من هدى القرآن - ج ١٠

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-0
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٤

والله يرفض الايمان الذي يكون وليدا للواقع المفروض كالعذاب ، ولا يعطي أصحابه فرصة أخرى إذ يفترض في الإنسان أن يستفيد من عقله ، ويتعرف على النتائج من خلاله ، أو بتصديق رسالة ربّه ، أما الذي لا يهتدي لا بالعقل ولا بالوحي ويرفض الاثنين فان مصيره العذاب ، لأنّه لم ينتفع من موهبة عقله الذي هو بدوره جوهر انسانيته.

الفكرة الثالثة : أن الدنيا فرصة إذا خسرها الإنسان فسوف لن تعود له مرة أخرى ، والامام علي (ع) يقول :

«اغتنموا الفرص فانها تمر مرّ السحاب»

اذن فموقف الإنسان من النتائج ـ بعد السعي ـ هو الانتظار ، أما موقفه من الفرص والزمن فهو الاستعجال مع التخطيط.

٢٤١
٢٤٢

سورة الأحزاب

٢٤٣
٢٤٤

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

روي عن الامام الصادق عليه السلام انه قال :

«من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب كان يوم القيامة في جوار محمد (ص) وأزواجه»

(تفسير نور الثقلين / ج ٤ / ص ٣٣٣)

٢٤٥
٢٤٦

الإطار العام

الاسم :

واتخذ اسم الأحزاب لهذه السورة من قصة حرب الخندق ، حيث تخربت قريش واليهود ضد المسلمين ، فردّ الله كيدهم ، ولعلها كانت أعظم خطر درأه الله سبحانه عن رسالته.

حقائق شتى تذكرنا بها سورة الأحزاب الا ان محورها ـ فيما يبدو للمتدبر فيها ـ ترسيخ دعائم القيادة الرسالية في الامة ، التي هي ذروة الدين ، وسنام الشريعة ، والامانة الكبرى التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال ، وحملها الإنسان فظلم نفسه بها.

وتجري آيات السورة عبر هذا الإطار لتذكرنا بشخصية القائد الرسالي ، الذي يتعالى ـ بتوفيق الله وعصمته ـ على قوى الضغط الاجتماعية ، فهو يتقي الله ولا يطيع الكافرين والمنافقين ، ويتبع وحي الله ، ويتوكل عليه.

٢٤٧

وينقل لنا السياق قصتين ، إحداهما شخصية والثانية عامة :

الف : فمن خلال قصة زيد الذي تبنّاه الرسول ينفي الذكر الحكيم عادة جاهلية كانت سارية حتى نقضها الإسلام بالقرآن وعبر تحدي شخص الرسول لها ، وهي إلحاق الولد بمن تبنّاه ، دون من كان من صلبه ، ونستوحي منها أمرين :

أولا : إنّ الرسول ليس أبا لزيد ، ولا يحق له ان يدعي القيادة بهذا العنوان.

ثانيا : إنّ النبي يتحدى شخصيا عادات الجاهلية ، ويتحمل الأذى في ذلك مما يبين صفة التحدي عند القائد الرسالي.

ويكمل السياق بيان شخصية القائد بأنّ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وأن أزواجه أمهات المؤمنين ، وأنّ أولي الأرحام ـ وهم هنا أبناء الرسول من صلبه ـ بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وهكذا يرسم الخط القيادي للامة من بعد الرسول.

ويؤكد على الميثاق الذي أخذه الله من النبي كما أخذه من أولي العزم من الرسل قبل ان يحمّلهم الرسالة ، ولعل أعظم بنود الميثاق : عدم الخضوع للمنافقين والكافرين ، وإخلاص الطاعة لله.

باء : ومن خلال قصة الأحزاب ، يبين السياق صفات القيادة الرسالية وكيف يجب ان تتبع في الساعات الحرجة ، والا تخور عزيمة المؤمنين في طاعتهم لها بمجرد تعرضهم لابتلاء شديد ، وكيف ينبغي أن يتخذ الرسول أسوة حسنة.

بلى. إنّ الطاعة حقّا تتبين عند مواجهة الأخطار ، وعلى الناس أن يرفعوا بطاعتهم للرسول الى هذا المستوى ، ولا يكونوا كالمنافقين الذين يستأذنون الرسول

٢٤٨

قائلين : إنّ بيوتنا مكشوفة ، ففضحهم الله بأنهم لا يريدون إلّا فرارا.

ومن خلال كشف القرآن لصفات المنافقين يحذّرنا من الوقوع في مهلكة النفاق عند مواجهة الخطر.

كما انه يبين لنا مدى رسوخ إيمان المؤمنين الصادقين ، عند ما قالوا ـ وهم يرون أمواج الأحزاب تترى على المدينة لاقتحامها ـ : (هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً).

وبعد بيان صفات المؤمنين الصادقين وجزاءهم الحسن ، يبيّن كيف رد الله الكافرين على أعقابهم ، وكيف أنزل اليهود من قلاعهم وأورث المسلمين أرضهم وديارهم.

ويعود السياق لبيان أحكام نساء النبي ، ويخيّرهم بين التشرّف بخدمة الرسول أو التعلّق بزينة الدنيا ، وان من يرتكب منهن فاحشة يضاعف لها العذاب ضعفين (لمكانتها من رسول الله) كما ان من تقنت منهن وتعمل صالحا تحصل على الأجر مرتين.

ونستلهم من كل ذلك كيف يجب أن يكون بيت القائد الرسالي نظيفا من الطمع ، وبعيدا عن اختراق القانون.

ثم يأمر القرآن نساء النبي بأوامر مشددة في عدم الخضوع بالقول ، ويأمرهن بأن يقولن قولا معروفا ، وألا يخرجن من بيوتهن ، ولا يتبرجن تبرّج الجاهلية الاولى.

ويبين السياق فضيلة آل بيت الرسول ، الذين أذهب الله عنهم الرجس ، وطهرهم تطهيرا ، ليبين الخط الرسالي بعد رحيل النبي الذي لا بد ان يلتّف المسلمون

٢٤٩

حوله.

ويعود الى نساء النبي وكيف يجب عليهن أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة.

ويذكر القرآن صفات المؤمنين والمؤمنات ، لتكون مثلا أمامنا ومقياسا لمعرفة الناس ، ويبين ان ابرز صفاتهم جميعا : التسليم لقضاء الله ورسوله ، ولعل التسليم للقضاء أسمى مراتب التسليم للقيادة ، وأعلى درجات الايمان بعد الثبات في الحرب.

ويبين الذكر قصة زواج الرسول من مطلقة زيد ، لينقض الله عادة جاهلية كانت تقضي بان الدعي ابن ، وانه لا يجوز النكاح من مطلقته.

ويبين ان النبي بشر ، وانه لا حرج عليه فيما فرض الله له.

ويصف النبي ومن مضى على نهجه ممن يبلغ رسالات ربه بأنهم يخشونه وحده ، ولا يخشون أحدا غيره.

ويبين ان أعظم علاقة توصل الامة برسولهم هي رسالته إليهم ، وانه ليس محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا أحد من رجالهم ، ولكنه الرسول وخاتم النبيين.

ولكي يتقرب الناس الى مقام الرسول فعليهم ان يتقربوا الى ربهم زلفى ، وعليهم ان يذكروا الله كثيرا ويسبحوه بكرة وأصيلا ، فهو الذي يصلي عليهم وملائكته ليخرجهم من الظلمات الى النور.

ويعود الى ذكر صفات النبي السامية فهو الرسول الشاهد ، والمبشر النذير ، والداعي الى الله بإذنه ، والسراج المنير ، وان من آمن بالله وبرسوله يحصل على فضل

٢٥٠

كبير.

ويكرّر ما ذكّر به في أوّل السورة من رفض طاعة الكفار والمنافقين ، وترك أذاهم.

وبعد ذكر حكم شرعيّ عام في الطلاق يقضي بضرورة إعطاء المهر (لدى الاتفاق عليه) وإعطاء شيء تمتع به المطلقة لدى عدم الاتفاق على المهر ، فلا بد إذا من ثمن للبضع ، بعدئذ يبين ميزة للرسول هي : إنّ المرأة لو وهبت نفسها للرسول كان له ان يتقبلها من دون مهر ، بعكس سائر المؤمنين ، وانه ـ صلى الله عليه وآله ـ يرجي من نسائه من يشاء ، ويأوي اليه من يشاء ، وانه لا يحل له النساء من بعد.

ويؤدب السياق المسلمين ويأمرهم بأن لا يذهبوا إلى بيت الرسول ينتظرون الطعام ، ولا يجلسوا بعد دعوتهم اليه وإطعامهم مستأنسين لحديث ، ويبين أنّ ذلك يؤذي الرسول ، وان عليهم الا يطلبوا من نساء النبي حاجة إلا من وراء حجاب ، ويبدو أن ذلك أيضا مما يخصّ نساء النبي إذ يجوز لغيرهن التحدث مع الرجال مباشرة إذا حافظن على سترهن.

وتختّص نساء النبي أيضا بحرمة نكاحهن بعد وفاة الرسول.

بلى. لا جناح عليهن في التعامل مع الأقرباء ، ومع نسائهن أو أمهاتهن.

وهكذا يسرد السياق خصائص الرسول ، مما يكشف عن جانب من عظمته ، ثم يأمر بضرورة التواصل معه عبر الصلاة عليه ، أو ليس الله وملائكته يصلون عليه ، فيجب الصلاة والسلام عليه ، ولا بد من التسليم له وطاعته.

٢٥١

ويلعن القرآن الذين يؤذون رسول الله ، سواء ببث الشائعات ضده أو ضد نسائه أو بأذى ذريته ويتوعدهم بعذاب أليم في الآخرة.

ويبين جانبا من أذية المنافقين للرسول ، وذلك حين ينهى نساء النبي وسائر نساء المسلمين من عدم مراعاة الستر تماما ، مما يجعلهن يعرفن ويؤذين.

وفي ذات الوقت يوجه تهديدا شديدا الى المنافقين ، ومرضى القلوب ، والمرجفين من الاستمرار في أذى الرسول ، وينذرهم بطردهم وقتلهم ، ولكي ينصحهم يحذرهم من القيامة ويبين ان الناس يسألون عن الساعة ، فيقول : لعل الساعة تكون قريبا ، ويبين لعن الله للكفار حيث يخلدون في السعير ، لا يجدون وليا ولا نصيرا ، هنالك حين تقلّب وجوههم في النار ، ويتمنّون لو كانوا يطيعون الله والرسول ، ويحاولون إلقاء اللّوم على السادات والكبراء الذين أضلّوهم السبيل.

وينذرهم السياق ـ مرة أخرى ـ بعاقبة الذين آذوا موسى فلم يحصلوا على شيء ، لان الله كان قد جعل موسى وجيها ، فما قيمة أذاهم؟!

ويأمر الله المؤمنين بالقول السديد (البعد عن التهمة والسب) ، ويعدهم بالمغفرة ، ويبين أنّ من أطاع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.

ويبين أنّ الطاعة للرسول ، ولأولى الأمر من بعده هي الأمانة الكبرى التي أشفقت السموات والأرض والجبال من حملها ، بينما حملها الإنسان وكان ظلوما جهولا ، حيث ان المنافقين والكافرين فشلوا من احتمال الامانة ، فعذبهم الله بينما تاب على المؤمنين والمؤمنات ، وكان الله غفورا رحيما.

٢٥٢

سورة الأحزاب

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ

___________________

٤ [أدعيائكم] : الأدعياء جمع دعي وهو الذي يتبناه الإنسان.

٢٥٣

فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦)

٢٥٤

وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ

هدى من الآيات :

تبحث سورة الأحزاب في معظم آياتها الثلاث والسبعين ، موضوع المنافقين في المجتمع الاسلامي ، كما تتناول في جانب منها الإقدام والشجاعة الإيمانية في الحروب ، والتحديات التي تواجه الامة.

تبدأ السورة بحثّ الرسول على تقوى الله ، ثم تذكّره ببعض تعاليم الإسلام حول الاسرة ، والخطاب بدوره يعني كل مسلم يتلو القرآن ويؤمن به ، وتؤكد السورة في مطلعها ضرورة التقوى للرسول (القيادة) ، وان لا يطيع الكافرين والمنافقين ، لأن القيادات على نوعين : الاول : القيادة الرسالية ، والثاني : القيادة السياسية.

القيادة السياسية هي تجسيد لمجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والثقافية التي تعيشها المجموعة التي تظلها هذه القيادة وتشرف عليها ، ونجد اشارة لهذه الحقيقة في الحكمة المعروفة «كما تكونون يولى عليكم» ، فالقيادة

٢٥٥

التي تتحكم في المجتمع صورة أخرى لما هو عليه تتجلى في شخص أو حزب أو جماعة.

أمّا القيادة الرسالية فهي التي تشرف على الناس ، تربية وتعليما ، من دون ان تتأثر بسلبياتهم ، ومثالها قيادة الأنبياء والأئمة ومن يتبع خطهم. وهذه القيادة تصطدم بعقبة كأداء هي سلبيات المجتمع ، فبينما تريد قيادته أن تفرض الرسالة الالهية باتجاه معيّن ، تضغط عليها المتغيرات اليومية في الاقتصاد والسياسة والمجتمع و.. و.. باتجاه آخر ، وهنا تواجه القيادة إشكالية كبيرة ، فهي اما تلتزم بخطها الرسالي فينفض الناس من حولها ، واما تخضع لاهوائهم وضغوطهم ، فتحافظ على تأييدهم ، ولكنها تنحرف عن مسيرتها الحقة.

والامام علي (ع) حينما واجه هذه الإشكالية أثناء حكمه ، كان بإمكانه تفريق الأموال والرشاوى على الناس ، وإخضائهم رغبا ورهبا ، ولكنها كانت تفسد ضميره ـ حاشا لله ـ لذلك لم يفعل وقال :

«واني لعالم بما يصلحكم ، ويقيم أودكم ، ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي» (١)

فالقيادة إذا أحوج ما تكون الى التقوى حتى تستقيم أمام الضغوط ، وإنّما تؤكد هذه الآيات على التقوى ، لأنها تبحث موضوع الحرب التي تجسد ذروة الصراع ، وأصعب ما يواجه البشر في حياتهم ، ومن ثم أبرز وأهم قضية تتعرض فيها القيادة لضغوط المنافقين والكفار ، وحتى بعض أبناء المجتمع المسلم ، ولكي تتحصن القيادة ضد هذه الضغوط لا بد من التقوى ، والتوكل على الله.

وبعد ذلك ينعطف السياق نحو قضية أسرية ، مما يثير السؤال : ما هو الرابط بين

__________________

(١) نهج البلاغة / خ (٦٩) / ص (٩٩).

٢٥٦

القضايا الأسرية ، وقضية اجتماعية كتحدي ضغوط الكفار والمنافقين في الحرب؟!

والجواب : إنّ الاسرة هي المدرسة الأولى التي تصوغ حياة الإنسان في بعديها المادي والمعنوي ، ويجب ان يكون هدفها في المجتمع الاسلامي بناء الإنسان الصلب الذي لا يتأثر بالضغوط الخارجية ، ولا يخضع للشهوات ، والقادر على خوض الحروب باستقامة ووعي ، دفاعا عن المبادئ والمجتمع ، في حال تعرضهما للخطر. لذلك حينما يحدثنا القرآن عن الاستقامة ، وعن الإيمان الكامل والقيادة الرسالية ، يحدثنا كذلك عن الاسرة ، التي ينبغي ان تربي المؤمن المستقيم.

وفي سورة «المؤمنون» رأينا كيف أنّ ربنا حينما حدثنا عن الطراز المتكامل للإنسان المؤمن ، كان يحدثنا أيضا عن الأسرة الصالحة ، وهي منبت الإيمان ، ومزرعة التقوى ، ومدرسة الأخلاق الفاضلة في سورة «النور».

وفي نهاية الدرس يؤكد القرآن على أنّ الاسرة نظام فطري يزكيه الإسلام ويؤكده ، وليست نظاما اعتباريا أو قانونيا فقط ، وبتعبير آخر لا يمكن طريق القانون ، أو ما يسمّى في لغة الحقوقيين الاتفاق أو العقد الاجتماعية أن تلغي الاسرة ، لأنها من الحقائق الفطرية ، فزوجة الإنسان لا تضحى أمّه أو أخته.

وبذلك يخالف الإسلام العادة الجاهلية التي كانت تقضي ، بأن يتعامل الإنسان مع زوجته ، كتعامله مع امه أو أخته ، بمجرد ان يقول لها : أنت عليّ كظهر أمي ، أو كظهر أختي ، أو العادة الاخرى التي تقتضي بأن يكون الواحد ولدا للآخر لأنه ربّاه ، حتى لو كان قد عثر عليه في الطريق ، ويبين القرآن انه لا يكون ولدا له ، بلى. انه أخ له في الدين ، وتربطه به علاقة الولاية ، ان لم يعرف والده.

ولعل تأكيد القرآن على هذا الأمر يهدف إيجاد حدود للاسرة ، وإعطائها

٢٥٧

اعتبارها الحقيقي ككيان فطري ، يتكون من أم وأب وأولاد ، يجب الالتزام به ، بعيدا عن التلاعب بالألفاظ بأن نضع أشياء جديدة ، ونسميها أسرة ، وبعيدا عن الاستهانة بالروابط الفطرية ، بأن نوجد روابط خارج هذا الإطار.

بينات من الآيات :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كما سبق وان ذكرنا ، بان للبسملة معاني عديدة ودقيقة في كل سورة ، تتصل بموضوعها ، وما يؤكد ذلك انها تنزل مع كل سورة بصورة مستقلة ، وهي هنا تعني :

باسم الله تبدأ طريقك متوكلا عليه ، وباسمه تدخل الصراع فلا تخضع للضغوط ، ولا تستجيب للإغراءات ، وباسم الله تبني الاسرة الصالحة.

(١) (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ)

وعادة حينما تأتي في القرآن أوامر صعبة ، وهكذا في النصوص الاسلامية يسبقها أو يلحق بها الوصية بالتقوى ، والسبب ان تطبيق الأوامر الصعبة والاستقامة عليها يحتاج الى دافع قوي وإرادة صلبة ، يجدها المؤمن في تقوى الله.

وإذ يستهل القرآن الحديث بهذه الآية الحادة ، ويسمي من يحاولون تثبيط الرسول عن المواجهة مع الكفار ـ في ظرف أحوج ما تكون الأمة إلى الدفاع عن كيانها ـ بالمنافقين والكفار ، لان الاستجابة لهؤلاء خطيرة جدا ، ومن شأنها القضاء على الامة والرسالة الاسلامية.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)

وتفيد الخاتمة هذه أمرين :

٢٥٨

١ ـ إن الله يعلم أهداف المنافقين والكافرين ، من ضغوطهم على الرسول ، وما ينتهي اليه الأمر من فساد لو يطيعهم ، فهو حكيم إذ ينهى نبيه (ص) عن الخضوع لهم.

٢ ـ ان الله حين يذكر هاتين الصفتين بعد ان يأمر بالتقوى وينهى عن طاعة المنافقين والكافرين ، فلأنّ التقوى تنبع من إحساس الإنسان بإحاطة الله له علما ، ولأنّ الطاعة تأتي من الاعتقاد بأنّ الذي يأمره حكيم في أمره.

(٢) ان هدف هؤلاء من الضغط على الرسول هو صدّه عن رسالة ربه لهذا حثّ القرآن بعد ان نهى النبي عن الطاعة لهم ، على الالتزام بالوحي فقال :

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)

يتجلّى واقع القيادة في الظروف الصعبة فيعرف مدى توكلها على الله ، ووعيها للأمور ، وتصديها لمسؤولياتها.

فالقيادة الرسالية هي التي تتبع أمر الله ورسالته وتستقيم عليها ، في مختلف الظروف ، دون أن تستجيب لما يقوله الآخرون مما هو مخالف للرسالة ، وهنا نؤكّد بان الضغط الذي تواجهه القيادة داخليا ، من قبل المجتمع بقطاعيه العام أو الخاص ، أشدّ وأصعب من الضغط الخارجي ، لان انهيار الجبهة الداخلية التي تعتمدها القيادة أخطر من أيّ شيء آخر ، ودور القيادة وأهميتها تبرز في تصدّيها لعوامل هذا الانهيار وعلاجها له ، وليس الانسياق معه. وحينما يعتبر القرآن الشورى ضرورية ويأمر بها القيادة الرسالية ، لا يغفل حقيقة هامّة ، إذ يقول : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فالقيادة هي التي تعزم وتقرر ، ولكن ليس وفق أهواء الآخرين ولا حتى اهوائها ، انما وفق هدى الله ووحيه.

٢٥٩

(إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)

وكفى بهذا باعثا للإنسان نحو تقوى الله وخشيته.

ولعل اسم الخبير يوحي بمعرفة حقيقة العمل صالح أو فاسد.

(٣) (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)

لكي تتمكن من الاستقامة ، وتحدّي ضغوط الآخرين.

(وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)

وقد تكررت هذه الفكرة عشرات المرات في القرآن ، أن يذكر الرسول بالتوكل وعدم اتباع أهواء الآخرين ، فليست مشكلة القائد ان يتبع هواه ، بمقدار ما هي اتباع أهواء المحيطين به ، لأنه يجسد الروح الجمعية في من يقودهم ، فهو عادة ما يتجرد عن هواه ، ولكنه يخضع لاهواء تلك الروح التي يجسدها بقيادته ، ولذلك نجد التعابير القرآنية تؤكد على هذا الخطر : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) (٢) ، (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) (٣) ، (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) (٤) ... إلخ.

(٤) ثم يظهر السياق رفض الإسلام للازدواجية في الشخصية إذ يقول :

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)

__________________

(٢) الأحزاب / (١).

(٣) المائدة / (٤٩).

(٤) المائدة / (٤٨).

٢٦٠