكننا قد نكذب بهذه النعمة إذا كفرنا بهذه المقدرة رأسا كما فعل آباؤنا أو حققنا ذلك ثم سخرناه في الأمور الضارة كالتكبر في الأرض ، أو إذا عصينا ربنا بدل شكره على هذه النعمة الكبرى ، وهو حينئذ سوف يعذبنا ولن نجد لنا وليا ولا نصيرا ، حيث تحببها نار بلا دخان شديدة اللهب ، عظيمة الحر.

(يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ)

ولعل الآية هذه تشير هنا إضافة الى الفكرة الآنفة الى حقيقة علمية ، وهي الأخطار التي تعترض طريق الإنسان في الفضاء ، وتمنعه من الوصول الى النقطة التي يريد كالقمر ، ومنها كما يصرح القرآن ويؤكده العلم الحديث الغازات المشتعلة ، والكتل المعدنية الملتهبة التي تسمى بالنيازك والشهب ، وهذه هي الأخرى بالاضافة الى القوانين والموانع الأخرى التي تمنع النفاذ ينبغي للإنسان أن يتسلط عليها ، فيقاومها وينتصر عليها أو يتجنبها ، فاذا كفرنا بهذه السنة وحاولنا النفاذ بلا سلطان اعترضتنا هذه العقبة ، كذلك حين يكفر الإنسان بواحدة من سنن الله في المجتمع والنفس فانه يكتوي بنار لاهبة. أجارنا الله من نقماته في الدنيا وعذابه في الآخرة.

٣٢٧

فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

___________________

٣٧ [كالدهان] : كالدهن ، أي عذاب سيّال كالدّهن ، أحمر كالنّار.

٤١ [بسيماهم] : أي بعلاماتهم ، وهي سواد الوجوه ، وزرقة العيون.

[النواصي] : الناصية شعر مقدّم الرأس ، وأصله الاتصال ، فالناصية متصلة بالرأس.

٤٤ [آن] : في شدّة الحرارة ، قد انتهى حرّه إلى آخر درجة ، والآنيّ الذي بلغ نهاية حرّه ، وقيل : الآنيّ الحاضر.

٣٢٨

(٤٥) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ

___________________

٤٨ [ذواتا أفنان] : الأفنان جمع فنن وهو الغصن الغضّ الورق ، ومنه قولهم : هذا فنّ آخر أي نوع آخر. ويجوز أن يكون جمع فنّ.

٥٤ [إستبرق] : ديباج ثخين وغليظ يسبّب الراحة.

[وجنا الجنّتين دان] : أي الذي يجنى منها وهو الثمر متهدّل على رؤوسهم يتمكّن القاعد والنائم أن يناله بسهولة.

٥٦ [قاصرات الطرف] : مقصورة أبصارهن على أزواجهنّ ، لا يردن غيرهم.

[لم يطمثهنّ] : أي لم يفتضهنّ أحد ، والافتضاض :

النكاح بالتسمية ، والمعنى لم يطأهن ولم يغشهن أحد ، وفي قول آخر : لم يمسّنّ لا بالجماع ولا بغير الجماع.

٣٢٩

وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

___________________

٦٤ [مدهامّتان] : من دهم بمعنى السواد ، أي أنّه الجنتين خضراوتان ، تضربان الى السواد من شدّة الخضرة ، فلا يبس لهما.

٦٦ [نضّاختان] : فوّارتان ، والنضّاخة : الفوّارة ، التي ترمي بالماء صعودا.

٧٢ [مقصورات] : محفوظات مخدّرات.

٣٣٠

(٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨))

___________________

٧٦ [رفرف خضر] : هي الفرس المرتفعة ، وقيل : الوسائد.

[وعبقري حسان] : كل ثوب موشّى يقال له عبقري ، ولعل الثوب الموشّى هو الثوب المطرز والمزخرف.

٣٣١

وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ

هدى من الآيات :

بعد ان يذكرنا القرآن بانشقاق السماء يوم القيامة ، ويعرض لنا في بضع آيات منه حال المجرمين وعذابهم (٣٥) (ربما لان الإسهاب في ذلك لا ينسجم مع سياق السورة التي تكشف لنا عن تجليات اسم الرحمن في الخليقة) بعدئذ يستعرض بشيء من التفصيل التجليات الأعظم لرحمة الله ، وذلك من خلال الحديث عن ثواب أهل الجنة والذي يقع في (٣٣) آية كريمة تمتد الى آخر السورة.

ان ربنا رحيم وآلاء رحمته ظاهرة في الدنيا والآخرة ، ولكن النظرة السلبية الناتجة من امراض النفس وعقدها ومن الفلسفات الضالة هي التي تعمينا عن هذه الحقيقة الجلية ، فاذا بنا ندس بناتنا في التراب خوف العيلة ، ونقتل أولادنا ونغل أيدينا عن العطاء ، ولا نوفي الكيل والميزان ، وانما نبخس الناس أشياءهم كل ذلك خشية الفقر ونأكل اموال اليتامى ظلما ، كل ذلك لاننا لا نطمئن الى رحمة الله الذي

٣٣٢

يبسط الرزق لمن يشاء ، والذي نعمه لا تعد ولا تحصى ، ويعلم الله كم تسبب هذه النظرة الموغلة في السلبية في العقد والانحرافات النفسية والاجتماعية عند الإنسان ، فهي التي تغل فاعلياته وتمنعه من السعي ، ولماذا يسعى وهو يائس من التوفيق والنجاح؟

بينما النظرة الايجابية الى أسماء الله ، بالتعرف عليها والايمان بها ، تملأ القلب أملا ورجاء وتبعث بالإنسان نحو السعي والنشاط ، وتفجر الطاقات الكامنة في شخصيته ، انه حينئذ ينفق ويضحي في سبيل الله ومن أجل مبادئه ، راضيا بما يفعل ، مطمئنا الى رحمة ربه ، وفي الخبر «من أيقن بالخلف جاد بالعطية» (١) وكيف يوقن أحد بالخلف فيعطي أو يقلع من ذنوبه واخطائه وهو لا يعرف ربه بالرحمة والغفران؟! لا ريب انه لن ينفق ولن يتوب.

ولذلك يسعى القرآن بمنهجيته الحكيمة التي يلمسها المتدبر في آياته مواجهة النظرة السلبية المقيتة ، وبث البصيرة الإيجابية في ردع البشر تجاه ربه وحيث تدعونا هذه السورة الى التعرف على اسم (الرحمن) ، وتذكرنا بمظاهر هذا الاسم في الخليقة ، والآيات الهادية اليه فانها تحذرنا من التكذيب بها ، بذكر جانب من عذاب المجرمين الذين صاروا الى الجريمة بسبب تكذيبهم كما ترغّبنا في التصديق بها ، من خلال التفصيل في بيان جزاء الذين عرفوا الرحمن حق معرفته ، وقدروه حقّ قدره فخافوا مقامه.

بينات من الآيات :

[٣٧ ـ ٣٨] يمكن للإنسان في الدنيا أن يكذب بآلاء ربه (نعمه وآياته) أو يتملص من تطبيق الحق ، ويبرر ذلك بمختلف الحجج الواهية ، لأن الله أمهله فيها

__________________

(١) بح / ج ٦ ص ١٣٣

٣٣٣

وسمح له أن يفعل ما يشاء ، أما في الآخرة حيث يخلص الحكم لله ، فلا يملك إلّا التسليم للحق ، قال تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً* الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) (١) فمنظر القيامة بما فيه من تحولات كونية هائلة يعري الإنسان من كل لبس في شخصيته الفقيرة المحتاجة.

ان السماء هذا السقف العظيم الذي يحفظ الناس ويظلهم تفقد تماسكها يوم القيامة ، ويتبدل لونها من الزرقة الى الحمرة تشبه في ذلك الوردة الحمراء ، (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) (٢) ثم تذوب وتسيل «يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ» (٣) حتى تضحى دهانا ، وهو ما يستخرج من الورد بعد غليه وعصره.

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ)

لعل سبب تشبيهها بالوردة لأنها ليست قطعة واحدة ، بل عدة قطع منشقة عن بعضها ، ذات صبغة حمراء ، يجمعها الأصل ، ولان السماء (السقف المرفوع) هي رمز الأمن والسلام ، فان انشقاقها يؤذن بالأخطار والخوف ، ولهذه الآية اتصال وثيق بالآية (٣٥) «يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ» ذلك ان الغلاف الجوي ـ أحد طبقات السماء ـ هو الذي يمنع عنا النيازك والغازات الحارقة ، ولو حدث ـ لا سمح الله ـ أن انشق فان الأرض ستكون عرضة لتلك الاخطار ، ويقول العلماء : لو فتحت ثغرة في الغلاف الواقي ـ لنفترض مثلا بمساحة كيلومتر مربع واحد ـ فان الأرض تحته لا تصلح للحياة أبدا .. لما تنهال عليها من خلال تلك الثغرة من اشعة ضارة أو نيازك حارقة مدمرة.

وهل لنا ان نفهم من هذه الحقيقة العلمية شيئا بسيطا عن طبيعة الحياة حينما

__________________

(١) الفرقان / ٢٥ ـ ٢٦

(٢) الحاقة / ١٦

(٣) المعارج / ٨

٣٣٤

تتفطر السماوات السبع وتستحيل لهبا ومهلا؟!

ان أحدا لا يملك يومئذ أن يكذب بهذه الآية من آيات الله ، والتي تظهر هيمنته ، وضرورة التسليم له ـ وهو لو شاء لجعلنا نصدق بآلائه وآياته بالقوة ـ وهو القائل : (طسم* تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ* إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) (١).

ولكن رحمته تأبى ذلك كما أنّ حكمته من خلقنا في الحياة الدنيا والتي صرّح بها بقوله : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٢) لا تتفق مع هذا النهج.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

[٣٩ ـ ٤٠] بلى. ان أحدا لن يجرأ حينها على التكذيب أبدا ، بل يخضع الجميع خضوعا مطلقا للحق (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ* خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ* مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٣) ولا يجرأ أحد حتى على الكلام ، إلّا بعد اذن سبق من الله (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (٤) فكيف يستطيع أحد ان يكذب ربه ذلك اليوم؟! بلى. قد يؤخر العذاب عنهم في الدنيا فيجدون فرصة للتكذيب ، والتبرير ، وإخفاء ذنوبهم. أما يوم القيامة فهو ـ سبحانه ـ محيط بهم من كل جانب.

__________________

(١) الشعراء / ١ ـ ٤

(٢) الملك / ٢

(٣) القمر / ٦ ـ ٨

(٤) هود / ١٠٥

٣٣٥

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ)

ويكفي بهذا رادعا لنا عن المعاصي ، والتكذيب بالنعم والآيات ، الذي هو من أكبر الذنوب.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

[٤١ ـ ٤٢] ان المحاكم في الدنيا تقام من أجل معرفة المجرم ، اما في الآخرة فهي تقام لغرض آخر ، وهو إثبات العدالة الإلهية اثباتا عمليّا للخلق ، فليس معنى «لا يُسْئَلُ» انهم لا يحاكمون البتّة ، لان الله يقول : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (١) وقال : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ* وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٢).

عن الذنوب هل هي من قبلهم أم لا .. فهم معروفون عند الله. ولكن هذا الايقاف ليس لسؤالهم وانما السؤال للتبكيت والتقريع. إذا لا ينبغي أن نختفي وراء جدر التبرير والأعذار لاننا لن نجد مجالا يومئذ لبيانها حتى تقبل أو ترد.

وقيل : ان فريقا من المجرمين وهم أئمة الاجرام والكفر والموغلين في الانحراف لا يسألون حتى مجرد السؤال وانما يؤمر بهم الى جهنم مباشرة حيث العذاب ، ولا يعطون فرصة لسؤالهم إمعانا في تحقيرهم وإهانتهم وعذابهم ، قال رسول الله (ص) : «ان الله عزّ وجلّ يحاسب كل خلق إلّا من أشرك بالله عزّ وجلّ فانه لا يحاسب ، ويؤمر به الى النار» (٣) وقال : «ستة يدخلون النار بغير حساب منهم الأمراء

__________________

(١) الانعام / ٣٠

(٢) الصافات / ٣٢ ـ ٣٤

(٣) بح / ج ٧ ص ٢٦٠

٣٣٦

بالجور» (١) وقال الصادق (ع) : «ثلاثة يدخلهم الله النار بغير حساب ، امام جائر ، وتاجر كذوب ، وشيخ زان» (٢).

والسؤال كيف يعرف المجرمون يوم القيامة؟! ان الله يعرفهم بعلمه الذي أحاط بكل شيء ، ومن خلال كتب أعمالهم ، ثم ان يوم القيامة هو التجلي الأعظم للحقائق ، فالذي يأكل أموال اليتيم بالباطل انما يأكل في بطنه نارا وهذه الحقيقة تتجلى يومئذ لكل الناس ، حيث يشاهده العالمون والنار تشتعل في بطنه اشتعالا.

كما ان الذي يمارس الجريمة ـ أيّة جريمة ـ فانها تترك أثرا على شخصيته ، بيد ان الحقيقة خافية على الناس في الدنيا ، أما في الآخرة حيث تبلى السرائر فانها تظهر على الملاء لا تخفى منه خافية ، فإذا به يأتي مسودا وجهه كقطعة من ليل دامس الظلام ، وفي المقابل ترى المؤمنين والمؤمنات مبيضة وجوههم (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) (٣) (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٤) هذه عاقبة الكفر. وقد ثبت علميا ان الجريمة تترك أثرها على فاعلها ، كالارتباك ، والتلعثم في الكلام أثناء الاستجواب مما يعكس حالة نفسية معينة تخلقها الجريمة عنده ، ولعل العلم إذا تطور وتقدم يلحظ اثارا مادية على شخصية الإنسان كألوان لا تلحظ بالعين المجردة تعلو الوجه ..

__________________

(١) ميزان الحكمة / ج ٢ ص ٤١٩ عن كنز العمال ح (٤٤٠٣٠)

(٢) بح / ج ٧٥ ص ٣٣٧

(٣) الحديد / ١٢.

(٤) آل عمران / ١٠٦

٣٣٧

ان ذلك حقيقة واقعية في الدنيا والآخرة ، ولكن الفرق بينهما اننا في الدنيا محجوبون عن رؤية تلك الآثار بوضوح كاف ، أمّا في الآخرة فيكشف عنا الغطاء فاذا ببصرنا حديد ، وحتى في الدنيا لو تطور علمنا باتجاه اليقين لتكشف لنا الكثير من الحقائق المغيبة.

(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ)

ويجرون الى النار حيث يعذبهم ملائكة شداد غلاظ والناصية هي مقدمة الرأس ، وهذا العذاب جزاء تكذيبهم بالحقائق الربانية والآيات الدالة عليها ومن بينها النار ، فلم يحتسبوا انهم مواقعوها فيستعدوا ، ويعملوا للخلاص من حرّها ، فوقعوا فيها ، وربنا يحذرنا من التكذيب بها.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

[٤٣ ـ ٤٥] والآيات السابقة تشير الى امكانية تعاون الجن والانس في المعصية والتكذيب ، وهذا امر واقعي ، لأن أبالسة الجن من المكذبين بالله هم الذين يوسوسون في صدور الناس ، ويثيرون في البشر عوامل المعصية والانحراف ، لذلك أمرنا الله بالاستعاذة (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (١) ، بل قد يصل التعاضد بينهما على التكذيب الى الحد المادي ، قال تعالى حاكيا عن الجن : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً* وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً* وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) (٢) والشعوذة والسحر القائمان على التكذيب بالله وبآياته هما من ور التعاون بين الاثنين.

__________________

(١) الناس / ٤ ـ ٥

(٢) الجن / ٥ ـ ٧

٣٣٨

ولكن مهما كذب الفريقان بالحقائق الواقعية كالنار وتعاونا على ذلك ، فانها لن تتبدل ولن تنتفي أبدا ، فالنار موجودة وان كذبنا بها ، كما ان تكذيب بعض السوفسطائيين بواقعية الخلق لا يحيله خيالا ، بل ان التكذيب بالنار يجعلها أقرب وأشد على المكذب بها ، ويوم القيامة يؤتى بالمجرمين مأخوذين من نواصيهم وأقدامهم الى جهنم ، ويقال لهم :

(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ)

فيرونها عين اليقين ، ويصدقون بها بعد طول تكذيب ، ولكن ماذا ينفعهم الاعتراف حينئذ ، بلى. إذا عرف الإنسان بالخطر قبل وقوعه فيه ، وكانت ثمة فرصة يستغلها للنجاة ينفعه علمه. بيد ان هؤلاء كذبوا فعلا بآيات الله الدالة الى هذا الحق ، فصاروا من حطب جهنم ووقودها ، فتراهم ينتقلون بين النار والحميم.

(يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ)

أي بالغ الحدة : حرارة وغليانا ، ومنه آنت الثمرة : إذا نضجت وأينعت ، والمجرمون في طواف دائم ، تسوقهم الملائكة بين جهنم النيران (أشدها حرارة) وبين السوائل المغلية الى درجات عالية من الحرارة ، وان المجرم يحترق بالنار ، ويفقد سوائل جسمه ، فيسعى لشرب الماء فيجده حميما ، وهذا هو حال النعمة حينما يفرط فيها الإنسان ، فيكذب بها ، وينسبها الى غيره شركا ، أو يستخدمها في المعصية ولا يؤدي حق شكرها ، وحريّ بنا أن نصدق بآلاء الرحمن ، ونؤدي واجبنا تجاهها. انها رحمة من الله فأما أن نصيّرها نقمة أو نجعلها رحمة أكبر وأوسع ، تنمو في الدنيا ونتلقاها أضعافا مضاعفة في الآخرة.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

٣٣٩

[٤٦ ـ ٤٧] وينتهي السياق يحدثنا عن جزاء أولئك الذين عرفوا ربهم حق معرفته ، عرفوه بأنه الرحمن فصدقوا بآلائه ، ورغبوا في رحمته قلبا ، وسعوا إليها عملا ففتحت لهم أبوابها في جنة عرضها كعرض السماوات والأرض.

وهكذا يطبع السياق صفة ثنائية على آيات هذه السورة ((الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) ، (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ) ، والسماء والميزان ، والفاكهة والنخل ، والحب والريحان ، والانس والجان ، والصلصال والنار ، والبحرين ، و(اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ)) الى ان يحدثنا عن صنفين من الناس في سلوكهم وجزاء الله لهم ، وهم المجرمون الذين انتزعوا من قلوبهم خشية الخالق ، فصاروا لا يتناهون عن منكر ، ويحدثنا في مقابلهم عن الخائفين ، الذين براهم خوف الله بري القداح.

وهذا منهج وسائد في كتاب ربنا حيث يذكرنا بالفارق بين المتقين والفجار عبر بيان الفوارق بين الأشياء المختلفة لنزداد وعيا بهذه المفارقة ، وتصديقا بآثارها في الآخرة.

وللثنائية التي صبغت بها آي سورة الرحمن فائدة اخرى تلك هي العلم بالفوارق الممتدة بين الأشياء ، فعند ما يكون المرء جاهلا يرى الأشياء المختلفة بلون واحد ، ولكنه كلما تقرب الى العلم كلما بدت له الفوارق أكثر وضوحا وعددا ، فالغازات كلها عند الإنسان تنضوي تحت اسم عريض هو الهواء ، وإذا به الآن وقد تقدم به العلم تزيد على مئات الأنواع ، كما ان هذه الثنائية تدلنا على الحاجة أيضا ، حيث يحتاج كل اثنين الى من يدبر أمرهما اذن فهذه الثنائية بين المخلوقين تهدينا الى الثنائية المطلقة بين المخلوق والخالق.

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ)

٣٤٠