من هدى القرآن - ج ١٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-17-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

هؤلاء لا يعبدون الله خوفا من النار فقط ولا طمعا في الجنة فحسب ـ وان كان ذلك بعض تطلعاتهم ـ ولكن دافعهم الأساس للعبادة هي المعرفة اليقينية العميقة بربهم ـ عزّ وجلّ ـ إذ انهم وجدوه أهلا للعبادة فعبدوه ، قال أمير المؤمنين (ع) : «فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة» وقال زين العابدين (ع) : «اني أكره أن أعبد الله ولا غرض لي إلّا ثوابه ، فأكون كالعبد الطمع المطمّع ، ان طمع عمل والألم يعمل [و] اكره أن [لا] أعبده إلّا لخوف عقابه ، فأكون كالعبد السوء ان لم يخف لم يعمل» .. قيل : فلم تعبده؟! قال : «لما هو أهله بأياديه علي وانعامه» (١) ويبين الامام الرضا (ع) خلفية هذا النهج في العبادة إذ يقول (ع) : «لو لم يخوف الله الناس بجنة ونار لكان الواجب عليهم أن يطيعوه ولا يعصوه ، لتفضله عليهم ، وإحسانه إليهم ، وما بدأهم به من انعامه الذي ما استحقوه» (٢).

والامام الصادق (ع) يشير إلى الدوافع الحقيقية لسلوك هذا الفريق الا وهو العلم والمعرفة ، فيقول : «من علم انّ الله عزّ وجلّ يراه ، ويسمع ما يقوله ويفعله من خير أو شر ، فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ، فذلك الذي (خافَ مَقامَ رَبِّهِ ، وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) (٣).

وحتى لو خشي هؤلاء النار ، أو طمعوا في الجنة فليس لذاتيهما ، بل لان الأولى تبعدهم عن الله ، والثانية تقربهم الى مقامه تعالى في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، والامام علي (ع) يقول في مضمون حديث : لو علمت ان رضا الله في ان ألقي بنفسي في النار لفعلت ، ولو علمت ان رضى الله في أن ألقي بنفسي من على شاهق لفعلت.

__________________

(١) بح / ج ٧١ ص ١٧٤

(٢) المصدر / ص ٢١٠

(٣) أصول الكافي ج ٣ / ص ١٢٦

٣٤١

ولان هذا الفريق من العباد خافوا ربهم في الدنيا استحقوا أمنه وجناته في الآخرة.

قال رسول الله (ص) : «قال الله تبارك وتعالى : وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين ، فاذا أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة يوم القيامة ، وإذا خافني في الدنيا آمنته يوم القيامة» (١) وهؤلاء يستحون من ربهم ، ويخافون شهوده في السر والعلانية ، والجنتان التي يعطيها الله لهم هي في مقابل العذابين (جهنم والحميم) اللذين يطوف بينهما المجرمون.

قال البعض : ان هؤلاء هم أرفع المؤمنين درجة ومقاما ، حيث لا يرقى الأدنى الى منزلة الأرفع فان الله أعطاهم جنتين ، جنة تخصهم وأزواجهم ، وجنة يستقبلون فيها المؤمنين كدار للضيافة ، وقال قائل : الجنة الأولى داخل بيته والثانية خارجه ، وقال آخرون : ان الأولى جزاء أعمالهم والاخرى زيادة وفضلا من عند الله ، وقيل : ان الأولى جزاء أعمالهم وسلوكياتهم ، والثانية جزاء ما انطوت عليه قلوبهم من العلم والمعرفة ، ونفوسهم من الإيمان والتصديق ، والذي يظهر من عموم القرآن ان للمؤمنين أكثر من جنتين قال تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) (٢).

وقوله : «جَنَّتانِ» يخص بالذكر اثنتين تتميزان عن سائر الجنات ، وهما جنة عدن وجنة الفردوس ، أو جنة عدن والنعيم ، أو هي الخلد والمأوى.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ١٩٦

(٢) النساء / ١٣

٣٤٢

بعد بيان مقام الخائفين من مقام ربهم يطرح القرآن هذا التساؤل ، ربما ليقول لنا بان السبل مشرعة للجميع لو أرادوا الوصول الى هذه المنزلة الرفيعة ، لأن الله لم يجعلها حكرا على أحد ، ولكن يشترط أن لا يكذب بآلاء ربه ، فذلك يحرمه منها.

[٤٨ ـ ٤٩] ويشوقنا الوحي الى تلك الجنتين ، إذ يرينا صورا رائعة عنهما ويكتسب التشويق أهميته من كونه إذا تفاعل معه السامع ، وصدق به ، يتحول الى ما يشبه الوقود في داخل الإنسان ، يدفعه بفاعلية قوية وعميقة الى العمل على تحقيق الغاية المطلوبة منه.

والبشر يخشى الاجرام ويتجنبه مرّة لأنه يؤدي الى جهنم ، ومرة لأنه يخسر الإنسان قربه من ربه وثوابه الجزيل.

(ذَواتا أَفْنانٍ)

اشارة الى صفتين لتينك الجنتين ، إحداهما : كثرة الأغصان ، والعرب تقول للغصن فنن وجمعه أفنان ، وهي لا شك تدخل على النفس البهجة والسرور ، بالنظر الى خضرتها وكثافتها ، وكثرة الأغصان تدل على نوع معين من الأشجار غير ذات السوق كالنخل ، والشجر تلك تكون أكثر استيعابا للثمر ، كما انها تلقي بظلها على ألأرض ليجد المؤمنون لذة الجلوس في الظلال ، «مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً* وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً» (١) «هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ» (٢) والصفة الثانية : التنوع ، قال صاحب المنجد : أفنان ، وفنون ، وأفانين : الضرب من الشيء أو النوع (٣).

__________________

(١) الإنسان / ١٢ ـ ١٤

(٢) يس / ٥٦

(٣) راجع معنى (فنن) المنجد.

٣٤٣

ويعود السياق هنا ـ وبعد ذكر كل نعمة في الجنة ـ ليشفي قلوبنا من داء التكذيب بآلاء الله ، وهذا هو طبيعة منهج القرآن : انه لا يجعل الحديث عن المستقبل الغائب مجردا وبعيدا عن واقعنا ، بل يوصله بنا ، ويسعى من خلال ذكره الى علاج مشاكلنا ، ودفعنا باتجاه ايمان ومعرفة أكثر وأعمق ، وهو في هذا المورد يريد القول بان ذلك النعيم نتيجة شكر نعيم الدنيا.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

ويصرح القرآن بهذه الحقيقة بعد حديث مفصل عن الجنة في سورة الإنسان قائلا : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) (١) بل هي التجلّي الأعظم لقول الله : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (٢) إذا لندع التكذيب بآلاء الله.

[٥٠ ـ ٥١] وتطمع نفوسنا المجبولة على حب الاستطلاع في معرفة المزيد من الجنتين ، فيقول ربنا :

(فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ)

العين في الدنيا تتصل بمخازن الماء في الأرض وكلما استنزفت ملأتها المخازن ، ولكن الله لا يقول «عينان» وحسب ، بل يضيف «تجريان» وتوحي هذه الجملة بان الماء هناك في حركة دائمة مما تزيد المنظر روعة وجمالا.

ولا يذكر القرآن ما في العينين : هل هو الماء ، أم اللبن ، أم الخمر ، أم العسل ، أم هو شيء آخر؟ والإبهام يزيد النفس شوقا ، والله يبهم قاصدا وهو القائل : «فَلا

__________________

(١) الإنسان / ٣٢

(٢) إبراهيم / ٧

٣٤٤

تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (١).

فيا حسرة على العباد يتحبب لهم ربهم فيتبغضون اليه ، ويتقرب منهم فيبتعدون عنه ، ويفتح لهم أبواب رحمته ثم يدعوهم إليها فيعرضون ، ويكذبون ، وهو لا يزال يتلطف بهم ، لا يسخط من تكذيبهم ، ولا يعرض عنهم بانحرافهم عن آلائه بل يكرر عتابه.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

وله العتبى حتى يرضى ، انه لا يحتاج الى تصديقنا به ، وشكرنا لآلائه فذلك لا يزيده شيئا ، كما لا ينقص كفرنا وتكذيبنا من مقامه تعالى شيئا ، انما نحن المحتاجون اليه.

[٥٢ ـ ٥٣] وجانب آخر من نعيم الجنتين الأكل ، والقرآن لا يحدثنا عن أوليات النعمة (الأشياء الضرورية) انما يحدثنا عن تمامها (الكماليات) وهي الفواكه ، مؤكدا بأنها الأخرى موجودة وفي غاية الكمال ، كثرة وتنوعا.

(فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ)

فليس ثمة فاكهة إلّا وهي موجودة ، والفاكهة بالإضافة الى فائدتها المادية للجسم ، فهي لها نكهة ولذة خاصة يجدها الإنسان في منظرها على المائدة أو في الشجر ، حيث الأشكال والألوان البديعة ، وفي روائحها الطيبة ومذاقها اللذيذ ، ولعل اسمها مشتق من الفاكهة والتفكّه وهو حديث ذوي الأنس والسرور.

والسؤال : ما معنى «زَوْجانِ»؟

__________________

(١) السجدة / ١٧

٣٤٥

قيل : من كل نوع صنفان ، أحدهما يشبه الذي في الدنيا ، والآخر يختلف عنه في حجمه ومذاقه وألوانه ، مما يختص بالآخرة وهو الأفضل ، قال تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) (١) وقد يكون المعنى من الزوجين : أي ان ما في الجنة الأول موجود في الثانية ، فيكون المقصود المقابلة وأو يكون المعنى : نوعين من الفاكهة الواحدة ، ويحتمل معنى التكامل ، بحيث تجد لكل فاكهة اخرى تكملها شكلا وفائدة ، وكما نعيم الجنة يكمل بعضه بعضا ، كذلك عذاب النار ، فجهنم يكملها الحميم الآن.

وهذا النعيم لا يحصل عليه إلّا من عرف الرحمن ، وقدّره حق قدره ، فصدق آلاءه ، وخاف مقامه.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

وهذه الآيات تؤكّد أن الحديث عن الجنة والنار حق وليس مجرد إثارة لحالة الطمع والخوف عند البشر ـ كما يزعم البعض ـ ذلك ان ربنا غنيّ عن مخالفة وعده ، أو بيان ما ليس بحق ، وان قدرته في موضع الرحمة ، أو في موضع النكال والنقمة مطلقة لا يحدها شيء ، (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢) ولكن مشكلة الإنسان أنه يقيس الأمور على قدره ، وحسب قدراته وفهمه المحدودين ، فلأنّه لا يستطيع إحياء الموتى يشكك في البعث ، ولأنه محجوب عن علم المستقبل وما لا يراه ، تراه يرتاب في الغيب أو يكفر به ، وهذا نوع من الشرك الفكري ، قال تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ

__________________

(١) البقرة / ٢٥

(٢) يس / ٨٢

٣٤٦

وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١).

وحتى يتجاوز الإنسان هذا الشرك الذي يقوده الى التكذيب بآيات الله ، يجب أن ينظر الى الأمور ، وبالذات الحقائق الكبيرة من خلال الايمان بقدرة الله المطلقة ، (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢).

[٥٤ ـ ٥٥] بلى. ان الجنة حق ، كما الوجود حق ، وكما الموت حق ، والذين يدركون هذه الحقيقة ببصائرهم ، وينفذ نور الايمان بالله الى كل ابعاد قلوبهم ، فإنهم لا يعرفون وقفة عن العمل الصالح ، والكلم الطيب حتى الرمق الأخير ، انهم صيح بهم فانتبهوا ، وعلموا ان الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا ، وما تركوا لحظة تمر عليهم من ليل ولا نهار ، إلّا ازدادوا فيها ايمانا وعملا في سبيل الله ، لأنهم أدركوا بان الحياة الدنيا فرصة محدودة يخسرها من يغفل عنها.

وإليك برنامجهم في الحياة عن لسان أميرهم وسيدهم الامام علي (ع) :

«أما الليل فصافون أقدامهم ، تالين لأجزاء القرآن ، يرتلونها ترتيلا ، يحزنون به أنفسهم ، ويستثيرون به دواء دائهم ، فاذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطلعت نفوسهم إليها شوقا ، وظنوا انها نصب أعينهم ، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم ، فهم حانون على أوساطهم ، مفترشون لجباههم وأكفهم وركبهم ، وأطراف أقدامهم ، يطلبون الى الله تعالى في فكاك رقابهم ، وأما النهار فحلماء علماء ، أبرار أتقياء ، قد براهم الخوف بري القداح ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى ، وما بالقوم من مرض ويقول : لقد خولطوا!

__________________

(١) الزمر / ٦٨

(٢) الحج / ٧٤

٣٤٧

ولقد خالطهم أمر عظيم! لا يرضون من أعمالهم القليل ، ولا يستكثرون الكثير ، فهم لأنفسهم متهمون ، ومن أعمالهم مشفقون. إذا زكّي أحد منهم خاف مما يقال له ، فيقول : أنا أعلم بنفسي من غيري ، وربي أعلم بي منّي بنفسي! اللهم لا تؤاخذني بما يقولون ، واجعلني أفضل مما يظنون ، واغفر لي ما لا يعلمون.

فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين ، وحزما في لين ، وأيمانا في يقين ، وحرصا في علم ، وعلما في حلم ، وقصدا في غنى ، وخشوعا في عبادة ، وتجمّلا في فاقة ، وصبرا في شدة ، وطلبا في حلال ، ونشاطا في هدى ، وتحرجا عن طمع ، يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل ، ويمسي وهمه الشكر ، ويصبح وهمه الذكر ، ويبيت حذرا ، ويصبح فرحا ، حذرا لما حذّر من الغفلة ، وفرحا بما أصاب من الفضل والرحمة ، ان استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب ، قرة عينه فيما لا يزول ، وزهادته فيما لا يبقى. يمزج الحلم بالعلم ، والقول بالعمل. تراه قريبا أمله ، قليلا زلله ، خاشعا قلبه ، قانعة نفسه ، منزورا أكله ، سهلا أمره ، حريزا دينه ، ميّتة شهوته ، مكظوما غيظه. الخير منه مأمول ، والشر منه مأمون. ان كان في الغافلين كتب في الذاكرين ، وان كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين. يعفو عمن ظلمه ، ويعطي من حرمه ، ويصل من قطعه. بعيدا فحشه ، ليّنا قوله ، غائبا منكره ، حاضرا معروفه ، مقبلا خيره ، مدبرا شره ، في الزلازل وقور ، وفي المكاره صبور ، وفي الرخاء شكور. لا يحيف على من يبغض ، ولا ينسى ما ذكّر ، ولا ينابز بالألقاب ، ولا يضار بالجار ، ولا يشمت بالمصائب ، ولا يدخل في الباطل ، ولا يخرج من الحق. ان صمت لم يغمّه صمته ، وان ضحك لم يعل صوته ، وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له. نفسه منه في عناء ، والناس منه في راحة. أتعب نفسه لآخرته ، وأراح الناس من نفسه بعده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة ، ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة. ليس تباعده بكبر وعظمة ،

٣٤٨

ولا دنوه بمكر وخديعة» (١).

هذا في الدنيا ، أما في الآخرة فإنهم ينوون مواصلة التعب شكرا لله ، ولكنهم فور ما يسجدون يخاطبهم الجليل الأعلى ليس هذا يوم تعب وعبادة ، انها دار الراحة والحصاد بعد تعب الدنيا وعملها.

(مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ).

أي داخل المتكأ وحشوه من الديباج الغليظ ، والإستبرق كما قالوا : كلمة معربة من قولهم : (ستبرك) وهو مصغر (ستبر) بمعنى الثخين الغليظ ، وقالوا : ان ما كان حشوه حريرا خالصا فظاهره يكون كذلك بالأحرى (٢).

والآية بكل مفرداتها وايحاءاتها تعبير بليغ عن أقصى غايات الراحة ، فهم متكئون وعلى فرش الحرير الناعم البارد والمريح ، ومن حولهم كل صنوف الفواكه ، ومن تحتهم الأنهار بأنواعها ، وتظلهم الأغصان النضرة الخضراء الندية.

(وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ)

الإنسان في الدنيا لا يحصل على شيء إلّا بالتعب وبذل الجهد ، والفلاح لا شك انه يلقى تعبا في الحصاد وقطف الثمار ، لان بعضها بعيد عن متناول يده ، فلا بد أن يتمطى لقطفها أو يركب الشجرة أو يستخدم وسيلة لذلك أي انه لا بد ان يبذل جهدا اما في الآخرة فان ثمر الجنة متدل قريب متى ما اشتهى المؤمن شيئا منه تناوله بيده عن قرب ودنو ، أو يتدلى اليه الغصن بقدرة الله ، فهو لا يتعب من أجل ذلك ، وفي الكلمة ايحاء بأن الثمر في غاية النضج ، وعلى الدوام ولا يتلف ، يقال دنت

__________________

(١) نهج / خ ١٩٣ ص ٣٠٣

(٢) تفسير الرازي / ص ٢٦ ج ٢٩

٣٤٩

الثمرة إذا نضجت واقترب قطافها.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو : لما ذا حدّثنا ربنا بصيغة المضارعة عن الاتكاء ، والحال كما نفهم ان الصيغة يجب ان تكون للمستقبل (سيتكئون)؟

الجواب : لان المتكلم هو الله ، وما يريده الله ويعد به يحدث لا محالة ، وسواء عنده تحدث بصيغة الماضي أو الحاضر أو المستقبل ، لأنه قادر فعلا على تحقيقه ، مثل قوله على صيغة الماضي : (وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (١) أو بصيغة المستقبل كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) (٢) أو بكليهما : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) (٣) فقد أكد وقوع امره بصيغة الماضي «أَتى» حتى لكان أمره وقع فعلا ، ولكنه استدرك قائلا : «فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» دلالة عدم تحقق وقوعه.

نعم. بالنسبة للمخلوق لا يصح منه القول : فعلت أو سأفعل إذا كان يريد شيئا في المستقبل ، لان إرادته محدودة باطار مشيئة الله ، وقد تعجزها الظروف والعقبات (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) (٤).

وبعد ان يشير القرآن الى اتكاء المتقين الخائفين مقام ربهم على فرش الحرير ، بين صنوف الفواكه الدّانية يوجه خطابه الى الثقلين : بما ذا تكذّبان من هذه الآلاء الربانية؟

__________________

(١) الأنبياء / ٨٦

(٢) النساء / ٥٧

(٣) النحل / ١

(٤) فاطر / ٤٤

٣٥٠

هكذا بعد ذكر كل نعمة من نعيم الآخرة يأتي هذا التساؤل ليهدينا الى ضرورة حمد الله وشكره على آلائه في الدنيا عند كل خير ونعمة.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

[٥٦ ـ ٥٧] (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ)

جاء في المنجد : «الطمث : مصدر الدنس والفساد» (١) وسمي دم الحيض طمثا لفساده ، وحيث ان البكارة عنوان الطهر والعفة عند المرأة ، فان افتضاض بكارتها ، وخروج الدم دليل فساد المرأة أو فساد بكارتها التي تذهب بذلك ، ولا ريب ان الواحد يأنس بالبكر ويرغب إليها أكثر من الثيب ، وحور كل جنة انما خلقن لصاحبها لا يسبقه إليهن أحد من الخلق ، وحيث يأتيهن يرى علامة ذلك فهن طاهرات.

ولكن لماذا يقول الله «وَلا جَانٌّ»؟ ربما لان الجنة للمؤمنين من الإنس والجن ، فأراد التأكيد على عدم سبق أحد إليهن ، والتأكيد على الطهارة الشاملة ، ذلك أن الشيطان يوسوس للمرأة ، ويثير غلمتها عبر الخيال ، وبالذات حين بلوغها ، وقد تنتهي بها تلك الوساوس حتى تفض بكارتها بصورة أو بأخرى ، ولذلك جاء في القرآن الأمر بالتعوذ منه.

ويسبق تأكيده تعالى على طهارتهن (المادية) بعدم الطمث ، بيان لطهارتهن المعنوية ، فهن قد قصرن طرفهنّ (العيني والنفسي) من غير أزواجهن ، قال أبو ذر رضي الله عنه : «انها تقول لزوجها : وعزة ربي ما أرى في الجنة أخير منك ، فالحمد لله الذي جعلني زوجك وجعلك زوجي» (٢) وهكذا حال الطاهرات العفيفات من

__________________

(١) راجع مادة طمث

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ص ١٩٨

٣٥١

النساء ، وحال الأزكياء من الرجال انهم يمنعهم خوف مقام ربهم ان يمدوا عيونهم الى ما حرم الله عليهم ، وإذا كان الأمن في الآخرة جزاء خوفهم في الدنيا ، والراحة (اتكاؤهم على الفرش) جزاء تبعهم وعملهم الدؤوب فيها ، فان تلكم الحور جزاء لطهارتهم في الدنيا ، بغضهم من أبصارهم ، وترفعهم عما حرم الله ، استجابة لدعوته ، والتزاما برسالته (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) (١) ولعلنا نهتدي من علاقة قصر الطرف بالطمث ، ان النظرة المحرمة قد تنتهي الى الزنا ، وذلك مضمون روايات كثيرة ، منها قول نبي الله عيسى (ع) : «لا تكونن حديد النظر الى ما ليس لك فانه لن يزني فرجك ما حفظت عينك ، فإن قدرت أن لا تنظر إلى ثوب المرأة التي تحل لك فافعل» (٢) وربما نهتدي بذلك الى ان الجنتين ليستا منزلا لمن خاف ربه من الرجال فحسب ، بل حتى للمؤمنات العفيفات ، اللواتي منعهن خوف الله حتى من مجرد النظر الحرام فهن من السابقات الطاهرات ، وربنا يجعلهن يوم القيامة سيدات نسائها ، وأعظم جمالا ، جزاء تقواهن وطهارتهن ، حيث يجعلهن كالياقوت والمرجان ، ولا ريب ان ذلك مما تتطلع اليه كل أنثى.

جاء في تفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٢٠١ نقلا عن كتاب من لا يحضره الفقيه عن الامام الصادق (ع) : «الخيرات الحسان من نساء أهل الدنيا ، وهن أجمل من الحور العين».

ومعنى قوله : «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ» انهن في الجنة يرجعن أبكارا على الدوام ، بحيث إذا جاءهن أترابهن من المتقين وجدوهن أبكارا ، لم يسبقهم أحد إليهن ، أو ان المعنى ، بالطمث المحرم ، فهن بعيدات عن ذلك ، ولم يتورطن

__________________

(١) النور / ٣٠

(٢) تنبيه الخواطر ، ونزهة النواظر (مجموعة ورام) ج ١ ص ٦٢

٣٥٢

فيه ماديا ولا معنويا ، فهن من الزوجات التي وعد المتقون : (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) (١) كما تشمل الآية قاصرات الطرف من الحور اللواتي يخلقهن الله للمتقين خصوصا ، ولكن المعنى قد يكون : أنهن قصرن أنظارهن عن غير أزواجهن ، وان عدم الطمث يكون مطلقا ، فهن أبكار في الجنة ولم يفضّ بكارتهن أحد قبلهم.

وبالعودة الى أول الآية ، ومقارنتها بالآيات السابقة (٤٨ ـ ٥٠ ـ ٥٢) نجد الخطاب بالتثنية «ذواتا ، فيهما» عطفا على الجنتين ، ولكنه هنا جاء بصيغة الجمع «فِيهِنَّ» وذلك اما وصلا بالحديث عن الفرش وهو قريب ، حيث يجلس المؤمنون معهن عليها ، قال تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) (٢) وقال : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ* لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) (٣) وهذا العطف يشبه وصله الآية (٥٨) بالآية (٥٦) ، واما يكون المعنى : ان في الجنتين المذكورتين ـ وهما الأساس ـ جنات كثيرة في كل واحدة قصورها وحورها الخاصة بها ، وقال بعض المفسرين : ان ذلك متصل بالآية السابقة «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» باعتبار الحور شيئا من تلك الآلاء ، وان رحمة الله تحيط بالإنسان من كل جانب ، وهي تمتد الى الآخرة وتتسع هناك ـ في الجنة ـ للمؤمنين ، بما لا يقاس بالدنيا ، ففي الجنة التجلي الأعظم لاسم الرحمن ، حيث النعم المتميزة كمّا ونوعا وتنوّعا ، وإذا كانت رحمته تعالى تشمل المحسن والمسيء في الدنيا فهي هناك للمؤمنين وحدهم ، لأن الآخرة دار الفصل.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

بلى. أنتم يا معشر الجن والإنس قد تكذبون بآيات الله ، وتكفرون بنعمه ،

__________________

(١) آل عمران / ١٥

(٢) الطور / ٢٠

(٣) يس / ٥٦ ـ ٥٧

٣٥٣

ولكنها تظل تتوالى عليكم ، وربما زادها الله ليزداد المكذب إثما ، فلا يبقى ثمة حظ له في الآخرة ، ولا نصيب من رحمة الله ، ورحمة ربك خير مما يجمعون (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ* وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ* وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (١) وما قيمة حطام الدنيا حتى يغتر به الإنسان ، فيعتبره خيرا كلما زاده الله منه ، ويتخذه وسيلة للتمادي في الكفر ، والتكذيب بالرحمن ـ عزّ وجلّ ـ إنه سوف يحرم نفسه من رحمته العظمى في الآخرة من العيون ، والأنهار ، والفواكه ، وفرش الإستبرق ، والحور العين ، فلما ذا يحيل رحمة ربه له في الدنيا خسارة لذلك النعيم ، وغضبا عليه بسبب التكذيب؟!

ولاننا لا نستوعب حقيقة نعيم الاخرة ، فانه تعالى يشير اليه إشارة تقريبيّة ، من خلال التشبيه ، ففي الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وفي الأخبار لو حدث الله الناس عن الجنة كما هي لما صدقوا ، ولعلنا نهتدي الى هذا المعنى من الآية الكريمة : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢) إذ ينفي ظاهرها امكانية العلم أصلا.

ولكي نقترب من هذه الفكرة دعنا نتصور قاصرات الطرف : هل هن يشبهن نساء الدنيا؟ وما مدى جمالهن؟

قد نجيب على تلك الأسئلة ، ولكن بأي دليل ، وعلى أي مقياس؟! لعل عقولنا بل خيالاتنا تتمكن من استيعاب أقصى حد للجمال ، بأجمل امرأة في العالم ، ولكن هل يمكنها ان تتصور جمالا يفوق ذلك مليون مرة؟! كلا .. لذلك يقول ربنا وهو

__________________

(١) الزخرف / ٣٢ ـ ٣٥

(٢) السجدة / ١٧

٣٥٤

يحدثنا عن قاصرات الطرف مشبها :

(كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ)

قيل يشبهن الياقوت صفاء ، فبشرتهنّ لا يشوبها عيب ، وتشبه المرجان حمرة ، أو هي ناصعة البياض مشرّبة بحمرة الياقوت ، وربما نستوحي من الآية معنى آخر فكما ان الياقوت ليس كأيّ حجر يحصل عليه الإنسان بسهولة ، بل لا بد له من البحث عنه والاجتهاد ، وكما ان اليد لا تصل الى المرجان إلّا بالغوص الى أعماق البحار وتحمل المشقة ، فان للجنة ثمنا لا يحصل عليها صاحبها الا به ، قال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) (١).

ولعل شكر نعم الله المادية والمعنوية من أهم مفاتيح الجنة ، فإن شكر الآلاء بارك له وزاده ، ليس في الدنيا وحسب ، بل في الآخرة أيضا ، لأنها امتداد للأولى ، ومصيره فيها يحدده موقفه من نعم الله.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

وللعبد أن يعرف حجم تكذيبه بآلاء ربه ، من خلال العذاب الذي سوف يلقاه في الآخرة ، ومن الحسرة والندامة التي تحل به جزاء خسارته الأبدية الكبرى لنعيم الجنة وثوابها.

[٦٠] كل أبعاد الخليقة نعمة وهي ـ بالتالي ـ من آلاء ربنا الرحمن ،

__________________

(١) البقرة / ٢١٤

٣٥٥

وأصحاب الجنة هم الذين تحسّسوا شهود ربهم عبر آلائه ، وعرفوه فآمنوا برسالاته ، واتبعوا رسله ، واتقوه حق تقاته ، فأحسنوا بذلك في الدنيا .. لقد أحسنوا التصرف في نعم الله وآلائه كلها ، فكان من إحسانهم بذلهم إيّاها للآخرين. إنهم أدركوا بعمق معنى الخوف من مقام ربهم ، فلم يجعلوه محدودا بقلوبهم ، بل جعلوه برنامجا متكاملا لحياتهم ، وإذا بهم يفيضون فاعلية وعطاء وتضحية ، فتراهم يبذلون كل ما يملكون ، اتقاء غضب الله ، وطمعا في رضاه وثوابه ، ولن تذهب أعمالهم سدى ، ولو كان بمقدار حبة من خردل خيرا يأتي به الله ليجزي عليه صاحبه (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١) انما يحفظه وينميه وينمي به خير فاعله ، ويرده عليه في الدنيا والآخرة ، (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (٢) ، ولقد فطر الله الحياة بهذه السنة ، ان الإنسان يحصد ما يزرع ، فان زرع خيرا حصد الخير ، وان زرع الشر لا يحصد إلّا الشر.

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ)

انها حقيقة فطرية يشهد بها الجميع : ان الإحسان لا يكافئ إلّا بالإحسان وتتجلى هذه الحقيقة في أبهى صورها في الجنة ، وهكذا القرآن يستثير في البشر ركائز فطرتهم ليستشهد بها على أنفسهم بما جبلوا عليه ، وتعارفوا فيما بينهم به.

يروى عن علي بن سالم انه قال : سمعت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) يقول : «آية في كتاب الله مسجلة» قلت : وما هي؟ قال : «قول الله عزّ وجلّ : «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» جرت في الكافر والمؤمن ، والبر والفاجر ، ومن صنع اليه معروف فعليه أن يكافئ به ، وليس المكافأة أن يصنع كما صنع

__________________

(١) التوبة / ١٢٠

(٢) البقرة / ٢٧٦

٣٥٦

حتى يربى ، فان صنعت كما صنع كان له الفضل بالابتداء» (١).

وجاء في حديث مأثور عن النبي ـ في تأويل الآية ـ «هل جزاء من أنعمنا عليه بالتوحيد إلّا الجنة» (٢).

[٦١] وتنعكس هذه الآية على سلوك المؤمن فيتخذ آلاء ربه المسبغة عليه سلّما الى الكمال الروحي ، وبناء المجتمع ، وسببا الى نيل رضوان الله ، وليست وسيلة الى التكذيب به تعالى كما يفعل الكثير من الجن والإنس.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

أو ليس قد أحسن الله إليهم وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ، فكذبوا بآلائه؟! ولماذا نبخل على الآخرين؟! وما يدريك لعل الله يقطع إحسانه عنا إذا تركنا الإحسان الى الناس ، أو ليس لله ملكين يناديان كل ليلة جمعة : «اللهم أعط كل منفق خلفا ، وكل ممسك تلفا» (٣) فعلى م البخل اذن؟! كما ان في داخلهم إحساس عميق بأنهم لا يملكون النعم ، وانما هي أمانات الله استخلفهم فيها ، فلما ذا يخرجون عن امره بإنفاقها؟! يقول سبحانه : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (٤) (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ، وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (٥).

وكما ان الإحسان يجلب الإحسان والزيادة في النعم ، فان الاساءة والفساد في الأرض يسلب النعمة ، بل ويجعلها نقمة ، قال ربنا سبحانه : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ١٩٩

(٢) المصدر / ص ١٩٨

(٣) بحار الأنوار / ج ٩٦ ص ١١٧

(٤) الحديد / ٧

(٥) القصص / ٧٧

٣٥٧

أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) (١).

[٦٢] ثم يمضي السياق يحدثنا عن جنتين أخريين ، تختلفان في نعيمهما عن الأوليتين

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ)

يبدو من المقارنة بين الجنان الأربع وسائر النصوص ان درجات الجنة عديدة والناس فيها متفاضلون ، فبالرغم من أن أهل الجنة جميعهم منعّمون وراضون بما قسم الله لهم من الفضل ، ولكنهم كما تفاوتوا في الايمان والعمل في الدنيا فإنهم يتفاوتون ويتفاضلون في درجات الجنة ، قال تعالى : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (٢) وحتى الأنبياء يتفاضلون فيما بينهم ، قال الله : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) (٣) وهذا التفاضل الذي يقرّه الله ليس اعتباطيا ، انما يعتمد الحكمة والعلم قال تعالى : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٤).

وقال النبي (ص) : «جنتان من فضة ، أبنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب ، أبنيتهما وما فيهما» (٥) ، وقال الامام الصادق (ع) يخاطب أحدا : لا تقولن الجنة واحدة ، ان الله يقول : «وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ» ولا تقولن درجة واحدة ، ان الله يقول : «درجات بعضها فوق بعض» ـ ثم أضاف ـ «انما تفاضل القوم بالأعمال» (٦). ولكن اختلاف الدرجات والتفاضل لا يخلف أثرا

__________________

(١) الإسراء / ٧

(٢) آل عمران / ١٦٣

(٣) البقرة / ٢٥٣

(٤) الأعراف / ٨٣

(٥) مجمع البيان / ج ٩ ـ ١٠ / عند تفسير الآية

(٦) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٠٠

٣٥٨

من حسد أو بغضاء بين المؤمنين هناك بعكس حال أهل الدنيا حيث يتعالى الغني على الفقير ، أو العالم على الجاهل ، أو الحاكم على المحكوم ، قال ربنا : «وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» (١) فهم راضون قانعون بما قسم الله لهم ، إذ يعلمون بحكمته وانهم الذين وضعوا أنفسهم حيث هم ، قال رسول الله (ص) في وصيته لابي ذر (ر ض) : «يا أبا ذر! الدرجة في الجنة كما بين السماء والأرض! وان العبد ليرفع بصره فيلمع له نور يكاد يخطف بصره ، فيفزع لذلك ، فيقول ما هذا؟! فيقال : هذا نور أخيك ، فيقول أخي فلان! كنا نعمل جميعا في الدنيا ، وقد فضل عليّ هكذا؟ فيقال له : إنه كان أفضل منك عملا ثم يجعل في قلبه الرضا حتى يرضى» (٢) ولعل أعظم مقاييس التفاضل : التطوع في سبيل الله فهناك فريق من المؤمنين ينذرون أنفسهم في سبيل الله ، وهم مفضلون على من سواهم ، وسواء كان هؤلاء ربانيين أو أحبارا أو مجاهدين فإنهم السابقون بالخيرات على عامة المؤمنين ، الذين يلتزمون بالواجبات ، ويتجنبون المحرمات ، ويعملون الحسنات ، ولكنهم لا يتطوعون كليّا لله ، بل تراهم يمارسون حياتهم العادية ضمن ما شرع لهم ربهم ، وهم القاعدون الذين وعدهم الله الحسنى أيضا ، ولكن فضل عليهم المجاهدين أجرا عظيما.

والقاعدون من المؤمنين أمثال العمال والفلاحين والحرفيين والتجار والموظفين ، وسائر أبناء الأمة ، بينما المجاهدون هم المتصدون لقضايا الأمة ، كالعلماء العاملين والمجاهدين في سبيل الله ، ان هؤلاء يسهرون على مصالح الأمة ، ويبادرون للدفاع عنها ، ويتصدون لقيادتها نحو الخير والحق ، متحملين في ذلك الصعاب ، انهم يستقرون في منازلهم ودرجاتهم الرفيعة في الجنة ، يقول من دونهم إذا نظروا إليهم :

__________________

(١) الحجر / ٤٧

(٢) بح / ج ٧٧ ص ٧٨

٣٥٩

«ربنا إخواننا كنا معهم في الدنيا فبم فضلتهم علينا؟! فيقال : هيهات هيهات! انهم كانوا يجوعون حين تشبعون ، ويظمأون حين تروون ، ويقومون حين تنامون ويشخصون حين تحفظون» (١) هكذا قال رسول الله (ص) ، ولعلنا نلمس في النصوص المأثورة عن النبي والأئمة (ع) أبعاد هذا التمايز ، فمثلا أكثر وصاياهم وكلماتهم موجهة الى عامة الناس ، بينما نجد في كلماتهم وصايا تخص الطلائع والقادة من أمثال كميل ، وأبي ذر ، وسلمان ، وابن مسعود ، وابن جندب.

وانما يؤكد الله هذا التفاضل ـ كما هو الحال في حديثه هنا عن الجنات الأربع ـ لكي يتسابق الناس الى الخير ، وقد صرح القرآن بهذا الهدف إذ قال : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) (٢) بل اعتبر القرآن التسابق في إتقان العمل هدفا للخلق : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٣) وقال : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٤).

ونخلص الى القول بان الدونية في الآية بمعنى الأقل في الفضل ، كقولنا فلان دون فلان في العلم ، فهو أقل منه علما ، وعليه فان الجنتين الأخريين اما تكونان لصاحب الجنتين الاوليتين المذكور في قوله تعالى : «وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ» يستقبل فيهما من هو أقل منه فضلا ودرجة عند الله ، وهما بذلك دار ضيافته لإخوانه من المؤمنين ، الذين يتزاورون في الجنة ، أما الأوليتين فتخصه ويستقبل فيهما أو في إحداهما انداده ، أو تكونان (الأخريين) منزلا لمن هم أقل درجة ممن يخافون مقام ربهم.

__________________

(١) بح / ج ٧٧ ص ٧٧

(٢) الحديد / ٢١

(٣) هود / ٧.

(٤) الملك / ٢

٣٦٠