من هدى القرآن - ج ١٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-17-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

سورة القمر

٢٠١
٢٠٢

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة

قال الامام ابو عبد الله الصادق (ع) : «من قرأ سورة اقتربت الساعة أخرجه الله من قبره على ناقة من نوق الجنة».

تفسير نور الثقلين ج ٥ ص ١٧٤

٢٠٣
٢٠٤

الإطار العام

تحيط آيات هذه السورة المباركة بثلاثة محاور رئيسية ، هي :

١ ـ إعراض الكفّار عن الآيات الالهية ، سواء تمثّلت في الرسالات النازلة ، أو المعاجز التي تظهر على أيدي الأنبياء ، أو ما تتجلّى في الكائنات أو السنن التي تتجلّى في تاريخ الأمم الغابرة ، ونجد مرتكزا لهذا المحور في قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (الآية ٢).

٢ ـ التكذيب بالحق ، ويبرز هذا المحور عند قوله تعالى : (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) (الآية ٣) ، وهكذا شبيهاتها (الآية ٩ ، ١٨ ، ٢٣ ، ٣٣ ، ٤٢).

٣ ـ التذكرة ، ويظهر ذلك من تكرار من تكرار قول الله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) في أربعة مواضع ، بالاضافة إلى الآيتين (١٥).

٢٠٥

وبالتدبّر العميق في السورة نجد ارتباطا وثيقا بين المحاور الثلاث فيها ، فالاعراض بالاضافة إلى كونه مظهرا للتكذيب هو سبب له أيضا ، وهذا يبيّن لنا أنّ تكذيب الرسالات ليس منطلقا من قناعة المكذّبين بها ، وإنّما من انحراف حقيقي في أنفسهم ، لأنّك تجدهم يعرضون عنها وبالتالي يكذّبونها قبل دراستها والتفكّر فيها.

ولكن ما هو علاج الاعراض والتكذيب عند البشر؟ إنّه التذكرة. والقرآن إنّما جاء ليحقق هذا الهدف الهام والكبير ، لذلك نجده من حيث المحتوى والأداء الأدبي والنفسي والفكري حكمة بالغة ، تنفذ إلى أعمق أغوار نفس الإنسان ، وأبعد آفاق عقله ، ولكن «لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ» ، فهو ميسّر من قبل الله ، وهذا التيسير هو الذي جعل كلام الخالق الذي لا يتناهى عظمة وجلالا وعلوّا بيّنا وواضحا عند خلقه .. قال الامام الصادق (ع) : «لولا تيسيره لما قدر أحد من خلقه أن يتلفّظ بحرف من القرآن ، وأنّى لهم ذلك وهو كلام من لم يزل ولا يزال» (١) ، ولكنّ المعنى الذي يرتبط بعلاج الاعراض والتكذيب عند البشر هو أنّ القرآن يصوّر لنا الحقائق الكبرى ، كحقائق الغيب التي ينحسر عنها ـ لو لا تيسير القرآن ـ وعي الإنسان ، ومنها الآخرة ، تصويرا بليغا بحيث تصبح يسيرة الفهم والاستيعاب ، الأمر الذي يحدث تعادلا في عقل الإنسان بين ما غاب ممّا يحدث في المستقبل وما هو حاضر يحسه ويعايشه. إنّه يدعوه إلى التعايش مع الحاضر الذي تشتهيه نفسه على أساس المستقبل ، أو ينهاه عن استهلاك شيء حاضر لأنّه يوقعه في مهالك المستقبل.

__________________

(١) تفسير روح البيان / ج (٨) ـ ص (٤٣٣).

٢٠٦

سورة القمر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) كَذَّبَتْ

___________________

٤ [مزدجر] : متّعظ ، وهو بمعنى المصدر ، أي ازدجار عن الكفر ، وتكذيب الرسل.

٧ [الأجداث] : جمع جدث ، بمعنى القبور.

٨ [مهطعين] : الإهطاع هو الإسراع في المشي.

٢٠٧

قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ

___________________

٩ [وازدجر] : أي زجر بأنواع الأذية عن تبليغ الرسالة.

١١ [منهمر] : الهمر : هو صب الدمع والماء بشدة ، والانهمار :

الإنصاب ، وانهمر : تساقط بكثرة كأنّه أفواه القرب.

١٣ [ودسر] : الدسر هي المسامير ، وهو جمع : دسار.

١٩ [ريحا صرصرا] : باردة ، شديدة البرد.

٢٠ [أعجاز] : أصول.

٢٠٨

نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢)

___________________

[منقعر] : منقلع عن مغارسه ، لأن قعر الشيء قراره ، وتقعّر في كلامه إذا تعمّق.

٢٠٩

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ

هدى من الآيات :

إذا كانت هداية البشر هدف رسالات الله فإنّ الوسيلة المثلى التي تتبعها هي تذكرته وإنذاره ، لكي تتساقط حجب الغفلة والكبر عن قلبه. إنّ في ضمير الإنسان خوف دفين من مستقبل مجهول ، ويستثير القرآن هذا الخوف بتذكرته بالساعة ، وما الساعة؟ إنّها أدهى وأمرّ.

وهذا النهج نجده أكثر تجلّيا في السورة المكية ذات المقاطع القصيرة ، وبالذات سورة القمر التي تتجلّى فيها هذه الوسيلة بأظهر مصاديقها ، وقد سمّيت بذلك بسبب إشارتها إلى آية انشقاق القمر ، الظاهرة التي حدثت في عصر الرسول (ص) بمكة المكرّمة ، حسبما يقول أغلب المفسرين.

ويوصل القرآن بين هذه الظاهرة المعجزة وبين اقتراب يوم القيامة لأنّه قريب من بعثته (ص) ، وهو القائل : «إنّني بعثت والساعة كهاتين ، وجمع بين إصبعيه»

٢١٠

دلالة على قربهما الزمني ، أي لا يلبث العالم بعده أن يشهد الساعة ، وقال علي بن إبراهيم (ر ض) : «اقتربت القيامة فلا يكون بعد رسول الله (ص) إلّا القيامة ، وقد انقضت النبوّة والرسالة» (١).

وسواء كانت الساعة بعد آلاف أو ملايين السنين من بعثته (ص) فإنّها قريبة ، إذ كلّ آت قريب ، ولأنّ البعد والقرب لا يقاسان بحياة الإنسان المحدودة في الدنيا ، بل يقاسان بما في الكون من أرقام وأبعاد زمانية كبيرة ، فقد يكون عمر الشمس عشرة ملايين سنة ولكنّها انقضى أكثرها ، وأصبحت نهايتها قريبة جدا ، ثمّ ما هي نسبة هذه المدة إلى الزمن اللامتناهي الذي يلي الحياة الدنيا؟!

إنّ الكفّار كذّبوا هذه الآية المعجزة مع وضوحها ، وأعرضوا عن دلالاتها ، ولكنّهم لم يكونوا أوّل ولا آخر المكذّبين ، فقد سبقهم إلى هذا الضلال قوم نوح وعاد ، وكانت عاقبة أولئك الخزي والعذاب ، فلا ينبغي للرسالي أن يصاب بهزيمة نفسية إذا رفض البعض الاستجابة إلى دعوته ، فإنّ دعوته منصورة ، وإنّ المكذّبين في ضلال بعيد.

بيّنات من الآيات :

[١] يعيش الإنسان في وجدانه خوفا عميقا من شيء مجهول ، والقرآن يبيّن أنّه الساعة ، فالموت الذي يعقبه مصير مجهول بالنسبة إليه أمر رهيب جدّا ، والآيات تؤكّد بأنّ خوف الإنسان الحقيقي ليس من الموت ، وإنّما من البعث بعد الموت ، وإنّما يخشى الموت لأنّه بوّابة الحساب.

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٥) ـ ص (١٧٥).

٢١١

قال ابن عباس : «اجتمع المشركون إلى رسول الله (ص) فقالوا : إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين ، فقال رسول الله (ص) : إن فعلت تؤمنون؟ قالوا : نعم ، وكانت ليلة بدر فسأل رسول الله (ص) ربّه أن يعطيه ما قالوا ، فانشق القمر على عهد رسول الله (ص) فرقتين ، ورسول الله (ص) ينادي : يا فلان يا فلان! اشهدوا» (١) حتى قال بعضهم : «إنّني كنت أرى حراء بين فلقتي القمر»

وانشقاقه الذي حدث في عصر الرسول أو الذي يحدث فيما بعد ، من الظواهر الكونية الدالّة على قرب الساعة ، ولكنّ القرآن يقدّم الحديث عن الساعة على ظاهرة انشقاق القمر ، لأنّه محور الكلام والغاية منه. وكم هي رهيبة ساعة القيامة ، وكيف لا تكون كذلك وفيها تسير الجبال الشاهقة فتصير سرابا ، وتنتثر الكواكب كخرزات العقد المنفرط ، وتزلزل الأرض زلزالا عنيفا! (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)! إنّها مهولة جدّا! وتترك أثرا جذريّا لا نعرف نحن مداه ، ولا يقتصر ذلك الأثر على تاريخ البشرية وحدها ، كلّا .. بل هو تغيير كوني حاسم ، لأنّه اليوم الذي ينتهي فيه دور الإنسان على وجه الأرض ، وقد خلق الله ما في الأرض لأجله ، إذا فذهابه منها يقتضي تغيرا حاسما فيها. وربنا لم يقل (قربت) بل قال «اقْتَرَبَتِ» وهذه الزيادة التي لحقت بالفعل سببها دخوله في باب الافتعال الدال على بدل المزيد من القوة والجهد ، كما يدلّ قولنا اكتسب على استعمال القوة في الحصول على الرزق ، فالساعة تمرّ بمخاض عسير ، لأنّ حدوثها يقترن بتغييرات هائلة.

[٢] وانشقاق القمر ليس الآية الوحيدة التي تهدينا إلى الساعة والبعث ، فهناك من الآيات الأخرى الكثير ممّا يكفي سلطانا مبينا ، وحجة بالغة لنا على واقعية الساعة ، ولكنّ المشكلة في نفس الإنسان حينما يضل ، ويتبع هواه. إنّه يرى الآيات ويعقلها ، ولكنّه يعرض عن دلالاتها ، ويصرّ على باطله ، ولكي يتخلّص

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٥) ـ ص (١٧٤).

٢١٢

من وخز الضمير ونداء العقل يبحث لضلاله عن تبرير ، وللآيات عن تأويل ، مهما كانا سخيفين ومتناقضين مع أبده المسلّمات الوجدانية والعقلية ، كلّ ذلك تهرّبا من مسئولية الاعتراف بالحق.

(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ)

لقد اعتذر المشركون عن الايمان بالرسالة بأنّهم لا يؤمنون بشيء غيبي لا آية محسوسة عليه ، فألحّوا على الرسول (ص) بنظرتهم الشيئية أن يريهم من الآيات المادية ما يصدّق نبوّته ورسالته ، فسأل ربّه ذلك ليقيم الحجة عليهم وأعطاه ، إلّا أنّهم أعرضوا عن الايمان ، قال علي بن إبراهيم (ر ض) : «فإنّ قريشا سألت رسول الله (ص) أن يريهم آية ، فدعا الله فانشق القمر نصفين حتى نظروا إليه ثم التأم ، فقالوا : هذا سحر مستمر» (١) أي دائم ، والسحر لا يدوم ، إنّما هو لحظات يخدع فيها الساحر أعين الناس ثم ينتهي ، والمشركون يدركون هذه الحقيقة ، ولكنّهم قبلوا أن يضيفوا إلى السحر نوعا جديدا لا عهد لهم ولا عهد لهم ولا للتاريخ به ، ولم يقبلوا أنّ يكون القرآن رسالة من الله ، لأنّه يجعل من الايمان به وتطبيقه مسئولية واجبة عليهم ، فهو حينئذ رسالة الله إلى أنفسهم أيضا ، والحال أنّهم يسعون بكل ما أوتوا من حيلة ومكر إلى التهرّب من المسؤولية ، ويحتمل أن تنطوي كلمة المستمر على معنى القوي أيضا ، والسحر لا قوة له لأنّه خيال لا واقع ، وسواء هذا أو ذاك فإنّ القرآن يثبت أفكارهم وأقوالهم ومواقفهم المتناقضة في ذاتها لبيان بطلانها وضلالة أصحابها.

وقد سبق أن قلنا بأنّ في قولهم بأنّ الرسالة وآياتها سحر اعترافا بتأثيره البالغ عليهم ، وبالعجز عن الإتيان بمثله ، وبسلطانه على أفئدة الناس كما السحر ،

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٥) ـ ص (١٧٥).

٢١٣

فيؤخذون بهذا الاعتراف ، وينبذ تفسيرهم لذلك بأنّه يشبه السحر ، إذ مستحيل أن يستمرّ السحر الذي حقيقته التأثير الموقّت في خيال الإنسان.

[٣] والآية التالية تؤكّد على أنّ التبرير الباطل يساوي عند الله الكذب المحض ، بل هو أشدّ ، لأنّ أهداف التكذيب هي ذاتها أهداف التبرير ، وأهمّها اتباع الأهواء والشهوات ، إذا فتبرير الإنسان لا يغيّر من واقعه شيئا ، ولا من جزائه عند ربّه ، لأنّه تعالى لا ينظر إلى المظاهر ولا يحاسب عليها ، إنّما ينظر إلى الحقائق الواقعية ، ويجعلها ميزانا للجزاء ، إنّه «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ» (١).

(وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ)

واتباع الهوى هو سبب التكذيب ، كما أنّه الهدف منه ، وهذه الآية دليل صريح على بطلان عذرهم ، ورفض الله له كمبرّر مشروع لاعراضهم عن الحق ، حيث اعتبرهم والمكذّبين سواء.

(وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ)

إنّ سنن الحياة الدنيا والآخرة ومقاييسهما حقائق قائمة وثابتة لا تتغيّر (مستقرّة) ، فلا يمكن تغييرها بهوى النفس أو بتمنّيات البشر ، وتشير هذه الآية إلى ما بيّنته الآيات الأخرى كقوله سبحانه : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) (٢) ، (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٣) ، (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) (٤) ، (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (٥) ، كما أنّ حكمة الامام علي (ع) : «الأمور مرهونة بأوقاتها» مستوحاة

__________________

(١) غافر / (١٩).

(٢) الرعد / (٣٨).

(٣) الأعراف / (١٢٨).

(٤) طه / (٦٩).

(٥) الإسراء / (٨١).

٢١٤

من هذه الآية الكريمة ، وهذا التفسير يجمع بين آراء المفسرين القائلة بأنّ الأمر المستقر هو العواقب ، أي أنّ عاقبة الأمور مستقرة على قيم ثابتة ، كما ترسي السفينة بالتالي عند الشاطئ ، أو ما قالوا : بأنّ عاقبة الخير الحسنى والشر السوئى ، وقال بعضهم : أنّها القيامة حيث تستقر عندها سفينة الدنيا ، لأنّها تبرز كأمر واقعي محسوس ، ويتميّز الحق من الباطل.

بلى. إنّ كلّ أمر واقعي حق سوف يستقرّ مكانه ، ويتكرّس أكثر فأكثر رغم الظروف والعوامل المضادّة ، واستقراره أعظم دلالة من ملايين الكلمات ، فلو اجتمع الإنس والجن على إنكار وجود الجبال ، وجاؤوا بملايين الأدلة ، هل يتغيّر الواقع؟ كلّا .. ذلك أنّ المحور الحقيقي هو الواقعيات الخارجية الحقّة ، وليست الأهواء والتمنّيات والظنون ، ولعلّ معنى «حِكْمَةٌ بالِغَةٌ» التي تأتي لاحقا هو هذا الأمر ، إذ أنّ الحكمة هي وضع الشيء موضعه ، ولا يقدر على ذلك إلّا من عرف السنن الالهية النافذة في الخلق ، والنظام العادل الحاكم في كلّ شيء ، وإنّما كانت رسالات الله حكمة بالغة لأنّها تهدي الإنسان إلى المستقرّات من الحقائق الواقعية ، ومن ثمّ إلى منهج الحياة الأقوم والقائم على أساسها.

[٤] وإذا كانت القيم هي المستقرة (لا الأهواء) فإنّ أعذار أولئك الكفّار تذهب باطلا. أو ليس قد توافرت الشواهد على صدق الرسالة ، فلم كفروا بها؟ أو ليس قد تواترت الأنباء على أنّ من كفر بها أهلك ، وكفى بذلك زاجرا؟

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ)

ومن تلك الأنباء آية انشقاق القمر ، والمزدجر هو التخويف والترهيب ، وربّنا لم يكتف بإرسال الآيات ، وبيان القوانين للإنسان ، بل وأقام عليه الحجة البالغة حينما حذّره من مخالفتها ، «لئلّا يقول أحد لو لا أرسلت إلينا رسولا منذرا ،

٢١٥

وأقمت لنا علما هاديا ، (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (١).

[٥] وليس في آيات الله تعالى نقص أبدا ، بل فيها الحجة القاطعة ، إذ جعلها الله من الوضوح والكمال درجة لا عذر لأحد في الاعراض عنها وعن دلالاتها ، فهي كما يصفها تعالى :

(حِكْمَةٌ بالِغَةٌ)

والبلوغ هنا بمعنى التمام والكمال ، ومنه بلغ الرجل إذا اكتمل نفسيّا وعقليّا وعضويّا ، وبلغت الثمرة إذا نضجت وحان قطافها ، وهناك معنى آخر تنطوي عليه الكلمة وهو الوصول ، والحكمة الالهية كاملة عمقا وشمولا ، لا يعتريها نقص في المحتوى ولا الأسلوب ، ثم انّ الله أوصلها إلى الناس عبر أنبيائه المبلّغين ، فلا عذر لهم بأنّه لم يرسل رسولا ، وهذه الآية تشبه قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٢).

إذن فالحياة ليست فوضى ، بل ولها قوانينها وسننها المستقرة الثابتة ، والإنسان يحتاج إلى الحكمة البالغة المنطلقة من تلك الواقعيّات الحق ، لكي يعيش فيها كما ينبغي ، وهذه نجدها مبثوثة في كتاب الله ، الحكمة البالغة العظمى ، والنعمة الكبرى ، والهدية الالهية إلى الإنسان ، وقد بلّغها رسوله (ص) ، فلما ذا إذن هذا الضلال الذي تعيشه البشرية؟ والجواب : لأنّها لم تؤمن به ، ولم تطبّق آياته. إنّها وضعت بينها وبين تلك الحكمة حجب الاعراض والتبرير والتكذيب والهوى.

(فَما تُغْنِ النُّذُرُ)

__________________

(١) مفاتيح الجنان / دعاء الندبة.

(٢) الأنعام / (١٤٩).

٢١٦

كان يفترض أن تزجرهم عن الضلال والباطل فإذا بها تزيدهم طغيانا وكفرا ، وكان ينبغي أن تبكيهم فإذا بهم يضحكون ويهزأون ، وجاءت لتذكّرهم فإذا بهم يتوغّلون في الغفلة ، والقرآن يبيّن هذه الحقيقة في أواخر سورة النجم ، ويستنكر على المكذّبين واقعهم : «أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ* وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ* وَأَنْتُمْ سامِدُونَ»؟! (١)

[٦] وإذا وصل الإنسان إلى حدّ الاعراض عن الحكمة البالغة أو كله الله الى نفسه ، فلا ترتجى له هداية بعد ذلك ، وصرف عنه أولياءه ، ليزداد إثما على إثم ، ويتسافل دركا بعد درك ، فيلقى جزاءه المريع الذي يقصر عنه خيال البشر.

ويأمر ربّنا مكرّرا أصحاب الرسالة بترك المعرضين عنها ، ونتساءل : لماذا؟ إنّما لحكمة بالغة تتمثّل في أنّ الاستمرار في إنذارهم ومحاولة هدايتهم سوف يتسبّب في ضياع وقت كثير منهم لا بد أن يوفّروه لما هو أنفع ، فعليهم إذن أن يبلّغوا الرسالة إلى الحدّ الذي تقوم فيه الحجة على الآخرين ، ويسقط عنهم الواجب ، فإذا تبيّن لهم عدم نفعه وجب أن يتوجّهوا إلى هداية غيرهم ، وإلى تطبيق الرسالة على أنفسهم ، وتكوين الكيان الرسالي المتكامل ، أمّا متى يتولّى الرسالي عن دعوة الآخرين؟ فإنّ تحديد ذلك يكون على ضوء البصائر الالهية ، والقيادة الرسالية تعرف ذلك.

وهناك حكمة أخرى لواجب الاعراض عمّن يجحد آيات الله هي أنّهم هم المحتاجون إلى الرسالة ، والرسالة غنية عنهم ، فلا داعي للإلحاح الزائد عليهم ، أو تغيير بعض القيم وتطويعها وفق أهوائهم ليقبلوها ، كما فعل بعض علماء النصارى حيث أدخلوا في دين الله ما ليس فيه مجاراة للسلطان أو للعوام من الناس حتى يستهويهم الدّين ، وكذلك فعل بعض الجهلة من الدعاة عند المسلمين حيث أضافوا

__________________

(١) النجم / (٥٩ ـ ٦١).

٢١٧

إلى الدّين ما يستهوي الطغاة أو رعاع الناس ابتغاء كسبهم ، والله غني عنهم وعمّن يدعونه بهذه السبل إلى دينه.

ولا ريب أنّ المؤمن حريص على هداية الناس ، ويريد الخير لهم ، فمن الصعب عليه أن يتركهم حصبا لجهنم ، فهذا سيد الشهداء الامام الحسين (ع) تبتّل لحيته بالدمع ، وحينما يراه رجل من الأعداء يخاطبه : يا ابن فاطمة! أتبكي خوف القتل؟! فيقول : «لا ولكن لأنّني أعلم أنّكم تدخلون النار بقتلي» ، من أجل كلّ ذلك توالى الأمر بترك المعرضين في القرآن.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)

اتركهم وشأنهم ، وانتظر ، وتقدير هذا الفعل أقرب إلى السياق من قول بعض المفسّرين بأنّه : واذكر يوم القيامة حيث يدع الداع إلى شيء مكروه ، ذلك لأنّ انتظار يوم البعث لفضّ الخلافات مسألة معروفة في آيات القرآن الكريم.

وقد لا يقتصر الأمر بالتولّي على الدنيا وحدها بل يشمل الآخرة ، حيث يأمر الربّ نبيّه بالاعراض عنهم وتركهم وهو صاحب الشفاعة الكبرى يوم القيامة ، وحيث يلتمس الناس بأجمعهم حتى الرسل والأنبياء الشفاعة منه (ص) لأنّها الصراط الأقرب إلى الجنة. جاء في الحديث عن سماعة بن مهران قال : قال أبو الحسن (ع) : «إذا كانت لك حاجة إلى الله فقل : «اللهمّ إنّي أسئلك بحقّ محمّد وعليّ فإنّ لهما عندك شأنا من الشأن» فإنّه إذا كان يوم القيامة لم يبق ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ولا مؤمن ممتحن إلّا وهو يحتاج إليهما في ذلك اليوم» (١) وعن الامام الصادق (ع) : «ما من أحد من الأوّلين والآخرين إلّا وهو يحتاج إلى

__________________

(١) بحار الأنوار / ج (٨) ص (٥٩).

٢١٨

شفاعة محمّد (صلّى الله عليه وآله) يوم القيامة» (١) وكم تكون حاجة هؤلاء إلى الرسول في ذلك اليوم عظيمة! ولكنّ الله يأمره بالتولّي عنهم جزاء لتولّيهم وإعراضهم في الدنيا.

(يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ)

وعدم ذكر الداعي هنا (هل هو الله ، أم إسرافيل ، أم جبرئيل ، أم الروح؟) يدلّ على أنّ المهم الدعوة وما تنطوي عليه ، وليس شخص الداعي ، لذلك أبهم ، وفي ذلك من الترهيب الشيء العظيم ، ثم انّه تعالى زاد الأمر رهبة حينما جعل المدعو إليه مجهولا ، فقال «شَيْءٍ» والشيء نكرة ، والإنسان مجبول على الخوف من المجهول ، وأخيرا جاءت صفة الشيء تفيض رهبة وزجرا وتخويفا بتأكيدها على أنّ الشيء منكر ، وأصله أن يرد على الإنسان ما لا يتصوّره ويستسيغه ، وقيل للذنوب والخطايات منكرات لأنّها يمجّها عقل البشر ووجدانه ولا يستسيغانها.

[٧ ـ ٨] وإذا كان الإنسان في دار الامتحان قادرا على الاعراض عن دعوة الله وعدم إجابة داعيه ، فليس لأنّه يغلب الله بمعصية أو يعجزه هربا من عقابه ، كلّا .. «وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (٢) ، أمّا في يوم القيامة فإنّه تسلب حرّيته ، ويخلص الملك والحكم لله الواحد القهّار ، فلا مجال لأحد أن يتمرّد على أمره أو يرفض دعوته ، «يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً» (٣) ، هنالك يبدّل تكبّر المعرضين والمكذّبين ذلة وهوانا.

__________________

(١) المصدر / ص (٣٨).

(٢) الأحقاف / (٣٢).

(٣) طه / (١٠٨).

٢١٩

(خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ)

خشوع صغار وندامة يعكس عمق المذلّة في نفوسهم.

(يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ)

والأجداث هي القبور ، وحيث تبعث البشرية بجميع أجيالها التي تعاقبت على الأرض يصير العدد عظيما ، بحيث يركب بعضهم على بعض ، «فأحسنهم حالا من وجد لقدميه موضعا ، ولنفسه متّسعا» (١) كما يقول الامام علي (ع) ، والقرآن يشبّه الناس في حشرهم بالجراد حينما ينتشر ، أي يتكاثر بأعداد هائلة في مثل حالات البلاء ، فهو حينئذ كثير متراكم ، والقرآن هنا يقدّم الحديث عن حالتهم «خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ» على خروجهم من القبور ، لأنّ بيانها هو هدف السياق من ذكر القيامة ، وهو يمضي يحدّثنا عن حال الذين أعرضوا وكذّبوا واتبعوا أهواءهم بدل أن يتبعوا الدعاة إلى الله عزّ وجل.

(مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ)

قال صاحب المجمع : الهطع المشي السريع بالإلجاء والإكراه والاذلال ، وقال الزمخشري : بمدّ الأعناق ، أو ناظرين إليه (إِلَى الدَّاعِ) لا يصرفون أبصارهم عنه إلى غيره ، وقال الراغب : هطع بصره أي صوّبه ، وبعير مهطع إذا صوّب عنقه ، والذي يبدو أنّ الله قطع الكلمة عن الاضافة ، فلم يقل مهطعين رؤوسهم مثلا ، وذلك ليتسع معناها إلى مضمون أشمل هو تجميع كلّ جوارح البدن وجوانح القلب في اتجاه الداعي ، وهذا يدلّ على عمق طاعتهم لداعي الله.

__________________

(١) نهج البلاغة / خطبة (١٠٢).

٢٢٠