من هدى القرآن - ج ١٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-17-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

الإنسان حينما يكون عارفا برحمانية ربه ، وانه تعالى سخر الوجود لمصلحته ، فانه يعيش متفائلا ونشيطا لأنه سيكون مطمئنا الى سعيه ، انطلاقا من إحساسه بأنه خلق ليرحم لا ليعذب ، ومن جانب آخر انه سوف يتعايش مع الحياة من حوله تعايشا ايجابيا. يعتمد السعي من أجل الاستفادة القصوى مما خلق من أجله. وهذا لا يتحقق إلّا إذا صدق بأنه فعلا من نعم ربه وآلائه عليه ، اما إذا كذب بذلك شل سعيه ، وخارت إرادته ، وقنطت نفسه من امكانية تسخير الحياة ، وكم عاش الإنسان على هذا الكوكب دون أن يسعى للتعرف على حركة الشمس ، والاستفادة من ذلك في حياته ، وتحقيق أهدافه الشخصية والحضارية ، لأنه لا يؤمن بعلاقته بها ، أو كان يعتقد بسبب بعدها انها لا يمكن تسخيرها بل لم تخلق من أجله؟! والآن جاء العلم الحديث ليؤكد بأنها نعمة إلهية عظيمة ، وانما خلقت لصالح الإنسان ، وانطلاقا من ذلك عكس حركتها على حساباته الزمنية ، ولا يزال العلماء يقومون بمختلف الدراسات التي من شأنها تسخير الشمس الى أقصى حد ممكن في خدمة الأهداف والتطلعات الحضارية للبشر.

٣٠١

مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ

___________________

١٩ [مرج] : خلط.

٢٠ [برزخ] : حاجز.

٢٤ [الجوار المنشئات] : جمع جارية أي السفينة ، والمنشئات المرفوعات ، وهي التي رفع خشبها بعضها على بعض ، وركّب حتى ارتفعت وطالت.

[كالأعلام] : جمع علم وهو الجبل العالي.

٣٠٢

آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦)

___________________

٣١ [الثقلان] : أصله من الثقل ، وكلّ شيء له وزن وقدر فهو ثقل ، وإنّما سمّيت الإنس والجن ثقلين لعظم خطرهما وجلالة شأنهما.

٣٣ [أقطار] : جمع القطر ، وهو الناحية والجانب.

٣٥ [شواظ] : اللهب الخالص أو القطع النارية المتطايرة

٣٠٣

كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ

هدى من الآيات :

«لا بشيء من آلائك ربّ أكذّب» إنّها العبارة التي ينبغي أن نكرّرها كلّما تساءل السياق القرآني «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ، ولكن هل يكفي أن نكرّر ذلك كشعار دون معرفة وتطبيق؟ كلّا .. فما ذا يعني إذا التكذيب بآلاء الله ، وكيف نصدّق بها؟

هناك فريقان من الناس يكذبون بآلاء الله. الاول الذين لا يعتقدون بالنعمة ، لأنهم ينظرون الى الحياة من خلال رؤية مشؤومة ، ونفسية معقدة فاذا بكل شيء عندهم نقمة ، (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) (١) والفريق الآخر هم الذين يعترفون بالنعمة ، ولكنهم ينكرون عمليا انها من الله فتراهم يتوجهون بالشكر الى غيره ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن ان كنتم

__________________

(١) الفرقان / ٦٠.

٣٠٤

(إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (١) وهذا نوع من التكذيب أيضا فالذي لا يؤمن برب النعمة أو يشرك به لا يشكره عليها ، ومن لا يشكر النعمة لا يعمل على ضمان استمرارها ونموّها ، والاستفادة منها في مواردها السليمة ، أليس ذلك كله مرهون بالشكر على وجهه الصحيح؟ جهاز الهضم عند الإنسان مثلا (الفم ، المريء ، المعدة ، الأمعاء) ينبغي أن نستفيد من هذه النعمة ، فالذي يعلم بأنها من الله ، سوف يبحث عن برنامج الرسالة في الاكل والشرب ، نوع الطعام والشراب المطلوب ، ومقداره ، وطريقة استهلاكه (آداب الاكل والشرب) أما الآخر المكذب بالله فلن يلتزم بحد في ذلك ، سيسرف فيهما ولن يمتنع عما يضرّه كالخمر ولحم الخنزير ، وهذا نوع من التكذيب أيضا ، وكذلك يكذب بالنعمة الذي يستخدم الثروة من أجل استغلال الآخرين واستبدادهم ، والإسراف والتبذير على النفس ، كما ان الذي يتخذ السلطة وسيلة للقهر والاستعلاء هو الآخر يكذب بآلاء ربه.

والذي لا يستخدم النعمة في الخير لنفسه وللبشرية ، وبالتالي لا يعمل على ضمان استمرارها باستمرار عواملها ، فانه ليس فقط يحرم من نموها ، بل ويجعلها عرضة للزوال (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (٢) إذا فتطبيق قولنا «لا بشيء من آلائك ربّ أكذب» يكون بالتزام شكر النعمة دائما ، وذلك يعني أن نعترف بأنها نعمة فعلا ، وثانيا أن نعرف بأنها من الله فنشكره قولا ، ونطبق منهجه عملا ، وهذا هو التصديق بآلاء الله.

بينات من الآيات :

[١٩ ـ ٢١] ومن حركة الشروق والغروب في آفاق السماء ، يأخذنا القرآن الى مياه البحار التي تلتقي مختلفة مع بعضها دون أن تبغي أو تطغى.

__________________

(١) فصّلت / ٣٧

(٢) إبراهيم / ٧.

٣٠٥

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ* بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ)

وفي الآية إشارة الى عدة ظواهر طبيعية ، الاولى التقاء مياه البحار المالحة بالمياه الاخرى العذبة ، كمياه الشط والأنهار ، فانها وان كانت تلتقي مع بعضها ولكنها تبقى على طبيعتها لا تتغير لفترة من الوقت. وصورة أخرى من حكمة الربّ انه جعل الأنهار في كل العالم مرتفعة عن البحار ، قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) (١) والظاهرة الثانية هي التقاء البحار حتى المالحة مع بعضها. إن ثلاثة أرباع كوكبنا يتكون من ماء البحار والمحيطات ، وهي متصلة مع بعضها ، والأرض في حركة دائمة حول نفسها وحول الشمس إلّا ان منسوب المياه فيها كلها يبقى ثابتا ، ولم نجد يوما انها انسكبت في بحر واحد ليطغى ماؤه مثلا.

وحينما نبحث في الطبيعة من حولنا نجد شواهد أخرى لهذه الآية الكريمة ، فان شطري البيضة (الصفار والبياض) مهما رججتها لا يمتزجان ، وكذلك بحار النور والظلمة في حركة الليل والنهار فإنهما يتحركان حركة ذاتية وبينهما نقطة التقاء دائمة ولكنهما لا يختلطان (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) (٢) وحينما نعود من رحلة التفكر في الآفاق الى شوط آخر من التفكر في أنفسنا نجد مظهرا لهذه الحقيقة في حياة الإنسان ، حيث يلتقي ماء الرجل بماء المرأة ويكونان النطفة التي تنمو حتى تصير خلقا سويا ذكرا أو أنثى ، وتظل خصائص المرأة وخصائص الرجل هي هي لا تتغير ، بل ان المياه العذبة التي نستخرجها من باطن الأرض لشربنا تلتقي أحواضها مع مياه البحر التي تتشبع بها الأرض حتى الأعماق ولكن «هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ» (٣) وفي الواقع

__________________

(١) الفرقان / ٥٣

(٢) فاطر / ١٣

(٣) المصدر

٣٠٦

الاجتماعي يلتقي المؤمنون بالكافرين وتبقى بينهما الفواصل.

اما البرزخ الذي يقف حائلا بين البحرين فقد يكون جسما ماديا كاليابسة تفصل بين بحر وآخر ، ولو طغت البحار عليها لانعدمت حياة الإنسان فوقها ، أو الغشاء الذي يمنع صفار البيض من الاختلاط ببياضها لو كانا يختلطان لما صلحت البيضة ان تكون فرخا ولانقرضت الطيور بأنواعها. وقد يكون البرزخ هو السنن والقوانين الطبيعية كالجاذبية والكثافة والخصائص المختلفة للخليطين ، وقد يكون القيم والثقافة التي يؤمن بها كلا التجمعين الكافر والمؤمن ، وكلها لا شك من صنع الله ، ومظهر لهيمنته على الحياة ، ورحمته بالإنسان إذ جعل التنوع والحدود قائمين في ذات الوقت ، أليس ذلك يدل على حسن النظم ، ودقة التدبير ، ومتانة الصنع ، وعزة الخالق وحكمته؟

وحينما ندقق النظر ونركز الفكر في هاتين الآيتين نجدهما بكل كلمة وردت فيهما تعبير عن رحمة الله وإشارة إليها ، أترى لو طغت البحار على اليابسة أو على بعضها وانعدمت الفوارق هل ذلك في صلاح الإنسان؟ كلا .. ثم ان القرآن يقول «مَرَجَ» وهو الحركة الذاتية في كلا البحرين بفعل التموجات كما يقول «يَلْتَقِيانِ» إشارة الى الحركة الثنائية ، وهما معا رحمة إلهية ظاهرة ، فلو جعل الله البحار راكدة لأسن ماؤها وتعفن وبالتالي استحال عيش الأسماك والكثير من الأحياء الاخرى فيها ، وما كان الإنسان يستخرج منها حلية ولا لحما طريا. ثم انه جعل البحار متصلة تلتقي ببعضها ليسهل على الأحياء البحرية الانتقال مهاجرة عبرها ، ويسهل السفر الى أكثر نقاط العالم. ولو لم تكن الأنهار ـ وبالذات الكبيرة منها ـ تلتقي بالبحار لتصب فيها فائض مياهها لكانت تطغى وتهلك الحرث والنسل.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

٣٠٧

[٢٢] ويذكرنا السياق بنعمة الزينة التي أودعها الله في البحار ، وهي من الحاجات الكمالية لا الأساسية عند الإنسان ، انسجاما مع سياق السورة الذي يهدف بيان تجليات رحمة الله (اسم الرحمن) في الحياة ، لأن الزينة أقصى النعمة وأرفعها.

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ)

إن الله لم يودع في البحار حاجاتنا الضرورية وحسب ، بل الكمالية أيضا ، (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا ، وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ، وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١) والقرآن بهذه الآية من سورة الرحمن يفند المزاعم القديمة بأن الأنهار لا تربي اللؤلؤ والمرجان ، وقد جاء العلم الحديث فأثبت خلاف ذلك ، وهكذا يبقى كتاب الله سابقا للحضارة.

ولعل الآية تشير إلى إباحة استخراج الزينة والتحلي بها أو لم يقل ربنا سبحانه : «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ..» كما قال «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ».

[٢٣ ـ ٢٥] تلك كانت مظهر من آلاء الله التي تتجلّى للإنسان كلما ركب البحر ، وكلما غاص في أعماقه ، وهكذا كلما دار البصر في آفاق الخليقة ونظر الى الشمس والقمر والنجوم والأرض والبحار والأنهار ، ثم غار في أعماق النفس وما فيها من أبعاد وآماد ، كلّما وجد آلاء ربه تنهمر عليه من كل حدب وصوب أو لا تكفيه دليلا الى ربه ، وهاديا الى معرفته ، وباعثا له الى شكره؟ لكنك ترى أكثر الناس يكذبون بالنعم ويقصرون في الشكر بل يشكرون أبدا ، وحتى أولئك الذين يقضون سحابة أعمارهم في خوض لجج العلم أو متابعة قوانين الطبيعة عبر البحوث

__________________

(١) الكهف / ١٠٧

٣٠٨

الميدانية والاكتشافات الجديدة ، لا ينطلقون من اكتشافاتهم الى خلفياتها ، حيث الايمان برب العزة والرحمة ، بل تراهم ينظرون الى الحياة نظرة سطحية فلا يزدادون إلّا ضلالا وتكذيبا بالحق ، انهم يقفون عند ذلك الحد ويظنون انها التي تحرك الحياة ولا يتساءلون من الذي وضع القوانين والانظمة والسنن؟! ومن الذي يسيرها ويهيمن عليها؟! بلى. ان العلم الذي لا يتأسس بالايمان والمعرفة بالله ، قد يضر الإنسان أكثر مما ينفعه ، لأنه قد يصبح وسيلة للكفر والتكذيب بالرب وإرادته.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

ومن آلائه السفن التي تحملنا الى الأقطار المتباعدة في أسفارنا وتجارتنا ومظان الصيد ، أترى لولاها هل استطعنا أن نركب البحر. أو وصلت أيدينا الى كنوزه لحما وزينة؟ كلا .. ولهذا كان من البديهة في هذه السورة الرحمانية أن يحدثنا القرآن عن السفينة فور حديثه عن البحر.

(وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ)

والجري هو المشي السريع ولا يقال للسفينة سارت ، قال تعالى : (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) (١).

والمنشآت من الإنشاء والصناعة ، وشبهها الله بالأعلام (الجبال) لارتفاعها كالعلم في البحر. وهذا المعنى يكون أكثر ظهورا في السفن الشراعية.

والسؤال لماذا لم يقل ربنا عند حديثه عن النعم الاخرى كالشمس والقمر ، والنجم والشجر انها له ، بينما قال هنا «وَلَهُ الْجَوارِ»؟ والجواب لأن الإنسان لا يستطيع أن يدعى ملكية تلك النعم ، ولم تصل يده إليها في شيء ، ولكنه قد يظن

__________________

(١) هود / ٤٢

٣٠٩

بأنه مالك السفينة وخالقها ، لأنه الذي خطط لصناعتها ونشر ألواحها وجمعها الى بعضها بالدسر والمسامير فهنا يحتاج الى من يذكره ان صانع السفينة بذاته مخلوق الرب ، وانه لم ينشئها إلّا بحوله وقوته وبما أودع الله فيه من عقل ، وحكمة ، وأعطاه من علم ومعرفة ، وهيأ له من فرص العمل .. فالسفينة لله ، وهو الذي يجريها بقدرته في البحار. والبحارة يعرفون كم هي الاخطار العظيمة التي تحيط بهم ، وهم يعتركون الأمواج الهادرة في أعالي البحار.

ثم ان ربنا هو الذي علّم نبيه نوحا (ع) صناعة السفن وهو بدوره علمها للبشرية ، كما علم عباده الكثير من الشؤون والأمور عبر أنبيائه ورسله كالميزان ، وقد روى الطبرسي في جوامع الجامع : «ان جبرئيل (ع) نزل بالميزان فدفعه الى نوح وقال : مر قومك يزنوا به» (١) والسفينة الى الآن أفضل وسائل للنقل التي اكتشفها البشر ، فهي إذا نعمة إلهية ، والقرآن يطرح بعد التذكرة بها هذا السؤال :

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

أو يكفي العقل دليلا على ضرورة شكر من أسبغ علينا هذه النعم الجسيمة؟ بلى. ولكن ربنا الرحمن يزيد بلطفه على هدى العقل التذكرة بالوحي بالرغم من أنّ العقل حجته علينا بالغة ، بل يبصرنا بنعمه من خلال الوحي ويستثير عقولنا ويشد أسرها في مواجهة هوى النفس وطباعها ، فلا يقول أحد وقد كذب بآلاء الله انها مجهولة لديه. وبعد هذا البيان والتأكيد لن يكون قصور الإنسان عن الشكر ، ومعرفته ربه ، بغفلة وقد سبق اليه منه الذكر بفضله ، ولا بجهل وقد تقدم منه إليه العلم برحمته.

[٢٦ ـ ٢٨] وبعد مخاطبة العقل بلغة الحقائق العلمية التي يراها البشر بعينه

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٥٠

٣١٠

فتنفذ الى ضميره يخاطب الوحي وجدان الإنسان مباشرة ، ويهزه بأعظم الحقائق وطأة في نفسه. إنها حقيقة الموت والفناء التي يحاول دائما الفرار منها ، فيعطي ماله أو يضحي بأعز الناس اليه وأقربهم منه لعله يفتدي نفسه منه أو يؤخره عنها ولو لسنة اضافية أو حتى بضعة أيام. وكما فناء الإنسان كذلك فناء الأشياء من حوله دليل وحدانية الله وربنا يذكرنا بذلك كأعظم آية تهدينا الى معرفته وتوحيده.

بلى. لقد دعانا الله الى النظر في ظواهر الطبيعة ، والتفكر فيها ، ولكن من دون الانبهار بها ، لأنها مجرد نعم وآيات يجب ان نؤدّي شكرها ونهتدي بها الى دلالاتها. إنها محدثه فلا بد لها من خالق ، وهي تفنى أو تموت فهي ليست إلها ، لان الإله لا يموت.

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ)

اي كل ما في الأرض بكله لا بعضه ، ولكن الله لا يقول ميت ، لأنّ الموت يجري في الأحياء فقط ، بل يقول فان ، لأن الفناء يشمل كل شيء مخلوق. وفي دعاء إدريس النبي (ع) : «يا بديع البدائع ، ومعيدها بعد فنائها بعد فنائها بقدرته» (١).

(وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ)

فما هو وجه الله الذي يبقى بينما يفنى كل شيء؟ إن الألفاظ تفقد ظواهرها التجسيدية لتبقى حقائقها عند الحديث عن ربنا القدوس سبحانه فليست يده سوى قدرته ، وعينه إلا احاطته علما وشهادته على كل شيء وهكذا وجهه ، فانه ما يتجلى به في الخليقة ، حتى يعرفه بها من اراده ، ويرى نوره من خلالها من أحبه ، أو لسنا نحن البشر نرى نظراءنا من خلال أوجههم الظاهرة ، وتعالى الله عن الأمثال ،

__________________

(١) المصدر / ص ١٩٣

٣١١

كذلك الوجه الظاهر لربنا دينه المشتمل على سننه وشرائعه والحقائق التي تدل عليه ، كذلك قال الامام أمير المؤمنين (ع) : «وأما قوله : «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» ، فالمراد كل شيء هالك إلّا دينه ، لأن من المحال أن يهلك الله كل شيء ويبقى الوجه ، هو أجل وأعظم من ذلك ، وإنما يهلك من ليس منه ألا ترى انه قال : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ* وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) ففصل بين خلقه ووجهه» (١).

ويتجلى الدين بدوره فيمن يمثله كالأنبياء والأئمة الهداة الى الله وهكذا يفسّر الامام الرضا عليه السلام الوجه حينما يسأله أبو الصلت قال : يا ابن رسول الله! فما معنى الخبر الذي رووه أن ثواب لا إله إلا الله النظر الى وجه الله تعالى؟! فقال : «يا أبا الصلت من وصف الله عزّ وجلّ بوجه كالوجوه فقد كفر ، ولكن وجه الله أنبياؤه وحججه صلوات الله عليهم ، الذين بهم يتوجه الى الله عزّ وجلّ والى دينه ومعرفته» (٢).

وقال الصادق (ع) : «نحن وجه الله» (٣).

إذا وجه الله هو الحق المتمثل في سننه وشرائعه ودينه وأوليائه ، ويفنى كل شيء دونها ، فعلينا التمسك بها دون أن تؤثر فينا المتغيرات فاذا كان أحدنا يعمل الصالحات فليعملها لوجهه ، إذا كان يبحث عن الجزاء ، أترى لو عمل صالحا رياء أو شركا هل ينفعه شيء؟

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

فلا يمكن مع آية الفناء أن يدعي أحد الألوهية أو تدعى له ، أو يدعي بأنه جاهل

__________________

(١) المصدر / ص ١٩٢ نقلا عن الاحتجاج.

(٢) المصدر

(٣) المصدر

٣١٢

بربه ، وإذا كان لا بد له من ذلك فليدفع أولا الموت عن نفسه ، أو يدفعه الآخرون عنه.

[٢٩ ـ ٣٠] ثم يذكرنا القرآن بصفة أخرى لربنا عزّ وجلّ تجعلنا أكثر طاعة له وتبتلا إليه ، وتلك هي صفة البداء التي تعني الهيمنة الشاملة والدائمة له على الوجود ، فليس الكون شعلة أبدية كانت ولا تزال كما تدعي الماركسية الضالة. إن الطبيعة ليست هي التي تميت وتحيي ، والسنن والأنظمة والقوانين ليست بذلك الثبات المطلق ، إنما الذي يتصرف في الخلق هو الله ، وكل شيء يستمد ثباته واستقراره منه ، فهو يغيره متى شاء وكيف أراد. ولو أننا أمعنا النظر في الحياة لوجدنا هذه الحقيقة بوضوح فإلى جانب الثوابت هناك متغيرات غير معروفة عند الإنسان. الدكتور يقدم وصفته للمريض بعد الفحص ، ولكنه يعترف بأنه لا يعرف كل الأمراض (١٠٠ خ) ولا يعطي ضمانة للعلاج مائة بالمئة لماذا؟ لانّ هناك هامشا مجهولا في المرض والعلاج ، فالامراض تتداخل اعراضها ، كما انه قد لا يستقبل الجسم الدواء ، لذا يقول هذا مرضك حسب الظاهر ، وهذا دواؤك إن شاء الله. ومن الطب الى كل جانب وميدان في الحياة هناك دائما فراغ في القوانين الطبيعية لا يقدر علم الإنسان وقدرته أن تملأه إنما هو خاص بمشيئة الله سبحانه. من هنا لا يثق أحد كل الثقة بما أوتي من علم وقوة ، بل يظل في ريب من أن المستقبل قد يحمل إليه ما لم يحتسبه. بلى. لقد علمته تجارب لا تحصى انه ليس مليك الكائنات ، بل ولا يملك نفسه ، فكم قد خطط لمستقبله فقلبت المتغيرات خططه ، وكم قد عقد عزائم قلبه على شيء ففسخت المفاجئات عزائمه. وهكذا ينطوي ضمير كل إنسان بأن يد الغيب تهيمن على الخليقة لا يده ، ويمثل هذا حجة بالغة تهدينا الى ربنا سبحانه. وصدق أمير المؤمنين (ع) حيث قال : «عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم وحل العقود ، ونقض الهمم» (١).

__________________

(١) نهج / حكمة ٢٥٠

٣١٣

الامريكيون يصنعون ما أسموه (بالتحدي) الكوكب الفضائي (تشالنجر) ، ويصرفون عليه مئات الملايين من الدولارات ، صناعة ودعاية ، وقبل إطلاقه يقومون بالحسابات الدقيقة عبر العقول الألكترونية ، وإذا به ينفجر في الفضاء ويتحول تحديا مضادا ، ونكسة لا زالت آثارها قائمة في نفوسهم وحيرة في عقولهم ، وكذلك تتجلى الارادة الالهية المطلقة في عملياتهم العسكرية ضد الإسلام في صحراء طبس.

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

لأنه وحده الإله والقادر على قضاء حوائجهم وتحقيق طموحاتهم. والسؤال ليس مقتصرا على الانس والجن والملائكة ، بل يشمل كل الخلق العاقل والبهيم ، والجامد والمتحرك ، لأنه ما من شيء إلا ويفتقر الى الله ، وما من شيء إلا وله لغة مع الله (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (١) وليس من طريق للإنسان لكي يبلغ طموحاته بفضل الله ، ويرفع عن نفسه كل عقبة وأذى بتوفيقه ، قبل العمل وبعده إلا الدعاء ، قال تعالى : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) (٢) (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٣) وقال أمير المؤمنين (ع) : «من قرع باب الله سبحانه فتح له» (٤) وقال الامام الصادق (ع) : «أكثر من الدعاء ، فانه مفتاح كل رحمة ، ونجاح كل حاجة ، ولا ينال ما عند الله إلّا بالدعاء ، وليس باب يكثر قرعه إلا ويوشك ان يفتح لصاحبه» (٥). ولكن ينبغي للعبد أن يرعى آداب الدعاء و

__________________

(١) الإسراء

(٢) الفرقان / ٧٧

(٣) غافر / ٦٠

(٤) غرر الحكم

(٥) بح / ج ٩٣ ص ٢٩٥

٣١٤

«كل دعاء لا يكون قبله تمجيد فهو أبتر» (١) ، وقال الرسول (ص) : «صلاتكم علي إجابة لدعائكم وزكاة لأعمالكم» (٢) «ولا يزال الدعاء محجوبا حتى يصلى على محمد وآل محمد» (٣) وقال الصادق (ع) : «إنما هي المدحة ، ثم الإقرار بالذنب ثم المسألة» (٤) والخلق كله في وجوده وتوفيقاته يحتاج الى السؤال من الله لحظة بلحظة ، وحيث لا يستطيع العبد أن يعرف ربّه ولا يتصل به مباشرة لذلك جعل أسماءه ، وعرفنا عليها رحمة بنا ، فنحن نسأله بأسمائه وفي الدعاء : «أسألك باسمك الذي أشرقت به السماوات والأرض ، وصلح به أمر الأولين والآخرين».

بلى. قد يضل الإنسان ويكفر بالله فلا يسأله أو يدعوه بلسانه ، ومع ذلك فانه لا يستطيع أن ينكر ربه في نفسه ، بل ويظهر فيه الاعتراف به تعالى ، والاستكانة والحاجة ساعة الضيق والجرح ، (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٥).

لقد تسربت بعض الفلسفات الجاهلية القديمة الى الأديان فزعموا ان السؤال لا ينفع شيئا ، وحكى الله عنهم ذلك في كتابه إذ قال : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) (٦) وهكذا تسربت هذه الفلسفة الموغلة في الضلال الى أذهان البعض من المسلمين تحت عناوين مختلفة ، كالجبرية والقدرية ، فاعتقدوا ان الله كتب أقدار الخلق ، وأنه لا

__________________

(١) المصدر / ص ٣٢١

(٢) بح / ج ٩٤ ص ٥٤

(٣) بح / ج ٩٣ ص ٣١١

(٤) المصدر / ص ٣٨١

(٥) لقمان / ٣٢

(٦) المائدة / ٦٤

٣١٥

يقع إلا ما كتب عليهم ، وقد جف القلم وطوي الكتاب ، وانطلاقا من هذه النظرة السلبية أنكروا أثر الاستغفار والدعاء. وكم تقف هذه الفلسفة حجابا بين العبد وربه ، أتراه سوف ينطلق نحوه ، أو يسأله حوائجه ، أو يتوسل اليه وقد غل يديه ولسانه وقلبه بالقنوط واليأس؟ ولماذا يتعب نفسه بالسؤال من رب لا إرادة عنده؟ فالأقدار هي هي لا تتغير ، وما عسى أن يكون ينفع الدعاء إذا؟ وبهذا نعرف الفرق الكبير بين المعارف الالهية والفلسفات البشرية ، فبينما تزرع الفلسفات البشرية اليأس في نفس الإنسان ، وتقل فاعلياته وتجمد طاقته بالحتميات التي تزعم انها تحيط بالقدرة البشرية كما جران السجن بالمجرم ، نجد النهج الالهي الحنيف يفتح آفاق الرجاء أمامه ، ويعطيه الثقة بربه القادر على إنجاح طلباته ، وتغيير المعادلات والواقع الى صالحه ، ويفند الأفكار الجبرية والقدرية بفكرة الدعاء الذي ينطلق من العبد الى ربه (السؤال) وانه فوق الحتميات والأقدار وفوق القضاء ، قال الامام الباقر (ع) يخاطب زرارة (ر ض) : «ألا أدلك على شيء لم يستثن فيه رسول الله (ص)؟ قلت : بلى قال : الدعاء يرد القضاء وقد أبرم إبراما» (١) وضم أصابعه وقال الامام الكاظم (ع) : «عليكم بالدعاء فان الدعاء لله والطلب الى الله يرد البلاء وقد قدره وقضي ولم يبق إلا إمضاءه ، فاذا دعي الله عزّ وجلّ وسئل صرف البلاء صرفه» (٢).

ولعل الآية التالية تدل على صفة البداء التي هي مفتاح بصيرة الدعاء فلو لا ان الله قادر على تغيير الخليقة ودفع البلاء ورفع القضاء إذا لم يبق أثر للدعاء ومن لا يعتقد بالبداء ولا يؤمن بسلطة الله المطلقة التي لا يقيدها أي شيء مما سواه ، ومن نفسه سبحانه فانه لا يعتقد بإلاهية ، كيف وانه يجعله تعالى أقل قدرا وقدرة حتى من الملوك إذ تجرد عنه أهم صفاته وهي السلطة (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ

__________________

(١) أصول الكافي / ج ٢ ص ٤٦٩

(٢) بح / ج ٩٣ ص ٢٩٥

٣١٦

عَزِيزٌ) (١) سبحانه وتعالى عما يصفون علوا كبيرا.

(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)

قال النبي (ص) : «من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ، ويرفع قوما ويضع آخرين» (٢).

وقال علي بن إبراهيم (ر ض) : «يحي ويميت ، ويرزق ويزيد وينقص» (٣) فلا ثبات بعد الدعاء واستجابة الله ، أو بعد بدائه عزّ وجلّ ، حتى في ليلة القدر التي تكتب فيها أقدار الخلائق الى مثلها من قابل فانّ الكتاب ليس أبديا إذ اشترط ربنا لنفسه البداء فيما كتب سبحانه فيها ـ كما جاء في الحديث ـ وكما قال ربنا سبحانه (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٤).

ولعلنا نفهم من هذه الآية ان الله يخلق كل يوم خلقا جديدا لا نعلمه ، ونجد إشارة الى هذه الحقيقة في قول أمير المؤمنين (ع) : «الحمد لله الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه ، لأنه كل يوم هو في شأن من إحداث بديع لم يكن» (٥).

وقد أشارت البحوث الفضائية الى وجود أدلة على ان هناك حالة تكون لمجرات جديدة في أعماق الفضاء الرحيب. إذا فلندع اليأس ولنطلق العنان لطموحاتنا تصل الى أقصاها انطلاقا من توكلنا على رب واسع الرحمة مطلق الارادة يجيب المضطر إذا دعاه وهو منتهى الآمال ، ثم نسعى لتحقيقها نستمد منه العون والتوفيق ، ونسأله الاجابة. لا ندع سقفا ولا حدا لطموحاتنا ، فهذا نبينا الأكرم (ص) وهو أعلم الخلق

__________________

(١) الحج / ٧٤

(٢) مجمع البيان / ج ٩ ص ١٠

(٣) نور الثقلين / ج ٥ ص ١٩٣

(٤) الرعد / ٣٩

(٥) نور الثقلين / ج ٥ ص ١٩٣

٣١٧

يدعو ربه (زِدْنِي عِلْماً) (١) وهو أرفع الناس درجة وأقربهم منزلة الى الله ، ولكن الوحي يأمره بان يتطلع الى المزيد من الشأن والرفعة (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٢) ويأمرنا بأن نصلي عليه في كل شارق وغارب حتى يزيده الله من فضله فنقول اللهم آت محمدا أفضل ما سأل وأفضل ما سئل له وأفضل ما أنت مسئول له الى يوم القيامة لماذا؟ لان نعمة الله لا تنتهي ، وهكذا لا بد أن يكون طموح المخلوق. وإنها دعوة الى التفكير في طموح أكبر ، والعروج الى منزلة أرفع عند الله. ومن وصايا الامام علي (ع) لابنه الحسن (ع) : «اعلم ان الذي بيده خزائن ملكوت الدنيا والآخرة قد أذن لدعائك ، وتكفل لإجابتك وأمرك أن تسأله فيعطيك ، وهو رحيم كريم لم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه ، ولم يلجئك الى من يشفع لك اليه ، .. ثم جعل في يدك مفاتيح خزائنه بما أذن فيه من مسألته ، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب خزائنه» (٣) والذي أعطي السؤال لا يحرم الاجابة ، فالسؤال والبداء مظهران جليان لاسم الرحمن ، ونعمتان عظيمتان للخلق من الله.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

إنها من الظهور والكثرة بما لا يمكن إنكارها ، ولكن الخلق يكذبون ، ومن أبرز عوامل التكذيب لدى البشر الشرك بالله ، فاذا به يعبد البقر لأنها تدر عليه الحليب ، ويعبد النار لأنها تدفئه وينتفع بها في الطهي ، بينما الله هو ربه وربهما ، واليه ينبغي الاعتراف بالفضل ، وصرف الشكر. والسؤال كيف يكذب الإنسان بنعمتي الدعاء ، والبداء؟ إن ذلك يكون حينما ينكر حقيقة البداء ، أو نعمة الدعاء فيحرم نفسه من معطياتهما.

__________________

(١) طه / ١١٤

(٢) الإسراء / ٧٩

(٣) نهج / كتاب ٣١

٣١٨

[٣١ ـ ٣٢] وإذا ما كذب المخلوق بنعم الله وآياته (آلائه) فانه سيعرض نفسه لسخط الله وعذابه ، بالذات عند ما يحين موعد الحساب.

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ)

يعني الانس والجن. ذهب المفسرون مذاهب شتى عند بيان معنى الفراغ ، بيد ان إبهام المعنى يتضح جليا إذا عرفنا منهج القرآن فيما يتصل بأفعال ربنا القدوس حيث تؤخذ الغايات وتترك المبادئ ، وترمز الكلمات الى نتائج المعاني ونهايات الحقائق .. لا الى كيفية وقوعها وطريقة تحققها ، فمثلا إذا قال ربنا سبحانه «وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» فان غاية المجيء وهو الحضور والشهادة قد تحققت اما الكيفية التي نعرفها من مجيء البشر بالانتقال من مكان لمكان ، فانها لا تتصور في الله الذي وسعت رحمته كل شيء ، وهو الشاهد على كل شيء ، كذلك إذا قال سبحانه : «رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» ، فان نتيجة الرضا تتحقق ، وهي الرحمة والعطاء لا ما يحدث عندنا من مقدماته كالانفعال الايجابي في النفس ، وهكذا الغضب الالهي معناه ما ينتهي إليه الغضب من الانتقام لا مقدماته ومبادئه من جيشان الدم وتوتر الأعصاب ، ومثل ذلك الحب والعطف والحنان والكره والبغض و.. و.. فربنا السبحان متعال عن الكيف والأين والتحول و.. و.. وفي الآية لا يعني سنفرغ لكم ان ربنا كان مشغولا عنهم بحيث لم يتسع لهم وقته ، ولم تحتمل قدرته بما عنده من الشؤون كلّا .. سبحانه لا يشغله شأن عن شأن ، إنما الغاية من الفراغ تمام التدبير والقدرة والجزاء ، ومنه قولنا تفرغ فلان للعمل اي انصب عليه بكامل قدرته ووعيه وإرادته ، والآية تشير الى ان الله أعطى الثقلين حرية نسبية في الدنيا ، أما في الآخرة فالأمر لله وحده (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١).

__________________

(١) غافر / ١٦

٣١٩

ولك أن تتصور شيئا من الرهبة التي تحملها إلينا كلمة سنفرغ ، إذا علمت انه تهديد من رب العزة والقدرة المطلقة ، الى مخلوق ضعيف محدود كالإنسان الذي تؤلمه البقة وتقتله الشرقة وتنتنه العرقة ، كما يصفه الامام علي بن أبي طالب عليه السلام ، ويكفي هذا الوعيد العاقل الذي يلقي سمعه شهيدا أن يتورع عن التكذيب بآيات ربه ونعمه ، لأن ذلك مما يوجب عذابه ، وإن الله يوم القيامة يوقف عباده للسؤال عن النعيم (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (١) (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٢).

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

ومن صور التكذيب بذل النعمة في غير موقعها ، أو أخذها من الحرام ، والاستعانة بها في مخالفة الحق ، كالعين ينظر بها الى أعراض الناس ، والأذن يستمع بها الغيبة والنميمة والغناء واللغو ، والرجل يمشي بها الى المعصية ، قال رسول الله (ص) : «لا يجاوز قدما عبد حتى يسأل عن أربع عن شبابه فيما أبلاه وعمره فيما أفناه ، وعن ماله من أين جمعه وفيما أنفقه ، وعن حبنا أهل البيت» (٣).

[٣٣ ـ ٣٦] ويفتح الله آفاق الطموح أمام الإنسان بعيدا عن الأساطير البشرية ليسجل سبقا على العلم الحديث بأكثر من (١٣) قرنا من الزمن ، ولا غرابة فهو كتاب الله. إن الفلسفات البشرية كانت دائما تكبل عقل الإنسان ، وتغل طموحاته ، وتضع إصرا على نفسه تمنعه من الثقة بها والتوكل على ربه وذلك عند ما كرست الجهل ووضعت مجموعة نظريات بدائية عن الإنسان والعالم واعتبرتها غاية العلم ونهاية المعرفة ، فتحولت الى سقف للفكر وسجن للعقل ، وعقبة اجتماعية كأداء امام التقدم.

__________________

(١) التكاثر / ٨

(٢) الصافات / ٢٤

(٣) نور الثقلين / ج ٤ ص ٤٠٢

٣٢٠