من هدى القرآن - ج ١٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-17-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

الخسران ، لأنّه يخالف سنن الله في الحياة.

[٢٧ ـ ٢٩] ومنذ أوحى الله إلى نبيّه بذلك الوعيد كان عالما بعاقبتهم ، قادرا على إبادتهم ، ولكنّه ـ وقد كتب على نفسه الرحمة ـ لا يأخذهم بالعذاب قبل النذر ، لأنّ حكمته اقتضت أن يجعل لنفسه الحجة البالغة ، لئلّا يقول الناس : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١) ، لذلك شاء وقضى أن يظهر لهم آيات العذاب أوّلا.

(إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ)

نبتليهم ونمتحنهم بها ، وحينما يتعرّض المجتمع للفتنة فإنّ مسئولية القيادة الرسالية وكذلك المؤمنين أن يكونوا شهداء لله عليه ، بالدعوة إلى الحق ، وبيان البصائر والمواقف المطلوبة أثنائها ، والتصدّي لقيادته ، وأن يستعدوا لهذه المسؤولية الحسّاسة ، ويتحمّلوا من أجلها الضغوط المختلفة ، ويستقيموا صامدين حتى يحكم الله تعالى.

(فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ* وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ)

وبين الناقة التي أخرجها الله من الجبل «قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» (٢) وكانت القسمة واضحة مقبولة لأنّها تمّت بحضورهم ورضاهم ، فكلّ صاحب يوم يحضر شربه في يومه.

(كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ)

__________________

(١) القصص / ٤٧

(٢) الشعراء / ١٥٥

٢٤١

وحينما يرسل الله الآيات المادية الواضحة إلى قوم أو أمّة من الأمم فإنّ ذلك دليل على أنّه يريد حسم الموقف بعذاب الاستئصال إذا كذّبوا بها ، ولقد كانت الناقة آية مبصرة إلّا أنّها في نفس الوقت كانت صعبة على نفوسهم المنحرفة ، ومن طبيعة الإنسان أنّه حينما يواجه أمرا صعبا يفرز حالة نفسية يضخّم بسببها ذاته ويستهين بذلك الأمر ، فإذا بالقيم السامية والدين يستحيلان إلى شيء حقير عنده ، بلى. قد يكون الأمر ذاته ليس عظيما إلّا أنّ عظمته الحقيقية تكمن في القيم التي يتصل بها ، جاء رجل إلى الامام الباقر (ع) يسأله عن حكم دهن سائل وقعت فيه فأرة ميتة ، فقال له الامام : أرقه ، فقال : الفأرة أهون عليّ من ذلك ، فما ذا كان جواب الامام؟ قال له (بما معناه) : إنّك لم تستخف بالفأرة ، وإنّما استخففت بدينك ، وفي الواقع الاجتماعي أيضا نجد شواهد لهذا الانحراف الخطر عند الإنسان ، فإذا بك تراه لا يحترم العالم ولا يقدّره لا لقلّة علمه ، أو ضعف شخصيته ، وإنّما لأنّ شكله لا يدعوه للاحترام ، ولا يعلم أنّه بذلك يستهين بقيمة العلم لا بالعالم نفسه ، وعلاج هذه الحالة بإيجاد توازن داخل الإنسان بين نفسه وبين القيم ، وذلك بتصوّر العاقبة التي ينتهي إليها هذا الانحراف.

إنّ قوم صالح احتقروا الناقة ، وظنّوا أنّهم أكبر من أن يقدّروها ، ويلتزموا بعهدهم مع النبي (ع) لشأنها ، وبالرغم من تحذيره لهم تآمروا ورضوا بعقرها.

(فَنادَوْا صاحِبَهُمْ)

قدّار أو أحيمر ، بعد تخطيطهم للمؤامرة ، وكان أشقى القوم وأجرأهم على الحق ، ولعلّ معنى المناداة ليس التنادي بالكلام فقط ، وإنّما أيضا بالرضا وعدم تحمّل مسئولية الدفاع عن الحق ، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومقاومة أهل البغي والطغيان.

٢٤٢

قال الامام علي (ع) :

«أيّها الناس! إنّما يجمع الناس الرضى والسخط ، وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم الله بالعذاب لمّا عمّوه بالرضى ، فقال سبحانه وتعالى : (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) فما كان إلّا أن خارت أرضهم بالخسفة خوار السكّة المحماة في الأرض الخوّارة» (١).

وكان هذا الفرد يعكس الشخصية الحقيقية لذلك المجتمع ، إذ كان يعبّر ـ بعمله ـ عن ضميرهم الفاسد ، وعزمهم الخائر ، وإرادتهم المشلولة ، وفكرهم الضال ، وغياب المؤسسات الاصلاحية بينهم ، وهكذا حينما تحكم أيّ مجتمع أفكار سلبية فإنّها تتجسّد في قيادة ضالة طاغية ، ونظام سياسي منحرف ، وعاقبة سوأى لا تخص الظالمين أنفسهم بل تطال كلّ أبناءه ، وربما أقدم الشقي على عقر الناقة للوصول إلى حاجة في نفسه هي الرئاسة ، وقد دخل بعمله هذا في صفقة مع المترفين والمستكبرين مباشرة ، ومع المجتمع بصورة غير مباشرة حيث رضوا عنه ولم يمنعوه.

(فَتَعاطى)

لعلّ معناه أنّه استعد للقيام بجريمته ، وأخذ يتعاطى وسائلها ، ويهيء الأجواء لها ، ونستوحي من هذه الكلمة أنّ الجريمة لم تمر بسرعة ، وإنّما احتاجت إلى التآمر ، وهذه طبيعة أكثر الجرائم أنّها تسبقها إرهاصات تمهيدية تعطي الفرصة لأهل الحق بالتصدي لها ، ولقد كان مجتمع ثمود قادرا على مقاومة قدّار بعد أن شاهدوا إرهاصات الجريمة عنده ، ولكنّهم تركوه ، فبدأ عدّهم التنازلي نحو النهاية والعذاب ، ووجد هو الفرصة سانحة لتنفيذ جريمته ، والقرآن في موضع آخر يصوّر طبيعة المجرم

__________________

(١) نهج / خ ٢٠١

٢٤٣

وموقف المجتمع فيقول : «إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها» (١) ولا ينبعث الإنسان إلّا إذا كان نفسه متحفّزا نحو ما ينبعث إليه ، ولا يجد ما يمنعه من نفسه ولا من خارجها ، وهذا حال الأشقى الذي ضرب عرقوب الناقة وقتلها.

(فَعَقَرَ)

[٣٠ ـ ٣١] ولم ينتبه هو ولا من حوله بأنّه يبارز الله بعمله ، فنزل العذاب بساحتهم ، والإنسان لا يتصوّر أنّه ينتهي إلى عاقبة كهذه لسبب يبدو تافها في نظره ، إذ قدرة الإنسان على استيعاب كل ظواهر الخليقة وعواملها قدرة محدودة ، لذلك جاء القرآن ليرفع الإنسان من حالة الشيئية واللهو إلى القيمة والجدّ.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)

بقدر ما كانت النذر مبينة بالغة كان العذاب مهولا ورهيبا. ويبيّن الوحي واقع ذلك العذاب فيقول : إنّه لم يكن صدفة ، بل كان مرسلا من عند الله ، بلى. قد يأتي العذاب ضمن سنن الحياة الطبيعية والاجتماعية ، ولكنّ السنن لا يمكن أن تتحرك في الفراغ ، وبعيدا عن تدبير الخالق وهيمنته ، وهذا البلاغ الالهي يضع حدّا لمشكلة عميقة هي تفسير ظواهر الخلق تفسيرا ماديّا محضا دون التوغّل إلى خلفيّاتها المتصلة بسلوك البشر ، الأمر الذي يصرفه عن العبرة والتذكرة.

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً)

صوتا هائلا صاعقا ، ربما يشبه انفجار القنبلة الذرية في العصر الحاضر أو أعظم ، فعن أبي بصير عن الامام الصادق (ع) قال : «فلمّا كان نصف الليل أتاهم جبرئيل فصرخ بهم صرخة ، خرقت تلك الصرخة أسماعهم ، وفلقت قلوبهم ،

__________________

(١) الشمس / ١٢

٢٤٤

وصدّعت أكبادهم ، وقد كانوا في تلك الثلاثة أيّام (التي سبقت الصيحة بالنذر) قد تحنّطوا وتكفّنوا وعلموا أنّ العذاب نازل بهم ، فماتوا أجمعين في طرفة عين ، صغيرهم وكبيرهم ، فلم يبق لهم ناعقة ولا راغية ، ولا شيء إلّا أهلكه الله ، فأصبحوا في ديارهم ومضاجعهم موتى أجمعين ، ثم أرسل الله عليهم مع الصيحة النار من السماء فأحرقتهم أجمعين» (١) لكي لا يبقى لهم أثر في الحياة ، وتحدث الله بضمير الجمع «إِنَّا» الدال على التعظيم والتكبر لأنّ المقام مقام عزّة الله وسلطانه.

(فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ)

وهو بقايا العلف والحشائش والأعواد اليابسة التي تتراكم في حظيرة الماشية ، وتبقى وتهشّمها بأظلافها وحوافرها ، وحيث لا تجد طريقا للخروج منها تظل تدوسها بكثافة وقد ذكر معاني أخر للهشيم الا ان ما ذكرنا يبدو أقرب منها.

[٣٢] هكذا كان مصيرهم وعذابهم ، وما تصوّره الآيات لنا عنه مجرّد لقطات يحفظها القرآن لإنذار البشرية وتذكيرها عبر الزمن ، ونحن لا نستطيع تصوّر الصيحة التي عبّر بها الربّ يومئذ عن غضبه بعقولنا المحدودة ، ولا نستطيع أن نتخيّل ثمود وقد تعرّضوا لها ، بالذات لو كنّا في مجتمع القرآن الأوّل أيّام الرسول (ص) حيث لم يصنع الإنسان الأسلحة التدميرية المعاصرة ، لذلك نجد القرآن يقرّب لنا الصورة بتشبيه واقعي تستوعبه عقولنا ، ويفهمه حتى ذلك البدوي الذي يقطن الصحراء ، وهذا من منهج الله في تيسير كتابه المجيد.

قال الإمام الصادق (ع) يحكي قصتهم :

«هذا كان بما كذّبوا صالحا ، وما أهلك الله عزّ وجلّ قوما قط حتى يبعث إليهم قبل ذلك الرسل فيحتجوا عليهم ، فبعث الله إليهم صالحا فدعاهم فلم يجيبوه ، وعتوا

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ١٨٤

٢٤٥

عليه عتوّا وقالوا : لن نؤمن لك حتى تخرج لنا من هذه الصخرة الصمّاء ناقة عشراء ، وكانت الصخرة يعظّمونها ، ويعبدونها ، ويذبحون عندها في رأس كلّ سنة ، ويجتمعون عندها ، فقالوا له : إن كنت كما تزعم نبيّا رسولا فادع لنا إلهك حتى يخرج لنا من هذه الصخرة الصمّاء ناقة عشراء ، فأخرجها الله كما طلبوا منه ، ثم أوحى الله تبارك وتعالى إليه ، يا صالح قل لهم : إنّ الله قد جعل لهذه الناقة شرب يوم ولكم شرب يوم ، فكانت الناقة إذا كان يوم شربها شربت الماء ذلك اليوم فيحلبونها ، فلا يبقى صغير ولا كبير إلّا شرب من لبنها يومهم ذلك ، فإذا كان الليل وأصبحوا غدوا إلى مائهم فشربوا منه ذلك اليوم ولم تشرب الناقة ذلك اليوم ، فمكثوا بذلك ما شاء الله ، ثم إنّهم عتوا على الله ، ومشى بعضهم إلى بعض ، وقالوا : اعقروا هذه الناقة واستريحوا منها ، لا نرضى أن يكون لنا شرب يوم ولها شرب يوم ، ثم قالوا : من ذا الذي يلي قتلها ، ونجعل له جعلا ما أحب؟ ، فجاءهم رجل أحمر أشقر أزرق ولد زنا لا يعرف له أب ، يقال له قدّار ، شقيّ من الأشقياء ، مشؤوم عليهم ، فجعلوا له جعلا ، فلمّا توجهت الناقة إلى الماء الذي كانت ترده تركها حتى شربت الماء وأقبلت راجعة ، فقعد لها في طريقه فضربها بالسيف ضربة فلم يعمل شيئا ، فضربها ضربة أخرى فقتلها ، فخرّت إلى الأرض على حينها ، وهربت فصيلها ، حتى صعد إلى الجبل فرغا ثلاث مرات إلى السماء ، وأقبل قوم صالح فلم يبق أحد إلّا شركه في ضربته ، واقتسموا لحمها فيما بينهم ، فلم يبق صغير ولا كبير إلّا أكل منها ، فلمّا رأى ذلك صالح أقبل إليهم فقال : يا قوم ما دعاكم إلى ما صنعتم أعصيتم ربكم؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إلى صالح (ع) : إنّ قومك قد طغوا وبغوا وقتلوا ناقة بعثها الله إليهم حجة عليهم ، ولم يكن عليهم منها ضرر ، وكان لهم أعظم المنفعة ، فقل لهم : إنّي مرسل إليكم عذابي إلى ثلاثة أيّام ، فإن هم تابوا ورجعوا قبلت توبتهم وصددت عنهم ، وإن هم لم يتوبوا ولم يرجعوا بعثت إليهم عذابي في اليوم الثالث ، فأتاهم صالح (صلّى الله عليه) فقال لهم : يا قوم إنّي

٢٤٦

رسول ربكم إليكم ، وهو يقول لكم : إن أنتم تبتم ورجعتم واستغفرتم غفرت لكم وتبت عليكم ، فلمّا قال لهم ذلك كانوا أعتا ما كانوا وأخبث ، وقالوا : «يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين» قال : يا قوم إنّكم تصبحون غدا ووجوهكم مصفرّة ، واليوم الثاني ووجوهكم محمرّة ، واليوم الثالث ووجوهكم مسودّة ، فلمّا كان أوّل يوم أصبحوا ووجوههم مصفرّة ، فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا : قد جاءكم ما قال لكم صالح ، فقال العتاة منهم : لا نسمع قول صالح ، ولا نقبل قوله وإن كان عظيما ، فلمّا كان اليوم الثاني أصبحت وجوههم محمرّة ، فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا : يا قوم قد جاءكم ما قال لكم صالح ، فقال العتاة منهم : لو أهلكنا جميعا ما سمعنا قول صالح ، ولا تركنا آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها ، ولم يتوبوا ولم يرجعوا ، فلمّا كان اليوم الثالث أصبحوا ووجوههم مسودّة ، فمشى بعضهم إلى بعض وقال : يا قوم أتاكم ما قال لكم صالح ، فقال العتاة منهم : قد أتانا ما قال لنا صالح ، فلمّا كان نصف الليل أتاهم جبرئيل فصرخ بهم صرخة ، خرقت تلك الصرخة أسماعهم ، وفلقت قلوبهم ، وصدّعت أكبادهم ، وقد كانوا في تلك الثلاثة أيّام قد تحنّطوا وتكفّنوا وعلموا أنّ العذاب نازل بهم ، فماتوا أجمعين في طرفة عين ، صغيرهم وكبيرهم ، فلم يبق لهم ناعقة ولا راغية ولا شيء إلّا أهلكه الله ، فأصبحوا في ديارهم ومضاجعهم موتى أجمعين ، ثم أرسل الله عليهم مع الصيحة النار من السماء فأحرقهم أجمعين ، وكانت هذه قصتهم» (١)

وهي وسابقاتها وما يليها من القصص وإن تضمّنت الكثير من الأفكار إلّا أنّها تدور حول فكرة محوريّة بهدف تيسيرها وتقريبنا منها.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)

__________________

(١) المصدر / ص ١٨٥

٢٤٧

هكذا يكرّر الذكر الحكيم آياته وعبره ، ولعلّنا نتنبّه من الجهل والضلال والغفلة ، ولكنّه بالرغم من ذلك لا زال غريبا مهجورا في واقعنا بجميع أبعاده ، فنحن لا زلنا بعيدين عن دعوته للوحدة والعمل ، والاستقامة على الحق ، ومحاربة الجبت والطاغوت ، والاتعاظ بالنذر السالفة.

[٣٣] ومع ذلك ما يبرح يتابع إلينا سورة فسورة ، وآية فآية ، ومثلا فمثلا ، فهذه آياته وقد انتهت من عرض قصة ثمود ، تضرب لنا مثلا آخر عن عاقبة التكذيب بقصة قوم لوط ، الذين تورّطوا أخلاقيّا في الشذوذ الجنسي ، وصاروا يأتون الرجال شهوة من دون النساء ، فحذّرهم نبيهم (ع) من هذا الانحراف عن طاعة الله وسنن الحياة ، ولكنّهم لم يعتبروا بمصير الماضين ولا بنصح لوط (ع) ، بل راحوا يكذّبونه ، ويريدون به الشرّ والأذى ، رغم النذر الظاهرة.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ)

قيل أنّه من النذر الذين أرادوا الفاحشة بضيف لوط من الملائكة «فأشار إليهم جبرئيل بيده فرجعوا عميانا يلتمسون الجدار بأيديهم» (١).

إلّا أنّ القوم لم يتعظوا بهم ، بل أصرّوا على فسادهم ، وتمادوا في التكذيب ، ولعلّ بعضهم راح يؤوّل عماهم إلى أسباب أخرى ، فهم كما وصفهم في أوّل السورة : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (٢).

[٣٤ ـ ٣٥] بلى. إنّهم كذّبوا فما أهملهم الله ، بل أرسل عليهم ريحا محشوّة بالحجارة الصغيرة في بادئ الأمر ، لتكون آخر النذر وعلامة إلى لوط والمؤمنين معه بقرب العذاب ، وربما كان ذلك أواخر الليل ، أمّا العذاب الحقيقي فقد أخّره إلى

__________________

(١) بحار الأنوار / ج (١٨) / ص (٣٤٨).

(٢) القمر / ٢

٢٤٨

الصباح ريثما يخرجون.

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً)

ولكن بقيت العناية الالهية تحفظ المؤمنين وترعاهم ، حيث أمر الله لوطا (ع) والمؤمنين بالخروج من القرية الظالم أهلها ليكونوا في مأمن من العذاب : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) (١) ، فارتحلوا منها ، وهذا يدل على أنّ العملية كانت تجري بإشراف إلهي مباشر لا صدفة ، فحتى خروجهم لم يكن بسبب الارهاصات الطبيعية للعذاب ، بل كان بأمر نزل من الله ، ولولاه لربما كانوا يبقون ، لذلك يؤكّد القرآن بأنّ الله هو الذي أنجاهم وأنقذهم.

(إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ)

يعني نهايات الليل وبدايات الصباح ، ولا يكتفي الوحي بذلك بل يضيف بأن النجاة كانت نعمة إلهية ، وليست نتيجة حالة بشرية أو صدفة.

(نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا)

ولكنّها مرتبطة بواقع بشري هو الشكر. إنّها مرّت بدورة متكاملة : إيمان عمل وشكر صاعد من قبل الإنسان الارادة الالهية بالتوفيق النعمة النازلة من الله للإنسان ، وربنا لا يخصص هذه الدورة بشخص لوط (ع) بل يخلص من ذكر الخاص إلى العام ومن الشاهد إلى السنة.

(كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ)

__________________

(١) هود / ٨١

٢٤٩

أيّا كان ، وفي أيّ مكان وزمان.

[٣٦ ـ ٣٧] ويعود القرآن إلى التأكيد على أنّ العذاب مرّ بدورة متكاملة : انحراف بشري نذر إلهية تكذيب بشري وإصرار على الانحراف العذاب من عند الله (النقمة في مقابل النعمة) ، إنّ لوطا شخّص الانحراف الاجتماعي ، وسعى جاهدا إلى التغيير والإصلاح ، فأنذر قومه من عواقب ضلالهم وأنّه يؤدي بهم إلى الانتقام الشديد الذي لا قبل لهم به من عند ربّهم.

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا)

وبدل أن يفكّروا في النذر ويتعظوا بها صاروا يتمارون ، والتماري كما يبدو هو الشك الذي يتحوّل إلى تشكيك اجتماعي ، وقوم لوط لم يكتفوا بتكذيبهم ، بل صار الواحد يدخل الشك إلى الآخر لكي يمعنه من الايمان بالنذر البالغة ، وسمّي الجدال مراء لأنّ أطرافه يشكل الواحد على الآخر بقصد ردّ حجته وإبطالها.

(فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ)

فكانوا يدافعون عن ضلالهم وباطلهم في مقابل الحق ، استهزاء وجمودا ، ويسعون إلى تغلّب أفكارهم وباطلهم على الحق المبين في أذهان بعضهم ، وذلك بصرف الآيات وتأويلها إلى غير مضامينها ، وهذا منهج المكذّبين عبر التاريخ ، فها هم قوم عاد يدعوهم هود إلى الايمان ، فإذا بهم يصرّون على باطلهم إلى آخر لحظة : «فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ* تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ» (١) ، وإلى مثل هذا انتهى انحراف قوم لوط

__________________

(١) الأحقاف / ٢٤ ـ ٢٥

٢٥٠

وتكذيبهم ومراءوهم ، فلقد أرسل الله إلى نبيّه الملائكة ومن بينهم جبرئيل (ع) ، ولكنّه أنزلهم في صورة جميلة لتبدأ البطشة من محاولة الاعتداء عليهم فيتأكّد للقوم بأنّ هلاكهم كان نتيجة لذلك الانحراف الذي حذّرهم من عواقبه لوط (ع) ، ويؤخذوا بالجرم المشهود.

(وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ)

يريدون بهم الفاحشة ، «قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ* قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ* قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ» (١) إنّه حاول إصلاحهم في بادئ الأمر بتوجيههم إلى الجنس الآخر علاجا لانحرافهم ، ورفعا للحرج مع الضيوف ، ثم هدّدهم باستخدام القوة «فصاح به جبرئيل فقال : يا لوط! دعهم يدخلون ، فلمّا دخلوا أهوى جبرئيل (ع) بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم» (٢)

(فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ)

قيل أنّ الطمس هو حجب البصر مع وجود العين على طبيعتها ، وقيل أنّه القلع والمسح ، والذي يبدو أنّه ذهاب الرؤية مع ضمور المعالم الظاهرية للعين ، وعند ما أنزل الله بهم العذاب ربما رفع قدرتهم على الاحساس إلى أقصاها تفاعلا ووعيا زيادة في العذاب ، إذ لا قيمة لعذاب لا يتذوّقه صاحبه.

[٣٨ ـ ٤٠] كان ذلك (طمس الأعين) عذابا مؤقتا ، أمّا العذاب الأوهى والمستمر ، الذي يتصل بالعذاب المقيم في الآخرة ، فقد ابتدرهم أوّل الصباح.

__________________

(١) هود / ٧٨ ـ ٨٠

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ص ١٨٥

٢٥١

(وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ)

لقد كان عذابا مستقرا لا يجدون منه فكاكا لا في دنياهم ولا في الآخرة.

ويبدو أنّ كلمة «مُسْتَقِرٌّ» تفسير لقوله سبحانه في فاتحة السورة : «وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ» ، ومعناها أنّ عذاب أولئك القوم كان من السنن الثابتة والمستقرّة في الحياة ، ونجد تفصيلا للعذاب ، وبيانا لهذه الفكرة ، في موضع آخر من القرآن ، إذ يقول تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ* مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (١) ، لأنّ العذاب لم يكن خارقا لسنن الحياة ، ولا عرضا طرأ عليها ، بل هو جزء منها ومظهر لها ، وهي مستقرة لا تحويل لها ولا تبديل إلى يوم القيامة ، وقد أذاقهم الله هذا العذاب كما أذاقهم عذاب الطمس.

(فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ* وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)

هكذا يصرخ فينا القرآن يدعونا إلى مأدبة الله ، ويعيد هذه الدعوة بصيغة أخرى فيقول : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٢). إنّ القرآن ذاته ميسّر للذكر والتدبّر ، ولكن قلوبنا هي المعقدّة ، إنّه يفتح لنا يفتح أبواب العلم والايمان ، ونغلق قلوبنا عنه بالذنوب والأفكار المتخلّفة. أرأيت كيف يرفع البعض دعوة تضاد دعوة الله ، وتصد عن كتابه؟! إنّهم يقولون : لا يجوز لأحد أن يتدبّر في القرآن ، ولا يفسّره ، ويبرّرون ذلك بالحساسيات المفرطة المتزمتة ، وبأنّه معقّد لا يفهمه إلّا المجتهدون والفقهاء ، ولكنّ القرآن جاء ليردّ هذه الفكرة ويهدينا للتي هي أقوم بنصّ قرآني ظاهر لا يقبل التأويل ولا الاجتهاد.

__________________

(١) هود / ٨٢ ـ ٨٣

(٢) محمّد / ٢٤

٢٥٢

وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا

___________________

٤٣ [براءة] : أي براءة من العذاب.

٤٦ [أدهى] : الأدهى الأعظم في الدهاء ، والدهاء عظم يسبب الضرر مع شدّة انزعاج النفس ، وهو من الداهية أي البلية التي ليس في إزالتها حيلة.

٤٨ [سقر] : جهنم ، وقيل : علم على جهنم ، وأصل السقر التلويح ، يقال : سقرته الشمس وصقرته إذا لوحته.

٢٥٣

أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

___________________

٥٢ [الزّبر] : أي الكتب التي كتبها الحفظة.

٥٣ [مستطر] : مسطور مكتوب.

٢٥٤

إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ

هدى من الآيات :

في الدرس الأخير يذكّرنا الوحي بأهمّ عبرة فيها ، والتي يسّرها الله بقصص واقعية من تاريخ البشرية ، ابتداء من قوم نوح وانتهاء بآل فرعون ، وهي عاقبة السوء للذين يعرضون عن آيات الله ونذره ، ويكذّبون برسالته ورسله ، لأنّهم حينئذ يسيرون بعكس آلاف القوانين والسنن في الحياة ، ولأنّهم ـ وهو الأهم ـ يخالفون الحق ، ويعصون ربّ العزة سبحانه ، مؤكّدا بأنّ ما لحق أولئك من شديد العذاب في الدنيا بتكذيبهم ليس إلّا شمّة وضغثا بالنسبة إلى العذاب الأدهى والأمرّ الذي ينتظرهم في الآخرة ، حيث تدقّ أجراس بدئه ساعة البعث والحساب.

وبعد أن يضع الذكر الحكيم لوحة من مشاهد الآخرة والعذاب أمام قلوبنا وأعيننا يؤكّد لنا حقيقة هامة ، هي أنّ الدنيا بنيت بكلّ مفرداتها من الذرّة حتى المجرّة وأصغر من ذلك وأكبر على أساس من السنن والمقاييس والقوانين الحكيمة (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) الآية (٤٩) ، وبالتالي يجب على الإنسان أن يكيّف

٢٥٥

نفسه وحياته وعلاقاته بكلّ شيء فيها على هذا الأساس ، أمّا إذا انتظر أو سعى لتسير الحياة من حوله بسننها ومقاديرها وخلقها وفق هواه فلن يستطيع الى ذلك سبيلا ، لأنّها ثابتة وأقوى منه ، بل وسيخسر إلى الأبد.

فلا يظن الإنسان إذا أنّه يتحرّك في الفراغ ، كلّا .. إنّ حوله ملايين الأنظمة التي تحصي عليه أخطاءه وأفعاله وأقواله ، وحتى نيّاته مسجّلة عليه تسجيلا دقيقا ، ولهذا يقول الله عزّ وجلّ مبيّنا حال المجرمين حين يرون كتبهم في يوم القيامة : (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (١) وبعد الحساب يلقون جزاءهم إذ يسحبون في النار على الوجوه ، أمّا المتقون فيعطون كتابهم بيمينهم ، أمّا جزاؤهم جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

بينات من الآيات :

[٤١ ـ ٤٢] كما جعل الله للساعة علامات ونذرا تؤذن باقترابها كانشقاق القمر ، فإنّه تعالى أخذ على نفسه أن لا يعذّب أمّة ولا شخصا قبل إقامة الحجة البالغة عليه ، وقبل أن يقدّم له من الأنبياء ونذر البطش ما فيه مزدجر له وهداية لمن أراد (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٢).

ويضع القرآن شاهدا لهذه الحقيقة أمام ضمائرنا وعقولنا هذه المرّة من واقع فرعون وقومه الذين أغرقوا في اليمّ. إنّهم ضلّوا عن الحقّ ضلالا بعيدا ، إذ اعتمدوا نظاما سياسيّا ينطلق من عبادة شخص فرعون ، وينتهج الإفساد والإرهاب والقتل والتضليل ، وكانت هذه الأسباب كافية لأن يمحقهم الله ، أترى أعظم جرم عند الله

__________________

(١) الكهف / (٤٩).

(٢) الإسراء (١٥).

٢٥٦

من بشر يقول أنا ربّكم الأعلى؟! كلّا .. ولكنّه أمهلهم ، وأراد لهم الرحمة التي خلقهم من أجلها ، فتابع عليهم الآيات والنذر بلسان موسى وعلى يديه ومن خلال الطبيعة ، بما أبطل به سحرهم ومعتقداتهم الواهية ، وأقام عليهم الحجة البالغة.

(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ)

إنّ الله لم يتركهم حتى يؤمنوا بأنفسهم ، بل ابتدرهم بالهدى الذي بلغ فردا فردا منهم يوم الزينة ، ولم يكتف الله بنذير واحد وهو يكفي حجة عليهم ، إنّما جاءهم بنذر كثيرة بيّنة ، كان من بينها تسع آيات إلى فرعون وقومه ، ولكنّهم كما يصفهم القرآن :

(كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها)

لا لغموض فيها فقد كانت مبصرة ، بل لمرض في قلوبهم ، ولو أنّك بحثت في أعماق نفوسهم لرأيت سلطان الآيات مهيمنا عليها ، ويعلم الله كم تجرّعوا من وخز الضمير الذي يدعوهم للإيمان وهم يصدّون عن الحقّ المبين. إنّهم ما كانوا يقدرون على التكذيب مجرّدا أمام ذلك الوخز لذلك لجأوا إلى التبرير ، وهذه من طبيعة الإنسان حينما يخالف الحق بالرغم من استيقانه به ، «قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ* وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا» (١) ، فكانوا عند الله يستحقّون أشدّ العذاب ، وكذلك فعل بهم.

(فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ)

لا يقبل الجور على الحق.

__________________

(١) النمل / (١٣ ـ ١٤).

٢٥٧

(مُقْتَدِرٍ)

لا يشكو ضعفا ولا قصورا ، وهذا ما جعل عذابهم قاسيا ، فمرة يكون العزيز غير مقتدر فهو لا يستطيع أن يحيل عزّته فعلا ، ومرّة يكون المقتدر غير عزيز فهو لا يغضب لحرمة قيمه ، وإذا أخذ المخالف له فإنّ أخذه يكون محدودا.

هكذا وبهاتين الآيتين القصيرتين في كلماتهما العميقتين في معناهما يوجز ربّنا قصة قوم لا زالت آثارهم ظاهرة ومثيرة للعجب ، بينما يحتاج الحديث فيها إلى مئات أو آلاف الصفحات ، بل القرآن نفسه تناولها في صفحات وآيات عديدة في مواضع أخرى ، والسبب أنّ القرآن أراد من ذلك التأكيد على السنّة الواحدة التي أجراها على كلّ الأمم وفي مختلف الأمصار بصور شتى ، لكي نعتبر بها ، ونبصر عواقب التكذيب بالحقّ أنّي كان ، وقد اكتفى السياق بإيجاز قصة فرعون التي فصّلها في مختلف السور ، والتي من المفروض أن يعرفها من يتلوا الذكر ، وذلك عبر آيتين تعكسان إعجاز القرآن البلاغي.

[٤٣ ـ ٤٥] ومن شواهد عاقبة المكذّبين في أغوار التاريخ ، ينتقل بنا السياق إلى الحديث عن المجتمع المعاصر للرسالة الاسلامية وموقفهم من الرسالة ، بما هو تأويل لقوله تعالى : (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (١) ، وقوله بلسان رسوله شعيب (ع) : (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) (٢). إنّ القصة القرآنية لا تأت للتسلية ، إنّما لتكشف للإنسان عن سنن الحياة من حوله ، فتعطيه تارة إشارة خضراء ترغّبه وتشوّقه ، وتضع بين يديه إشارة حمراء تنذره وترهبه تارة أخرى ، وهو

__________________

(١) هود / (٨٣).

(٢) هود / (٨٩).

٢٥٨

بين هذه وتلك يجب أن يشقّ طريقه نحو الحقّ والسعادة ، أمّا إذا تفرّج على وقائع التاريخ ومواعظه ، أو استبعد عن نفسه الجزاء بفكرة تبريرية كالعنصرية والفداء ، أو بالاعتماد على غرور النفس وظنونها وأهوائها ، فسوف يجد نفسه وجها لوجه أمام مصير الماضين ممّن سبقوه بالتكذيب في الدنيا والآخرة ، ولن تغيّر تمنّياته وظنونه من الواقع شيئا ، «ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ» (١).

كيف يكذّب الآخرون بالرسالة وهم يبصرون ما نزل بالغابرين عند ما كذّبوا بها؟! إنّهم يستبعدون حلول العذاب بهم اعتمادا على واحد من أمرين :

أوّلا : الثقافة التبريرية ، وأبرز مفرداتها على صعيد التكذيب بالرسالات العنصرية ونظرية الفداء ، ذلك أنّ الإنسان حينما يكذّب حقّا ما ويرفضه يبحث داخليّا أمام ضميره ، وخارجيّا أمام الآخرين ، عن عذر يبرّر له موقفه ، ويستمد منه الشرعية لممارسة الخطأ أو الإصرار عليه.

وربّنا ينسف هذه الثقافة فيقول ـ مخاطبا المعاصرين للإسلام ـ : لما ذا تستثنون أنفسكم من العذاب الذي حلّ بتلك الأقوام؟

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ)

بعنصرهم وأعمالهم حتى لا ينالهم العذاب؟!

(أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ)

أم هم يملكون كتابا من عند الله يبرّئهم من سوء أعمالهم؟!

كلّا .. فالتكذيب هو التكذيب سواء صدر من أولئك أم منكم ، والسنن الالهية

__________________

(١) ص / (٢٧).

٢٥٩

واحدة على مرّ الزمن لا تتحوّل ولا تتبدّل ، وليس عند الله قرابة مع خلقه ، ولو كان نبيّا مرسلا أو ملكا مقرّبا ، ولا ينفع إلّا العمل الصالح ، كما لم تسبق منه كلمة على لسان نبي ولا رسول وفي كتاب من كتبه المنزلة بزكاة أحد أبدا ، حتى يتحصّن بها ضدّ العذاب ، والضلال الذي عليه كفّار المجتمع أيّام رسول الله (ص) ليس بأقلّ من ضلال أولئك ، بل هو أسوء وأبعد.

وإذا كانت ثمّة براءة لأحد في كتب الله فهو ورسوله أعلم بها ، والحال أنّهما ينفيانها.

بلى. حاول النصارى تبرير انحرافهم بفكرة الفداء ، ولكنّهم أضافوا انحرافا جديدا إلى مسيرتهم الضالة إذ أصبحوا بها كفّارا عند الله ، وهكذا زعموا هم واليهود بأنّهم لا يعذّبون مهما ما رسوا من الذنوب ، لأنّ عنصرهم يتصل بالله وينتمي إليه ، ولكنّ القرآن ردّ عليهم هذه المزاعم ردا عنيفا وحازما ، فقال تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١) وانطلاقا من هذه الثقافة الضالّة صاروا يبرّرون لأنفسهم الخيانة والغدر ومختلف الذنوب ، فإذا بهم لا يقيمون وزنا لعهودهم وإيمانهم مع الشعوب الأخرى على أساس أنّهم أميّون ، ولا حرج عليهم إذا نكثوا بهم أو خانوهم : (قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) (٢) ، ولكن الله أبطل هذا التبرير فقال : (بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٣).

__________________

(١) المائدة / (١٧ ـ ١٨).

(٢) آل عمران / (٧٥).

(٣) آل عمران / (٧٦).

٢٦٠