من هدى القرآن - ج ١٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-17-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

(قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ)

وربما كان في فعل الأمر «قُلْ» تحقيرا لهم بأنه تعالى لا يكلمهم مباشرة ، ولعل أهم ما يوحي به ظلال «قل» أنّ هذه الحقيقة يجب ان تقال صراحة ، وأنّها من مفردات الدعوة الى الله ورسالاته ، كقوله سبحانه : «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ».

وقال بعضهم : إنّ كلمة «قل» تدل على أنّ هذه الحقيقة من القضايا العامة التي يشترك فيها العوام والخواص (١) ، وقدّم ربّنا (الْأَوَّلِينَ) على (الْآخِرِينَ) لأنّهم استبعدوا بعثهم ، ولكي لا يتوهّم أحد بأن بعث الأقدمين الذين تحلّلوا وتبعثروا ولم تبق منهم حتى الآثار أصعب عليه (سبحانه) كلّا .. (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) (٢) جميعهم ، لا فرق بين مالك ومملوك ، وذكر وأنثى ، ولا أوّل وأخير ، وهذا هو القرآن يؤكّد مرة أخرى بعد «إِنَّ» على البعث ، وأنّ الناس :

(لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)

عند الله ، وكونه جزء من العلم فهو واقع ، وليس بظنّ أو تخرّص أو كذب ، وبالنظر إلى آيات قرآنية فإنّ علم الساعة اختصّ به الربّ ، ولعلّه سبحانه لم يحدّد لها وقتا كما يستوحى من قوله سبحانه : «إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها» ، من هنا فإنّ اليوم معلوم الوقوع لا معلوم الوقت. وهنالك يقف الجميع أمام الله للحساب ، لا فرق بين أحد وأحد ، و(لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) (٣) ، فلما ذا الاعتماد إذا على الآباء بدل الحق؟! ولعلّ «مِيقاتِ» هنا اسم للمكان ، بينما «يَوْمٍ» يشير إلى الزمان ، كما نقول : مواقيت الحج ، وربما تتسع الآية لمعنى آخر : أنّ الناس يبقون مختلطين مع بعضهم وهكذا المجرمون إلى يوم

__________________

(١) راجع الرازي في تفسير الآية

(٢) الصافات / ١٩

(٣) لقمان / ٣٣

٤٢١

القيامة حيث يصبح الناس أزواجا ثلاثة ، حسب التعبير الوارد في هذه السورة ، وتتقطّع الوشائج كما قال ربّنا سبحانه : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) (١).

وتوحي كلمة «إِلى» في هذه الآية بالسّوق ، وكأنّهم يجمعون ثم يساقون إلى ذلك الميقات ، كما قال سبحانه : (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٢) ، ومثل التعبير في آية الواقعة نجده في قوله سبحانه : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) (٣).

[٥١ ـ ٥٥] ويوجّه القرآن الخطاب إلى أصحاب المشأمة مثيرا إلى أهمّ صفتين تميّزهم :

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ)

فالأمر يومئذ لا ينتهي عند البعث ، فهناك ما هو أعظم ممّا يليه وهو الجزاء ، الذي يشكّل إنكاره العامل الحاسم والرئيس في كلّ انحرافات البشر. ويزعم البعض أنّ تكذيبه بالآخرة يخلّصه من مسئوليته ، وكأنّ من يصدّق بشيء هو وحده يتحمّل مسئوليته! كلّا .. انّ التكذيب ليس فقط لا ينجي صاحبه من عاقبة أفعاله ، بل هو بذاته جريمة توجب عقابا شديدا ، وكما التكذيب الضلالة فإنّها لا تبرّر الجرائم إذ أنّها من فعل الإنسان نفسه ، كما أنّ الهداية من مسئولياته. أو ليس قد وفّر الله لنا أسباب الهداية ، فمن ضلّ فإنّما يضلّ على نفسه.

ولعلّ تقديم التكذيب على الضلالة في آخر السورة (الآية ٩٢) خلافا لما عليه هذه الآية يهدينا إلى أنّ (الضلال والتكذيب) كلاهما سبب للآخر ومسبّب له ،

__________________

(١) الروم / ١٢ ـ ١٤

(٢) القمر / ٨

(٣) الجاثية / ٢٦

٤٢٢

فالمكذّب بالحق يضل ، والضال يكذّب بالحق ، ولأنّ الضال ربما يهتدي بالحكمة البالغة والموعظة الحسنة إلى الحق ، ويعود عن ضلاله ، فقد وصف ربّنا المعنيّين بالمكذّبين (صيغة مبالغة) ليبيّن بأنهم من المتعمّدين الضلال المصرّين عليه. أمّا عاقبة تكذيبهم وضلالهم فهي العذاب الشديد. إنّهم :

(لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ)

قالوا : إنّها كريهة المنظر ، وثمرتها سوداء مرّة منتنة ، وهي تنبت في قلب جهنّم ، ويمتد منها غصن إلى كلّ منزل وفرد فرد ، وجاء في القرآن (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ* طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) (١) ، والذي يجعلهم ينجبرون على الأكل منها زجر الملائكة ، وكونهم لا يجدون سواها ، ولعلّهم بسبب السّموم والحميم وظلّ اليحموم قد بلغت حاجتهم إلى الأكل أقصى حدّها ، وقد جاء في الحديث : «إنّ الله عزّ وجلّ خلق ابن آدم أجوف لا بد له من الطعام والشراب» (٢).

ولعلّ هذا العذاب يأتي جزاء الترف الذي اتبعوه في الدنيا ، على حساب حقوق الله وحقوق الناس ، فلم يكونوا يحسون عند ما كانوا يتلذّذون بألوان النعم بمن حولهم من المستضعفين والمحرومين والفقراء ، وكانوا يجمعون المال ويكنزون الذهب والفضة دون أن يتورّعوا عن الحرام ، فنظامهم الاقتصادي قائم على أساس الاستبزاز ، والظلم والربا والاحتكار و... ، والقرآن يصرّح بهذه الحقيقة حينما يحدّثنا في سورة الحاقة عمّن يؤتى كتابه بشماله : «إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ* وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ* فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ* وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ

__________________

(١) الصافات / ٦٤ ـ ٦٥ وللمزيد راجع تفسيرنا هناك

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٢٢

٤٢٣

غِسْلِينٍ* لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ» (١) ، ولأنّهم كانوا في الدنيا متخمين على حساب ملايين الجائعين من حولهم ، دون أن يشبعوا من التهام الحرام ، يسلّط الله عليهم الجوع حتى أنّهم ليملئون بطونهم من الزقّوم على ما فيه من العذاب ، فلقد قال رسول الله (ص) يصفه : «ولو أنّ قطرة من الزقّوم والضريع قطرت في شراب أهل الدنيا مات أهل الدنيا من نتنها» (٢) ، وحينما يبلغ طعامها بطونهم يجدون الحاجة الملحّة إلى الشراب بما لا يمكن التصبّر عليها ، فلا يجدون إلّا الحميم فيشربون طمعا في ريّ ظمئهم ، وإطفاء التهاب الزقوم واستعاره في أمعائهم.

(فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ* فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ)

ولكنّهم لا يشربون قليلا ويكتفون أو يتوقّفون ، إنّما يشربون كالرمال التي لا تروى ، أو كالإبل التي ضربت في الصحراء هائمة (لا تدري إلى أين) (٣).

(فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ)

قالوا : (الْهِيمِ) الإبل العطشان التي لا تروى لداء يصيبها ، وقيل : (الْهِيمِ) الأرض السهلة ذات الرمل (التي لا يستقرّ عليها الماء) ويقال لكل ما لا يروى من الإبل والرمل أهيم (٤).

ومن هذه الآية عكس الإمام الصادق (عليه السلام) حكم الكراهة في الشرب بنفس واحد. قال أبو بصير (ر ض) : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : «ثلاثة

__________________

(١) الحاقة / ٣٣ ـ ٣٧

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٢٢ نقلا عن روضة الواعظين

(٣) المنجد / مادة هيم

(٤) القرطبي / ج ١٧ ص ٢١٥

٤٢٤

أنفاس أفضل في الشرب من نفس واحد. وكان يكره أن يتشبّه بالهيم» (١).

[٥٦] وإلى جانب هذا العذاب والسابق ذكره (الآيات ٤٢ ـ ٤٤) ألوان كثيرة ومريعة من العذاب المؤلم المهين تصبّ كلّها على أصحاب المشأمة في النار.

(هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ)

قالوا : النزل القرى الذي يقدّم للضيف ، وكأنّهم ضيوف وقراهم هذا النوع من الطعام والشراب ، وقال بعضهم : النزل هو أوّل الطعام والشراب الذي يستقبل به الضيف.

أمّا المؤمنون فإنّهم يفدون دار ضيافة الله (فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢) ، (كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً* خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) (٣). ولك أن تقارن بين المنزلين : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) (٤)؟

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٢٣

(٢) السجدة / ١٩

(٣) الكهف / ١٠٧ ـ ١٠٨

(٤) الصافات / ٦٢

٤٢٥

نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ

___________________

٦٥ [حطاما] : الحطام هو الهشيم الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء وأصل الحطم الكسر.

[تفكّهون] : تتكلمون في مجالسكم من جهة التعجّب ، والتندّم على ما أنفقتم في الأرض لأجل الزرع ، والمراد إنكم لا تقدرون أمام قدرة الله بجعله النبات هشيما إلّا التكلّم فقط.

٦٦ [إنّا لمغرمون] : المغرم الذي ذهب ماله بغير عوض ، والغرام العذاب اللازم.

٤٢٦

(٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)

___________________

٧٠ [أجاجا] : مالحا يمجّه الطبع وقيل مرا مرارة شديدة.

٧١ [تورون] : أي تستخرجونها وتقدمونها بزنادكم من الشجر.

٧٣ [للمقوين] : يقال أقويت منذ أيّام أي لم آكل طعاما فالمقوين هم الذين يحتاجون إلى الطعام ، وقيل إنّ المقوي من الأضداد فيكون المقوي الذي صار ذا قوّة من المال والنعمة والمقوي أيضا الذاهب ماله النازل بالقواء من الأرض أي التي ليس فيها أحد.

٤٢٧

نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ

هدى من الآيات :

بعد أن درس أعقد مضامين الفلسفة كنظرية الفيض والدور والتسلسل ، وقانون العدم والوجود ، مر أحدهم بعجوز تحرك المغزل ، وسألها : كيف عرفتي مدبر الكون؟ فأجابته بفطرتها وإيمانها البسيط ـ بعد أن أوقفت النسج ـ : هكذا عرفت أن للكون مدبرا. لكنه ظل حائرا لم يدرك شيئا من قصدها ، فبادرته : إن المغزل يقف حينما لا أعمل ، فكيف لا يكون لهذه الأرض المدحية ، والسماء المبنية على ما فيهما من الحياة والحركة والتحوّل مدبّر؟!

هكذا الكثير من الحقائق التي نعيش معها كل لحظة نبقى ساهين عنها دون أن نهتدي إلى عبرها ، فالخلق ، والموت ، والنشأة ، والزرع ، والماء ، والنار كلّها من أقرب الحقائق إلينا وأكبرها شهادة وهدى لو وعيناها ، والإنسان قادر على أن يجعل الحياة كلها مدرسة ، وما فيها من الظواهر والعبر دروسا يكمل بها إيمانه ومعرفته ،

٤٢٨

فيهتدي بالشهود الى الغيب ، وبالحاضر الى المستقبل ، وبالمخلوق الى الخالق ، الا ان المشكلة لا تكمن في قلة العبر وانما هي في قلة الاعتبار والمعتبر ، فالمواعظ على كثرتها ووضوحها كالشمس هل يراها من غض بصره أو استتر بحاجب؟!

من هنا فان أهم اهداف الرسالات الالهية رفع الحجب التي بيننا وبين الحقائق (الإصر والأغلال) العلمية بالتعليم ، والنفسية بالتزكية لنلمسها مباشرة ، قال الله : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١). أرأيت الذي ضل عن ابنه فدل عليه؟ أرأيت كيف يعرفه؟ كذلك الذي عاش في ضلال مبين عن حقائق يعشو عنها وهي قريبة منه كيف يهتدي إليها لو كشف عن بصره الستار؟ وقد لا تكون حاجة الإنسان لكي يستوعب الحقائق التي تهدي الآيات إليها ، ويؤمن بها الى المعلومات والمعارف ، بقدر حاجته الى يقظة الضمير وإثارة العقل.

وانما يترف الإنسان ، ويصر على الشرك ، ويكفر بالآخرة بسبب ضلاله عن ربه ، وقدره حق قدره. ولذلك يذكره القرآن بآيات معرفته الدالة اليه ، وقد تكون تلك الآيات أقرب شيء اليه (كالخلق) ولكنه غافل عنها.

بينات من الآيات :

[٥٧] لان الإنسان مخلوق فان خلقه هو أقرب الأشياء.

هل حدث أن بحثت عن شيء ثم اكتشفت انه كان في يدك أو جيبك وأنت ساه عنه؟ أو تدري أين كان الخطأ؟ إنه في المنهج. لقد بحثت عنه طويلا في درج مكتبك ، أو رفوف مكتبتك ، أو عند أهلك وأصدقائك ، لقد حسبته بعيدا عنك

__________________

(١) الجمعة / ٢.

٤٢٩

فضللت عنه ، وحين عدت الى نفسك وفتشت عنه لديها وجدته ، كذلك الحقائق الكبرى إنما ضل عنها البشر حين فتشوا عنها بعيدا ، بينما هي أقرب إليهم من حبل الوريد. هل سمعت عن ذلك الفيلسوف الذي بحث عن الحقيقة في النظريات المعقدة فلما وقف على عجوز تغزل وسألها بم عرفت ربها أوقفت مغزلها وقالت بهذا ، وأضافت : أنا حينما تركت المغزل وقف. فكيف لا تقف السماء عن الحركة أليس لها محركا مدبرا؟ وكان درس العجوز أقرب الى قلبه من كل نظريات الفلسفة لماذا؟ لأنها تحدثت معه بلغة الوجدان .. بأقرب الأشياء اليه ، كذلك نحن امام حقيقة الخلق ، من الذي خلقنا وأوجدنا؟ حيث أن الإنسان يجد نفسه أمام افتراضات ثلاث :

أولا : فهل الإنسان هو الذي أوجد نفسه ، فيكون ذاته الذي خلق ذاته؟ وهذا لا يقره عقل ولا علم ، فقد بدأ نطفة لا علم له ولا إرادة ، ثم نشأ حتى صار طفلا سويا لا حول ولا طول لديه ، وكفى بجهله نفسه وعقله وبدنه دليلا على أنه ليس الخالق. أم أن والديه خلقاه مع أننا نعلم يقينا بأن تقلّبه في صلب أبيه ، ثم تناميه في رحم أمه قد تم بعيدا عن علمهما وإرادتهما.

وثانيا : ويقول البعض أنه الدهر يميتنا ويحيينا ، وقد يعبّر عنه البعض بالطبيعة ، هذه السماء والأرض والماء والطين. أفلا يرجعون الى أنفسهم ويسألون : من الذي خلق الطبيعة ، وأركز فيها قوانينها ، وفتقها بعد رتقها ، وألف بين أزواجها ، ونظّم شؤونها. أوليس الخالق العليم المدبّر الحكيم؟

ثالثا : ويقولون أنّ الكون جاء صدفة ويسير بغير دليل. سبحان الله! ما هي الصدفة؟ أو لا تعني الصدفة ان حادثتين وقعتا في حالة واحدة ، وكان لكل واحدة منهما سببا ، إلا أنه كانت في وقوعهما معا نتيجة جديدة؟ هذه هي الصدفة

٤٣٠

التي نعرفها ، ولا نعرف الصدفة عملا بغير عامل ، أو خلقا بدون خالق ، أو حادثا بدون سبب (١).

ويسخر بعض الباحثين من هذا الزعم ويضرب مثلا ويقول : لو فسر أحد ظهور دائرة المعارف البريطانية بمجلّداتها الضخمة وعلومها المتنوّعة بان انفجارا وقع في مطبعة ، ففاض الحبر على الأوراق صدفة ، وارتسمت عليها صور الكلمات صدفة ، وخرجت مجلدات دائرة المعارف بما فيها من ثقافة العصر ، لو فسّر أحد نشوء أعظم موسوعة عصرية بهذه الصدفة كم يكون كلامه باعثا للسخرية؟! كذلك الذي يدّعي وجود خلية واحدة صدفة.

وإن شواهد العمد والتصميم السابق متوافرة في كل حركة في الكون ، فبالرغم من وجود سنن كونية تجري عبرها الكواكب والمنظومات ، فانها ليست كآلة ميكانيكية ، بل انما هي كسيارة في عراء قد استوى عليها صاحبها ، وسيّرها بقدرة وخبرة بالغة (٢). (وحتى الحركة الميكانيكية تحتاج الى محرك).

رابعا : ان الكون ومن ضمنه الإنسان لم يحدث بل كان أزليا. هل هذا صحيح؟ كلا .. إن جميع شواهده تدل على حدوثه (تطوره ، تناميه ، تناقصه ، حاجة بعضه الى بعضه ، تركيب أجزائه بدقة وتناسق) إن هذه آيات الحدوث .. بل كل اكتشافات العلم تهدى الى أن للوجود عمرا محدودا ، فالحرارة المتاحة للحياة تتناقص ، وعمر النجوم محسوب (٣).

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ)

__________________

(١ ، ٢) للمؤلف بحوث طويلة في كتابه (الفكر الاسلامي مواجهة حضارية) تقع في مئات الصفحات بهذا الشأن فراجع.

(٣) المصدر / ص ١٦٧.

٤٣١

كل شيء في الإنسان وفي الافاق يهديه الى تلك الحقيقة العظمى ، وحتى أولئك الجاحدون لا ينكرونها بقناعة إنما كفروا (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (١). إذا فنحن نحتاج فقط الى النظر والتفكر في آيات الله بعيدا عن الحجب والخلفيات الخاطئة ، حتى نصدق بذلك.

[٥٨ ـ ٥٩] ويبدد القرآن الحجب التي تحول دون رؤية هذه الحقيقة والتصديق بها ، فيقول :

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ)

هذه القطرات التي تندفق منك والتي لا تعرف منها شيئا كثيرا ، هل تزعم أنك الذي تصنعه في صلبك ، أو تهيأ أدوات قذفه حتى تحسب أنك الذي تخلقه؟

وكان يستطيع القرآن أن يلقي علينا الحجة البالغة لو ساءلنا عن خلقة آدم وحواء ولكنه يدع ذلك الغيب إلى شهود يراه ويعايشه كل بشر (الأمناء) ويطرح السؤال التالي

(أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ)

من الذي أنشأ المني وهل كان بامكانك إيجاده قبل البلوغ؟ وحين بلغت هل تكون بتدخل منك وعلم وتخطيط وإرادة؟ ثم كيف تطور الحيمن ونمى من مرحلة الى اخرى حتى يصير إنسانا سويا ، إنه لا ريب ليس من صنع الإنسان ، ولا بعلمه. انما يتطور ضمن القوانين والسنن الالهية ، وبإرادة الهية. إذ لا تعمل القوانين إلّا باذنه ذلك بأن (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) (٢). ثم إذا

__________________

(١) النمل / ١٤.

(٢) الشورى / ٤٩ ـ ٥٠.

٤٣٢

خرجنا من بطون أمهاتنا الى الحياة ، فاننا لا نملك امام نمونا الا التسليم بأنه ليس بفعلنا ، انما بفعل ارادة خارجة عن اختيارنا ، هي إرادته عزّ وجلّ ، فنحن لا نستطيع ان نمنع نمو شعرة واحدة في رأسنا ، ولا ظفر واحد لأنهما ينموان بعيدا عن إرادتنا.

[٦٠ ـ ٦١] ومن حقيقة الخلق تنطلق بنا الآيات الى الموت ، انه أيضا مفروض علينا فرضا فلا نعلم أجلنا. ولا نقدر على دفعه إذا حل بساحتنا ، ولو كنّا الذين خلقنا أنفسنا فلما ذا لا نخلقها بطريقة تتحدى الموت؟ إذا فربنا هو الذي خلق الموت والحياة ، وهو الذي يحيي ويميت ، متى يشاء وأين وكيف.

(نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ)

فهو يجري بحكمة إلهية دقيقة ، فبالرغم من تعرض البشرية لألوان من الموت الجماعي ، بسبب الوباء ، والحروب الطاحنة ، أو الفردي بالأسباب الطبيعية إلا أنها تزداد يوما بعد يوم وتبقى في توازن من الحفاظ على الجنس. ولو كان يجري الموت اعتباطا وبلا حكمة لربما انقرض النوع البشري منذ زمن بعيد ، في مثل طوفان نوح (ع). إنما الله هو الذي يقدر الموت بين الناس ، ويقهرهم به (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (١) ، (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٢).

(وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ* عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ)

والسبق هنا بمعنى الغلبة والعجز ، فربنا القاهر فوق عباده ، وليس سبحانه مقهورا بقوة أنى كان نوعها ، فكما سبق الأشياء بالخلق لا من شيء فهو سبحانه يعدمهم متى ما شاء كيف شاء ، لا يسبقه شيء ، ولا يعجزه أو يغلبه. وتأتي كلمة

__________________

(١) الانعام / ١٨.

(٢) النحل / ٦١.

٤٣٣

مسبوقين لتوحي إلى حقيقة تظهر قدرة الله من زاوية اخرى ، وهي انه تعالى ابتداعا ، من غير مثال يحتذي به سبقه به غيره والسؤال ماذا يعني تبديل الأمثال؟

١ ـ هلاك الإنسان أو جيل واستبداله بغيره ، والبشر لا يقدرون على الوقوف امام الارادة الالهية ومنع تبديلها قال تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ* عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ* فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (١).

٢ ـ تبديل مثل الإنسان بالنظر الى صفاته المادية والمعنوية ، فان مثل الإنسان المحدود لا تستحيل عودته عند المقتدر القوي ، فانها ليست بأعظم من خلق السموات والأرض ، وتدبير شؤونهما ، وتنظيم عمليات التغيير والتبديل التي تجري كل لحظة فيها الا ترى كيف يدبر الرحمن امر الحياة فيميت الأرض ثم يحيها بالغيث ، أو يعجزه اعادة الإنسان بعد الممات في الحياة بمثل هذه الطريقة؟ قال الله تعالى : (قالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً* أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (٢) ، وقال عز من قائل : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ* إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣).

٣ ـ وقد يكون المثل الآباء الذين ماتوا وتآكلت أجسامهم ، حيث ضربوهم مثلا لانكار البعث ، وزعموا بأنه يستحيل نشرهم كما قال الله يصف ذلك الخصيم (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (٤). ويشير القرآن

__________________

(١) المعارج / ٤٠ ـ ٤٢.

(٢) الإسراء / ٩٩.

(٣) يس / ٨١ ـ ٨٣.

(٤) يس / ٧٨.

٤٣٤

إشارة واضحة الى هذا المعنى إذ يقول تعالى يخاطب نبيه : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً* وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً* قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً* أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) (١)

(وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ)

فكما يبدل الله جيلا مكان جيل ينشئ الجيل الغابر في صورة جديدة لا يعلم عنها شيئا وهي نشأة الآخرة. وهكذا توحي الآية بأن عملية تبديل الأجيال دليل على وجود تدبير حكيم في نظام الخلق يهدينا بدوره الى أن ربنا سبحانه لا يذهب بالجيل الماضي الى العدم ، بل الى نشأة اخرى لأنه حكيم كما لا يأتي بالجيل الجديد عبثا بل للامتحان وتكون الدنيا كقاعة امتحان يدخلها جماعة بعد جماعة والذين يخرجون منها يذهبون للحساب ، كما ان الذين يدخلون فيها يتعرضون للامتحان.

ولعل المعنى ان حقيقة الإنسان لا تتغير بعد الموت ، وانما تتبدل صورته الظاهرية فقط ، حيث ينتقل الى حياة تتغير فيها المقاييس ونحن لا نعلم عنها شيئا.

[٦٢] وكفى بجهل الإنسان اين يصير بعد الموت دليلا على أنه مدبر مخلوق وانه ليس القادر المتصرف في نفسه ، وكفى بعلمه بالخلق الأول إثباتا للبعث. وان الذي خلقه من نطفة من مني يمنى ، قادر على بعثه للجزاء إذا وقعت الواقعة.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ)

ان الإنسان لا يستطيع ان ينكر قدرة الله على الأحياء في خلقه الاول ، فلما ذا

__________________

(١) أسراء / ٤٨ ـ ٥١.

٤٣٥

يشك فيه تعالى وفي قدرته على البعث؟ (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى * ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى * أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (١)؟! بلى إنه قادر وكفى بالنشأة الاولى مذكرا لنا بهذه الحقيقة المودعة في فطرتنا وعقولنا.

ودعوته الى التذكر هنا بعد قوله : ((فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) الآية ٥٧) ، يهدينا الى ان المسافة بين الإنسان وبين التصديق بالله وباليوم الآخر قريبة جدا لا تحتاج الا الى التذكر وذلك بالتوجه الى مقاييسه العقلية التي يمارس بها فعاليات حياته.

[٦٣ ـ ٦٤] ويلفتنا الذكر الحكيم الى آية اخرى تهدينا لو تفكرنا فيها الى الخالق اللطيف عزّ وجلّ والذي يتجلى لخلقه في كل شيء حتى لا يجهلوه في شيء ، انها آية الزراعة ، التي تعرفنا من جهة بربنا ، وتضع أمامنا من جهة ثانية صورة واضحة وقريبة لواقع البعث والنشور ، حيث نضع البذرة في التراب ، فلا تلبث بعد ان نصب عليها الماء أن تصير نبتة ، ثم تستوي على سوقها تحكي الحياة بكل روعتها وعنفوانها.

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ)

انه لا يحدثنا عما لا نزرعه من الأشجار والنباتات لان عدم صنعنا فيها ثابت فهي إذا من عند الله ، إنما يحدثنا عما نزرعه بأيدينا ونحرث له ، والحرث هو قلب الأرض ووضع البذور فيها ، والرؤية في الآية منصرفة الى رؤية البصيرة كما هي في الآيات (٥٨ ، ٦٨ ، ٧١) ، ونحن بعد ان نرى بهذا المعنى ينبغي لنا ان نجيب على السؤال :

(أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)

__________________

(١) القيامة / ٣٧ ـ ٤٠.

٤٣٦

فنحن حينما نعمل بصرنا وبصيرتنا ونطلع على الواقع الذي تتم فيه الزراعة حيث مئات الآلاف من العوامل والقوانين التي نجهل أكثرها ، ولسنا نحن الذين اوجدناها ، أو نسيرها فانه حينئذ يتأكد لنا بأنه تعالى الذي يزرع ، أما دورنا في الحقيقة فليس إلّا الحرث والسقي وما أشبه وكل ذلك يكون بنعم الله وحوله وقوته.

وحين تصفو رؤية الإنسان وتجلو بصيرته يلامس قدرة الله وتدبيره ويؤمن بمدى سعة القدرة وحسن التدبير ، خصوصا المزارع حيث تحيط به آيات الخليقة ، ويتعامل مع الأنواء والتراب والماء ويتعايش نمو النبات وجماله وتجليات القدرة الالهية فيه.

وترغب النصوص الدينية المؤمنين في التعامل مع الزراعة بهذه البصيرة ، قال الامام أبو عبد الله (ع) : «إذا أردت ان تزرع زرعا فخذ قبضة من البذر واستقبل القبلة ، وقل (الآيتان ٦٣) ثلاث مرات ، ثم تقول : بل الله الزارع ثلاث مرات ، ثم قل : اللهم اجعله مباركا ، وارزقنا فيه السلامة ، ثم انشر القبضة التي في يدك في القراح» (١) الأرض الخالية.

وقال (ع) : «ان بني إسرائيل أتوا موسى (ع) فسألوه ان يسأل الله عزّ وجلّ ان يمطر السماء عليهم إذا أرادوا ، ويحبسها إذا أرادوا ، فسأل الله عزّ وجلّ لهم ذلك ، فقال الله عزّ وجلّ : لهم ذلك ، فأخبرهم موسى فحرثوا ، ولم يتركوا شيئا الا زرعوه. ثم استنزلوا المطر على إرادتهم وحبسوه على إرادتهم ، فصارت زروعهم كأنها الجبال والآجام (الشجر الكثير الملتف) ، ثم حصدوا وداسوا وذروا فلم يجدوا شيئا ، فضجوا الى موسى (ع) وقالوا : انما سألناك ان تسأل الله ان يمطر السماء علينا إذا أردنا ، فأجابنا ثم صيّرها علينا ضررا ، فقال : يا رب ان بني إسرائيل ضجوا مما صنعت بهم ، فقال : ومم ذاك يا موسى؟ قال سألوني ان

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٢٢٣.

٤٣٧

أسألك ان تمطر السماء عليهم إذا أرادوا وتحبسها إذا أرادوا فأجبتهم ثم صيرتها ضررا ، فقال : يا موسى انا كنت المقدر لبني إسرائيل فلم يرضوا بتقديري ، فأجبتهم الى إرادتهم فكان ما رأيت» (١).

ومن دقيق عبارة القرآن انه لم يقل أأنتم تخلقونه كما هو حال الحيمن والجنين لأنه ليس من عاقل يدعي ذلك وعملية النمو من البذرة حتى الثمرة تتم خارج ارادتنا وبعيدا عن أيدينا ، ولان نفي مجرد الزراعة ينفي الخلق بالتأكيد.

[٦٥ ـ ٦٧] والدليل إلى أننا لسنا الزارعين ، ان الله قادر على منع المطر ، أو ان يسلط على حرثنا وباء فلا تقوم له قائمة ، (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) (٢). ولا أحد يمنع قدرته عزّ وجلّ.

(لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ)

قالوا : تتكلمون في مجالسكم ، من جهة التعجب والتندم على ما أنفقتم في الأرض لأجل الزرع ، والمراد انكم لا تقدرون امام قدرة الله بجعله النبات هشيما إلا (على) التكلم فقط (٣). ولعل أصل الكلمة (فكه) يدل على الحديث غير الضروري وغير الجاد وغير الحق ، ومنه سمي المزاح تفكها باعتباره لا يهدف بيان الحقيقة ، كما سمي بالباطل. ومنه أيضا سميت (الثمرات) بالفاكهة باعتبارها غير ضرورية. ومن هنا قيل : التفكه : التكلم فيما لا يعنيك ومنه قيل للمزاح فكاهة وهذا المعنى أقرب الى الآية.

حيث ان الإنسان يفقد الارادة امام المشاكل ، ويتراكم عليه الهم والغم عند

__________________

(١) المصدر.

(٢) ال عمران / ١١٧.

(٣) تقريب القرآن الى الأذهان آية الله الشيرازي.

٤٣٨

الخسارة ويلحقه الندم والشعور بالهوان (فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) (١) ، حتى ليصبح حديثه عن ذلك أكله وشربه ومحوره الذي يدور حوله في كل لحظة ، لعله يروح بذلك عن نفسه بعض الشيء.

والآراء التي ذكرها المفسرون في هذه الآية قريبة من هذا المعنى إذ قالوا : تعجبون ، وقالوا : تندمون وقال بعضهم تتلاومون نادمين على ما حل بكم (٢). وربما كان المعنى الأخير أقرب والسياق التالي يدل عليه حيث انهم كانوا يقولون :

(إِنَّا لَمُغْرَمُونَ)

وفي اللغة غرم أي خسر في التجارة ، والغرم ما يعطى من المال على كره (٣). فالله القادر على جعل المزارع حطاما ، وفرض الغرم علينا ، بأن يرسل السماء بماء منهمر يغرق الحقول ، أو يرسل أسراب الجراد فلا تبقي زرعا ولا ضرعا ، أو يبعث ملايين الفئران تقضم الأخضر واليابس فنجد أنفسنا مغرمين خاسرين لكننا إذا تفكرنا بمنهج سليم ، نكتشف أن الخسارة (الغرامة) التي فرضت علينا ليست بالصدفة ، بل هي بإرادة متصرف في الحياة ويمضي في مصائرنا وأرزاقنا ما يشاء ، فيرزقنا أو يمنعنا ويحرمنا متى شاء وكيف.

(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ)

إذن فارزاقنا يقسمها مقسم هو الخالق تعالى ، وما دام هو الزارع ، فبيده الحرمان ، فلما ذا نشرك به أو نكفر؟ وما دامت إرادته نافذة في الحياة لا يمنعها مانع فلما ذا نشك في البعث ونصير في لبس من خلق جديد؟ أو لا يكفي ذلك دافعا الى

__________________

(١) الفجر / ١٦.

(٢) القرطبي / ج ١٧ ـ ص ٢١٦.

(٣) المنجد / مادة غرم.

٤٣٩

التصديق به واليقين برسالته؟

[٦٨ ـ ٧٠] ثم للنظر الى الماء وبالذات ذلك الذي نشر به وترتكز عليه حياتنا وحياة كل كائن حي ، إننا لم ننزله من السحاب.

(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ)

ولا ريب اننا لا نستطيع الادعاء بانزاله من قبلنا ، وأكبر دليل على ذلك اننا لا ندري متى ينزل. وإذا غطت السحب سماءنا لا نملك التصرف في انزاله وبالكيفية والمقادير الطبيعية ، وهذه الحقيقة يقبلها الجميع ، ولكن أورد البعض هنا شبهة ، فقالوا إن المطر نتيجة عوامل وقوانين طبيعية ، تبدأ من تبخر مياه البحار والمحيطات والأنهار بفعل الشمس ، وتنتهي بالغيث مرورا بصعود الأبخرة في طبقات الجو العليا ، وهي عملية يفعلها النظام المجرد ، ولا نحتاج معها الى افتراض وجود ارادة (الخالق) تجري العملية بسببها ، وهذه من أعقد مشاكل الإنسان مع العلم.

يقول الدكتور بخنر الألماني بما اننا لم نجد ظاهرة واحدة في هذا الكون الرحيب من أبعد نقطة اكتشفناها في الفضاء والى أقرب جرم إلينا لم نجدها شاذة عن النظام الكوني. فليس لنا الحاجة الى افتراض وجود الله.

(ولكنّ الحقيقة) أن عدم وجود شذوذ في النظام ، أو شمولية النظام في الكون لا يكون دليلا على عدم وجود الخالق ، بل يكون دليلا قاطعا على وجود من خلق النظام وهو الله الخالق العظيم وإلّا فمن جعل هذا النظام وقدّره وأجراه وبعد هذا فهل كله خاضع للنظام ، أو هل أثبت العلم الحديث هذا النظام ، لنسمع «هايز نبرغ» العالم الفيزيائي يقول ـ في نظام الذرة ـ : إنّ من المستحيل علينا أن نقيس

٤٤٠