من هدى القرآن - ج ١٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-17-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى

هدى من الآيات :

تهدينا آيات الدرس الأوّل إلى علاقة الرسول (ص) بربّه من خلال الوحي ، هذه الميزة التي تميّزه عن دعاة النظريات البشرية ، وعما تتفتق به عقول النوابغ من أفكار. إنّه لا ينطق إلّا بإذن الله ، ممّا يجعله حجة وقدوة للبشرية في كلّ مكان وزمان ، وهو على يقين تام بنبوته ، لا يشك في ذلك طرفة عين أبدا.

ولا شك أنّ هذه منزلة رفيعة بلغها النبي الأعظم (ص) دون سائر البشر وأعلى من سائر الأنبياء ، ولكن ذلك لم يصيّره إلها ، بل تدلّى ، وذلك يعني أنّه أرفع من الخلق ، وأدنى من الخالق.

بينات من الآيات :

[١] (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى)

١٤١

قد يكون القرآن يقصد هنا نجما معيّنا أخبر المسلمين بسقوطه في المستقبل ، كما تشير الروايات إلى ذلك ، ولكنّنا بالنظر إلى الظاهر وإلى الهدف من وراء هذا القسم نستطيع اعتباره شاملا لكلّ نجم ، وإنّما عرّف الله المقسم به ب (ال) لأنّه أبلغ من التنكير في القسم كما قيل ، ولكن لماذا يقسم القرآن بالنجم حين يهوي؟

أولا : ربما لأنّ الكثير من الناس كانوا يعتقدون بأنّ النجوم ثابتة لا تتغيّر ، وقد اتخذها بعضهم آلهة من دون الله ، وسقوطها أبطل هذا الإعتقاد الضال.

ثانيا : قد لا يكون المقصود من الهوي السقوط والانتشار ، كما في قوله تعالى : (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) (١) ، (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) (٢) كعلامة ليوم القيامة ، وإنّما الميل إلى طرف من الأفق ، الأمر الذي يجعله أفضل هداية وتعريفا للإنسان بالطريق.

[٢] وكما أنّ النجم رمز للهداية فإنّ الرسول (ص) هو علم رفيع لهداية البشرية ، كما قال الإمام علي (ع) : «ألا إنّ مثل آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) كمثل نجوم السماء ، إذا خوى نجم طلع نجم» (٣) ، ولكنّ الرسول (ص) يختلف عن النجم في أنّ دلالته وهدايته للناس تبقى قائمة في رسالته وسيرته حتى بعد موته ، أمّا النجم فإن دلالته تنتهي بهويه ، كما يقول الإمام علي (ع) : «أيّها الناس حذوها من خاتم النبيين (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : إنّه يموت من مات منّا وليس بميّت ، ويبلى من بلي منّا وليس ببال» (٤) ، وأولى بالعاقل أن يتبع هدى الرسول الذي يتبع الحق ، ولا يكذب أهله ، لا أن يتبع ظنون نفسه ، ولا تخرّصات

__________________

(١) التكوير / ٢

(٢) الإنفطار / ٢

(٣) نهج البلاغة / خ ١٠٠

(٤) نهج البلاغة / خ ٨٧

١٤٢

الكهنة والمنجّمين.

(ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى)

الضلالة هي الانحراف عن أصل الطريق ، بينما الغواية ـ حسبما يبدو ـ الانحراف عن سواء الطريق ، فقد يضل الواحد طريقه إلى مدينة شرقية فيتجه غربا ، وقد يغوي عنها فلا يتجه إليها عبر خط مستقيم .. ولم يضل النبي طريقه نحو الله فيختار ـ حاشاه ـ طريقا آخر ، كما لم يتنكّب عن الخط المستقيم ولا شيئا قليلا ، فلم يكن كأبينا آدم ـ عليه السلام ـ الذي قال عنه ربّنا : «وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى» (١).

[٣ ـ ٤] بلى. لقد زعم البعض أنّ عصمة النبي (ص) محدودة في الشؤون المتصلة بالرسالة نفسها وحسب ، ولكن السؤال : إذا كيف نعرف أنّ ما يتحدّثه الرسول هل هو جزء من الرسالة ، أو هو شأن من الشؤون التي يخطأ فيها؟ كلّا .. إنّ الله قد عصم الأنبياء جميعا ، وأيّدهم بروح القدس ، حتى تتمّ حجته على خلقه ، ولا يبرّروا مخالفتهم لهم بعدم الثقة بأنّ كلامهم من عند الله ، وقد قال سبحانه : «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» (٢) ، وقال : «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ» (٣).

إنّ الإنسان تنازعه من داخله قوّتان : نور العقل الذي يهديه إلى الحق ، وشهوات الهوى التي تدفعه باتجاه الباطل ، ولقد أدّب الله نبيّه (ص) إلى أن اعتصم من آثار الهوى ، وجسّد الحق لا يزيغ عنه لحظة ولا قيد شعرة.

__________________

(١) طه / ١٢١

(٢) الحاقة / ٤٤ ـ ٤٦

(٣) الجن / ٢٦ ـ ٢٧ ـ ٢٨

١٤٣

إنّ العقل المحض لا يخطئ أبدا ، ولذلك اعتبره الإسلام رسولا باطنا كما أنّ الأنبياء كانوا رسلا ظاهرين ، وحجة خفيّة كما الرسالات حجة ظاهرة.

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)

ومن عمق الأدب القرآني وبلاغته أنّه لم يكتف بكلمة «وَحْيٌ» بل أضاف إليها كلمة «يُوحى» الفعل المبني للمجهول ، وذلك لأنّ الوحي قد يكون من فعل نفس الإنسان ، أمّا إذا بني للفاعل المجهول فإنّه يكون من طرف آخر ، والآية التالية تبيّن الموحي وهو الله شديد القوى ، نفيا لاحتمال أن يكون الرسول يتلقّى رسالته من قوى يتصل بها كالجن أو بعض الكهنة ، كما ادّعى عليه الجاهلون «وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ» (١) ، كلّا .. إنّه يتلقّى رسالته عبر الوحي من الله ، وهذا الاتصال هو الذي يمدّه بالعصمة ، وحديث عصمة الرسول حديث طويل بحثه الدارسون ، وقد اختلفوا فيه كثيرا ، وأنا أترك الخوض في هذا الموضوع بالصورة التي بيّنها الكثير ، وأقتصر هنا على الحديث عنه من زاوية هامّة جدا ، وهي دراسة حياة الرسول (ص) ، لأنّ ذلك كما اعتقد سوف يكشف لنا شخصيته الفذّة ، وكيف أنّها لم تتأثّر بأيّ عامل هوى ، إنّما كانت دائما وأبدا صنيعة العقل والوحي.

لقد عاش (ص) في مكّة المكرّمة ـ قبل أن يظهره الله على المشركين فيها ـ تلاحقه عصابات الضلالة والبغي من قريش ، يحاولون أن يخدعوه عن دينه ، ويصرفوه عن رسالته ، بالإرهاب تارة وبالترغيب أخرى ، حتى بلغ الأمر بهم أن عرضوا عليه السلطة المطلقة عليهم وعلى أموالهم ، ولكنّه لم يخش إرهابهم ، ولم تحرّفه عروضهم المغرية ، إنّما تسامى على ذلك كلّه ، وأجابهم : «والله لو وضعتم الشمس في يميني ، والقمر في يساري ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه» ،

__________________

(١) الدخان / ١٤

١٤٤

واضطر من شدّة ضغوطهم وأذاهم إلى الهجرة عن مكة ، وكانت القبائل جميعها ترفض إيواءه عداوة له أو خوفا من قريش ، وسار نحو الطائف لعلّه يجد مفزعا فيها ، ولكنّه اصطدم بحقدهم الدفين ضدّه وضدّ رسالته ، حيث طردوه وأدموا ساقيه الشريفتين بالحجارة ، لكنّه مع ذلك كان يتحدّى الواقع المر ، ويسمو بروحه الطاهرة إلى آفاق الإيمان بالله ، فقد جاء في الخبر أنّه رفع يديه إلى السماء وقال : «اللهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون ، إلهي إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي».

وحينما هاجر إلى المدينة المنوّرة انطلق منها يقهر القوى العسكرية المضادة ، فحطّم كبرياء قريش ، ودمّر حصون اليهود من أعداء الرسالة وغيرهم ، وإلى حين رفعه الله إليه كان قد جهّز جيشا ليقاتل الروم القوة العظمى يومذاك ، وبين هذا وذاك بنى أمّة وحضارة لا زالت البشرية ولن تزال كلّما تقدّم بها الزمن والتطوّر تجد نفسها دون عظمتها. وهو مع ذلك لم تتغيّر أخلاقه ولا سيرته في العيش ، إنّما بقي وهو الحاكم العظيم يربط حجر المجاعة على بطنه ، ويتواضع للصغير والكبير ، أترى من هذه حياته ، ومن جعله الله أسوة مطلقة وصفها بالحسن إلّا أن يكون معصوما؟ ثم أليست العصمة أن لا يتأثّر الإنسان بالعوامل السلبية ، ولا يخرج عن خطّه ولا قيد شعره؟ بلى. إذن فلندرس حياة الرسول الأعظم (ص) هل نجد فيها ولو كلمة أو تصرّفا يخالف الحق؟

إنّ من السهل على العاقل أن يميّز الذي ينطق عن الهوى عمّن ينطق عن العقل ، فالذي ينطق عن الهوى لا يصدق دائما ، ولا يكون حديثه موافقا للعقل ، إنّما يكون تعبيرا عن شهوات صاحبه ، ومتناقضا متقلّبا حسب الظروف والمصالح.

ثم لننظر إلى الرسالة التي جاء بها النبي هل تخالف العقل والحق؟ وهل فيها شيء من التناقض؟ كلّا .. إذن فهي معصومة ، ومن عند الله ، (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ

١٤٥

غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (١).

ثمّ أنه كان ينقل ما ينزل عليه من الله بامانة تامّة إلى المجتمع لا يغيّر شيئا أبدا ، وحتى الآيات التي تشتمل على لومه كان يثبتها في الرسالة ، ويبلّغها للناس ، ولو كان يتبع أهواءه لكان يخفيها عليهم ، ومن هذه الآيات قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً* وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً* إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) (٢) وقوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) (٣) ، والآية الكريمة : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) (٤) وأشدّ من ذلك كلّه قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (٥).

وأخيرا : لم يكن النبي يبلّغ الرسالة للآخرين فقط ، بل كان هو يطبّقها أيضا ، وقبل غيره ، بما فيها من واجبات تقتضي أن يخالف الإنسان أقوى منعطفات الهوى ، فهو يتقدّم المؤمنين في أمر حاسم وخطير كالقتال. أترى لو كان يتبع أهواءه يصنع كلّ ذلك؟

[٥ ـ ٦] وكيف يتبع الرسول هواه ، فيخفي بعض الذي أنزل عليه ، أو يتقوّل على الله بدافع الشهوة والمصلحة ، وهو يعلم ما عنده من البطش والشدة؟

__________________

(١) النساء / ٨٢

(٢) الإسراء / ٧٣ ـ ٧٥

(٣) التوبة / ٤٣

(٤) آل عمران / ١٢٨

(٥) الحاقة / ٤٠ ـ ٤٧

١٤٦

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى)

ذو الإرادة المطلقة النافذة في الحياة ، وهذه ضمانة لتنفيذ الحق الذي جاء به القرآن وتطبيقه على الحياة.

(ذُو مِرَّةٍ)

أي مطلق العلم والحكمة ، ممّا يجعل الرسالة (الوحي) كاملة دقيقة لا يلحقها نقص ولا عيب ، ولأنّ الرسول كان يتلقّى رسالته وعلمه من صاحب هاتين الصفتين فقد تكامل بالتأييد والعلم الإلهيين ..

(فَاسْتَوى)

وفي الآية أقوال شتى : فقال الكثير من المفسّرين : أنّ من علّم رسول الله هو جبرئيل الذي هو شديد القوى ، وهو أيضا ذو مرّة وقد استوى.

وفي كلمة «ذُو مِرَّةٍ» قال البعض : أنّ معناها صاحب قوّة ، وقال آخرون : ذا عقل ، وقيل : صاحب خلق حسن ، أمّا عن الإستواء فقال البعض : أنّ معناه أنّ جبرئيل استوى هو والرسول ، وقال البعض : أنّ الرسول قد استوى ، وقال البعض : بل الله هو الذي استوى على عرش القدرة.

ولعل التفسير الذي اخترناه آنفا هو الأقرب ، لأنّ السياق لا يحدّثنا شيئا عن جبرئيل ، ثم أنّ الإستواء الذي يهتم به سياق السورة متصل بالرسول ، لأنّه يحدّثنا عن الرسول وليس عمّن علّمه.

[٧] وبهذا الاتصال أيضا سمى النبي محمد (ص) بروحه طهرا وعرفانا وزلفى إلى أفق الحقّ الأعلى ، فصار سيّدا لأفضل خلق الله وهم النبيّون (عليهم السلام) ،

١٤٧

ولقد كان عروجه إلى الله في تلك الرحلة المشهودة تجسيدا لذلك السمو.

لقد كان (صلّى الله عليه وآله) يتلقّى الوحي عبر جبرائيل حينا ، وبصورة مباشرة حينا ، ولعلّ أعظم ساعات التلقّي كانت حينما رفعه الله إلى مقام قال عنه رفيقه جبرئيل : «مكانك يا محمّد فلقد وقفت موقفا ما وقفه ملك قط ولا نبي» حتى لم يبق بينه وبين ربه واسطة ، ودنى من الله قربا فكان كما قال الإمام الصادق (ع) : بينهما حجاب يتلألأ بخفق ، فنظر في مثل سمّ الإبرة إلى ما شاء الله من نور العظمة ، فقال الله تبارك وتعالى : «يا محمّد! قال : لبيك» (١) وكلّمه تكليما ، كما كلّم موسى بن عمران (عليه السلام).

(وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى)

يطوف معه جبرئيل وهو على البراق ، يصعد من سماء إلى أخرى ينظر إلى آيات الله ، ويزداد برؤيتها يقينا وصعودا في آفاق الإيمان حتى بلغ السماء السابعة.

(ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى)

حتى بلغ حجب النور ، يقول النبي (ص): «فقال لي جبرئيل : تقدّم يا محمّد ، وتخلّف عني ، فقلت : يا جبرئيل! في مثل هذا الموضع تفارقني؟! فقال : يا محمّد إنّ انتهاء حدّي الذي وضعني الله عزّ وجلّ فيه إلى هذا المكان ، فإن تجاوزته احترقت أجنحتي ، بتعدّي حدود ربّي جلّ جلاله ، فزخّ بي في النور زخّة حتى انتهيت إلى حيث (ما) شاء الله من علوّ ملكه» (٢).

ويخالف الفكر الإسلامي الأصيل النظرة الفلسفية ، أو ما يسمّيها البعض

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ١٨ ـ ص ٣٠٦

(٢) المصدر / ص ٣٤٦

١٤٨

بالعرفانية في علاقة الخالق بالمخلوق ، فبينما ترى هذه وحدة الوجود وإمكانية الحلول ، تعالى الله عمّا يصفون ، تفصل النظرية الإسلامية بين الإثنين ، وترى أنّ الخالق غير المخلوق ، وأنّه لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يصل الإنسان إلى مقام الربوبية ، مهما بلغ من الفضل والعلم والإيمان ، بل المجال مفتوح أمام البشر للتكامل في معارج القرب من ربّه ، أفقا أفقا ، ودرجة درجة ، دون أن ينتهي ذلك أبدا ، لأنّ «الله خلو من خلقه ، وخلقه خلو منه» (١).

إنّ القرآن يقرّ رحلة المعراج ودنوّ النبي (ص) من ربّه ، ولكنّه يعتبره دنوّا معنويّا لا ماديّا ، ويقول بأنّه (صلّى الله عليه وآله) تدلّى في علوّه ، كما الدلو حينما يتأرجح في البئر فلا هو إلى قعره حيث الماء ، ولا هو إلى أعلاه حيث الأرض ، إنّما بين الإثنين ، وهكذا سمى الرسول الأكرم (ص) حتى ارتفع عن سائر الخلق بقر به من الله ، ولكنّه لم يصل إلى مقام الربوبية ، فهو فوق الخلق ودون الخالق ، وفي الخبر عن ثابت بن دينار قال : سألت زين العابدين عليّ بن الحسين (عليهما السلام) عن الله عزّ وجلّ جلاله هل يوصف بمكان؟ فقال : «تعالى الله عن ذلك» ، قلت : فلم أسرى بنبيّه محمّد (ص) إلى السماء؟ قال : «ليريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه» ، قلت : فقول الله : «ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» قال : «ذاك رسول الله (ص) دنا من حجب النور ، فرأى ملكوت السماوات ، ثمّ تدلّى فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض» (٢).

وفي حديث آخر عن يونس بن عبد الرحمن قال : قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر (ع) : لأيّ علّة عرج بنبيّه إلى السماء ومنها إلى سدرة المنتهى ، ومنها إلى حجب النور وخاطبه وناجاه هناك ، والله لا يوصف بمكان؟ فقال (ع) : «إنّ الله لا

__________________

(١) التوحيد ـ للصدوق / ص ١٤٣

(٢) بحار الأنوار / ج ٨ / ص ٣٤٧

١٤٩

يوصف بمكان ولا يجري عليه زمان ، ولكنّه عزّ وجلّ أراد أن يشرّف به ملائكته وسكّان سماواته ، ويكرمهم بمشاهدته ، ويريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه ، وليس ذلك على ما يقوله المشبّهون ، سبحان الله وتعالى عما يصفون» (١)

وقد يكون التدلّي الأخذ من المعرفة والعلم ، كقولنا تدلّى فلان إذا أرسل دلوه في البئر ، واغترف منه ماء ، فإنّ الرسول كان يتدلّى معرفة من بحار العلم والنور التي مرّ بها في ملكوت السماوات السبع أثناء رحلة المعراج ، قال الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام في جواب له على سؤال رجل عن هذه الآية ومعنى «فَتَدَلَّى» : «إنّ هذه لغة في قريش ، إذا أراد الرجل منهم أن يقول : قد سمعت يقول : قد تدلّيت ، وإنّما التدلّي الفهم» (٢) وكلّما فهم الإنسان الحقائق ، وازداد معرفة بربّه ، كلّما تقرّب إليه ودنى منه ، ولعلّ مرور الرسول في عروجه بملكوت السماوات ، ومشاهدته لما فيها من الآيات التي كانت تعرّفه بربّه أكثر فأكثر كلّما صعد في الأفق نحو الحدّ الذي وصل إليه وتجلّى له فيه نور ربّه ، كان تهيئة له ليرى التجلّي الأعظم لله في نوره الذي قرب منه الرسول (ص).

(فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى)

أبدا ليس الله بعيدا عن خلقه. أولم تقرأ في الدعاء : «وأنّ الراحل إليك قريب المسافة ، وأنّك لا تحتجب عن خلقك إلّا أن تحجبهم الأعمال دونك» (٣).

ولكنّ الإنسان هو البعيد عن ربّه. أو ليس قد تراكمت على نفسه حجب الغفلة والجهل والمعاصي ، فكيف يتلقّى نور ربّه؟!

__________________

(١) تفسير نور الثقلين / ج (٥) / ص (١٨٥).

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ١٥١

(٣) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ١٥٢

١٥٠

وهب أنّه طهر قلبه من كلّ ذلك فكيف تستقبل هذه النفس المحدودة العاجزة أنوار عظمة الخالق دون أن يتصدّع قلبه. أو ليست قدرة الاحتمال عند النفس البشرية محدودة؟ وهل تصبر العين على التركيز في قرص الشمس طويلا؟ كلّا ..

لقد تجلّى الربّ لحظة للجبل فجعله دكّا ، ولم يصبر قلب موسى ذلك النبي العظيم لرؤية الجبل الذي تدكدك بتجلّي الرب فخرّ صعقا ، فيا ترى كيف صمد قلب محمّد (صلّى الله عليه وآله) لنور ربّه ، وأيّ مقام سام تعالى إليه نبيّنا الأكرم حتى كان قاب قوسين من ربّه أو أدنى؟!

ولم يحدّد القرآن المسافة بالضبط ، لعلّه لبيان حالة التصاعد والتنازل التي يتعرّض لهما الإنسان في القرب والبعد من ربّه ، كما قال عن قوم يونس «وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» ، ولكنّه قال «قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» في مقام الرسول لأنّه في حالة تصاعدية من الإيمان لا تنازلية.

وكلمة أخيرة :

قال تعالى «قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» معبّرا بهذه الوحدة القياسية العرفية عن قرب الرسول للدلالة على شدّة القرب المعنوي من الله ، ولتأكيد الفاصلة بين الخالق والمخلوق ، وقد قالوا في قاب قوسين : أنّ القاب هو المسافة بين المقبض والسّية.

[١٠] وهنالك حيث اقترب الرسول من ربّه ، وتهيّأ من الجانبين ، أوحى الله إليه أمرا أبهمه في النصّ ب «ما» دلالة على العظمة.

(فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى)

قال عليّ ابن إبراهيم (ر ض) : «وحي مشافهة» (١) ، وقال الصادق (ع)

__________________

(١) مفاتيح الجنان / دعاء أبي حمزة الثمالي.

١٥١

لأبي بصير : «يا أبا محمّد ما جاءت ولاية علي من الأرض ، ولكن جاءت من السماء مشافهة» (١).

[١١ ـ ١٢] وإذا كان الرسول رأى نور ربّه بعينه لمّا دنى منه ، فإنّه رأى ربّه ببصيرة الإيمان في وحيه المنزل عليه ، ورؤية القلب أجلى وأصدق من رؤية البصر ، بل إنّ هذه الرؤية القلبية كانت تأكيدا وتصديقا لما رآه بعينه من النور.

ولا يمكن أن يرى الإنسان ربّه بعينه مشافهة ، ولا بعقله لأنّه هو الآخر نعمة محدودة من الله ، إنّما يرى ربّه بربّه من خلال تجلّيه في آيات الخلق والوحي ، وفي الدعاء نقرأ إشارة إلى هذه الحقيقة عند قول الإمام (ع) : «يا من دلّ على ذاته بذاته ، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته ، وجلّ عن ملاءمة كيفيّاته ، يا من قرب من خطرات الظنون ، وبعد عن لحظات العيون» (٢).

وقلب الإنسان حينما يرى شيئا فإنّه لا يخطئ في رؤيته ، ذلك أنّ وجدان الإنسان يصدّق الحق.

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى)

من الحق النازل عليه من عند الله ، بل هو على يقين وقناعة راسخة ، لا يمكن أن تزلزله الشبهات وجدليّات الجاهلين ، وأقوال الرسول (ص) وسلوكيّاته الشخصية والاجتماعية كلّها تدلّ على أنّه لم يكن يتكلّف في إيمانه ، وإنّما كان ينطلق من قناعة صادقة.

(أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى)

__________________

(١) المصدر / ص ١٥٠.

(٢) مفاتيح الجنان / دعاء الصباح

١٥٢

إنّكم لا يمكن أن تحرّفوا مسيرته ، أو تدخلوا إلى نفسه الشك في رسالته ، لأنّه على اليقين.

قال محمّد بن الفضيل سألت أبا الحسن (ع) هل رأى رسول الله (ص) ربّه عزّ وجلّ؟ فقال : نعم ، رآه بقلبه. أمّا سمعت الله عز وجل يقول : «ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى» لم يره بالبصر ، ولكن رآه بالفؤاد (١) ، وسئل الرسول (ص) عن الآية نفسها فقال : «قد رأيت نورا» (٢).

[١٣ ـ ١٥] (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى)

وذلك يحتمل معاني ، منها : أنّ الرسول كان يرى الله متجلّيا في كتابه (الوحي) ، ثم رأى تجلّيا آخر لربّه عند ما عرج به جبرئيل (ع) إلى الأفق الأعلى ، ودنى من ربّه فخاطبه مشافهة ، وقد يكون المعنى : أن جبرئيل عرج بالنبي إلى حيث أوحى له الله ما أوحى ، وهناك رأى ببصره نور الله ، وبقلبه رأى ربّه ، ثم عرج به إلى مقام آخر رأى فيه تجلّ ثان لله عزّ وجل ، وهو قوله تعالى :

(عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى)

وهي شجرة في السماء السابعة (عن علي بن إبراهيم) (٣) «وإنّ غلظ السدرة لمسيرة مائة عام من أيّام الدنيا» (٤) عن الباقر (ع) ، وربما سمّيت بهذا الاسم لأنّها الموضع الذي ينتهي الملائكة إليه بأعمال العباد (٥) ، ولأنّها منتهى ما يمكن أن يبلغ

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ١٥٣

(٢) المصدر

(٣) المصدر / ص ١٥٥

(٤) المصدر / ص ١٥٤

(٥) المصدر

١٥٣

إليه مخلوق قربا ودنوّا من ربّه. (١)

وقيل : هي شجرة طوبى (٢) ، وقال عليّ بن إبراهيم (رض) هي الشجرة : «التي يتحدث تحتها الشيعة في الجنان» (٣) ، ولعلّها البرزخ بين عالمي الدنيا والآخرة.

والآية الكريمة تشير إلى هذا التفسير ، قال تعالى :

(عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى)

[١٦ ـ ١٧] وهناك تجلّى نور الربّ لنبيه الأعظم (ص) فغشي السدرة ، كما تجلّى من قبل لموسى بن عمران (ع) ففاض نور الوحي على تلك الشجرة التي أوحى الله إليه عندها.

(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى)

من نور ربّها ، وعندها ثبّت الله فؤاد نبيّه ليرى ذلك النور ، ويبصر به آياته ، قال الإمام أبو جعفر (ع) : «فتجلّى لمحمّد نور الجبّار عزّ وجلّ ، فلمّا غشي محمّدا (ص) شخص بصره ، وارتعدت فرائصه ، فشدّ الله عزّ وجلّ لمحمّد قلبه ، وقوّى له بصره ، حتى رأى من آيات ربّه ما رأى» (٤) فلأنّ الله ثبّته استطاع أن يستوعب الحقائق.

(ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى)

__________________

(١) المصدر / ص ١٥٥ وص ١٥٦ رقم ٤٤

(٢) بحار الأنوار / ج ١٨ ـ ص ٢٨٩

(٣) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ١٥٦

(٤) المصدر / ص ١٥٤

١٥٤

والزيغ هو الانحراف ، قال تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (١) يعني لمّا انحرفوا عن الحق ، وقال : «رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا» (٢) أي لا تحرفها عن الحق ، وقال : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي انحراف (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) (٣) ، ولكنّ زيغ البصر هنا يعني انحرافه بعامل الخوف ، ويشبهه قول الله : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) (٤).

أمّا الطغيان فهو الزيادة السلبية في الشيء ، ومنه طغيان الحاكم إذا بالغ في الظلم ، وطغيان النهر إذا فاض ماؤه ، وطغيان البصر أن يرى الإنسان الشيء أضخم من حجمه ، والرسول لم يزغ بصره ، بل كان مطمئنّا ركّز نظره في الحقيقة لم ينحرف عنها بما ثبّته الله تعالى ، ولم تطغ عينه فكان ما رآه صغيرا ولكنّه صوّره لنا أكبر من حجمه عند ما رجع من عروجه.

[١٨] إنّ الآيات التي رآها كانت كبيرة بالفعل.

(لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى)

كسدرة المنتهى التي تظلّ الورقة منها الدنيا بأجمعها ، ويقف عليها ملك يسبّح الله لا يفتر عن ذلك ، وكنور الله الذي تجلّى للنبي (ص) عندها ، وهكذا الكثير من الآيات التي تعرّضت إليها أحاديث الإسراء والمعراج ، إلّا أنّ الكبر في الآيات لا ينصرف إلى حجمها وحسب ، إنّما هي قبل ذلك كبيرة في دلالتها على الحق.

__________________

(١) الصف / ٥

(٢) آل عمران / ٨

(٣) آل عمران / ٧

(٤) الأحزاب / ١٠

١٥٥

وكلمة أخيرة :

إنّ الآيات التي رآها الرسول (ص) لا يلمّ بها الكلام مهما كان طويلا وواضحا ، وقد لا تستوعبها أذهاننا ، لأنّ الكثير منها حقائق غيبيّة مجرّدة ، لذلك يأتي ذكرها في القرآن كما في الأخبار ذكرا إجماليّا.

١٥٦

أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ

___________________

٢٢ [ضيزى] : جائرة ، من ضاز يضيز إذا جار.

١٥٧

الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠)

١٥٨

أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى

هدى من الآيات :

المسافة بين الحق والباطل وبين الهدى والهوى هي بالذات المسافة بين الحقّ والتمنّيات ، وبين السعي والأحلام ، وإذا عرفنا الفارق بين واحدة من هذه المفارقات فإنّها ستكون مقياسا لنا نعرف بها مثيلاتها.

فالذين يعيشون على التمنّيات هم الذين يعبدون الأصنام ، زاعمين بأنّ عبادتهم لها سوف تغنيهم عن الحقّ الواقع ، وهم الذين يزعمون بأنوثة الملائكة وبنوّتهم لله ، وأنّهم يشفعون لهم من دون إذنه تعالى ، وهم كذلك الذين يتبعون الظن طلبا للتخلّص من مسئولية الحقّ والعلم.

ففي الدرس السابق بيّن القرآن وبوضوح كاف أنّ الوحي رؤية مباشرة وحضور النبي (ص) عند الله بدئ كلّ حق وبديع كلّ واقع سبحانه ، وكذلك شهوده الواعي للملك المنزل من عنده وهو جبرئيل (ع) ووعيه وعرفانه لآيات الله ، وبالتالي

١٥٩

فإنّ مسافة لا متناهية تفصل بين واقع الحضور والشهود والعلم عند الرسول وبين الأهواء والظنون عند أولئك الكفّار.

وهنا يلج السياق في الحديث المفصّل ببيان الضلالات التي وقع فيها المشركون بابتعادهم عن الهدى ، واعتقادهم بالأصنام ليس عن قناعة ، بل لأنّهم أرادوا منها الشفاعة ، والفرار من المسؤولية ، والآيات تنسف هذا الضلال بالتأكيد على أنّ الملائكة مع كرامتهم عند الله لا يملكون الشفاعة إلّا من بعد إذنه ورضاه ، فكيف بهذه الأصنام الحجرية التي لا تبصر ولا تسمع ، ولا تنفع ولا تضر ، بل يستوجب الإعتقاد بها الغضب والعذاب؟! بلى. إنّهم يتمنّون ذلك ويزعمون ، والظن لا يغني من الحق شيئا ، إذ ليس في هذا العالم إلّا الحق ، وإنّما الحق أن يبلغ الإنسان ما يسعى إليه.

بينات من الآيات :

[١٩ ـ ٢٠] الجهل أرضية أكثر العقائد الفاسدة ، فلأنّ المشركين لم يعرفوا عظمة الله وآياته طفقوا يعبدون الأصنام ، ولذلك نجد القرآن بعد تأكيد علم النبي (ص) بربّه من خلال الوحي يأتي على بيان فساد عقائد المشركين بالآلهة المزيّفة التي عبدوها من دون الله ، بتوجيههم إلى العلم وتبصّر الحقائق دون الاسترسال مع الأهواء ، ويقول مستنكرا هذا الضلال :

(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى)

وهي من أهمّ وأشهر الأصنام التي عبدها المشركون في الجاهلية ، فأمّا «اللَّاتَ» فقيل أنه صنم لأهل الطائف جعلوا له سدنة وكهنة وحجّابا ، وزعموا أنّه تأنيث لله سبحانه وتعالى ، وقالوا : إن كان لأهل مكّة بيتا يزورونه ويطوفون حوله كلّ عام فنحن لنا هذا الإله ، وكانت قبيلة ثقيف التي تسكن الطائف تقدّسه

١٦٠