من هدى القرآن - ج ١٠

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-0
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٤

وتعالى الله ان تختلط عليه الأوراق ، بلى. نحن البشر قد تغرنا المظاهر ، فنسمي أنفسنا أو الآخرين بالصادقين ، لمجرد حضورهم في تجمع مؤمن ، ولكنّ الله وهو عالم الغيب ورب العالمين لا يعزب عنه مثل ذلك.

(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ)

بنفاقهم في كلامهم وعملهم.

(أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)

إذا صححوا مسيرتهم ، وعادوا عن النفاق الى الايمان.

(إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)

فهو يقبل التوبة الصادقة ، لأنه لم يخلق الناس ليعذبهم ، بل ليرحمهم كما في الآيات والأحاديث.

٣٠١

وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ

___________________

٢٦ [ظاهروهم] : المظاهرة المعاونة.

[صياصيهم] : حصونهم.

٢٨ [أمتعكن] : أعطيكن متعة الطلاق.

[أسرحكن] : السراح الطلاق من غير خصومة.

٣٠٢

الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢)

___________________

٣١ [يقنت] : القنوت الطاعة وقيل معناه المواظبة.

٣٢ [فلا تخضعن] : فلا ترفعنّ القول ، ولا تلّن الكلام للرجال ، ولا تخاطبن الأجانب مخاطبة تؤدي الى طمعهم فيكنّ.

٣٠٣

موقف القيادة الرسالية

من الأحداث والأشخاص

هدى من الآيات :

نجد في هذا الدرس فكرتين هامتين هما :

الأولى : تتمة لما مر في الدروس السابقة حول قصة الأحزاب ، وكيف أن ربنا نصر المؤمنين ، ورد الكافرين يجرون أذيال الهزيمة والفشل إلى بلادهم مكرهين ، وقد خسروا بطلهم عمرو بن ود.

الثانية : حديث حول نساء النبي (ص).

وهنا يطرح السؤال التالي : ما هي العلاقة بين الفكرتين في السياق القرآني؟ أي ما هي العلاقة بين انتصار المسلمين بإذن الله في الحرب ، وبين الوصايا والتعاليم الإلهية لنساء النبي في هذه السورة؟

والجواب : يبدو أن محور سورة الأحزاب هو القيادة الرسالية في علاقاتها مع

٣٠٤

الأشخاص والاحداث التي تدور حولها ، والآيات تؤكد بأنها مستقيمة على رسالة ربها ، لا تلويها الأحداث المتطورة ـ بما تحمله من ضغوط واغراءات ـ ولا يؤثر في مسيرتها الأشخاص الذين يحوطونها لأنها تتبع هدى الله فتحدد موقفها من الأحداث ، وتستجيب لما يتفق مع هذا الهدى إذا اقترحه الآخرون ، وترفض ما سواه مهما كان صاحب هذا الرأي قريبا أو معتمدا عندها ، ومهما كانت الظروف.

ومن أبرز وأهم الحوادث في حياة القيادات هي الحرب ، والقيادة الرسالية التي تجسدت يومها ـ في حرب الأحزاب ـ في أفضل وأكمل صورها في الرسول الأعظم محمد (ص) كالجبل الأشم ، لا تزلزلها العواصف ، بل تتحدى متغيرات الزمان والحرب وفرار المنافقين وتعويقهم ، وبالذات هزيمتهم في حرب الأحزاب التي هي أقسى وأشد الحروب خطورة على رسول الله وعلى الأمة الاسلامية آنذاك ، من الناحية العسكرية ، فالرسالة في أول انطلاقتها ، والقيادة كما الأمة في بداية نشأتها وتكونها ، وقد جمع الكفار فلو لهم من كل حدب وصوب.

صحيح ان غزوة أحد كانت أعمق أثرا من الناحية النفسية على رسول الله (ص) حيث ترك عمه حمزة سيد الشهداء مجندلا ، تلوك كبده هند ، كما أن ثلة من أصحابه الخلّص لقوا مصرعهم فيها ، إلا أن حرب الأحزاب كانت الأشد والأقوى عسكريا ، وكان نصر الله للمسلمين في هذه الحرب دليلا واضحا على نصرة الله لعباده المؤمنين ، كما أن استقامة القيادة الرسالية المتجسدة في شخص الرسول (ص) يومذاك واستقامة من يحيطون به من صحبه الخلص ، دليل على النموذج الأرقى للقيادة التي يجب ان تقاوم الحوادث المتغيرة ، والظروف الصعبة ، وعموم ضغوط الحياة ، فعظمة القيادة ومسئوليتها تتجلى في استقامتها ومقاومتها للنكسات والظروف السلبية التي تعصف بالامة وبالتجمع الذي تقوده.

٣٠٥

ثم ان أقرب الناس إلى الإنسان وأمضاهم أثرا في شخصيته وقراراته ـ إذا كان مائعا ضعيف الارادة ـ هي زوجه ، ذلك أن زوجه حينئذ هي التي تصنع شخصيته ، وبالذات إذا تعلق بها قلبه ، وبالزواج ترسم خريطة الحياة المستقبلية للزوجين ، فالزوجة من الناحية النفسية في غالب الأحيان صورة أخرى للزوج بعد فترة من الزواج ، كما أن الزوج في أكثر الأحيان نسخة أخرى لزوجته ولهذا قيل : وراء كل عظيم امرأة ، فالصورة الاخرى الغير مرسومة ظاهرا لاكثر الرجال ، والسطر الغير مقروء في حياتهم هي زوجاتهم.

ولكن رسول الله (ص) كما القيادة الرسالية لا يتأثر أبدا بزوجاته ، بل يضحي بهن في لحظة واحدة لو أمره الله بذلك ، أو تعارض بقاؤه معهن مع أهداف رسالته ، والآية (٢٧) ربما جاءت حينما كان الرسول (ص) متزوجا بتسع زوجات ، فأمره حينئذ بتخييرهن بين البقاء معه وتحمل الأذى والهجرة والفقر ، أو الطلاق بالمعروف والإحسان ، وبالفعل خيّرهن (ص) لان بعضهن كانت تقول : لو يطلقنا رسول الله لوجدنا من يتزوجنا من أهلنا ، ويخرجنا من هذا العيش المشين ، فقبلت إحداهن الطلاق ، فطلقها الرسول ، ولكنها أصبحت ذليلة في قومها ، فقيرة إلى أن ماتت ، مريضة على أسوء حال ، دون ان يتزوجها أحد.

وكان هذا التصرف من الرسول (ص) معقولا ، فالتي تختار الرسول زوجا لها ـ وهو الذي جاء مغيرا للعالم ، وصانعا لأمة حسب وحي الله ، ومؤسسا لتأريخ حضارتها ـ لا بد أن تتحمل الصعوبات وتستوعب طموحاته وممارساته ، وتكيف حياتها بما يتناسب مع كل ذلك.

اذن تتلخص العلاقة بين الفكرتين في محورية رسول الله كقائد رسالي للأمة ، لا يتأثر بالأحداث والظروف الصعبة كالحروب مثل حرب الأحزاب وهي أشدها ، ولا

٣٠٦

بالاشخاص كالمنافقين أو زوجاته ، وهنا نذكر بقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) فالرسول هو القيادة التي يجب علينا الاقتداء بها إذا كنا في موقع القيادة ، أو البحث عمن يكون امتدادا لها ثم التسليم له.

بينات من الآيات :

(٢٥) اجتمع الأحزاب وجاؤوا بخيرة فرسانهم ، وكان ذلك لهدفين :

١ ـ التشفي من الإسلام والرسول والمسلمين ، من الإسلام باعتباره يناقض أفكارهم ومعتقداتهم ، ومن الرسول لأنه زعيم الإسلام ، والقيادة المضادة لهم ، ومن المسلمين لخروج أكثرهم عن طاعتهم ، ولما لحقوا بهم من هزائم في غزوات سابقة كغزوة بدر.

٢ ـ الانتصار وجمع الغنائم من المسلمين ، سواء كانت الغنائم أموالا أو أناسا يسترقونهم ، وعموما فإن المشركين كانوا يشعرون بأن المدينة ـ بعد هجرة الرسول إليها ـ خرجت من تحت سيطرتهم ، فلعلهم كانوا يرجون التمكّن منها وإعادتها من جديد لنفوذهم.

ولكن الله أنعم على المسلمين حينما أفشل خطط العدو ، فلم يصل الى اهدافه من جهة ، ومن جهة أخرى حينما نصر المؤمنين دون قتال أو خسائر وتضحيات.

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا)

دون ان يحققوا أهدافهم منهزمين.

(بِغَيْظِهِمْ)

٣٠٧

وحقدهم الذي لم يشفوه ، ومن دون غنائم.

(لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً)

قويا إذ رد الكفار منهزمين مع كثرتهم ، وعزيزا إذ نصر المؤمنين ، فلو لم ينصرهم في حرب الأحزاب لصاروا أذلة امام الكفار ، ولزالت هيبتهم.

(٢٦) ومن فوائد حرب الأحزاب أنها كشفت أعداء الرسالة الحقيقتين ، وجرّت المسلمين الى حرب كان الانتصار حليفا لهم فيها مع بني قريضة.

(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ)

أي أعانوا الكفار على المسلمين.

(مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ)

وهم يهود بني قريضة.

(مِنْ صَياصِيهِمْ)

حصونهم وقلاعهم.

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ)

وكان الرعب من الآيات التي نصر بها الرسول (ص) في حروبه ضد الأعداء ، ولا ريب ان الهزيمة المعنوية والنفسية تنتهي الى الهزيمة العسكرية ، فالرسول يصبح الحاكم المطلق للجزيرة ، يهابه الجميع ، ويخافون سطوته لأنه يعبئ جيشا لمحاربة

٣٠٨

الروم ـ الدولة العظمى في ذلك العصر ـ وفي غزوة أحد حينما ينهزم المسلمون عسكريا ، ينزل الوحي على النبي (ص) بان يجمع المجروحين من جيشه ، ويلاحق العدو ، فاذا بهم يحسبونه جمع جيشه من جديد لحربهم ، فينهزمون بعد الانتصار بسبب الرعب.

وهكذا كان مصير بني قريظة الذين زعموا بأن الرسول ضعيف لأنه لم يحارب قريش وأحزابها ، ولكنهم سرعان ما وجدوا المسلمين يحاصرون حصونهم ، فانهزموا وكانت هزيمتهم بعامل الرعب لا بالسلاح.

(فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً)

وذلك في قصة مفصلة سنتعرض لذكرها في عقب الآية القادمة.

(٢٧) (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ)

أرض اليهود.

(وَدِيارَهُمْ)

الحصون والبيوت.

(وَأَمْوالَهُمْ)

اشارة الى الممتلكات المادية التي غنمها المسلمون منهم.

(وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها)

بالرجال والخيل ـ تعبيرا عن الحرب ـ انما أخذها المسلمون بالحصار.

٣٠٩

(وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)

وهذا مما يعزز ثقة المؤمنين بربهم ، وهو شعورهم بأنه صاحب الإرادة المطلقة ، ولا ريب ان الذي يحس بأنه مدعوم من قوة لا متناهية سوف يزداد تسليما لها ، واطمئنانا لوعدها ، واستقامة على هداها.

غزوة بني قريظة :

روى الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه ، قال : لما انصرف النبي (ص) مع المسلمين عن الخندق ، ووضع عنه اللّامة ، واغتسل ، واستحم ، تبدّى له جبرائيل (ع) فقال : «عذيرك من محارب ، ألا أراك قد وضعت عندك اللّامة ، وما وضعناها بعد!» فوثب رسول الله (ص) فزعا ، فعزم على الناس ان لا يصلّوا صلاة العصر حتى يأتوا قريظة ، فلبس الناس السلاح ، فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس ، واختصم الناس ، فقال بعضهم : ان رسول الله (ص) عزم علينا ان لا نصلي حتى نأتي قريظة ، فانما نحن في عزمة رسول الله ، فليس علينا إثم ، وصلى طائفة من الناس احتسابا ، وتركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس ، فصلوها حين جاءوا بني قريظة احتسابا ، فلم يعنف رسول الله (ص) واحدا من الفريقين ، وبعث علي بن أبي طالب (ع) على المقدم ، ودفع اليه اللواء ، وأمره ان ينطلق حتى يقف بهم على حصن بني قريظة ، ففعل ، وخرج رسول الله (ص) على آثاره ، فمر على مجلس من الأنصار في بني غنم ينتظرون رسول الله (ص) فزعموا انه قال : مر بكم الفارس آنفا ، فقالوا مر بنا دحية الكلبي على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج ، فقال رسول الله (ص) : «ليس ذلك بدحية ولكنه جبرائيل (ع) أرسل الى بني قريظة ليزلزلهم ويقذف في قلوبهم الرعب» قالوا وسار علي (ع) حتى إذا دنا من الحصن سمع منهم مقالة قبيحة لرسول الله (ص)

٣١٠

فرجع حتى لقي رسول الله (ص) بالطريق ، فقال : يا رسول الله لا عليك ان لا تدنو من هؤلاء الأخابث ، قال : «أظنك سمعت لي منهم أذى» فقال : نعم يا رسول الله فقال : «لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا» فلما دنا رسول الله (ص) من حصونهم ، قال : «يا اخوة القردة والخنازير ، هل أخزاكم الله وانزل بكم نقمته؟!» فقالوا : يا أبا القاسم ما كنت جهولا ، وحاصرهم رسول الله (ص) خمسا وعشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، وكان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت قريش وغطفان ، فلما أيقنوا ان رسول الله (ص) غير منصرف عنهم حتى يناجزهم ، قال كعب بن أسد : يا معشر يهود! قد نزل بكم من الأمر ما ترون واني عارض عليكم خلالا ثلاثا ، فخذوا أيها شئتم ، قالوا : ما هن؟ قال : نبايع هذا الرجل ونصدقه ، فو الله لقد تبين لكم انه نبي مرسل ، وانه الذي تجدونه في كتابكم ، فتأمنوا على دمائكم وأموالكم ونسائكم ، فقالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ، ولا نستبدل به غيره ، قال : فاذا أبيتم عليّ هذا فهلموا فلنقتل أبناءنا ونساءنا ، ثم نخرج الى محمد رجالا مصلتين بالسيوف ، ولم نترك وراءنا ثقلا يهمّنا ، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد فان نهلك نهلك ، ولم نترك وراءنا نسلا يهمّنا ، وان نظهر لنجدن النساء والأبناء ، فقالوا : نقتل هؤلاء المساكين ، فما خير في العيش بعدهم؟! قال : فاذا أبيتم علي هذه فان الليلة ليلة السبت ، وعسى ان يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها ، فانزلوا فعلنا نصيب منهم غرة ، فقالوا : نفسد سبتنا ، ونحدث فيها ما أحدث من كان قبلنا ، فأصابهم ما قد علمت من المسخ ، فقال : ما بات رجل منكم منذ ولدته امه ليلة واحدة من الدهر حازما ، قال الزهري : وقال رسول الله (ص) حين سألوه ان يحكّم فيهم رجلا : «اختاروا من شئتم من أصحابي» فاختاروا سعد بن معاذ فرضي بذلك رسول الله (ص) فنزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فامر رسول الله (ص) بسلاحهم فجعل في قبته ، وأمر بهم فكتفوا وأوثقوا ، وجعلوا في دار

٣١١

اسامة ، وبعث رسول الله (ص) الى سعد بن معاذ ، فجيء به ، فحكم فيهم بأن يقتل مقاتليهم ، وتسبى ذراريهم ونساؤهم ، وتغنم أموالهم ، وان عقارهم للمهاجرين دون الأنصار ، وقال للأنصار أنكم ذو وعقار وليس للمهاجرين عقار ، فكبر رسول الله وقال لسعد : «لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل» فقتل رسول الله (ص) مقاتليهم وكانوا فيما زعموا ستمائة مقاتل ، وقيل قتل منهم اربعمائة وخمسين رجلا ، وسبى سبعمائة وخمسين ، وروي : انهم قالوا لكعب بن أسد وهو يذهب بهم الى رسول الله (ص) : إرسالا يا كعب ما ترى يصنع بنا؟! فقال : كعب أفي كل موطن تقولون؟! الا ترون أن الداعي لا ينزع ، ومن يذهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل ، وأتى بحيي بن اخطب ـ عدو الله ـ عليه حلة فاختيّة ، قد شقها عليه من كل ناحية كموضع الانملة ، لئلا يسلبها ، مجموعة يداه الى عنقه بحبل ، فلما بصر برسول الله (ص) فقال : أما والله ما لمت نفسي على عداوتك ، ولكنه من يخذل الله يخذل ، ثم قال : ايها الناس! انه لا بأس بأمر الله ، كتاب الله ، وقدره ملحمة كتبت على بني إسرائيل ، ثم جلس فضرب عنقه ، ثم قسم رسول الله (ص) نساءهم وأبناءهم وأموالهم على المسلمين ، وبعث بسبايا منهم الى نجد مع سعد بن زيد الانصاري فابتاع بهم خيلا وسلاحا ، فلما انقضى شأن بني قريظة ، انفجر جرح سعد بن معاذ ، فرجعه رسول الله (ص) الى خيمته التي ضربت عليه في المسجد ، وعن جابر بن عبد الله قال : جاء جبرئيل (ع) الى رسول الله (ص) فقال : «من هذا العبد الصالح الذي مات؟! فتحت له أبواب السماء ، وتحرك له العرش» فخرج رسول الله (ص) فاذا سعد بن معاذ قد قبض. (١)

تعليق :

لقد قتل بسبب حكم سعد بن معاذ ما بين (٤٥٠ و ٦٠٠) مقاتل من بني

__________________

(١) مجمع البيان / ج (٨) / ص (٣٥١).

٣١٢

قريظة ، مع ان الإسلام حسّاس في موضوع القتل ، فهو يعتبر من يقتل نفسا واحدة كأنما يقتل الناس جميعا (كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (٢) مما يجعل هذا الحكم في ظاهره حكما جائرا في حقهم ، أما حينما نعود الى الواقع فاننا نكتشف صواب هذا الحكم حتى بالقياس الى عادات المجتمع آنذاك ، فالخيانة التي ارتكبها بنو قريظة بنقضهم العهد مع النبي (ص) في ساعة الشدة ، عند ما أعانوا الكفار والمشركين عليه وعلى الامة تستحق ذلك في حكم الشرع ، وفي منطق المجتمع الذي يرفض الخيانة بشتى صورها ، وفي كل الظروف.

فمع ان الحروب والغارات كانت سمة للعرب إلا أن الوفاء بالعهد ، والالتزام بالمعاهدات ، بل والدفاع عن الحلفاء أمر مقدس عندهم ، ولان بني قريظة لم يدافعوا عن رسول الله ، بل وحاربوه مع سائر الأحزاب فإنهم استحقوا ذلك ، وهذا أمر طبيعي تحكم به حتى التوراة.

ثم ان سعد بن معاذ الذي جرح بسهم في جبهته ، في معركة الأحزاب واستشهد بعد حادثة بني قريظة كان صورة للإنسان الذي تأسّى برسول الله (ص) فهو ممن استجاب لقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) الآية ، وهو أيضا من المعنيين بقوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) الآية.

(٢٨) ومن هذه الآية ينتهي السياق الى الفكرة الثانية التي تدور حول علاقة النبي (ص) بأزواجه.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها)

فانّ هذا لا يتفق مع اهداف النبي في الدنيا ، ولا تطلعاته في الحياة ولعلنا

__________________

(٢) المائدة / (٣٢).

٣١٣

نستلهم من هذه الآية أن المؤمن المجاهد الذي يريد التأسي برسول الله في كل شؤونه ، ويسعى لتطبيق قوله سبحانه : (لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) إن عليه هو الآخر ان يتحرر من ضغط زوجته ولا يخضع لها إذا تحولت الى عقبة في طريق الجهاد وحتى لو بلغ الأمر به الى تهديدها بالطلاق يفعل ذلك ابتغاء مرضاة ربه.

(فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَ)

من المستحب للمؤمن حينما يفارق زوجته أو صديقه ان تكون خاتمة المطاف طيبة حسنة ، فيعطي للطرف الآخر هدية أو ما أشبه ، وقد يستفاد من المتاع هنا نصف المهر إذا لم يدخل بالزوجة ، وكله إذا دخل بها.

(وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً)

اي طلاقا حسنا ، بتفاهم من دون شجار ، لأن هناك من الأزواج من يفترقون بعد العراك والشتم.

(٢٩) اما الخيار الآخر فهو بقاء العلاقة مع النبي بشرط ان تكون أهداف هذه العلاقة هي :

١ ـ مرضاة الله وإن كانت مخالفة لما تميل له النفس.

(وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ)

٢ ـ التسليم للرسول.

(وَرَسُولَهُ)

٣١٤

والذي يريد الرسول هو الذي يسلم لقيادته ، وينتمي لتجمعه ، ويحبه بقلبه انتماء سياسيا واجتماعيا وقلبيا ، ولا يتحقق هذا الانتماء الشامل من دون التسليم الى من يمثل الرسول في المجتمع بقيادته وسلوكه.

٣ ـ حب الآخرة.

(وَالدَّارَ الْآخِرَةَ)

من طبيعة الإنسان انه يعيش ضغثا من الدنيا وضغثا من الآخرة ، وعلى هذا الأساس يجب ان تكون الاولوية في حياة الإنسان للدار الآخرة (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) (٣)

وعموما فان من يريد الله والرسول واليوم الآخر هو الذي يعمل من أجل ذلك ، وهذه الحقيقة تؤكدها الآية الكريمة : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (٤) وفي هذه الآية يؤكده قوله تعالى :

(فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً)

اذن فالانتساب للرسول بمجرد لقلقة اللسان وقبله الايمان بالله واليوم الآخر وحده من دون السعي والعمل بما يتفق مع ذلك لا يكفي ، انما العمل هو الذي يقرب الإنسان أو يبعده من ربه ، والله يقول : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) (٥) واولى الناس بالرسول ، الذي يتأسون به ، وليس قرابته بالنسب أو السبب ، وما نجده في الروايات من تعظيم لمنزلة فاطمة الزهراء (ع) ليس لقرابتها من الرسول انما

__________________

(٣) القصص / (٧٧)

(٤) الإسراء / (١٩).

(٥) آل عمران / (٦٨).

٣١٥

لاقتدائها به ، وكونها نسخة اخرى من حياته (ص) ولذلك أصبحت سيدة نساء العالمين.

(٣٠) ثم يتوجه النداء من الله مباشرة لنساء النبي :

(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)

واضحة ، مورست بإرادة تامة ، ومن دون أسباب قاهرة ، ولم تعقبها توبة.

(يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ)

وذلك لأنها سوف تصبح قدوة سيئة للأخريات ، ولأنها ترتبط بالرسول فقد يمس انحرافها بسمعته في المجتمع ، كما يفترض في من يعيش بين يدي الرسول ان يكون مطيعا لا عاصيا أو منحرفا ، فقد يرتكب الإنسان المعصية وهو يعيش في محيط من الانحراف ، ولكن ما هو عذر العاصي في محيط كله يدعو للصلاح والطاعة؟

ثم يؤكد القرآن ان لا نتصور بان انتسابنا للأولياء بأي شكل ـ غير العمل الصالح والتأسي بهم ـ يمكنه ان يخلصنا من النار ، فاذا عملنا المعصية ثقل على الله أوعز عليه ـ تعالى عما يشركون ـ ان يعذبنا. كلا .. فالجميع عنده سواء ، لا يميز بينهم سوى العمل الصالح.

(وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)

(٣١) ثم من الجانب الآخر يضاعف الله العمل الصالح لنساء النبي.

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَ)

تسلم وتخضع.

٣١٦

(لِلَّهِ وَرَسُولِهِ)

ولا تخرج عن طاعتهما.

(وَتَعْمَلْ صالِحاً)

ترجمة خارجية لذلك التسليم ، إذ لا يكفي خضوع القلب ، بل لا بد من تسليم جوارح الإنسان جميعها ، والتي تعمل من نساء النبي ذلك.

(نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ)

ولهذه الآية تفسيران :

الاول : ان المقصود من المرتين هو مضاعفة الجزاء ، وهو أمر طبيعي ، لان السلوك الحسن لزوجات الرسول يصيرهن قدوات حسنة للآخرين وفي الحديث عن أبي جعفر (ع) قال :

«أيما عبد من عباد الله سن سنة هدى كان له أجر مثل أجر من عمل بذلك من غير ان ينقص من أجورهم شيء ، وأيما عبد من عباد الله سن سنة ضلالة كان عليه مثل وزر من فعل ذلك من غير ان ينقص من أوزارهم شيء» (٦)

الثاني : اضافة الى ذلك يقصد بالمرتين الدنيا والآخرة ، فأما في الدنيا فالجزاء برفع الله شأنهم بين الناس ، وأما في الآخرة فما تؤكده عجز الآية :

(وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً)

(٣٢) (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ)

__________________

(٦) بح بح / (٧١) ص (٢٥٨).

٣١٧

لان الله سيضاعف لكن الجزاء حسنا كان أو سيئا ، والسياق يشير الى ان هذه المفارقة ليست نتيجة للتفوق العنصري الذاتي ، انما لارتباطهن المباشر برسول الله (ص) ولهذا حرص الإسلام على نقاء سمعتهن وطهارة سلوكهن الاجتماعي ، ومن هذا المنطلق حدد الله أسلوب الكلام الذي ينبغي ان تتعاطاه نساء النبي مع أبناء المجتمع إذ قال :

(فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ)

يجب ان يكون حديث المرأة المسلمة مع الجنس الآخر وبالذات نساء الرسول جادا ، وخاليا من الدلال والتملق ، حتى لا يجر هذا الأسلوب الى علاقات غير مشروعة مع الآخرين ، حفاظا على عفتها ، وسلامة للأسرة والمجتمع المسلم ـ هذا من الناحية الاجتماعية ـ وللموضوع وجهة سياسية إذا تحدّد في زوجة القيادة الرسالية أو غيرها مما يشكل خطرا على أمن الامة ومسيرتها ، لان الآخرين من المنافقين ـ وعموم الأعداء ـ أصحاب الأطماع السياسية ، يبحثون عن ثغرة ينفذون منها للقيادة ليحتووها ، أو يؤثروا على قراراتها ، وقد تكون هذه الثغرة هي زوج القيادة لو ضعفت وخضعت امام الآخرين.

أما عن محتوى التعامل من قبل نساء النبي فيجب ان يكون متناسبا مع موقعهن ، ومرضيّا (معروفا) عند الرسول ، وليس مخالفا له.

(وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً)

وهكذا يجب ان يكون كلام زوجة الرسول (ص) ومن ينتسب الى القيادة متوافقا مع مواقفها وأسلوبها ، إذ يجب ان يعرفوا بأنهم لا يمثلون أنفسهم انما يمثلون القيادة بانتمائهم إليها ، ولأنها يجب ان تكون جدية فلا بد أن يكون كلام المنتمين

٣١٨

جديا أيضا.

ولا تعني الجدية من قريب أو بعيد ان يشتم هؤلاء الآخرين. كلا .. وهذا درس يهم القيادة ، وكل من يدور حول القيادة ، ذلك أن من مشاكل القيادة انها تكون جيدة في غالب الأحيان (القائد ـ الامام ـ الفقيه ـ المرجع ـ الرئيس) لكن الحاشية (البطانة) تكون خلافا لذلك ، فاما الحواشي فعليهم ان يتقوا الله لأن خطأهم يكون بعشرة كما صوابهم ، واما القيادات فيجب ان تكون حذرة من التأثر السلبي بالبطانة ، ولهذا الشطر من الآية الكريمة تفسير اجتماعي يهم المرأة وهو : انه يجب على المرأة ان تقتصر في حديثها مع الرجال عند الضرورات ، بما هو متعارف اجتماعيا وعقليا بكفايته ، وهذا ما تؤكد عليه رواياتنا ، وما يستفيده معظم الفقهاء منها.

٣١٩

وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ

___________________

٣٣ [وقرن] : أقررن واستقررن.

[تبرّصن] : التبرج إظهار الزينة الواجب سترها ، والتبرج التبختر والتكبر في المشي.

[الرجس] : عمل الشيطان ، وما ليس لله فيه رضى.

٣٤ [لطيفا] : ذا فضل ، ويعبر باللّطف عن الحركة الخفية من تعاطي الأمور الدقيقة.

٣٢٠