من هدى القرآن - ج ١٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-17-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

وتحترمه ، وأمّا «الْعُزَّى» فقيل أنّه تأنيث عزيز ، وهو شجرة بين الطائف ومكة يقدّسونها ويعبدونها ، وقيل عن «مَناةَ» أنّه بين مكّة والمدينة (ولعلّ التعبير مستوحى من الأمنية) وكانت قبيلتي الأوس والخزرج وأخرى غيرهما يزورونه ويطوفون حوله ، وربما كانوا يحرمون عنده في طريقهم إلى مكّة المكرّمة.

والمشركون عبدوا هذه الأصنام ولم يروا عليها برهانا قاطعا ، إنّما نطقوا عن الهوى ، واتبعوا الظن ، أمّا الرسول فهو على بصيرة من أمره ، وهدى من ربّه. إنّه آمن بالله من خلال وحيه الذي تنزّل عليه ، الذي كان من الدلالة والحجّية أن رآه متجلّيا فيه ، كما رآه متجلّيا في مشاهدات المعراج.

[٢١ ـ ٢٢] وربما كان المشركون يعتقدون بأنّ هذه الأصنام هي رموز لملائكة في السماء ، فهم يقدّسونها لكي تقرّبهم إلى تلك الملائكة ، وهي بدورها تشفع لهم عند الله ، كما قالوا : «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى» (١) ، وحيث يعتقد الجاهلون بأنّ الملائكة إناث فقد سمّوا هذه الأصنام تسمية الأنثى ونسبوها إليه عزّ وجل ، والقرآن يستنكر هذه النسبة التي لا تقوم على أساس من العلم والحق.

(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى)

وحيث يعتقد المشركون بأنّ الذكر أفضل من الأنثى فكان ينبغي على ضوء عقيدتهم أن يتقرّبوا إلى الله بالأحسن لا الأسوأ ، ومن هذا المنطلق تكون قسمتهم ظالمة حتى حسب معتقداتهم الضالة.

(تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى)

بعيدة عن الحق ، وهم لم يروا الملائكة ولم يشهدوا خلقهم حتى يزعموا بأنّهم

__________________

(١) الزّمر / ٣

١٦١

كانوا إناث! ، وهنا تتضح منهجية القرآن ، فهو يحطّم العقائد المنحرفة من بناها الأساسية ، وذلك يزيل القدسية التي يعتقدونها في أصنامهم ، ببيان أظهر الأدلّة على زيفهم وانحرافهم ، مع أنّ الأظهر قد لا يكون هو أهمّ الأدلّة ، وقد لا يعبر عن كلّ الحقيقة ، ولكنّه يحطّم القدسية التي أضفوها على معتقداتهم ورموزها من الأصنام والطغاة ، وبعد أن تزول عقبة القدسية الموهومة عن طريق النفس يتحرّر الفكر ، وينطلق للبحث عن الحقيقة ، فيطرح القرآن الحقائق الأعمق للنظر فيها.

[٢٣] وبعد التمهيد المتقدّم الذي استهدف إزالة قدسية معتقدات المشركين ينسف القرآن أفكارهم من أساسها نسفا ، وذلك ببيان أنّها لا رصيد لها أبدا من الواقع والحق ، وأنّها لا تقوم إلّا على الأوهام والظنون.

(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ)

فهي لا واقعية لها ، بل هي مجرّد أسماء ورموز لا مسمّيات لها ، ولعلّ معنى ذلك أنّ قوّة هذه الأصنام نابعة من ظنونكم وأوهامكم ، لا من واقع حق وراء ذلك. أو ليس ما يتصوّره البشر من صور خيالية قائمة بنفسه ، ويكفي لإزالتها مجرد توقّف الخيال عن تصوّرها؟

تصوّر الآن نهرا من لجين مذاب ، واختر له اسما مثلا (نهلجين) ، ثم أوقف عملية التصوّر ، ماذا يبقى من هذا الذي سمّيته (نهلجين)؟ لا شيء ، كذلك حين يوقف المشرك توهّمه لقدسية الأصنام لا يبقى منها شيء ، وكذلك الطغاة (وهي الأصنام البشرية) تزول قوّتهم وهيبتهم بمجرّد إحساس المستضعفين بواقع أمرهم وانتزاع وهم القدسية عنهم. أليس كذلك؟

١٦٢

ثمّ أنّ هذه الأسماء لا شرعية لها ، لأنّ الشرعية تأتي من عند الله وحده ، وليس هناك دليل على أنّ الله أمر بعبادتها أو التوسّل بها إليه.

ومجرّد عدم وجود دليل (وسلطان مبين) من عند الله يسمح للإنسان بالتسليم لقوّة سياسية (صنم حجري أم بشري) يكفي دليلا على حرمة هذا الأمر. أو ليس الله قد خلقنا ، ونحن عبيده. أفينبغي للعبد أن يطيع غير مولاه؟!

وإنّما قال تعالى : «أَنْتُمْ» وأضاف إليها «وَآباؤُكُمْ» لكي يؤكّد مسئوليتهم هم عن انحرافهم ، وأنّه لا يجوز إلقاء مسئولية الانحراف على آبائهم وحدهم ، ونستوحي من هذه الآية أنّ منهج المشركين الخاطئ خليط من أمور ثلاثة :

الأوّل : وراثة الضلالة من الآباء ، بينما الشرعية الحقيقية يأخذها الإنسان من ربّه لا من آبائه.

الثاني : الظنون ، وهي الإفرازات السلبية للذهن البشري حينما تعمل فيه المؤثّرات الخاطئة.

الثالث : أهواء النفس ، ودورها : أوّلا : التمهيد للظنون ، وثانيا : ترسيخها كما ترسيخ ذلك التقديس الخاطئ للآباء ، لأنّها تلتقي معه.

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى)

وبالتدبّر في هذه الآية وما سبقها يتضح لنا أنّ حركة الإنسان نحو الزيغ تبدأ من أهواء النفس ، الذي يتحوّل إلى تمنّي ، والتمنّي إلى ظن (خيال) ، ثمّ تتحوّل التمنّيات إلى عقيدة وفكرة ، ثم يؤطّر البشر ذلك برموز وأسماء يزعمها ، فالأصنام

١٦٣

إذن ليست رموزا للملائكة ولا للقوى الطبيعية ، إنّما هي تجلّيات للأهواء النفسية والمصالح المادية ، فحينما يحبّ الإنسان الثروة يحبّ الثري ، ويتخيّل لهذا الحب رمزا ومذهبا ، ثمّ حينما يعبده فهو لا يعبد الصنم ولا الثرى أو الثروة ، إنّما يعبد أهواءه وشهواته ، وهكذا الذي يعشق الجمال أو الجنس ، ولو قمنا بدراسة تحليلية عن الأوثان والأصنام التي عبدها الجاهلون في شبه الجزيرة العربية ، أو تلك التي علّقوها في الكعبة ، أو الأخرى التي تقدّس وتعبد هنا وهناك ، لخلصنا إلى نتيجة واحدة وهي أنّها ترمز إلى قوى اجتماعية واقتصادية وسياسية أو ثقافات وتقاليد وأساطير عند أصحابها ، وأنّ عبادتها ليست إلّا عبادة للأوهام والأهواء المتجذّرة في نفوسهم.

وهذا الضلال ليس نتيجة انعدام الهدى أو غموضه ، فقد جاءهم الهدى من ربّهم ، وعلى لسان أفضل خلقه وأبلغهم وهم الأنبياء ، ولكنّهم تركوا العقل إلى الجهل ، والعلم إلى الظن ، والهدى إلى الهوى.

[٢٤] ولو تساءلنا عن سبب هذا الإختيار الضال لوجدناه محاولتهم التهرّب من ثقل المسؤولية بالأعذار المختلفة التي جاءت السورة لعلاجها ، ويبدو أنّ السياق يمهّد لذلك ويقرّبنا شيئا فشيئا منه ، فمن أهداف الرسالات الإلهية جميعا ترسيخ المسؤولية ، وتعرية الإنسان من حجب التبرير والأهواء التي يحاول أن يتخلّص من المسؤولية باسمها.

(أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى)

التمنّي هو خداع الإنسان لنفسه بشيء جميل من خلال الظنون والأوهام التي يصنعها بتخيّلاته ، فالجائع يتمنّى الشبع فيتخيّل القرص ، والعطشان يتمنّى الارتواء فيتوهّم الأنهار الرقراقة ، والشبق يتخيّل نفسه يلصق بمعشوقته ، وهذه حالة طبيعية في

١٦٤

الإنسان ، تعطيه التوازن في الحياة ، وكلّما كانت الحقائق والتطلّعات التي يصبو إليها كبيرة وهامّة كلّما كانت تمنّياته تأخذ أشكالا وأبعادا جديدة ، إلّا أنّ المبالغة في التمنّي تضرّ به لأنّه يخرجه من التعايش الواقعي مع الحياة إلى الأوهام والأساطير ، ومن السعي الجاد نحو الهدف إلى مجرد الظنّ والهوى. أترى لو جلس أحد في بيته وتمنّى وصول الرزق إليه هل يتحقّق ذلك له؟ وهكذا لو مشى في الدنيا خبط عشواء ، فإنّ مجرّد تمنّياته ـ المنطلقة من أهوائه والظنون والمبنية على اعتقاده بالأصنام ـ لن تدفع عنه المشاكل والويلات ، ولن تنقذه من العذاب ، بلى. للإنسان سعيه وعمله خيرا أو شرّا ، وهذا ما سنجد الآيات تنتهي إليه كمحصّلة نهائية لعلاج فكرة التمنّي ، قال الإمام الصادق (ع) : «تجنّبوا المنى ، فإنّها تذهب بهجة ما خوّلتم ، وتستصغرون بها مواهب الله جلّ وعزّ عندكم ، وتعقبكم الحسرات فيما وهمتم به أنفسكم» (١).

[٢٥ ـ ٢٦] وبطلان فكرة التمنّي ليس مختصا بالآخرة وحسب ، بل يشمل الدنيا أيضا ، ذلك أنّ الله الذي خلقهما رسم خريطتهما ، وأركز فيهما سبلا وسننا واقعية تجريان على أساسهما ، وليس على أساس الأحلام والتمنّيات ، يقول تعالى : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٢).

(فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى)

الله هو الحق ، وهو الآمر به ، وسلطانه الدائم ، وتدبيره المهيمن ، وقضاؤه النافذ ، كلّ أولئك ضمانة لتنفيذ الحق رغم تمنّيات البشر المعاكسة له ، وليس في

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٤٢

(٢) النساء / ١٢٣

١٦٥

ظلّ حكومة الله مجال لظنون الإنسان وتمنّياته ، ومن يزعم أنّه يتخلّص من سنن الله وحاكميته بالاعتماد على أمانيه فهو يخطئ ، لأنّه ينازع الله في سلطانه سبحانه ، ولكي يعمل أمنياته لا بد أن يخرج من سلطان الله ، ويبحث له عن حياة تغني فيها الأمنيات ، ولن يحصل ذلك لأنّ الحياة كلّها له عزّ وجلّ ، أو يبحث له عن حكومة يمكنها أن تواجه سلطانه وإرادته ، ولن يجد إلى ذلك سبيلا ، وحتى الملائكة الموكّلين بالطبيعة لا تغني شفاعتهم شيئا ، لأنّ قوّتهم من الله وليست ذاتية ، وهم لا يشفعون إلّا لمن شاء وارتضى.

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً)

لو افترض أنّهم بادروا للشفاعة ، فكيف بتلك الأصنام؟! بلى. إنّ شفاعتهم والأولياء تنفع بإذنه تعالى ، ولأفراد مخصوصين يرضى لهم الله الشفاعة.

(إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى)

وإذنه لا يحصل بسبب ضغط قوى أخرى ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، إنّما يأذن بإرادته العليا ، كما أنّه لم يجعل الشفاعة بعيدة عن القوانين والسنن التي خلق الحياة وفقها ، ومن هذه القوانين أن يكون الشفيع مرضيّا عنده.

وهكذا يحدّد القرآن الشفاعة بحدّين :

(أ) حدّ للشافع الذي لا يكون إلّا من يرتضيه الله ، فلا تجوز الشفاعة أساسا إلّا للأنبياء والأولياء والملائكة المقرّبين ، أمّا الأصنام الحجرية والبشرية فليست أهلا للشفاعة أبدا.

جاء في الحديث عن الرسول الأعظم (ص) :

١٦٦

«الشفاعة للأنبياء والأوصياء والمؤمنين والملائكة» (١).

وعنه (ص) : «ثلاثة يشفعون إلى الله عزّ وجلّ فيشفعون : الأنبياء ، ثمّ العلماء ، ثمّ الشهداء» (٢).

(ب) حدّ لمن يشفعون له ، فلا يشفع من وصل إلى درجة الشفاعة إلّا لبعض الناس ممّن يأذن الله له بأن تشمله الشفاعة وممّن رضي الله عنه. قال عزّ وجلّ : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٣).

وروى عن الإمام الصادق (ع) : «اعلموا أنّه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه شيئا ، لا ملك مقرّب ولا نبي مرسل ، ولا من دون ذلك ، فمن سرّه أن ينفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب إلى الله أن يرضى عنه» (٤).

وعن الرسول الأعظم (ص) : «الشفاعة لا تكون لأهل الشك والشرك ، ولا لأهل الكفر والجحود ، بل يكون للمؤمنين من أهل التوحيد» (٥).

وعن الإمام الصادق (ع) : «لو أنّ الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين شفعوا في ناصب ما شفّعوا» (٦).

ولا تنفي الآية بقوله تعالى «لا تُغْنِي» الشفاعة كلّيّا ، وإنّما تنفي حتميتها ، كما تؤكّد على ضرورة أن لا تكون علاقة الإنسان بالغير حتى العباد المكرمين

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٨ ص ٥٨

(٢) المصدر / ص ٣٤

(٣) الأنبياء / ٢٨

(٤) بحار الأنوار / ج ٨ ص ٥٣

(٥) المصدر / ص ٥٨

(٦) المصدر / ٤٢

١٦٧

كالملائكة والأولياء من الناس مضادّة لعلاقته بربّه ، ولا بديلا عنها ، بل امتدادا لها ، وقوله «لِمَنْ يَشاءُ» يهدينا إلى أنّ الشفاعة قضية شخصية تتوجّه إلى الإنسان الفرد بذاته بعيدا عن النظر الى انتمائه ، فقد ينتمي اجتماعيّا إلى فريق الضالين ولكنّها تناله ، وقد تفوته بالرغم من انتمائه إلى فريق المؤمنين ، والذي يحدّد الشفاعة هو علم الله النافذ إلى حقيقة الإنسان.

[٢٧] ثمّ يقول تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى)

والسؤال : لماذا يسمّي المشركون الملائكة إناثا ، وما هي علاقة ذلك بالكفر بالآخرة؟

لعلنا نجد الجواب في أنّ الأنثى رمز العطف والحنان ، وهم يسمّون الملائكة بذلك رجاء عطفهم وشفاعتهم لهم عند الله ، وبهذا الإعتقاد يحاول المشركون تبرير ممارستهم للذنوب في الدنيا ، واقناع أنفسهم بإمكانية التخلّص من مسئولياتها في الآخرة بالتوسّل بمن يعطف عليهم وهم الإناث من خلق الله وهم الملائكة حسب زعمهم ، وهذا كفر صريح بالآخرة كدار للجزاء العادل.

[٢٨] (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ)

وهو الإفرازات (التصوّرات والأفكار) الناتجة من إعمال الإنسان لخياله بعيدا عن البراهين الواقعية.

(وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)

ونفي البعض ينفي الكل ، وليس العكس ، وهو أبلغ في النفي ، فلا شيء من الحق يغنيه الظنّ أبدا ، والقرآن هنا يستثير قضية وجدانية هي قبح كلام الإنسان

١٦٨

فيما لا يعلم ، وقد تحدّث هؤلاء عن طبيعة الملائكة وذلك جزء من الغيب المحجوب عن علم البشر بشهادة وجدانه. أو ليس الإنسان ينفذ عقله إلى معرفة الأشياء عبر حواسه؟ أو ليس لكلّ علم أداته ووسيلته ، فما هي الحاسة التي نعلم بها غيب السموات والأرض ، وما هي الأداة التي نعرف بها طبيعة الملائكة ، وأنّهم إناث لا ذكور؟!

إنّها مشكلة البشر. إنّه يهوى شيئا فيتمنّاه ، ثم يظن أنّه واقع فيسعى وراء ظنّه خادعا نفسه.

[٢٩] وإنّما اتبع هؤلاء الظن لأنّهم اختاروا الدنيا على الآخرة ، فاكتفوا بالظن بدل العلم والحق ، وبالتمنّي بدل السعي ، وكلّ ذلك لأنّهم لم يعترفوا بالمسؤولية ، ولم يبتغوا مرضاة الربّ ، ولو آمنوا بالآخرة ، وظنوا أنّهم ماثلون أمام ربّهم للحساب غدا عن كلّ صغيرة وكبيرة ، إذا عرفوا أنّ الطريق إلى الحق هو العلم وليس الظن ، ولكنّهم آمنوا بالدنيا فقط ، والدنيا هي حياة اللامسؤولية ، وعلى الداعية الرسالي أن لا يبخع نفسه عليهم ، بل يتركهم وشأنهم.

(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا)

لأنّ مشكلة هذا النوع من البشر ليس عدم قناعته بالحق ، فهو يعلم بأنّه الهدى والصواب ، ولكنّه يتولّى عنه ابتغاء الدنيا ، وإنّما أمر الله بالإعراض عنهم لكي لا يتأثّر المؤمن بهم سلبيّا ، فيغيّر من رسالته صوب الدنيا ، تنازلا عن بعض أهدافها ، أو من أجل إقناعهم باتباعها ، ثم أنّه لا ينبغي للمؤمن أن يبدّد جهوده الغالية فيما لا يرجو نفعا منه ، بل فيما يخدم الرسالة ، ويقدّم المؤمنين خطوة إلى الإنتصار.

وقد قال تعالى : «عَنْ ذِكْرِنا» وهي للتعظيم ، ولم يقل عن ذكري ، لأنّ

١٦٩

الضمير المفرد يستخدمه الله في موضع إثبات التوحيد وتأكيده ، أو في مجال الرحمة والعطف ، والحال أنّ هؤلاء تكبّروا عن الحق ، وتولّوا معرضين عنه ، فالمقام مقام التعالي والتكبّر عليهم ممّا يتناسب واستعمال ضمير التعظيم (أو ما يسمّى بضمير الجمع) ، ذلك لأنّ إعراضهم لا ينال شيئا من عظمة الله ، كما أنّ إيمان المؤمنين لا يزيده سبحانه شيئا. وسمّى القرآن هنا بالذكر لأنّه في مقام علاج العقائد ، وهي قضايا وجدانية ، ولفظ الذكر بما يحويه من إيحاءات وإشارات لعلاقة القرآن بالفطرة البشرية أخدم للمعنى من غيره في هذا الموضع.

كما تنطوي نهاية الآية : «إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا» على فكرتين مهمّتين :

الأولى : إنّ المؤمن يفترق عن الكافر والمشرك في قضية أساسية هي أنّ الأوّل يريد الدنيا والآخرة ، ويسعى لهما معا ، موفّقا بين الحق الذي يجب عليه الالتزام به ، وبين نصيبه الذي أحلّ الله له من الدنيا.

والثانية : إنّ على المؤمن أن لا يضعف أمام أعداء الله أو يتملّق إليهم لأنّهم ظفروا بشيء من حطام الدنيا ، فذلك حظّهم ، بل يجب عليه أن يستمسك برسالته ، ويتصلّب في ولائه للحق ، ويعرض عنهم ، لأنّهم لا يملكون إلّا هذه الدنيا الزائلة.

[٣٠] وإنّ عدم إرادة المعرضين عن الذكر للحياة الآخرة ليس ناشئا من حسن اختيارهم ، وإنّما لجهلهم بتلك الحياة وما فيها من الثواب ، ولو علموا يقينا ما فيها من الفوز لأرادوها واشتدّت فاقتهم إليها ، وعظمت رغبتهم فيها ، ولكنّهم حصروا أنفسهم وحبسوا عقولهم في سجن الدنيا ، وهذه من معضلات الإنسان أنّه يصنع لنفسه سقفا من العلم ، ويكبّل عقله بأغلال الهوى وإصر الشهوات عن الانطلاق في رحاب العلم والحق ، وصدق الإمام علي (ع) حيث قال : «كم من عقل أسير تحت

١٧٠

هوى أمير» (١).

(ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)

وهذه الآية تؤكّد بأنّ الإيمان بالآخرة حجر الزاوية في تفكير الإنسان المؤمن.

ولكي يتم إعراض المؤمن عن الجاهلين يحتاج إلى أمور أهمّها :

١ ـ العلم بأنّهم على باطل ، وقد بيّن القرآن ذلك حينما أكّد بأنّهم (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) ، ثم ضرب أمثلة على ذلك كموقفهم من الملائكة ، وكفرهم بالآخرة ، وتولّيهم عن الذكر.

٢ ـ اليقين بأنّهم ضعفاء في المحصّلة النهائية بخسرانهم الآخرة.

٣ ـ المعرفة بأنّ حساب الناس ليس من مسئوليات المؤمنين ، إنّما الله يفصل بينهم ، ويعلم المهتدين والضالين.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى)

إذن فغلبة الضالين على المؤمنين عند الجدال أو عدم غلبة المؤمنين عليهم لا يغيّر من الواقع شيء ، فأهل الباطل هم أهل الباطل وأهل الحقّ هم أهله ، ذلك أنّ كلام الناس ليس مقياسا ، إنّما الحق والباطل هما المقياس بذاتهما.

ثمّ أنّ الخلافات ـ حسبما نستوحي من الآية الكريمة ـ لا تحسم في الدنيا لأنّها لم تخلق لذلك ، وكما قال الله :

__________________

(١) نهج البلاغة / حكمة ٢١١.

١٧١

«وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ» (١) ، والدار الآخرة هي محلّ الحسم والجزاء ، فلا ينبغي للمؤمن أن يكون جبّارا على الناس يحاول إكراههم على الهدى إن أوتي السلطة عليهم ، كما لا ينبغي عند ضعفه أن يهلك نفسه إذا ما تولّوا عن دعوته.

كما نستوحي من كلمة «عَنْ سَبِيلِهِ» في الآية أنّ في الحياة سننا وقوانين ، وهي السبيل إلى الحق ، وهذه يعلمها الله ويحاسب عليها ، يضلّ عنها جماعة فيصيرون إلى الباطل والعذاب ، ويهتدي إليها آخرون فيصيرون إلى الحقّ والسعادة ، والسبب أنّ الفريق الأوّل ينكر هذه الحقيقة ، بينما يؤمن بها فريق المهتدين فيبحثون عنها ، فإذا وجدوها طبّقوها ، وكيّفوا حياتهم وفقها ، وتجاوزوا الأخطاء والضلال.

__________________

(١) هود / ١١٨.

١٧٢

وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ

___________________

٣٢ [إلّا اللّمم] : أي الذي يلم بالإنسان ، ويرد عليه مما لا علاج من وروده غالبا ، وهي الصغائر مثل : كلمة نابية ، أو ضحكة غير جائزة ، أو نظرة محرّمة ، أو ما أشبه ذلك.

[أجنة] : جمع جنين ، الإنسان حينما يكون في رحم أمّه.

٣٤ [وأكدى] : أي قطع العطاء ، واشتقاقه من كدية الركية ، وهي صلابة تمنع الماء إذا بلغ الحافر إليها يئس من الماء ، فيقال :

أكدى إذا بلغ الكدية.

١٧٣

مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ

___________________

٤٩ [الشّعرى] : هو نجم في السماء يطلع آخر الليل ، كان جماعة من العرب يعبدونه.

٥٣ [والمؤتفكة] : وهي قرى قوم لوط (ع) التي ائتفكت بأهلها أي انقلبت ، وقيل للكذب إفكا لأنّه قلب للمعنى من جهته.

٥٧ [أزفت الآزفة] : أي قربت القيامة ودنت.

١٧٤

دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢))

___________________

٦١ [سامدون] : لاهون ، والسمود اللهو ، والسامد اللاهي.

١٧٥

وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى

هدى من الآيات :

بصراحة الحقيقة ، وبقوة اليقين ، يتقدم بنا السياق القرآني شيئا فشيئا الى الفكرة المركزية في هذه السورة ، وهي فكرة المسؤولية التي نجدها في تضاعيف أغلب آياتها وكأنها خافية لكل فكرة فيها وشاهد ، الا انها تتجلى كصراحة الشمس عند قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) الآية (٣٩).

ولكنّ الله قبل ان يقذف بهذا الحق على باطل التبرير واتباع الهوى والظن ، يذكرنا بلون من ألوان الشفاعة المقبولة عنده وهي شفاعة الأعمال الحسنة للإنسان عن اللمم من السيئات كما نجد تصريحا به في الآية الكريمة : «وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ» (١) ان تقوى الإنسان التي تجنبه كبائر الإثم تشفع له في الصغائر (اللمم) ، ولعل

__________________

(١) هود / ١١٤

١٧٦

تقديم هذه الفكرة (الشفاعة) المشحونة بالرجاء واللطف الالهي ، على فكرة المسؤولية وما فيها من الشدة والصرامة ، يهدف اعطاءنا الأمل في رحمة الله ، لكي لا نيأس فنتوغل في الجريمة والذنب ، أو نقعد عن عمل الصالحات ، بناء على تصوراتنا البشرية المرتكزة في القنوط والجزع. كلا ان الله رحيم ويحاسبنا بفضله لا بعدله ، والا لما دخل الجنة أحد كما قال الرسول الأعظم (ص) : «ولا أنا إلّا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» (١).

ثم يؤكد القرآن بخطاب فصل مسئولية الإنسان عن سعيه ، انه يجازى عليه ان خيرا فخير وان شرا فشر ، وهي تتعلق بنفي الشرك وبرفض الأنداد ومدى عمق حقيقة التوحيد في النفس فكلما زاد يقين الإنسان بالله وانه المالك الحاكم الأحد لكل شيء ، كلما كان أقرب من المسؤولية ايمانا وعملا ، وابعد عن الحجب والتبريرات التي تمنعه من حملها.

ان التوحيد يجعله لا يتوسل بوشائج الشرك ، التي هي بذاتها نوع من التبريرات التي يلجأ إليها الإنسان تهربا من المسؤولية. انك تراه يقبل كل شيء ، يقبل ان يكون عبدا للشجر وللحجر وللبقر لا فرق من أجل ذلك لكي يفر من ثقل المسؤولية. إذا فمتى ما طهرت نفسه من درن تلك الأصنام ، القائمة على أساس الثقافة الجاهلية الضالة ، القائمة بدورها على الظن وهوى النفس ، فانه يومئذ مجرد ان يقف امام المسؤولية بلا تبريرات يجد نفسه امام حجة بالغة تضطره الى التسليم لها عمليا.

بينات من الآيات :

[٣١ ـ ٣٢] لقد دعا الله المؤمنين الى الاعراض عمن تولى ، ولان البعض لا يعرض عن الكيان الجاهلي خشية الضعف والفقر ، أكد القرآن بان الله هو الغني

__________________

(١) بح / ج ٧ / ص ١١

١٧٧

الذي يملك خزائن الكون ، والقوي الذي يهيمن على الحياة. فلما ذا الخشية إذا من مقاومة الانحراف؟ ورفض هيمنة المنحرفين؟

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)

فهو وحده الذي وضع سنن الكائنات ويهيمن عليها ويجريها بقدرته وعدالته.

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا)

عدلا السيئة بمثلها.

(وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)

فضلا ، فالحسنة بعشر أمثالها ، وتتضاعف «وَلَدَيْنا مَزِيدٌ» (١) وبالتدبر في شطري الآية الكريمة الشطر الاول الذي ينطوي على فكرة التوحيد (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، والشطر الثاني الذي ينطوي على فكرة المسؤولية المنبثقة من حقيقة الجزاء (لِيَجْزِيَ) .. فاننا نعرف العلاقة الوثيقة بينهما ، وذلك ان الذين ينحرفون يحاولون التملص من مسئولياتهم بالشرك. والحق ان التوحيد يعني نفي الشريك ، وهذا بدوره ينفي التبرير ، اذن فالموحد الحق هو الّذي يتهيأ لحمل المسؤولية. ان هذه الآية تنسف ثقافة التبرير المتجسدة في عبادة الأنداد كالملائكة والأصنام وحتى العباد الصالحين تمنيا للشفاعة ، وذلك ببيان ان الله يجري عدالته في الحياة ، ولا أحد يستطيع فرض إرادته عليه ، لان الحياة تكوينيا وتشريعيا له وحده لا يشاركه فيها أحد ، وإذا كانت ثمة هيمنة ظاهرية للملائكة فهي تنفيذية وبإذن الله ، وتبقى الهيمنة الحقيقية المطلقة لله وحده ، فلا مهرب منه إلّا اليه ولا شفاعة الا من بعد اذنه ، ولا أنداد قادرين على تغيير سنن الله في الخليقة حسب أهوائهم

__________________

(١) ق / ٣٥

١٧٨

وبالذات سنة الجزاء العادل.

ثم ان تأكيد القرآن على بيان العدالة الالهية في الجزاء في أكثر سور القرآن انما هو ليزرع الاطمئنان العميق في قلب البشر الى وقوع الجزاء. الأمر الذي يبعثه نحو عمل الخير ويزجره عن الشر الا ان العدالة وبالتالي المسؤولية فكرة قاسية لا يتحملها القلب البشري الذي من طبيعته الانحراف. لذلك تأتي الآية اللاحقة لتخفف وطأتها ببيان مدى رحمة الله وغفرانه.

(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ)

والإثم هو عموم الذنب (بين العبد وربه أو بينه وبين نفسه أو بينه وبين الناس) بينما الفواحش هي الذنوب الاجتماعية. قال الامام الصادق (ع) : «الفواحش الزنا والسرقة» (١) وهما ذنبان اجتماعيان.

وذكر الفواحش من دون اضافة كلمة الكبائر بخلاف الإثم أضيف اليه لفظ الكبائر ، لان الفواحش بذاتها من الكبائر فلا يقال للذنب الاجتماعي فاحشة ، بينما الإثم فيه الصغائر (اللمم) وفيه الكبائر. وفيما يلي نذكر حديثا في كتاب الإثم مرويا عن الامام الرضا (ع) قال : سمعت أبي موسى بن جعفر (ع) يقول : دخل عمرو بن عبيد البصري على أبي عبد الله (ع) ، فلما سلم وجلس تلا هذه الآية (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) ثم أمسك فقال له أبو عبد الله (ع) : ما أمسكك؟ فقال : أحب ان اعرف الكبائر من كتاب الله عز وجل فقال : يا عمرو! أكبر الكبائر الشرك بالله. يقول الله تبارك وتعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ويقول عز وجل : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) ، وبعده اليأس من روح الله لان الله عز وجل يقول :

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ / ص ١٦١

١٧٩

(وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ ، إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) وثم الأمن من مكر الله. لان الله عز وجل يقول : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) ، ومنها عقوق الوالدين. لان الله عز وجل جعل العاق جبارا شقيا في قوله تعالى : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) ، وقتل النفس التي حرم الله الا بالحق. لان الله عز وجل يقول : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) ... الى آخر الآية) ، وقذف المحصنات. لان الله عزّ وجلّ يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ، وأكل مال اليتيم ظلما لقول الله عزّ وجلّ : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) ، والفرار من الزحف لان الله عز وجل يقول : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ، وأكل الربا لان الله عزّ وجلّ يقول : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) ويقول الله عز وجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) ، والسحر لان الله عزّ وجلّ يقول : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) ، والزنا لان الله عزّ وجلّ يقول : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ) الآية ، واليمين الغموس لان الله عزّ وجلّ يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) الآية ، والغلول قال الله عزّ وجلّ : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، ومنع الزكاة المفروضة لان الله عزّ وجلّ يقول : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) ، وشهادة الزور وكتمان الشهادة لان الله عزّ وجلّ يقول (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) ، وشرب الخمر لان الله عزّ وجلّ عدل بها عبادة الأوثان وترك الصلوة متعمدا أو شيئا مما

١٨٠