من هدى القرآن - ج ١٠

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-0
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٤

بنعم الله ، وينذرهم الله بأن كفرهم هذا يدعهم خاسرين لتلك النعم في الدنيا ، ولحظّهم في الآخرة.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)

ونستوحي من هذه الآية الحقائق التالية :

أولا : ان حالة التحزب القائمة على أساس الفخر ببعض ما لدى صاحبها من نعم تسبب الكفر بسائر النعم ، فمن بالغ في الفخر بابنائه لا يمكنه ان يتنعم بسائر الشباب في المجتمع ، ومن تطرف في الاهتمام بثقافته وفكر حزبه لم ينتفع بعلوم الناس ومعارفهم ، ومن فرح بما يملكه من مال توقف سعيه ولم يستفد من فرص الاكتساب التي امامه ... وهكذا.

وعادة يصاب المتحزبون بانغلاق فيحرمون أنفسهم من نعم الله في الحياة.

ثانيا : ان الشكر على النعم ليس فقط يحافظ عليها ويزيدها ، وانما أيضا يجعلها هنيئة لصاحبها ، لان وعي النعم غذاء القلب ، ولذة الروح ، بينما الذين يكفرون بنعم الله انما يتمتعون ببعضها ، كما تتمتع الأنعام ولا يهنؤون بها كما يهنئ البشر ، إذ ان توجههم سيكون فقط الى الجانب المادي من النعم ، وينسون الأبعاد المعنوية منها.

ثالثا : ان الكفر بالنعم يكون سببا لزوالها ، بل لتحولها الى نكال ، إذ ان من يتمتع بالنعم فقط سوف لا يراعي حدودها فيفسدها على نفسه ، كمن ينهم بالجنس مثلا لمجرد لذته تراه يسرف فيه حتى يفسد نفسه ، كذلك الّذي يطعم لشهوة الأكل فقط يتجاوز الحد في التهام الطعام مما يفسد معدته ... وهكذا.

٦١

أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩)

___________________

٣٩ [ليربوا] : ليزيد ذلك الربا.

٦٢

الشرك بين التبرير الثقافي

والآثار الاقتصادية

هدى من الآيات :

بعد ان يبين القرآن أثر الشرك في الدرس الماضي ، حيث ان الشرك يبث الخلاف ، ويكرس الصراع ، ويفرق الديانات ، ينسق في هذا الدرس أساسين يعتمد عليهما المشركون.

الاول : التبرير الشرعي للشرك ، وذلك بالاعتقاد بان ربنا سبحانه قد خول هذه الفئة أو تلك بشؤون الدنيا أو الدين ، من دون اقامة دليل صادق على هذا الادعاء.

الثاني : التبرير الاقتصادي بزعم ان الأنداد يملكون للناس رزقا ، ويعالج السياق خلفية هذا الزعم النابع من الجهل بالله ، والقنوط من روحه عند الضراء ، والكفر بفضله ـ غرورا ـ في السراء.

وهكذا يعيش الإنسان بين خطرين :

الرجاء المفرط حال النعمة ، واليأس القاتل عند البلاء ، بينما الرجاء واليأس

٦٣

يجب ان يتعادلا عند الإنسان.

ولإكمال بيان جوانب الموضوع يشير السياق الى البعد الاقتصادي للصورة ، مقارنا بين المجتمع التوحيدي والمجتمع الشركي.

يستوحي ربنا من هذه الآية فكرة أخرى نجدها في الآيتين التّاليتين ، وهي : ان الإنسان الّذي ينفق في سبيل الله سيضاعف له الأجر ، فيما ذلك الإنسان الّذي يأخذ الربا أضعافا مضاعفة لن يربو عند الله ، ذلك لان الّذي ينفق ماله في سبيل الله يعلم بأن الله سيعوّضه خيرا منه ، بينما المرابي لا يثق بالله ، ولا يتحرك كما أمره الله بأن يشد عضده بأخيه المسلم.

بعد ذلك يذكرنا سبحانه بأنه هو الرازق لمن خلق ، وانه يحيي ويميت ، فهل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء؟! سبحانه وتعالى عما يشركون.

بينات من الآيات :

[٣٥] انى كانت دوافع الضلالة والاجرام عند البشر فانه يبحث لنفسه عن تبرير ثقافي ليسكت صيحة الوجدان التي لا تزال تدوي في ضميره ، واخطر تبرير ثقافيّ يكون عند ما يزعم الإنسان ان الله امره بما يهواه ، ذلك ان فطرة الدين الراسخة في كل قلب ، أعظم ضمانة لإصلاح البشر ، فاذا انتكست هذه الفطرة ترى اي ضمانة تبقى عنده؟!

والسؤال : كيف نقف في وجه التبرير الشرعي للجرائم ، وكيف نواجه ادعياء الدين ، الذين لا زالوا يفترون على الله كذبا ، وكيف نتحدى هؤلاء الحكام الذين يبررون سلطانهم أبدا بان الله معهم ، وانهم ظل الله في أرضه؟

الجواب : انما يتم ذلك بالتأكيد على ان من يدّعي انه من عند الله لا بد ان يأتي

٦٤

بسلطان مبين ، بما لا يدع للشك مجالا ، وآنئذ فقط يجوز للعباد الاستماع اليه والتسليم لأوامره.

وهكذا يتساءل الذكر قائلا :

(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً)

وبرهانا يتسلط على القلب كله ، بما لا يدع فرصة للشك ، كما السلطان الّذي أنزل الله على موسى (ع) بالعصي ، وعلى عيسى (ع) بإحياء الموتى ، وعلى محمد (ص) بالقرآن ، ولا بد ان يكون هذا السلطان واضحا صريحا وكأنه ينطق بالذي يدعونه.

(فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ)

اننا ربما نتساءل : لماذا يرد الله على مثل هؤلاء المشركين؟ فنقول :

ان مشكلة هؤلاء مشكلة ثقافية ، وربما بنيت حياتهم وسياستهم وأعمالهم على أمثال هذه الأفكار ، فينسف الله أمثال هذه الأفكار من أساسها ، ولكي لا يحتجوا على الله يوم القيامة بأنه لم يوضح لهم الحقيقة ، لقد أوضح لهم إياها ، ولا حجة لهم.

وكثير من المشركين يتصورون انهم مكلفون من الله باتباع شركائهم ، أو يزعمون ان الأصنام شفعاء عند الله ، وانها تقربهم اليه زلفى!

كما يزعم الطغاة اليوم حيث يعتبرون أنفسهم ممثلين عن الله سبحانه ، وكذا كان سلاطين المسلمين الذين قاموا باسم الدين ، كان يصورهم الشعراء بأنهم آلهة من دون الله كما قال بعضهم في وصف أحد الخلفاء العباسيين :

ما شئت لا ما شاءت الأقدار

فاحكم فأنت الواحد القهار

٦٥

وقد ادعى هتلر انه مكلف من قبل الله سبحانه بأن ينقذ الشعب الالماني ، وكان رمزه الصليب المعكوف ، وهكذا المستكبرون في الغرب اليوم ، والقرآن يواجه كل هذه القوى الجاهلية التي تستعبد البشر باسم الدين بأنها ضالة ما لم ينزل الله عليهم سلطانا مبينا.

كما يجعل القرآن الناس امام مسئولياتهم مباشرة ، من دون واسطة أدعياء الدين ، لكي يقطع الطريق على وعاظ السلاطين ، وتجار الدين فلا يستغلوا سذاجة الناس ، ويحذروهم باسم الدين ، ويحرفون كلمه لقاء دراهم معدودة ، يتلقونها من الحكام.

(٣٦) لماذا يتوسل الناس بالشركاء والأنداد من دون الله؟ السبب قد يكون التبرير الشرعي الّذي نسفه السياق آنفا ، وقد يكون الزعم بأنهم يرزقونهم من دون الله ، والّذي يعالجه القرآن من الجذور ويقول :

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها)

اي أحسوا بالبطر والغرور ، ويبدو ان الفرح هو حالة الاحساس بالإشباع والاستغناء ، وهي حالة ذميمة نهى الله عنها على لسان قوم قارون إذ قالوا له : «لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» ولكنها حالة حميدة إذا اتصلت بالله ، فمن استغنى بالله أحس بالقوة بتوكله عليه.

وقد أمر الله بذلك إذ يقول :

(قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (١)

__________________

(١) يونس / (٥٨).

٦٦

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)

فان السيئات لا تصيب البشر الا بسبب ذنوبهم ، وعليهم ان يغيّروا واقعهم الفاسد حتى يغير الله ما بهم ، ولكنهم يصابون بالقنوط بعد السيئة.

(إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ)

ويستوحى من كلمة «إذا» ان القنوط يداهمهم فجأة ، وذلك بسبب ضعف نفوسهم ، وضيق أفق التفكير عندهم ، والآية تبصرنا بعدة حقائق :

أولا : ان الجهل بالله يجعل القلب متقلبا بين الغرور والقنوط ، بينما الثقة بالله تتسامى بالقلب فوق النعم ، فلا يبطر بها ، والنقم فلا ييأس بسببها.

والقلب الجاهل بربه والمتطرف بين البطر واليأس هو الميت المنكر لله ، المشرك به ، إذ ترى صاحبه يهوى الى درك التسليم لأصحاب الثروة والسلطة رجاء وفدهم ، وخشية حرمانه.

ومن هنا تجد المؤمنين يدعون ربهم الا يحوجهم الى لئام خلقه ، بل لا يبتليهم بالحاجة الى غيره لكي لا تميل نفوسهم الى غير الله ، فيزعمون انهم الرازقون لهم ، جاء في رائعة مكارم الأخلاق :

(اللهم اجعلني أصول بك عند الضرورة ، وأسألك عند الحاجة ، وأتضرع إليك عند المسكنة ، ولا تفتنّي بالاستعانة بغيرك إذا اضطررت ، ولا بالخضوع لسؤال غيرك إذا افتقرت ولا بالتضرع الى من دونك إذا رهبت فاستحق بذلك خذلانك ومنعك واعراضك يا ارحم الراحمين) (٢)

__________________

(٢) الامام علي بن الحسين (ع) / مفاتيح الجنان / ص (٦٠١)

٦٧

ولعل في هذا تكمن الصلة بين هذه الآية والتي سبقتها.

ثانيا : تمهد الآية للحديث عن الصورة المشرقة التي يتحلى بها المجتمع القائم على أساس التوحيد ، والتباعد عن رجس الشرك. كيف ذلك؟

ان كثيرا من الخصال الرذيلة تأتي بسبب حالة الجزع عند البشر ، فانما البخل والغش والكسب الحرام كالربا وغيره من افرازات شح النفس (الفرح ـ القنوط).

كما ان فضيلة الإنفاق والكرم والعفة تأتي من الثقة بالله ، وبأنه الرازق ذو القوة المتين.

وهكذا مهّد السياق للأمر بالإنفاق ، والنهي عن الربا ، بمعالجة هذه الحالة البشرية.

ثالثا : ان قلب المؤمن يعيش بين اليأس والرجاء ، ولذلك يعيش التوتر الإيجابي الفاعل الّذي يبعث أبدا نحو النشاط والسعي ، بينما قلب المشرك يتطرف نحو الفرح ، فيغله جمود الغرور والبطر ، أو يتطرف نحو اليأس فيقعده القنوط عن السعي ، وهل يتحرك من لا أمل له في النجاح؟! (٣٧) ما علاقة هذه الحقيقة بالتوحيد؟

العلاقة هي ان المؤمن يعتقد بان الرزق من الله ، وانه يبسطه لمن يشاء ، ويضيقه على من يشاء ، فلا يفرح ببسط الرزق لأنه قد يسلبه في أيّة لحظة ، ولا يقنط بقبضه ، لان الله قادر على ان يبسطه في اية لحظة.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ)

٦٨

بلى .. ولكن أغلب الناس يبصرون العوامل المباشرة للرزق ، وينسون العامل الغيبي لذلك قال ربنا :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)

اما المؤمنون فإنهم لا ينظرون فقط الى العوامل الظاهرة ، بل يبصرون أصابع الغيب التي تحرك تلك العوامل وتدبرها ، انهم يعلمون ان الفلّاح لا يقوم الا بأعمال جدّ ضئيلة إذا قيست بالعوامل التي تساهم في نمو الزراعة ابتداء من خصوبة التربة ، وعذوبة الماء ، وانتهاء بالمواد التي تنفّسها الشمس عبر أشعتها ، ومرورا بسائر العوامل الرئيسية المفقودة مثلا في سائر الكرات الاخرى ، ولذلك أضحت الزراعة فيها مستحيلة.

وكما في الزراعة كذلك في سائر موارد الرزق ، ولذلك ترى المؤمنين وحدهم يهتدون بآيات الرزق ، ويشكرون ربهم عليها.

(٣٨) لان الرزق من الله ، ولان المؤمن لا يقنط من رحمته إذا فقد شيئا من ثروته ، ابتغاء رضوانه ، ولان المؤمن لا يفرح بما يؤتى ، ولا يحسب ما بيده دائما بل يراه عواري ، سوف يذهب منه في اية لحظة ، لذلك كله ينبغي ان ينفق من ماله للاقربين ثم ذوي الحاجة من حوله.

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ)

ليس دور الترتيب الّذي ذكر في هذه الآية اعتباطا ، فقد جاء في الروايات ان ذوي القربى مقدمون على غيرهم في الإنفاق.

جاء في حديث مأثور عن أبي الامام الحسين (ع) قال :

٦٩

«سمعت رسول الله (ص) يقول : ابدأ بمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك ، ثم أدناك أدناك ، وقال : لا صدقة وذو رحم محتاج» (٣)

وقد جاء في بعض الأحاديث تفسير ذوي القربى بآل بيت الرسول (ص).

١ / وفي كتاب الاحتجاج للعلامة الطبرسي (رض) عن علي بن الحسين (ع) لبعض الشاميين أما قرأت هذه الآية «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» قال : نعم ، قال (ع) : «فنحن أولئك الذين أمر الله عز وجل نبيه (ص) ان يؤتيهم حقهم» (٤)

٢ / وفي مجمع البيان ، عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت هذه الآية : «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ..» اعطى رسول الله (ص) فاطمة (ع) فدكا. (٥)

(ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

يتراءى للإنسان بادئ النظر ان الإنفاق غرامة وخسارة ، بينما الحقيقة انه خير ، شريطة الا يداخله الرياء ، وحب السيطرة ، وان يكون بالتالي في سبيل الله ، والا فان ضره يطغى على نفعه ، إذ ان المستكبرين أيضا ينفقون أموالهم ولكن من أجل تحكيم قبضتهم على المستضعفين ، وسرقة ما تبقى عندهم من ثروات.

والسؤال : كيف يكون الإنفاق خيرا؟ ولماذا مجتمع الإنفاق مجتمع مفلح؟

الجواب : ان الإنفاق سوف يزيد التكامل الاجتماعي ، مما يؤدي الى تماسك المجتمع وتقدمه ، بينما المجتمع المفكك ينهار سريعا امام المشاكل ، ولا ريب ان

__________________

(٣) نور الثقلين / ج (٤) / ص (١٤٧).

(٤) تفسير نور الثقلين / ج (٣) / ص (١٥٥).

(٥) مجمع البيان / ج (٨) / ص (٣٠٦).

٧٠

فوائد التقدم تشمل المنفق كما المنفق عليه.

ثم ان يدك اليوم أعلى فهل تضمن ان تبقى كذلك كلا فقد تحتاج الى من أنفقت عليه ، أو غيره وجاء في معنى الحديث من كف يده عن الناس فانه يكف يدا واحدة وتكف عنه مأة يد.

والإنفاق يحرك عجلة الاقتصاد ، وينمي الثروة ، لأنه يرفع الحاجات الملحة التي تقعد أصحابها عن النشاط.

ولعل أعظم فائدة للإنفاق هي تحرير نفس صاحبه عن أسر المادة ، ومساعدته على الخروج من شح الذات ، وتحسيسه بلذة العطاء التي تفوق عند الإنسان السوي لذة الأخذ ، وربما جاء الأمر بالإنفاق هنا بهذه المناسبة لأنه يمهد سبيل الايمان بالله أمام الإنسان ، أو ليس حب الدنيا من أسباب الشرك.

(٣٩) ان ما أخذ ربا لا يربوا عند الله ، لان المرابي يسلب من الآخرين اتعابهم وجهودهم ، اما من يؤتي الزكاة بغية وجه الله فأولئك هم المضعفون.

وفي الحديث عن النبي (ص) قال :

«كل معروف صدقه الى غني أو فقير ، فتصدقوا ولو بشق تمرة ، واتقوا النار ولو بشق تمرة ، فان الله عز وجل يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله ، حتى يوفيه إياها يوم القيامة ، حتى يكون أعظم من الجبل العظيم» (٦)

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ)

__________________

(٦) بحار الأنوار / ج (٩٦) / ص (١٢٢).

٧١

ان الهدف من المال اقامة النظام الاجتماعي ، وتنشيط اجهزة المجتمع والإنفاق يقوم بهذا الهدف بأفضل وجه ، بينما الربا يعوّق ذلك ، إذ انه يقيد المال في حدود فوائد الدائن ، ويجعله شريكا ثقيل الظل لا تعاب الناس وجهودهم ، دون ان يتحمل خسارة أو يبذل جهدا.

والربا ينمي طبقة مستكبرة متعالية وطفيلية في المجتمع ، مما تتجاوز أضراره الجوانب الاقتصادية الى الحياة السياسية فالثقافية والاجتماعية.

ولعلنا اليوم نعي معاني هذه الآية أكثر من آبائنا ، لان الربا انتشر ليس في حدود أبناء المجتمع الواحد ، بل في مجال العلاقات الاقتصادية بين الأمم المختلفة ، وافرز الواقع المقيت الّذي تعاني منه البشرية المتمثل في التمايز بين الدول المستكبرة التي تتأثر بكل خيرات الأرض والدول المحرومة التي تحتاج الى أبسط مقومات الحياة ، فبينما تختزن الدول المستكبرة مثلا حوالي (٣٥٠) مليون طن من الغلال لعام (١٤٠٧ ه‍) (١٩٨٧ م) وتحتار كيف تختزنها ، بل كيف تتخلص منها نرى الدول المستضعفة محتاجة الى كل كيلو منها ، ويتضور أطفالها جوعا ، ويتساقط الملايين منهم كل عام لسوء التغذية.

ولعل أعظم أسباب هذا التمايز النظام الربوي السائد في العالم ، حيث بلغت ديون البلاد المحرومة أكثر من كاترليون (الف مليار) دولار و (٣٥) مليار دولار أخذت الفوائد المتضاعفة تبتلع كل جهود الشعوب المحرومة ، وتجعل الأمل في تقدمها واستقلالها يتلاشى في طوفان الديون.

ولو دفعت البلاد المتقدمة زكاة أموالها للشعوب المحرومة لنشطت من عقال التخلف ، وللحقت بركب الحضارة ولأفادت حتى الدول الصناعية بتبادل التجارة معها.

٧٢

ولو استجاب المحرومون لنداء القرآن ، والغوا الربا في علاقاتهم الاقتصادية ، وتحرروا من أغلال الفوائد الباهظة (كما اضطرت البرازيل ودول أخرى ان تفعل ذلك أخيرا) إذن مشوا خطوة في طريق تقدمهم واستقلالهم لذلك قال ربنا سبحانه :

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ)

اما العطاء الّذي يتبعه المن والأذى فانه مقدمة للطبقية المقيتة ، ولاستثمار البعض للبعض ، وبالتالي لا ينمي الثروة.

كما ان المعونات الاستعمارية للدول المحرومة التي تربط هذه الدول بعجلة الاستكبار هي الاخرى لا تنفع تقدما ، ولا تعطي خيرا.

(فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)

ولعل السبب هو ان الزكاة تنشط المجتمع ، وتضع عن اقتصاده أغلال الاستثمار ، وقيود الطبقية ، ويتوجّه الجميع تجاه نعم الله المنبسطة في أرجاء الطبيعة ليستفيدوا منها ، دون ان يفكر كل فريق استغلال الآخرين.

٧٣

اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦)

___________________

٤٤ [يمهدون] : يوطئون مواطن النعيم.

٧٤

ظهر الفساد بما كسبت أيدي الناس

هدى من الآيات :

كما ان التوحيد هو المحور الاساسي في عالم التكوين ، كذا هو يعتبر المحور الرئيسي في عالم التشريع لسائر الأحكام ، وهكذا يكون الشرك هو السبب الرئيسي لكافة المشاكل والمصائب التي تعترض البشر ، وهو محور كل انحراف عن شرائع الله.

ولقد بين السياق القرآني في سورة الروم جانبا من آثار التوحيد والشرك اللذان ينعكسان على حياة الفرد وسلوكياته ، وفي هذا الدرس يبين لنا جانبا من آثار التوحيد والشرك في المجتمع.

لقد فطر الله الخليقة صالحة ، واعطى الإنسان القدرة على تسخيرها ، وبيّن ان ما يكتسبه من موبقات يفسد في الطبيعة ، وحذّره من أن عليه ان يعتبر بالفساد الذي ظهر في البر والبحر فيرتدع عن السيئات ، والا فان عاقبته ستكون مثل عاقبة الأمم الغابرة ، الّذي لو سار الإنسان في الأرض عرف سبب دمارهم المتمثل في الشرك.

٧٥

كيف نتقي هذه العاقبة السوئى؟

بإقامة الدين القيم الّذي ينفعنا أولا في الدنيا حين يقينا الهلاك ، وثانيا : في الآخرة حين ينقسم الناس فريقين : الكفار الذين يحتملون وزر كفرهم ، والصالحون الذين يمهدون لأنفسهم حين يجزيهم الله من فضله.

بينات من الآيات :

(٤٠) الله هو محور الحياة الطبيعية للإنسان.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ)

وإذا كان الله هو الّذي خلق ورزق ، وأمات وأحيا ، وإذا كان الله هو المحور في الحياة الطبيعية ، فلما ذا لا نتبع الله في النظام الاجتماعي ، ولم لا نجعل التوحيد لا الشرك هو الّذي يرسم حياتنا؟!

(هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ)

كلا ..

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)

(٤١) (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)

ان الانحراف الّذي نشاهده كل ساعة ليس بالطبع ناتج عن انحراف الطبيعة ، لأنّ الله خلق الطبيعة حسنة ، واتقن صنعها ، والفساد انما هو بما كسبت ايدي الناس.

وحقيقة فساد الإنسان ان المحور الأساسي لحياتهم كان التوحيد فبدلوه الى

٧٦

الشرك ، وحين يوصل القرآن الفساد بذنوب البشر تعرف ان المنهج الاسلامي متقدم على المنهج الاجتماعي القائم بدرجة ، كما انه متقدم على النظرة الجاهلية بدرجتين ، فالجاهليون يعتقدون بان ما يظهر من الآثار في الحياة لا يمت الى سبب ، فلا يبحثون عن سبب معقول.

بينما المنهج القرآني يربط الظواهر الطبيعية بأسبابها المشهورة والغيبية ، فالظلم ـ مثلا ـ سبب لشقاء الظالم ، ونزول العذاب عليه ، اما بصورة مشهورة حيث انه يكون سببا لتحدي المظلوم ، مما يزعزع أمن الظالم واستقراره ، وأما بطريقة غيبية حيث ان الرب الّذي بيده ملكوت كل شيء يقدّر للظالم العذاب أو الشقاء بتسليط الأمراض عليه وإنزال الصواعق والكوارث الطبيعية على بلاده.

هكذا تضحى مسئولية البشر عن أفعاله حقيقة لا فكاك منها في منطق القرآن ، لان الّذي يجريها بيده الأسباب الطبيعية وغير الطبيعية.

ونحن حين نتلوا هذه الآية لنتخذها بصيرة لوعي العصر الّذي نعيشه نزداد يقينا بعظمة القرآن ، وصفاء بصائره.

بلى. ظهر الفساد في البر والبحر بانتشار وسائل الدمار فيهما ، من اسلحة نارية تقليدية تتكاثر كالجراثيم في جسم مريض ، وتدعمها اسلحة نووية تنشر مظلة رعب رهيبة ، واخطر منها الاسلحة الكيمياوية التي طفقت البشرية التنافس عليها.

وفي آخر تصريح لمراقب عليم عن اخطار هذه الاسلحة جاء : ان نشوب حرب نووية بين القوتين العظميين ستسفر عن سقوط (٤) مليارات قتيل في العالم الثالث ، وذلك ان تغييرا أساسيا يحدث في اتجاهات الرياح الموسمية ، وان الشمس تحتجب

٧٧

بسبب الدخان الأسود الناجم عن احتراق المدن. (١)

وإذا عرفنا ان سكان العالم هم اليوم خمسة مليارات بشر فان ذلك يعني ان الحرب تهدد اربعة أخماسهم.

ومن الرعب النووي الى الأمراض التي لا شفاء منها كالسرطان ، والايدز ، والقلق ، والجنون ، وامراض الاعصاب المتكاثرة ، والى التخلف القاتل الّذي يحصد الملايين في جنوب أرضنا ، والتخمة التي تطغى النخبة في الشمال ، مما حدى بعض العلماء اليائسين في فرنسا الى القول بان عضلات البشرية لا تعالج بسوى حرب نووية.

أما عن الخطر المحدق فعلا بالبشرية (تلوث البيئة) فتقول مجلة (الحقيقة الواضحة) التي تدعو الى العودة الى الدين في عددها المؤرخ (١ م) والّذي طبع منه أكثر من سبعة ملايين نسخة تقول :

هل القوة النووية هي المصدر الوحيد لتدمير الأرض؟

لننظر الى مجموعة معلومات جاءت في بعض المجلات الرائدة : ان التلوث الجدي الّذي لا يقارن بحادثة بوبال في الهند ، ولكن بتراكماته سوف يهدد الأرض وتضيف : لقد أظهرت الأبحاث الجديدة ان تدمير طبقة الاوزون بواسطة الغازات التي ينتجها الإنسان سوف يكون أكبر مما كان متوقعا ، ثم تقول : لقد اكتشفنا أخطر المواد الكيماوية وادخلناها في موادنا الغذائية ، وتعطي احصائية عن وسائل التدمير في امريكا ، وتقول : ان المواطنين الامريكيون ينتجون (٥) مليار رطل من

__________________

(١) أحد علماء الطبيعة البارزين واسمه (فردريك وورنر) من جامعة (اسكس) البريطانية. انظر جريدة الوطن بتاريخ (١٠ / ج ٢ / ١٤٠٧ ه‍) الموافق (٩ / فبراير / ١٩٨٧ م).

٧٨

المخلفات المدمرة في اليوم وتضيف : ان تدمير البيئة يجري سريعا ، وإذا لم يوقف هذا التدمير فسوف يكون مرعبا.

وتضرب مثلا لحجم التلوث في امريكا وتقول : ان الأبحاث تقول : ان هناك حاجة ل (١٠٠) مليار دولار وخمسين سنة من الوقت حتى تتم ازالة المواد السامة من الولايات المتحدة ، حتى ان خبيرا في شؤون المحيطات قال : اننا نواجه النكبة ، وتختم المجلة تحذيرها : لن يكون هناك خيار للإنسان الا الدمار إذا ما نظر الى سياسة الربح والتوسع الصناعي بشكله الحالي.

وقد أكدت الروايات الاسلامية على الصلة بين النكبات والمصائب التي يتعرض لها البشر (افرادا أو مجتمعات) وبين أعماله. دعنا نقرأ بعض هذه الروايات :

عن الامام الباقر (ع) قال :

أما انه ليس من سنة أقل مطرا من سنة ، ولكن الله يضعه حيث يشاء ، ان الله ـ جل جلاله ـ إذا عمل قوم بالمعاصي صرف عنهم ما كان قدّر لهم من المطر في تلك السنة الى غيرهم ، والى الفيافي والبحار والجبال ، وان الله ليعذب الجعل في حجرها بحبس المطر عن الأرض التي هي بمحلّتها لخطايا من بحضرتها ، وقد جعل الله لها السبيل الى مسلك سوى محلّة أهل المعاصي ، قال : ثم قال ابو جعفر الباقر «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» (٢)

ثم قال : وجدنا في كتاب علي (ع) قال : قال رسول الله (ص) :

«إذا ظهر الزنا كثر موت الفجأة ، وإذا طفف المكيال أخذهم الله بالسنين

__________________

(٢) بحار الأنوار / ج (٧٣) / ص (٣٧٢).

٧٩

والنقص ، وإذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركتها من الزرع والثمار والمعادن كلها ، وإذا جاروا في الأحكام تعاونوا على الظلم والعدوان ، وإذا نقضوا العهد سلط الله عليهم عدوهم وإذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار ، وإذا لم يأمروا بمعروف ولم ينهوا عن منكر ولم يتبعوا الأخيار من أهل بيتي سلط الله عليهم شرارهم ، فيدعوا عند ذلك خيارهم فلا يستجاب لهم» (٣)

وروي عن الامام أمير المؤمنين (ع) قال :

قال رسول الله (ص): «ثلاثة من الذنوب تعجل عقوبتها ولا تؤخر الى الآخرة : عقوق الوالدين والبغي على الناس ، وكفر الإحسان» (٤)

وروي عن الامام الصادق (ع) قال :

«الذنوب التي تغير النعم البغي والذنوب التي تورث الندم القتل ، والتي تنزل النقم الظلم ، والتي تهتك الستور شرب الخمر ، والتي تحبس الرزق الزنا ، والتي تعجل الفناء قطيعة الرحم ، والتي ترد الدعاء وتظلم الهواء عقوق الوالدين» (٥)

وروى في تفسير الآية عن الامام الصادق (ع) انه قال :

«حياة دواب البحر بالمطر ، فاذا كف المطر ظهر الفساد في البر والبحر ، وذلك إذا كثرت الذنوب والمعاصي» (٦)

__________________

(٣) المصدر / ص (٣٧٣).

(٤) المصدر / ص (٣٧٤).

(٥) المصدر / ص (٣٧٣).

(٦) نور الثقلين / ج (٤) / ص (١٩٠).

٨٠