من هدى القرآن - ج ١٠

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-0
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٤

ربما لا يكتشف العلم العلاقة بين الزنا وموت الفجأة أو بين التطفيف والفقر ، أو بين المعاصي وانقطاع المطر ، ولكن الحقيقة ان هذه أثر من تلك ، وان طاعتك أو معصيتك تؤثر فيما حولك ، وقد أكد القرآن على هذه الفكرة مرارا فقال :

١ ـ «وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً» (٧)

٢ ـ «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» (٨)

٣ ـ «وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» (٩)

انك إذا لم تعرف سبب الابتلاءات انها من الذنوب ، فلا دليل لك على ان تبقى على سلوكك المنحرف ، وتحتمل تبعة هذا السلوك ، فقد جاء في الحديث المأثور عن أمير المؤمنين (ع) في قوله تعالى : «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» :

«ليس من التواء عرق ، ولا نكبة حجر ، ولا عثرة قدم ، ولا خدش عود الا بذنب ، ولما يعفو الله أكثر فمن عجل الله عقوبة ذنبه في الدنيا فان الله أجل وأكرم وأعظم من ان يعود في عقوبته في الآخرة» (١٠)

وقد عبر الله عن عمل الذنب بما كسبت اليد ، لان اليد هي التي تباشر عادة

__________________

(٧) الجن / (١٦).

(٨) الأعراف / (٩٦).

(٩) النحل / (١١٢).

(١٠) بحار الأنوار / ج (٧٣) / ص (٣٧٤).

٨١

فعل الذنب ، وتعبير اليد تعبير عن الارادة كقولك : هذا الأمر بيدك.

(لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)

وتشير خاتمة الآية الى حقيقتين أخريين :

الاولى : ان الله سبحانه يعفو عن كثير من الذنوب ، وانما يعجل عقوبة بعض الّذي عملوا ، وفي التعبير القرآني بلاغة نافذة ، فان ما ينزّل العذاب يكون ذا ألم يذاق «ليذيقهم» وانه تجسيد لذات المذنب حيث لم يقل ربنا سبحانه «ليذيقهم عقوبة بعض ..» وانما قال تعالى «لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ» فالذي عملوه بذاته يضحى عذابا.

الثانية : ان حكمة العذاب تنبيه البشر لعله يرعوي عن غيه ، ويعود الى الطريق المستقيم والدين القيم الّذي يقي الناس ألوان العذاب.

(٤٢) قد يتخذ البعض القرآن رصيد معلومات ، وقد يتخذه البعض منهجا لبلوغ معلومات جديدة عبر بصائره ، وبالرغم من أهمية الحصول على المعلومات المباشرة من القرآن إلا أن آياته الكريمة تؤكد على أولوية اتخاذه منهجا للبحث ، ووسيلة للمعرفة ، وبابا الى العلم ، وبصائر وهدى.

وأكد الرب المرة تلو المرة : ان القرآن بصائر وأمثال وهدى ونور ، وان فيه آيات لقوم يعقلون وللعالمين ولقوم يسمعون.

والبصيرة اداة البصر ، والمثل وسيلة لمعرفة ما يشابهه. انه النموذج الّذي يقاس عليه ما يطابقه والهدى يبصرنا سنن الله ، والنور يضيء لنا الدرب لنراها بأنفسنا.

ومن أمثال هذه الآيات يعرف خطأ الذين اتخذوا القرآن نهاية المطاف ، وليس

٨٢

وراءه عمل يقومون به لمعرفة الحقائق ، بل القرآن منهج لفهم الحياة ، واثارة لعقل الإنسان ، بالاضافة الى اشتماله على رصيد لا ينتهي من العلوم والمعارف وهكذا فهو اطار يتحرك عبره البشر ، وبداية الانطلاقة ، وربما هذا هو الفرق بين الامة الاسلامية في بداية انطلاقها ، وعما عليه الآن بعد جمودها.

فالامة الاسلامية في بداية انطلاقها كانت تتخذ من القرآن وسيلة للبحث ، ومنهجا للتفكير ، ولذلك كانوا يشدون الرجال لطلب العلم ولو في الصين لأنهم كانوا طلاب تجربة ، لم يقولوا كما قال البعض : حسبنا كتاب الله ، إذ لم يكن كتاب الله بديلا عن الجهد ، بل كان إطارا له ، ولقد كان رسول الله (ص) يبعث أصحابه الى اليمن ليتعلموا فنون الحرب والتجسس على بعض الاسلحة الجديدة ، ولقد كان يزرع فيهم حب المعرفة بقوله :

«الحكمة ضالة المؤمن»

من هنا نجد القرآن يأمرنا بالسير في الأرض لننظر آثار التاريخ على الأرض مباشرة

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ)

ليس فقط ننظر الى ظواهر الأمور ، بل نبحث عما وراء الظواهر من حقائق ، فننظر الى آثار الماضين ، ونستدل بها على حياتهم ، ونعرف منها بعض السنن الاجتماعية التي كانت حاكمة عليهم.

ان السير في الأرض ، والبحث فيها عن ركام القصور المهدمة ، وبقايا المزارع المعطلة ، ونماذج الأدوات المدفونة تحت الانقاض ، يدعونا الى النظر في نهايات تلك الأمم التي كان جل سعيها الخلود في الأرض ، وتحدي سنن الله في الخلق .. لقد بنوا

٨٣

أهراماتهم بمصر ، وقلاعهم في بعلبك ، وزرعوا ارض بابل ونينوى بالآثار العظيمة ، ولكنهم ابيدوا حين أشركوا بالله.

يقول الامام أمير المؤمنين (ع): «اين العمالقة وأبناء العمالقة! اين الفراعنة وأبناء الفراعنة! اين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين ، واطفؤوا سنن المرسلين وأحيوا سنن الجبارين! اين الذين ساروا بالجيوش ، وهزموا بالألوف ، وعسكروا العساكر ، ومدّنوا المدائن!» (١١)

(كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ)

حينما تبحثون في الأرض ، وحينما تنقبون في الآثار ، وتبحثون في الانظمة الاجتماعية السائدة عليهم ستكتشفون بأنهم كانوا مشركين في الأغلب ، فإما كانوا عبدة الأصنام وما ترمز اليه من الثروة والقوة أو عبد الطاغوت.

في الآيات السابقة بيّن القرآن الشرك والتوحيد في مجال الاقتصاد ، وبعدها في الأخلاق ، وهنا بينها في مجال الصراع الحضاري ، أو بتعبير آخر الصراع من أجل البقاء ، فالشرك ليس الوسيلة المثلى للبقاء بل هو السبب الرئيسي للإنهيار.

(٤٣) فاذا اكتشفنا بان الشرك هو مادة الفساد ، وسبب نهاية البشر فردا كان أو مجتمعا ، فعلينا ان نخلص العبادة لله.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ)

__________________

(١١) نهج البلاغة الخطبة / (١٨٢) / ص (٢٦٢).

٨٤

فاقامة الوجه لله أمان يوم القيامة.

(يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ)

يتفرق بعضهم عن بعض ، وحيث يتميز الكفار عن الصالحين ، وتلك هي المفارقة الشرعية الوحيدة بين الإنسان وفطرة الإنسان.

(٤٤) فالذين كفروا فعليهم كفرهم يوم القيامة ، إذ يتحول الى حميم وغسّاق ، والذين آمنوا فسوف يجدون أعمالهم الصالحة.

(مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ)

فالعمل الصالح سيأتيك في يوم أنت أحوج ما تكون اليه ، ولكن من كفر فان نتيجة كفره ستكون وبالا عليه.

وفي هذه الآية ملاحظة هامة وهي : ان الله عند ما ذكر من كفر ، قال : «فعليه كفره» بصيغة الفرد ، وعند ما ذكر من عمل صالحا قال : (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) بصيغة الجمع ، والفكرة هي : ان نتيجة الكفر تكون على صاحبها فقط ، أما نتيجة الايمان والعمل الصالح فتكون اضافة على أنها لصاحبها لذويه وأقربائه وسائر المؤمنين ، فقد ورد :

«ان المؤمن يشفع في مثل ربيعة ومضر»

وقد ورد في تفسير الآية : «وكان ابو هما صالحا» في قصة اليتيمين اللذين اقام جدارهما الخضر (ع).

عن أبي عبد الله عليه السلام :

٨٥

«انه كان بينهما وبين ذلك الأب الصالح سبعة آباء» (١٢)

وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله (ع) قال :

«ان الله ليحفظ ولد المؤمن الى الف سنة ، وان الغلامين كان بينهما وبين أبويهما سبعمائة سنة» (١٣)

(٤٥) (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ)

في الآية السابقة أبان الله في كتابه إنّ العمل هو الّذي يحدد نهاية البشر «مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ، وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» وفي هذه الآية يبيّن انه يتفضل على الصالحين ، وحين يكون الفضل من الله فبشرى للإنسان وطوبى.

ولعل التعبير السابق (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) كان تمهيدا لبيان أن جزاء الصالحين ليس مجرد تمثل أعمالهم الصالحة في صورة نعيم ابدية في الآخرة وانما هي مجرد تمهيد لفضل الله الّذي لا يحد ولا ينتهي.

وجاء في الحديث المروي عن الامام الصادق (ع):

«ان العمل الصالح يسبق صاحبه الى الجنة فيمهد له كما يمهد لأحدكم خادمه فراشه» (١٤)

ولكن الله يجزيهم من فضله ، وهو لا يحب الكافرين.

(٤٦) بعد ذلك يعود الله الى عرض بعض آياته في الحياة فيقول :

__________________

(١٢ ، ١٣) تفسير نور الثقلين / ج (٣) / ص (٢٩١).

(١٤) المصدر / ج (٤) / ص (١٩١).

٨٦

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ)

من نعم الله على الإنسان النظرة الايجابية الى الحياة ، والتي تنبع من الايمان بالله ، فالذي يؤمن بالله يجد ان الحياة تبتسم له ، وإذا رأى مشاكل الحياة فانه يتجاوزها بسهولة ، اما الكافر فان سحبا سوداء تكتنف قلبه ، فلا يبتسم لنور الشمس ، ولا لنعم الحياة ، والقرآن يثير فينا الاحساس بالجمال فيما يحيط بنا من حقائق ، أو تترى علينا من ظواهر.

ان الإنسان مفطور على حب الجمال ، وان مظاهر الطبيعة الرائعة غذاء مريء لروحه الحساس ، ولكن هذه الفطرة قد تدس في تراب العقد النفسية ، والانشداد الى المشاكل اليومية ، والغرق في طوفان الأوهام والتمنيات.

وهكذا نحتاج الى ما يدغدغ هذه الفطرة حتى يوقظها وينميها ، وهذه مسئولية الفن والأدب.

وآيات القرآن تثير فطرة الجمال في قلوب المؤمنين وتنميها ـ كما تنمّي نوازع الخير والفضيلة جميعا ـ حتى تغدو تلك القلوب تعيش مهرجان الحب ، وتستريح الى همسات الطبيعة التي تحدثها حفيف الأشجار وتلاعب المياه عند الشواطئ والغدران.

الا ترى كيف يحدثنا الرب عن المبشرات من الرياح التي تنطلق من المنخفضات الجوّية وتنساب بين الصخور والأحجار ، وتهب على أولئك المزارعين الذين مزّق اعصابهم طول انتظار الغيث ، وقد صرفوا أسابيع من عمرهم جاهدين لاستصلاح الأرض وزراعتها؟! بلى .. ها هي الرياح تأتي مبشرة بالسحب الخيرة ، وإذا بقطعات السحب تتسابق وتتكاثف وتحتك وتعلن عن نفسها بالبرق والرعد ،

٨٧

وترخى السماء عزاليها.

بلى .. كما تقوم الرياح بتلقيح الأشجار ، ونشر بذور الزرع المتراكمة في منطقة على مساحات شاسعة ، وتوزع غاز الأوكسجين على الناس ، وتحمل منهم الى الأشجار الغازات السامة لتتغذى بها وتمنع اشعة الشمس من حرق الأوراق ، وتقوم بتحريك السفن الشراعية من بلد الى بلد ، كما تساهم في انطلاق الطيارات والسفن التجارية أيضا.

كل ذلك من أجل ان يتذوق الإنسان رحمة الله ، ويتصل قلبه الصغير بالكون الواسع عبر هذه المتغيرات.

(وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ)

من نعمة المطر فتخضر الأرض.

(وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ)

فهذه الرياح تدفع السفن الشراعية من بلد إلى بلد.

(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)

من نعم أخرى عبر التواصل التجاري بين الأمم.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

إن ذروة السعادة ـ وهي غاية النعم ـ حين يبلغ الإنسان مستوى الشكر لله ، يرضى قلبه ، وتطمئن نفسه ، وتملؤ البهجة أرجاء فؤاده ، اما حين يكفر بنعم الله فان

٨٨

الهدف منها لا يتحقق أبدا. أو ليس الهدف منها الإحساس بالسعادة ، وكيف يسعد من يكفر بالنعم؟!

٨٩

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣)

___________________

٤٨ [فتثير سحابا] : تحركه وتنشره.

٩٠

إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا

هدى من الآيات :

الايمان يفتح عين الإنسان على الحياة فيراها كما هي ، من دون حجب ، اما من لا ايمان له فكمن هو في الظلمات ، فالصلة مقطوعة بينه وبين ما حوله لأنه ـ أساسا ـ لا يعترف بضرورة البحث عما هو حق وعما هو واقع ، بل يكتفي بما يظنّه ظنّا ، وان الظن لا يغني عن الحق شيئا ، اما الايمان فانه يجعل الإنسان يبحث عن الحق انى وجده ، لان الايمان ذاته هو التسليم للحق.

جاء في توحيد المفضل :

«فاعتبر بما ترى من ضروب المآرب في صغير الخلق وكبيره ، وبما له قيمة وما لا قيمة له ، واخسّ من هذا وأحقره الزبل والعذرة ، التي اجتمعت فيها الخساسة والنجاسة معا ، وموقعها من الزرع والبقول والخضر أجمع (أجمل) الموقع الّذي لا يعد له شيء حتى ان كل شيء من الخضر لا يصلح ولا يزكوا الا بالزبل والسماد الّذي

٩١

يستقذره الناس ، ويكرهون الدنو منه.

واعلم انه ليس منزلة الشيء على حسب قيمته ، بل هما قيمتان مختلفتان بسوقين ، وربما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيسا في سوق العلم ، فلا تستصغر العبرة في الشيء لصغر قيمته ، فلو فطنوا طالبوا الكيميا لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان ، وغالبوا بها» (١)

انك إذا سلمت للحق فسوف تبحث عنه ، وحين تبحث عنه تجده ، وإذا كانت الحاجة أم الاختراع ، فان الاحساس هو السبب الرئيسي للمعرفة ، لان الإنسان لا يعرف بالشيء الا إذا أحس بالحاجة الى معرفته ، فمن لا ايمان له واكتفى بظنونه لا يحس بالحاجة الى المعرفة ، لان الهوى موجود عنده أساسا فلا داعي للبحث عنه.

وفي الدرس ما قبل الأخير في سورة الروم نجد ربنا سبحانه يبين لنا بان الايمان هو البصيرة ، فالكافر كالأعمى والأصم ، بينما المؤمن هو البصير والسميع لا تحجبه حجب الهوى ، ولا المسبقات الفكرية والعقد النفسية ، انه ينظر نظرة مجردة عفوية ، انه لا يلبس نظارة ملونة ، سواء كانت هذه النظارة افكارا جاهلية ، أو نظرات سلبية وقاتمة عن الحياة كنظرات الذي يعيش الحزن والهم والكآبة ، أو نظرات مغرقة في الغرور والتمني والتبرير.

فالمؤمن عادة ما يكون متفاعلا في الحياة ، إذ انه يرى الحياة كلها بصورتها الطبيعية ، فهو يشكر الله على النعم ، ويصبر في حال البلاء على النقم ، فكلما راى شيئا في الحياة شكر الله وحمده. لماذا؟

__________________

(١) بحار الأنوار / ج (٣) / ص (١٣٦).

٩٢

لأنه يرى ان النعم من الله سبحانه ، بينما الكافر يتصور ان النعم من نفسه ، فكلما أعطاه الله خيرا قال : هل من مزيد.

ومن نعم الله العظيمة : الرسالة التي حمّلها أطهر خلقه إلينا ، وما أخسر أولئك الذين أجرموا حين لم تنفعهم الرسالة ، وطوبى للمؤمنين الذين نصرهم الله بما فرض على نفسه سبحانه من تأييدهم.

والرسالات تجلّ عظيم للرحمة الإلهية ، كما السحب المباركة التي تروي الأرض وتملأها خصبا ورزقا ، وتملأ النفوس بشرى ، بعد ان استبد بها اليأس والقنوط.

أفلا تنظر الى الأرض تهتز وتربو ، وتزهو بزرعها البهيج. ان ذلك من آثار رحمة الله ، وهكذا يحيي الأرض بعد موتها. أفلا نهتدي بذلك الى قدرة الرب ، وانه كيف يحي الموتى؟!

وآيات هذا الدرس تثير فينا الاحساس بالتفاؤل والايجابية.

بينات من الآيات :

(٤٧) (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا)

هذه من آثار رحمة الله ، انه لم يبادر إلى إنزال العقوبة بعباده فور انحرافهم عن الدين القيم مما يعرضهم للاصطدام بالسنن الالهية. كلا .. وانما انذرهم عبر رسله.

أرأيت لو شاهدت طفلا يلعب على حافة جبل أو لست تخشى عليه السقوط ، وتسعى بكل جهدك ان تردعه؟! كذلك رسل الله سعوا من أجل إيقاف سقوط

٩٣

الأمم في وديان الفساد.

ولكن ذلك لا يعني أبدا إكراه الناس ـ عباده ـ على الهداية ، بل الذين أجرموا تعرضوا لانتقام الرب في النهاية ، أما المؤمنون فكان على الله حقا ان ينصرهم قال تعالى :

(وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)

ورد في الحديث عن رسول الله (ص) انه قال :

ما من امرء مسلم يرد عن عرض أخيه الا كان حقا على الله ان يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ، ثم قرأ (ص) : «وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» (٢)

ونصر الله المؤمنين لا يعني بالضرورة ان يكون مباشرة بيد الله سبحانه ، بل قد يكون نصر المؤمنين عن طريق بعض المؤمنين أنفسهم ، فالله سبحانه يدفع الناس بعضهم ببعض ، ومثل ما يعذب الكافرين بأيدي المؤمنين كذلك ينصر المؤمنين ببعضهم.

(٤٨) (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ)

فالله يرسل الرياح فتكثّف السحاب ، وتركمه بعضه على بعض ، وتبسطه في السماء كيف يشاء الله ، ويمطره على من يشاء من عباده.

والإثارة بمعنى السّوق ، وأثار الغبار هيّجه ، والبسط قد يقال للبساط من البسط

__________________

(٢) تفسير نور الثقلين / ج (٤) / ص (١٩١).

٩٤

والفرش ، فيفرش الله السحاب في السماء ، كيف يشاء ، حتى إذا أمطر السحاب تناوله أكبر قدر من الأرض.

(وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً)

متراكما على بعضه قطعة قطعة ، يراها ركاب الطائرات.

(فَتَرَى الْوَدْقَ)

ولعلّ المراد منه رذاذ المطر الذي تفرزه قطعات السحاب.

(يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ)

من خلال السحب المتراكمة. هكذا يولد الغيث بعد مخاض مرير.

فلو لا حركة الرياح وضغوطها على السحب ، ولو لا تراكم السحب ومرورها بتيارات هوائية باردة ، لما أمطرت.

ثم ينتقل الربّ من قلب السحب في الفضاء إلى تقلّبات فؤاد البشر على الأرض حيث ينتظر بفارغ الصبر بركات الغيث فإذا هطلت السماء طار فرحا.

(إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)

لأنه يبشرهم برخاء واسع وثراء عريض.

(٤٩) (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ)

مشكلة الإنسان انه عند ما تتأخر عنه رحمة الله يكون من القانطين ، أفلا يرى بأنّ الذي خلق السموات والأرض برحمته لا يتركه؟ بلى. ولكن البشر حين يفقد

٩٥

التوكل على الله يفقد الأمل في المستقبل.

(٥٠) كيف نزداد بربّنا معرفة ، وفي رحمته أملا؟ وكيف نسعى نحو اليقين بقدرته على إحياء الموتى؟

والجواب : بالنظر إلى آثار رحمة الله ، الى الغيث حين ينزله على الأرض الميتة فتستقبله بترحاب وتهتز له وتنبت الزرع ، وإذا بالبسيطة لبست حلّة خضراء ، إنّ النظر إلى هذه الآثار تجعل القلب ينفتح لأنوار معرفة الله.

(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ)

والهدف من النظر ليس مجرد الإذعان بقدرة الله ، بل وأيضا بمعرفة تجليات قدرة الله على الخليقة والسنن التي أجراها الله فيها ، وكيفية اجراء تلك السنن.

(كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها)

وهنالك إذا عرف كيف أحيا الله قد يهتدي إلى حقائق اليوم الآخر حيث ان خالق الدنيا هو خالق الآخرة ، وان قدرته فيهما سواء.

(إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

إنّ انتقال السحاب من أقصى الأرض ليمطر في أقصاها ، تعكس في وجداننا الإيمان بالبعث ، والحياة بعد الموت ، فكما يحيي الله الأرض بالمطر ، كذا يحيي الأنفس بعد موتها.

(٥١) (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ)

هناك فرق بين كلمتين (ريح) و (رياح) في القرآن الكريم ، فالريح تستخدم

٩٦

في موارد العذاب ، والرياح تستخدم في موارد الرحمة والبشارة.

وفي الرواية عن رسول الله (ص) انه إذا رأى الريح قد هاجت يقول :

«اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» (٣)

واما لماذا سمّيت الريح بالصفراء؟

جاء في تفسير البيضاوي : إنّ الصفراء التي تجعل الأرض والزرع صفراء ، وقد فسّرها البعض بأنها التي تنذر بالعذاب ، ولا خير فيها ، وجاء في الحديث عن أمير المؤمنين (ع) انه قال :

«الرياح خمسة ، منها العقيم ، فنعوذ بالله من شرها ، وكان النبي (ص) إذا هبت ريح صفراء أو حمراء وسوداء تغير وجهه واصفر ، وكان كالخائف الوجل ، حتى ينزل من السماء قطرة من مطر ، فيرجع اليه لونه ، ويقول : جاءتكم بالرحمة» (٤)

وعند ما يرى الإنسان الريح مصفرة يكفر بالربّ ، وبقدرته على دفع المكروه عنه ، وينسى بان الله الذي بعث بهذه الريح قادر على أن يبدلها برياح مباركة.

(٥٢) لقد تليت علينا آنفا آيات الله ، ولكن ليس كل الناس قادرين على وعيها ، بالرغم من شدة وضوحها ، ونفاذ بلاغتها ، فمن الناس من هو ميّت الأحياء قد سدّت منافذ قلبه تماما كالجاحدين ، ومنهم من فقد السمع وهو يتولّى هاربا من الحقائق كمن أخذتهم العزة بالإثم ، ومنهم العمي الذي حجب بصره غشاوة.

__________________

(٣) المصدر / ج (٦٠) / ص (١٧).

(٤) المصدر / ص (٦).

٩٧

هؤلاء بحاجة إلى إصلاح أنفسهم قبل تلقّي آيات الله.

(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)

(٥٣) (وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ)

ويبدو ان السياق يقسّم هؤلاء الناس إلى ثلاثة أقسام : الميّت والأصم والأعمى.

ولعلّ الأوّل هو الكافر الذي يكون بمثابة الميت ، الذي لا يسمع ولا يرى ، أمّا الثاني فهو الأصم الذي يمكن أن يفهم بالاشارة ، ولكن بسبب تولّيه مدبرا لا يسمع ، كما انه لا يرى ، والثالث الأعمى الذي يمكن ان يسمع ويعي ، ولكنه لا يستطيع ان يطبق ما يسمع لأنه أعمى.

واستخدم السمع للميت ، باعتباره آخر ما يفقده الحي ، واستخدم السمع للأصم لان ابرز عيب فيه عدم السماع ، ولم يستخدم السماع للأعمى لأنه يسمع ، بل قال : «وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ».

ان السمع الذي هو بداية فهم التجربة والانتفاع لا يكون الا عند التسليم ، فمن فقد حالة التسليم النفسي للحق لم ينتفع حتى بسمعه.

وكلمة أخيرة :

في درس مضى قرأنا قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وفي الآية بعدها يذكر إرسالا آخرا ، ولكن ليس للرياح وإنّما للرسل ، فيأتوهم

٩٨

بالبينات : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) وفي الآية بعدها يبسط القول في الرياح فيقول : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) ، وان كانوا من قبله لمبلسين.

وبعد ذلك يتكلم عن إحياء الأرض بعد موتها بالمطر.

ونستوحي من هذا الترتيب :

أولا : إنّ الله كثيرا ما يربط بين إرسال الرياح وبين إرسال الرسل ، قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ، لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٥)

وهكذا تكون رسالاته مظهرا لبركاته ، كما الرياح الخيرة.

ثانيا : لقد فسّر آل البيت (ع) السحاب بالرسول (ص) وفسروا إحياء الأرض بعد موتها بإحياء الأرض بأئمة الهدى.

وجاء في بعض الروايات ان ذلك جاء في حق صاحب الأمر القائم (عج).

فعن أبي جعفر (ع) في قوله تعالى : «اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» قال

__________________

(٥) الأعراف / (٥٧ ـ ٥٩).

٩٩

«يحييها الله تعالى بالقائم بعد موتها ـ يعني بموتها كفر أهلها ـ والكافر ميّت» (٦)

(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ)

__________________

(٦) كمال الدين وتمام النعمة / ص (٦٦٨).

١٠٠