من هدى القرآن - ج ١٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-17-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

أمّا من لا يتعرّض للتضليل الشيطاني وكذبه ودجلة وأنواع إفكه فإنّه لا ينصرف عنه ، لأنّه حق لا ريب فيه.

[١٠] والذي يؤفك عن الحقيقة تحيط به الظنون والتصوّرات. أرأيت الذي لا يعرف وزن التمر على النخل فيطفق بالتخريص كذلك يخرص المنحرفون في فهم حقائق الخلق .. ويا ويلهم كيف يفسّرون بأذهانهم القاصرة ومعارفهم المحدودة قضايا الخليقة اللطيفة والغائرة.

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) إنّها لعنته الأبديّة التي تلاحقهم ، وأيّ جريمة أكبر من ترك العلم إلى الجهل ، واليقين إلى الظن ، والوحي إلى التخرّص ، وهل ابتلي الإنسان بمصيبة أكبر من الضلالة ، وفتنة أشدّ من الجهالة؟

ولعلّ الآية تشمل كلّ أنواع التخريص والقول بغير علم أنّى كان.

وقالوا في معنى الآية : إنّها دعاء بالقتل والفناء ، لأنّ فائدة وجود الإنسان علمه فإذا ترك علمه كان الموت أولى له. وقالوا : تعني اللعنة والطرد من رحمة الله.

[١١] أرأيت الذي تغمره أمواج الماء؟ هل يقدر على أن يبصر شيئا أو يقرّر أمرا؟ كذلك الذين تحيط بهم أمواج الخيالات والتخرّصات ساهون عن الحقائق.

(الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ)

إذا تخلّص فكره من دعايات أبواق الشيطان أحاطت به موجة من إثارة الشهوات ، وإذا انحسرت عنه الأماني الخادعة طغت عليه موجات القلق والاضطراب والخشية من المستقبل ، وهكذا تغمره أمواج الهواجس غمرة بعد غمرة

٢١

حتى الموت.

[١٢] وبسبب تلاحق غمرات الهواجس والظنون على أفئدتهم يسهون عن حقيقة الموت وواقع الحساب ، ولا ينفكّون يبعدونه عن أذهانهم ، ويتساءلون : متى هو؟

(يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ)

إنّهم يستبعدونه أو يستهزءون به ، وبالتالي لا يأخذونه مأخذ الجدّ ، ربما لأنّهم غرقوا في الأفكار الساهية.

[١٣] وإنّه آت لا ريب فيه ، وما دام الأمر كذلك فعلينا الإعداد له لأنّه رهيب. أو ليس الذي يمتطي صهوة الزمن يسار به وإن كان واقفا؟ أو ليس «كلّ متوقّع آت ، وكلّ آت قريب دان» (١) كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام؟

وماذا يستعجلون من يوم الدّين ، هل يستعجلون منه اللهيب الذي يحرق أبدانهم؟

(يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ)

كما يعرض الذهب على النار ، ويبدو أنّ الكفّار يعرضون في البدء على جهنّم ثم يلقون فيها ، ولعلّ ذلك لكي يقرأ عليهم حكم خلودهم في النار وسبب ذلك ، كما يتلى على المحكوم بالإعدام الحكم وحيثيّاته قبل تنفيذه.

[١٤] في تلك اللحظة الرهيبة يبلّغون الجواب عن سؤالهم الذي اقترن

__________________

(١) نهج البلاغة / الخطبة ١٠٣.

٢٢

بالسخرية ، ويكون الجواب بالطبع مطابقا للسؤال :

(ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ)

هذه هي النار التي كنتم بها تستهزؤون. إنّها الفتنة التي تمثّلت في الدنيا في صورة أوامر ونواهي وواجبات ومحرّمات. إنّها اليوم ظهرت على واقعها نارا متفجّرة.

(هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)

من هذا الجواب نعرف طبيعة سؤالهم ، وأنّه كان مليئا بالسخرية والأفكار.

[١٥] في جانب آخر من الصورة نجد المتقين الذين حفظوا أنفسهم من أسباب الاحتراق بالنار ، نجدهم في جنات وعيون.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)

لكلّ جنة نعيمها ، ولكلّ عين شراب معلوم ، وهم يسيحون فيها يتلذّذون بما تشتهيه أنفسهم.

[١٦] (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ)

كما أخذوا في الدنيا بتعاليم ربّهم مسلّمين لها يأخذون اليوم ثوابه العظيم.

وقالوا : الأخذ هنا بمعنى التملّك ، كأن نقول : فلان أخذ البلاد ، فالجنة ليست بحكم الموقّت بل ملكهم الدائم.

وقالوا : صيغة الكلمة «آخِذِينَ» تدلّ على استمرار أخذهم به ، لأنّ نعم الجنة لا يمكن أخذها مرة واحدة لأنّها لا نهاية لها.

٢٣

وقالوا : الأخذ يكون برضا وقبول ، فهم راضين بنعيم الجنة أيّ رضا.

والكلمة كما يبدو تحتمل كلّ هذه المعاني وأكثر.

هذا الأخذ كان في مقابل عطائهم ، إنّهم في الدنيا قبل الآخرة كانوا محسنين.

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ)

فإحسانهم على أنفسهم بالطاعات ، وعلى الناس بالإنفاق والصدقات ، كان ثمن أخذهم ثواب الله العظيم.

فإحسانهم على أنفسهم بالطاعات ، وعلى الناس بالإنفاق والصدقات ، كان ثمن أخذهم ثواب الله العظيم.

[١٧] سعي المتقين في النهار يهدف الإحسان ، أمّا إذا آووا إلى مساكنهم اتخذوها محرابا للعبادة وفرصة للتهجّد ، فتراهم صافّين أقدامهم يجأرون إلى ربّهم ، تكاد أرواحهم الطاهرة تفارق أبدانهم شوقا إلى الله وفرقا من عذابه.

إنّ معرفتهم بربّهم وتطلّعهم إلى القربى منه لا تدع أجسادهم تستريح إلى الفراش ، وهل يستريح من يطلب أمرا عظيما.

وإنّ خشيتهم من غضب ربّهم وشديد عذابه تقضّ مضاجعهم فتتجافى جنوبهم عنها. أرأيت الذي حكم عليه بالإعدام غدا كيف ينام ليلته؟

(كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ)

قالوا : الهجع النوم ليلا ، ولعلّ الكلمة توحي بثلاثة ظلال حسب ما جاء في اللغة من مفرداتها :

الأوّل : عدم السكون التام في النوم ، وبسبب تعلّق قلوب المتقين بالآخرة لا تسكن تماما في الليل بل تسكن جوارحهم دون جوانحهم ، ومنه التهجاع النومة

٢٤

الخفيفة.

الثاني : النوم في أوّل الليل دون آخره. قالوا : الهجعة : النومة الخفيفة من أوّل الليل.

الثالث : النوم المتقطّع في بعض الليل. قالوا : الهجع من الليل : الطائفة منه ، ويقال : زارني بعد هجع من الليل (١).

والآية تدل بظاهرها على أنّ نومهم في كل ليلة قليل حسبما تدلّ على ذلك آيات أخرى كقوله سبحانه : «قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً» (٢) وقوله : «وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً» (٣) وقوله : «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ» (٤).

وللآية تفسير آخر : أنّ هؤلاء لم يكونوا يتركون قيام الليل إلّا قليلا ، وجاءت به الروايات فقد أثر عن محمّد بن مسلم أنّه سأل الإمام الصادق عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ : «كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ» فقال : «كانوا أقلّ الليالي تفوتهم لا يقومون فيها» (٥).

ولا يتنافى التفسيران ، فهم يقومون كلّ الليالي إلّا قليلا ، وإذا قاموا إلى الصلاة لا ينامون إلّا قليلا.

وقد تواترت النصوص الدينية في التحريض على قيام الليل والتبتّل إلى الله في

__________________

(١) انظر المعجم الوسيط / ج ١ / ص ٩٧٣ ـ ٩٧٤.

(٢) المزمل / ٢.

(٣) الإنسان / ٢٦.

(٤) الزمر / ٩.

(٥) وسائل الشيعة / ج ٣ / ص ٢٧٩.

٢٥

رحم الظلام حيث تسكن النفوس ، وتنام العيون ، وتتساقط الحجب بين العبد وربّه ، ويخلو الحبيب بحبيبه .. ويخيّل لمن يتلوها أنّ قيام الليل واجب كسائر الفرائض.

جاء في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال لسليمان الديلمي :

«يا سليمان لا تدع قيام الليل ، فإنّ المغبون من حرم قيام الليل» (١).

وعنه عليه السلام :

«ليس من عبد إلّا ويوقظ في كلّ ليلة مرّة أو مرّتين أو مرارا ، فإن قام كان ذلك ، وإلّا فجاء الشيطان فبال في أذنه. أو لا يرى أحدكم أنّه إذا قام ولم يكن ذلك منه (قيام الليل) قام وهو متخثّر ثقيل كسلان؟» (٢).

وعنه عليه السلام :

«إنّي لأمقت الرجل قد قرأ القرآن ثم يستيقظ من الليل فلا يقوم حتى إذا كان عند الصبح قام يبادر بالصلاة» (٣).

ولماذا نجد البعض يوفّق لقيام الليل بينما لا يوفّق غيره؟ تجيب النصوص الدينية أنّ ذنوب النهار تقيّد الرجل عن ذلك ، وبالذات الكذب والغيبة.

يأتي رجل إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول : إنّي قد حرمت الصلاة بالليل فقال :

__________________

(١) وسائل الشيعة / ج ٣ / ص ٢٧٨

(٢) المصدر

(٣) المصدر / ص ٢٧٩.

٢٦

«أنت رجل قد قيّدتك ذنوبك» (١).

وفي حديث مأثور عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال :

«إنّ الرجل ليكذب الكذبة فيحرم بها صلاة الليل ، فإذا حرم صلاة الليل حرم بها الرزق» (٢).

أمّا إذا قرّر الرجل القيام بالليل تائبا إلى الله فإنّ الله سبحانه يغفر بذلك ذنوبه التي اقترفها بالنهار .. هكذا يقول الإمام الصادق (عليه السلام) فيما روي عنه :

«صلاة المؤمن بالليل تذهب بما عمل من ذنب بالنهار» (٣).

ومثلما تتساقط الذنوب عن المتهجّد بالليل فإنّ الأمراض تطرد من جسده ، جاء في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) :

«عليكم بصلاة الليل فإنّها سنّة نبيّكم ، ودأب الصالحين قبلكم ، ومطردة الداء من أجسادكم» (٤).

كذلك تجلب صلاة الليل الرزق ، حتى جاء في النصّ المأثور عن الإمام الصادق (عليه السلام) :

«كذب من زعم أنّه يصلّي بالليل ويجوع بالنهار. إنّ الله ضمن بصلاة اللّيل

__________________

(١) المصدر.

(٢) المصدر / ص ٢٧٨.

(٣) المصدر / ص ٢٦٩

(٤) المصدر / ص ٢٧١.

٢٧

قوت النهار» (١).

كما أنّ قيام الليل يزيد من شرف المؤمن ، جاء في الحديث المروي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن جبرئيل أنّه قال :

«شرف المؤمن صلاته بالليل ، وعزّه كفّ الأذى عن الناس» (٢).

ونختم حديثنا عن صلاة الليل بحديث رائع عن عليّ بن محمد النوفلي عن أحد الأئمة (عليهم السلام):

«إنّ العبد ليقوم في الليل فيميل به النعاس يمينا وشمالا ، وقد وقع ذقنه على صدره ، فيأمر الله أبواب السماء فتفتح ، ثم يقول للملائكة : انظروا إلى عبدي ما يصيبه في التقرّب إليّ بما لم أفترض عليه راجيا مني لثلاث خصال : ذنب أغفره له ، أو توبة أجدّدها له ، أو رزق أزيده فيه. اشهدوا ملائكتي أنّي قد جمعتهنّ له» (٣).

[١٨] تتجاذب الإنسان قوى الخير وقوى الشر ممّا يجعله في صراع دائم لا ينفك عنه حتى لقاء ربّه ، ولا ينجو أيّ إنسان ـ أنّى كان قويّ الإيمان نافذ البصيرة ـ من السقوط في وهدة الذنوب ، ولكنّ المهم هو القيام بعد السقوط ، فبينما نجد أكثر الناس يسترسلون مع الضغوط حتى تهديهم إلى سواء الجحيم فإنّ الصالحين يعودون إلى نقائهم كلّما دنّستهم الخطايا ، ويتطهرون بالتوبة إلى ربّهم الغفور .. وهؤلاء هم أصحاب الجنة.

__________________

(١) المصدر

(٢) المصدر / ص ٢٧٣.

(٣) المصدر / ص ٢٧٢.

٢٨

(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)

وعند السحر يكون العالم المحيط بالإنسان في سبات عميق ، حتى الذين أسهرهم المرض أو اللعب أو ما أشبه يخلدون إلى السكون ، والإنسان بدوره يعيش السكون في داخله ، تتراجع شهواته ، وتهدأ أعصابه ، وتقلّ هواجسه ووساوسه ، ويعود إلى نفسه ، وتكون الفرصة مواتية لمراجعة حساباته ومحاكمة أعماله وأقواله في محكمة عقله ووجدانه ، وهنالك تتجلّى له أسماء ربّه ، ويجد كأنّ خالقه القاهر فوقه البصير به والأقرب إليه من حبل الوريد يحاسبه : لما ذا ابتعدت عني عبدي؟ أو لم أكن نعم الربّ لك ، فلما ذا كنت بئس العبد؟ هل غيّرت معك عادة الإحسان فأشركت بي وخضعت لعبادي من دوني؟

وكم هي رائعة يقظة الضمير بعد السبات ، وانتفاضة الإرادة بعد الخوار؟ الله ما أحلى العودة إلى دار الأنس بعد الغربة في نفق العصيان ، ما ألذّ حكاية الاعتراف بعد الطيش والتمرّد!

من هنا كانت نفوس المتقين تتطلّع إلى تلك الساعة المتّقدة حبّا وشوقا وقربا. ألم تسمع رواية الرسول (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : «الركعتان في جوف الليل أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها» (١).

أوسمعت زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) يسأل : ما بال المتهجّدين من أحسن الناس وجها؟ فقال : «لأنّهم خلوا بالله فكساهم من نوره» (٢).

__________________

(١) المصدر / ص ٢٧٦.

(٢) المصدر.

٢٩

وكلّ واحد منّا بحاجة إلى الاستغفار لكي لا تتراكم فوق قلبه أدران الخطايا والغفلة فيقسو وينغلق ويصبح غلفا لا يرجى له علاج .. ولكي لا يفاجئه الأجل فتضيع عنه فرصة التوبة إلى الأبد.

ولا بد أن نسعى لفرز العمل الصالح عن السيئات بالاستغفار حتى لا يختلط علينا الحقّ والباطل ، وذلك بأن نحدّد بالضبط طبيعة العمل الذي قمنا به ، ولا نخضع لتزيين الشيطان أو تسويل النفس الأمّارة بالسوء ، فنبرّر كلّ ما قمنا به ، ونلبسه ثوب الشرعية بتحريف نصوص الدين حسب أهوائنا ، فنكون ـ لا سمح الله ـ ممّن اتخذ إلهه هواه.

إنّ المؤمن يتهم نفسه أبدا ، ويستجلي قيم الحق وموازين الشرع حتى يقيس بها أعماله ، فإذا اشتبهت عليه قضية سعى إلى معرفة الحق بمراجعة الفقه والسؤال من أهل الذكر.

أمّا الذين يستغفرون لذنوب مجهولة ، بينما يبرّرون ذنوبهم التي يمارسونها يوميّا ، فإنّهم لا يتطهرون بالتوبة بل يزيدهم الإصرار على تلك الذنوب قسوة في القلب وضلالة في الفكر.

إذا اغتابوا مسلما كفّروه ليبرّروا ذنبهم ، فهل ينفع مثل هؤلاء الاستغفار؟

وإذا أكلوا أموال الناس بالباطل زعموا أنّهم مضطرون إلى ذلك ، ولا اضطرار عندهم غير حبّ الراحة ، فهل تنفعهم التوبة شيئا؟

وإذا خضعوا للسلاطين تشبّثوا ببعض النصوص المتشابهة ، وتركوا المحكم من آيات الجهاد في سبيل الله والكفر بالطاغوت.

٣٠

وإذا غشّوا وكذبوا واحتكروا وأكلوا الربا اعتبروا ذلك تجارة وشطارة ونجاحا وفائدة رابحة ، وهكذا ..

كلّا .. الحلال عند الله لا يصبح حراما بأعذار واهية ، والحرام لا يضحى حلالا .. والاستغفار ينفع الفقهاء ومن اتبعهم ممّن يلتزم بمقاييس الكتاب وموازين الشرع تماما. نسأل الله أن يجعلنا جميعا منهم.

[١٩] لنفاذ بصائرهم يعلم المتقون أنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة ، فيسعون لتزكية أنفسهم منه ، بالإنفاق المنظّم الذي يفرضونه على أنفسهم أكثر من الحقوق الشرعية ، فالواحد منهم يجعل ثلث أمواله التي يغنمها لله ، والآخر ربعه ، وهكذا حسب ظروفهم المعيشية.

(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)

والسائل هو الذي يسكب ماء وجهه أمامك فلا تحرمه من عطائك مهما كان قليلا ، فقد جاء في الحديث المروي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) :

«لا تقطعوا على السائل مسألته ، فلو لا أنّ المساكين يكذبون ما أفلح من ردّهم» (١).

وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) :

«لو يعلم السائل ما في المسألة ما سأل أحد أحدا ، ولو يعلم المعطي ما في العطية ما ردّ أحد أحدا» (٢).

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ / ص ٥٩٨.

(٢) المصدر.

٣١

أمّا المحروم فهو الذي ضاقت عليه مذاهب الاكتساب ، فكلّما سعى لم يقدر على تأمين معاشه ، ويسمّى بالمحارف ، جاء في حديث مأثور عن الإمام الباقر (عليه السلام)

(الْمَحْرُومِ) الرجل ليس بعقله بأس ، ولا يبسط له في الرزق ، وهو محارف» (١)

قالوا : المحارف الذي لا يتيّسر له مكسبه قال رجل محارف (بفتح الراء) أي محدود محروم ، وهو خلاف قولك : مبارك (٢).

ويبدو أنّ المحروم هو الذي حرم رزقه ، سواء بسبب جائحة ، كما جاء في الآية حكاية عن أهل الجنة التي احترقت : «بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» ، أو بسبب إدبار الحياة عنه ، وقلّة حظّه في المكسب.

ويبقى سؤال : ما هذا الحق الذي في أموال المتقين ، هل هو الزكاة المفروضة كما قال البعض أم أنّه حق آخر؟

يبدو أنّه حق غير الحقوق الشرعية ، لأنّها مفروضة على أموال كلّ الناس دون المتقين منهم ، لذلك جاء في الحديث المروي عن أبي بصير قال : كنّا عند أبي عبد الله (الإمام الصادق عليه السلام) ومعنا بعض أصحاب الأموال فذكروا الزكاة فقال أبو عبد الله :

إنّ الزكاة ليس يحمد بها صاحبها ، وإنّما هو شيء ظاهر ، إنّما حقن بها دمه ، وسمّي بها مسلما ، ولو لم يؤدّها لم تقبل له صلاة ، وإنّ عليكم في أموالكم

__________________

(١) المصدر / ص ١٢٣

(٢) القرطبي / ج ١٧ / ص ٣٨.

٣٢

غير الزكاة.

فقلت : أصلحك الله! وما علينا في أموالنا غير الزكاة؟ فقال : سبحان الله أما تسمع الله عزّ وجلّ يقول في كتابه : «وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»؟ قال : قلت ماذا الحق المعلوم الذي علينا؟! قال : هو الشيء الذي يعمله الرجل في ما له يعطيه في اليوم أو في الجمعة أو في الشهر قلّ أو كثر غير أنّه يدوم عليه (١).

__________________

(١) وسائل الشيعة / ج ٤ / ص ٢٨.

٣٣

وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ

___________________

(٢٦) [فراغ] : ذهب إبراهيم (ع) بتسلل وخفية لأن يحضر لهم طعاما ، فإن من أدب الضيافة أن يتسلل الضيف لإحضار الطعام والتسلل لأجل ان لا يمنعه الضيف عن الإحضار.

(٢٨) [فأوجس] : أضمر في نفسه.

٣٤

(٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ

___________________

(٢٩) [صرّة] : صياح شديد من الصرير بمعنى الصوت.

[فصكّت] : لطمت.

(٣٤) [مسوّمة] : معلّمة.

(٣٩) [بركنه] : الركن الجانب الذي يعتمد عليه ، وفرعون كان يعتمد على جنوده وملكه.

(٤٠) [اليم] : البحر.

[مليم] : آت بما يلام عليه.

٣٥

الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦)

___________________

(٤١) [الريح العقيم] : سمّيت عقيما لعقمها من الرحمة ولأنها لا تلد خيرا.

(٤٢) [كالرّميم] : الرميم هو ما تفتت من حجر أو بناء أو غيرهما ، وقيل كالشيء الهالك البالي وهو نبات الأرض إذا يبس وديس ، وقيل هو العظم البالي السحيق.

(٤٤) [فعتوا] : أي خرجوا عن أمر ربهم ترفّعا عنه واستكبارا.

٣٦

وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ

هدى من الآيات :

مثلما تتصل حقائق السماء والأرض بما في بدنك ، لا بد أن تتواصل عبرها وآياتها وما في عقلك من وعي ، ويبدو أنّ الموقنين وحدهم يبصرون آيات الله في الأرض ، وفي النفس وفي السماء التي قدّر الله فيها الرزق ، وجعل فيها ما نتطلّع إليه من فضله ، وما نحذر من نقماته .. وفي قصة ضيف إبراهيم تصديق ذلك ، فقد جاءوه بالبشرى (حيث رزق من عجوز عقيم غلاما عليما هو إسحاق) ، وأرسلوا إلى قوم لوط المجرمين بالعذاب متمثّلا في حجارة من طين قد هيّأت لأولئك المسرفين (الشاذّين جنسيّا).

وكان العذاب مقدّرا بحكمة بالغة ، فلم يشمل بيتا واحدا كان فيه مسلمون وهم آل لوط الذين أخرجهم الله منها سحرا ، وقد ترك هذا البيت كما آثار تلك القرية لكي يكونا آية بيّنة لمن يخشى العذاب (أمّا قساة القلب فإنهم لن يستفيدوا من هذه الآية).

٣٧

وقصة فرعون هي الأخرى عبرة لمن يعتبر حيث أرسل الله إليه موسى بحجة بالغة ، ولكنّه تولّى بكل وجوده وقواه (حتى أنّه لم يعرف كيف يفسّر كفره) فقال : هذا ساحر أو مجنون ، فأخذه الله وجنوده بقوّته ، ونبذهم في البحر بذنوبهم.

ومأساة عاد كانت أيضا عبرة هامّة حيث أرسل الله عليهم الريح العقيم التي أتت على كلّ آثار الحياة في بلادهم (بما كفروا بنعمة الله وكذّبوا رسله).

وكذلك فعل بثمود الذين عتوا عن أمر ربّهم فأخذتهم الصاعقة (نار فيها عذاب) ، وبالرغم من أنّهم كانوا ينتظرونه لم يقدروا على الدفاع ، ولم ينصرهم أحد ، وما كان يمكن نصرهم أبدا.

وبعد أن يشير السياق إلى قصّة نوح يختم الدرس الذي نستوحي منه سنّة الجزاء في الخلق ، وأنّها لا تختص بقوم ولا بذنب ، فكلّ فسق وجريمة وإسراف يلقى جزاءه ، وهذا الجزاء دليل هيمنة الرب وعدالته وقدرته ، وكلّ ذلك يهدينا إلى الجزاء الأكبر في الآخرة.

بينات من الآيات :

[٢٠] لو اطلعت ضحى من فوق ربوة على مروج خضراء ، تحيط بها أشجار مثمرة ، وعلى اليمين منها ابتسم لك حقل من ورود متنوّعة ، لا بد أنّ جمال المنظر يشغلك عن تذكّر الحقيقة التالية : أنّه لو لا ضياء الشمس الذي ينعكس على الطبيعة إذا ما ظهرت هذه الألوان الجذّابة عليها. أليس كذلك؟

وإذا تذكّرت هذه الحقيقة عرفت آنئذ أنّ كلّ ورقة زاهية من هذه الورود وكلّ نبتة خضراء رائعة في تلك المروج علامة واضحة على وجود ضياء الشمس.

أصحاب البصائر يتذكّرون هذه الحقيقة ، وينفذون بعقولهم إلى غيب الواقع

٣٨

المشهود فيما يتصل بخالق الطبيعة ، ويعرفون أنّ كلّ شيء في الخليقة آية ظاهرة لخالقها العظيم ، كما أنّ انعكاسات النور شاهدة على وجود مصدره (الشمس) ، وتعالى الله عن الأمثال.

ومن هنا كانت آيات الله في الأرض تتجلّى للمؤمنين بصورة أبهى وأسنى ، أمّا غيرهم فإنّ جمال المظهر يشغلهم عن ينبوع النور والجمال والبهاء ، لأنّ نظرتهم قاصرة ، وهمّتهم محدودة ، فلا تتجاوز الحقائق الجزئية والدّانية.

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ)

المنهج القرآني الذي يكشف حجب العناد والريب والغفلة عن بصائر الناس ، ويجعلهم يتفكّرون في غيب السموات والأرض ، ولا ينظرون فقط إلى ظاهر الحياة الدنيا ، بل يجعلون كلّ ظاهرة جسرا إلى غيبها ، وكلّ حدث نافذة إلى رحاب الحقيقة الأكبر منه.

بلى. هذا المنهج القرآني المعجز يصل الإنسان بالخليقة عبر جسر الإيمان ، حتى ليصبح كلّ شيء من حوله ناطقا يناجيه بسر الكائنات ، ويتناجى هو معه بلغة العارفين.

إنّ حقائق الخلق ، من حجر وشجر وأحياء .. من سحب تلبّد السماء ، وغيث يسقي الأرض ، وعواصف ورعد وبرق .. من أمواج البحر ، وشعاع الشمس ، ونور القمر ، إنّها جميعا في وعي المؤمنين تجلّيات لأسماء الله ، ومنافذ إلى غيب قدرته وحكمته .. رحمته وعزّته .. جماله وجلاله .. فلا ينظرون إلى شيء إلّا عبر هذه الرؤية ، ممّا يجعله مسبّحا بحمد ربّه ، ناطقا بآياته ، داعيا إليه ، يبثّ في روعهم حكمة الحياة ، ويعكس جمالها وجلالها ، ويهديهم إلى سرّها العظيم.

٣٩

فهم إذا نظروا إلى الأرض وحجم هذه الكرة الوحيدة التي تحتضن الحياة فيما نعرف من الكرات يتساءلون : ما الذي قدّر حجمها ، وطبيعة حركتها حول نفسها وحول الشمس ، والمسافة المحدّدة التي تفصلها عنها .. حتى لو أنّها اقتربت أو ابتعدت تباطأت أو تعجّلت لما أمكن نشوء الحياة فيها أبدا؟

وسمك الأرض بهذا القدر المحدد بدقة ما الذي نظمّه حتى لو كانت أسمك عشرة بوصات لما وجدت مادة الأوكسجين الضرورية للحياة .. ولو كانت البحار أعمق عدة بوصات من عمقها الحالي لابتلعت كل ما في الجو من هذه المادة الضرورية؟

وكذلك الغلات الواقي المحيط بأرضنا لو كان أدق قليلا ممّا هو عليه لكانت الأرض معرضة لملايين الشهب المتوجهة إليها من الفضاء الخارجي ولاستحالت الحياة عليها .. والغازات المتنوعة التي نحتاج إلى كلّ واحد منها بذات النسبة الموجودة في الجو ، والتي تكونت عبر السنين المتطاولة من مصادر عديدة. أليست شاهدة على حكمة المدبّر سبحانه؟ (١)

[٢١] وإذا عدت إلى نفسك التي هي خلاصة مباركة لكل ذلك العالم الكبير الواسع ، فإنّك تجد آفاقا من العلم لا تحد ، وشواهد لا تحصى على حسن التدبير لخالقها الرحمن ، ولكنّنا بحاجة إلى بصيرة نافذة لكي لا تحجبنا حاجات الجسم العاجلة المحدودة عن الغور في أعماقها الزاخرة بالمعرفة والحب والأحاسيس الزاكية.

(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)

__________________

(١) راجع تفسير نمونه (بالفارسية) / ج ٢٢ / ص ٣٣١ ـ ٣٣٢.

٤٠