من هدى القرآن - ج ١٠

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-0
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٤

فاما ان يتلقى توجيه المنافقين والكفار ، أو يتبع رسالة الله ، أما الالتقاط فهو مرفوض في منطق الإسلام ، فكما ان قلب الإنسان واحد وعواطفه واحدة ، كذلك يجب ان تكون حياته منسجمة مع بعضها ، وبتعبير آخر يجب ان يرعى البشر الفطرة التي خلقها الله فيه ، وهو يضع القوانين لنفسه. ويربط القرآن بين هذه الفكرة وبين قوله تعالى حاكيا عن الاسرة :

(وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ)

فكما لم يجعل الله لرجل قلبين في جوفه ، فلا يستطيع أن يحب ويكره رجلا بصورة شاملة في آن واحد ، ولا ان يفكر في أمور متعددة في وقت واحد ، كذلك لا يمكن ان يجعل زوجته امه امرأة واحدة ، فيجب ان يكون الأمر حسب الواقع الفطري الطبيعي لا حسب ما يقرر الشخص نفسه.

والظهار الذي تشير اليه الآية هو قول الرجل لزوجته : أنت عليّ كظهر أمي ، أو كظهر أختي. وهذه من العادات الجاهلية ، كما توجد عادة أخرى وهي جعل الآخرين ابناء لمن يتبناهم ، لكن القرآن لا يقرها بل يرفضها.

(وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ)

فالابن لا يصير دعيّا لوالده ، والدعي لا يصير ولدا لمن يدعيه ، وتبين الآية ان هذه العادة ليست مما يتفق مع تعاليم الله ، ولا فطرة البشر ، انما هي من بنات أفكار الناس أنفسهم :

(ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ)

ولو عدتم الى قلوبكم وفطرتكم لرفضتم ذلك ، وقلب الإنسان لا يمكن ان يحس

٢٦١

في داخله بان الدعي ولدا له ، ولو قال ذلك الف مرة بلسانه ، لان القلب شيء آخر يميز الابن الحقيقي عن غيره ، ولا يتمكن ان يخرق القوانين الفطرية ، ببعض القوانين الاعتبارية ، لأنها تفقد قدرة التنفيذ باعتبارها ظاهرية لا قلبية.

(وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ)

والحق هو القانون الفطري ، والحقيقة الخارجية ، وهذه صفة القرآن فهو كتاب الله الذي ينطبق على كتاب الطبيعة ، فكما تذكرنا الطبيعة بآيات القرآن وتهدينا لها ، فان الله يذكّر عبر آياته بسننها وقوانينها.

(وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ)

السليم ، والصراط المستقيم ، و (ال) التعريف تحدد هذا السبيل ، انه ليس ايّ سبيل كان ، بل هو السبيل القويم.

(٥) ثم يبين القرآن حكم اللقيط ، وهو يخالف ما عليه الجاهلية من نسب اللقيط الى من يربيه ويتبناه حيث يقول :

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ)

الحقيقيين الذين انحدروا من صلبهم.

(هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ)

أصحّ لانسجامه مع شريعة الله ، وفطرة البشر ، بينما كان الجاهليون يخالفون هذا الأمر وينسبون الرجل الى من تبناه ، حتى لو كان أبوه شخصا آخر ، وكان من عادتهم إذا افتقر أحدهم أن يدفع أولاده الى من يعولهم فيصير الآخر والدهم في عرف

٢٦٢

الناس ، ولكن هل يغير هذا من الواقع الفطري شيئا؟ كلا .. فأبو طالب حينما اعطى ولده عليا (ع) للنبي (ص) بسبب فقره ، لم يصبح عليا ولد الرسول ، وكذلك الأمر بالنسبة لزيد ابن حارثة ، الذي نسبه الناس للنبي ، فأنزل الله آية في أمره. (٥)

(فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ)

وتعرفوهم.

(فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ)

اخوة سببيون وليس نسبيين ، فهم لا يرثون منكم.

(وَمَوالِيكُمْ)

والمولى هو الشخص الذي ينتمي الى عشيرة أو أسرة ، لأنه لا عشيرة له ، فيسمى مولى لهم ، ويختلف عن العبد بأنه صاحب ولاية ، وله تسميات أخرى كالدخيل واللحيق. اذن فعدم معرفة والده ، لا يغير من الواقع شيئا.

(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ)

أي ذنب.

(فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ)

أيام الجاهلية ، لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله ، أو إذا أخطأتم الآن إذا لم يكن عن عمد.

__________________

(٥) الأحزاب / (٣٧).

٢٦٣

(وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ)

في نسبة الأبناء الى غير آبائهم الحقيقيين ، فذلك محاسبون عليه.

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)

يغفر للعبد اخطاءه ، اما الانحرافات المتعمدة ، والتي يصرّ عليها فانها لا تغفر.

(٦) وفي الآية الاخيرة من هذا الدرس يركز القرآن على فكرة حساسة وذات أهمية بالنسبة للمجتمع المسلم ، في أبعاد حياته المتعددة ، حيث يبين بأنّ القانون الرسالي يقتضي ان تكون القيادة الرسالية مقدمة على كل شيء ، اما الأسرة فهي تأتي في المرتبة الثانية ، فاذا ما تعارض قرار القيادة مع قرار الاسرة فالواجب اتباع القيادة ، لأنها أقرب الى كل فرد فرد من أبناء المجتمع والتجمع ، بل هي أقرب للفرد من نفسه ، وفي مجمع البيان ان النبي (ص) «لما أراد غزوة تبوك أمر الناس بالخروج قال قوم : نستأذن آباءنا وأمهاتنا ، فنزلت هذه الآية» (٦)

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ)

وفي المرتبة الثانية تكون العلاقة الاسرية هي الأسمى.

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ)

أما الرحم الذي لا يتصل معك بعلاقة الدين فهو مقطوع في الإسلام ، كالارحام التي لم تكن تهاجر أو الرحم الكافرة ، ولا يعني هذا ان يؤذي المسلم والديه أو

__________________

(٦) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٢٣٧) / رقم (١٣).

٢٦٤

عموم رحمه لكفرهم ، بل ان القرآن يحثّ على الإحسان إليهم ، فهم ان انقطعت معه علاقتهم الدينية فإنه تجمعه بهم العلاقة الانسانية التي يقرّها الإسلام.

(إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً)

فذلك يقبله الله ، ويشجع عليه القرآن.

(كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً)

إنّه قانون مسطور في كتاب الله.

٢٦٥

وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ

٢٦٦

فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥)

___________________

١٤ (وَما تَلَبَّثُوا) : ما احتسبوا وما تريثوا عن الإجابة الى الكفر.

٢٦٧

وكان عهد الله مسئولا

هدى من الآيات :

الميثاق الذي أخذه الله عز وجل من النبيين ، وعبرهم من الصديقين والأولياء ، هو العهد الذي وافق عليه كل إنسان في عالم الذّر ، حيث استنطقه الله بعد ان ألهمه العقل «وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى شَهِدْنا» وكان الهدف من هذا الميثاق ـ كما توضحه نفس الآية ـ هو إقامة الحجة على الخلق (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ). (١)

وكل من لبّى قبل الآخرين كان أقرب الى الله ، فيزوّده بنور العلم والرسالة ، وكانوا هم الرسل والأنبياء والأوصياء والأولياء ، قال الامام الصادق (ع):

«لما أراد الله ان يخلق الخلق نثرهم بين يديه فقال لهم : من ربكم؟ فأول من

__________________

(١) الأعراف / (١٧٢).

٢٦٨

نطق رسول الله (ص) وأمير المؤمنين والائمة عليهم السلام فقالوا : أنت ربنا ، فحملهم العلم والدين ، ثم قال للملائكة : هؤلاء حملة ديني وعلمي ، وامنائي في خلقي ، وهم المسؤولون» (٢)

ثم اتخذ الله ميثاقا آخر من رسله قبل ان يبعثهم بالرسالة ، وكان هذا الميثاق بقوة الميثاق الاول.

ومن يبعث رسولا يتخذ منه الميثاق ، لكي يتحمل الرسالة بكلّ أمانة ، ولان النبي يتعرض لانواع الضغوط ، يجب ان لا يخضع للظروف والوسط الاجتماعي ، فان الله يذكره بين الحين والآخر بذلك الميثاق عبر آياته ، بالرغم من ان النبي منصور من عند الله بالوحي وبروح القدس ، ذلك الملك العظيم الذي يؤيد الله به أنبياءه والائمة ، ولعل الوحي كما روح القدس لم يكن أرفع شأنا من القرآن ذاته ، لأنه كلام الله. وهل رفعة درجة الوحي الا بكونه الواسطة التي تحمل القرآن الى النبي؟ وهل منزلة الرسول (ص) الا بتجسيده كتاب الله وحمله له؟

والقرآن أعظم مؤيد للرسول ولمن يتبعه ، لأنه يثبت قلوبهم ، ويزيد في إيمانهم وتوكلهم على الله ، بما يذكر به من الآيات والسنن الالهية ، والحوادث السابقة التي تكشف عنها ، والقرآن موجود بين أيدينا ، فيمكننا أن نستوحي منه بصائر الحياة والعمل ، ونستمد منه العزيمة والايمان والتوكل ، ونحن نسير في خط الأنبياء. ولما كان الرسول يواجه ضغوط المنافقين والكفار ، ويستعد لحرب الأحزاب التي تجمعت واتحدت ضده ، جاء القرآن تأييدا له على الاستقامة أمام كل ذلك ، فكان لا بد من تذكيره لميثاقه مع ربه ، على العبودية والإخلاص له ، مما يستوجب عدم الانهيار أمام هذه الضغوط ، باعتباره يناقض الميثاق.

__________________

(٢) نور الثقلين / ج (٢) / ص (٩٢) / رقم (٣٣٧).

٢٦٩

ثم يذكّر السياق بقصة الأحزاب التي تشتمل على كثير من العبر والحكم التي من بينها :

الحكمة الأولى : تأييد الله للمؤمنين ، فقد أيّد الله رسوله والمسلمين في هذه الحرب بجنود لم يروها ، قيل انها الملائكة ، وقيل هي الريح التي سلطها على الأحزاب ، وقد تكون الرعب الذي قال عنه الرسول (ص):

«نصرت بالرعب مسير أربعين يوما»

أو هذه جميعا.

المهم أنّ الإنسان مهما يهيء من الوسائل المادية ، فقد تتأثر بعوامل لا يستطيع ضبطها ، وهي ما نسميها بالصدف ، أو هامش الاحتمالات.

والكفار حينما ساروا لحرب المسلمين يومئذ كانوا قد أعدوا العدة للقضاء عليهم ، ولم يكن في بالهم ان شيئا يمنعهم عن المسلمين ، ولكنهم انهزموا وخسروا المعركة ، وكان السبب المادي الظاهر هو الخندق الذي حفر حول المدينة ، وعموم ما استخدمه وهيّأه الرسول من الوسائل والاساليب للمعركة ، ولكن العامل الامضى والأهم أثرا هو الجنود التي لم يلحظها المسلمون بأعينهم ، وإنما جاءت إشارة القرآن الى هذا العامل الحاسم في الانتصار بهدف إعطاء الثقة للرساليين عبر الأجيال ، بأنهم يجب ان يعتمدوا بعد الاستعداد وبذل قصارى الجهود ، على نصر الله لا على ذواتهم ووسائلهم المادية.

الحكمة الثانية : كما تؤكد الآيات على الابتلاء الذي يعرض الله له المؤمنين ، وانه من أهم اهداف الحروب والغزوات ، فمنهم من يستفيد من البلاء والابتلاء ، في تثبيت ايمانه ، ومنهم من يتزلزل ولكنه يعود ليصلح مسيرته ، ومنهم من ينهار

٢٧٠

تماما ، والمؤمن الذي يسقط ثم يعود الى الصواب ثانية ، قد يكون أقدر على الاستمرار ، من الآخر ، الذي لم يسقط ولا مرة ، لأنه جرب السقوط ، فعرف كيف يجب ان يقوم لو سقط مرة أخرى ، كالجسم الذي يبتلى بجرثوم معين ، ثم يطيب منه ، فانه يكتسب شيئا من المناعة ضده ، لو عاوده من جديد ، لكن هذا الجرثوم نفسه قد يفتك بالآخرين الذين لم يبتلوا به ، وبالتالي لا يملكون مناعة ضده.

والذي يصنعه الابتلاء للإنسان المؤمن ، انه يطهر قلبه من أسباب الشك والتردد ، ويمكننا ان نحدد أهم أهداف الابتلاءات والمصاعب التي يعانيها الإنسان في حياته في أمرين

ألف : تمحيص قلوب المؤمنين.

باء : تمحيص المجتمع. ففي الظروف الصعبة كالحروب يفرز المؤمن عن المنافق ، مما يكشف الواقع أمام القيادة ، وبالتالي يتسنى لها إبعاد المنافقين من تجمعها (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ). (٣)

الحكمة الثالثة : تبين لنا الآيات أنواعا من التبرير والاعذار التي يتشبث بها المنافقون من أجل التستر على نواياهم ، وفرارهم من المسؤولية ، ومن بينها قولهم : «إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ» فرارا من الحرب ، دون التفكير في صحتها. وعلى القيادة الرسالية ان تشخص الأفكار التبريرية وتدحضها.

بينات من الآيات :

(٧) لا يبعث الله النبي رسولا حتى يتعهد بعدم الخضوع لسائر الضغوط ، سواء

__________________

(٣) آل عمران / (١٧٩).

٢٧١

النابعة من ذاته أو الآتية من المجتمع.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ)

جميعا ، ولكن هذا العهد كان أشد وأخص بالنسبة لأولى العزم من الرسل ، وهم الذين ذكرت بهم الآية في قولها :

(وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)

فالأنبياء أفضل من سائر الناس ، والرسل أفضل من الأنبياء ، وأفضل الرسل هم أولوا العزم ، وأكرم أولي العزم محمد (ص).

(وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً)

ولعل وجه التخصيص أن أولي العزم أكرم الناس عند الله ، فهم أكثرهم تعرّضا للبلاء والمصاعب.

(٨) ثم بعد هذا الميثاق الذي أخذه الله على الناس ومن ضمنهم الأنبياء فأقروا بالربوبية له (٤) وعاهدوه بالتسليم ، خلق الحياة الدنيا ليتبين الصادق من الكاذب فيهم.

(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ)

فالإنسان لا يعرف حقيقة ما يدّعيه إلا عند الامتحان ، فان كان صادقا أدخله الله في جنته ورحمته ، وإن كان كاذبا عذبه.

(وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً)

__________________

(٤) راجع الآية / (١٧٢) / الأعراف.

٢٧٢

فالله يستأدي الميثاق مرتين ، مرة في الدنيا عبر الرسل ، ومرة في الآخرة بالحساب الدقيق ، والمؤمن الذي يهتدي الى حكمة الحياة هذه هو الذي يصمد عند الشدائد ، لأنه يعتبرها سبيله الى رضوان الله ، والذي يتحقق في الوفاء بميثاقه معه ـ عز وجل ـ يوم الذر وعبر الأنبياء والقيادات الرسالية التي تمثل امتدادهم (ع) وهذا ما تهدي اليه الآيات من (٢٢) الى (٢٤) حيث ترتبط بهما هاتين الآيتين ارتباطا عضويّا ، وتمثل ظلالا لهما.

(٩) اما بقية الآيات ، فهي تذكرنا بالحقائق الثلاث التي أشرنا لها في أول الدرس ، والتي يستوحيها السياق من حرب الأحزاب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ)

يوم الأحزاب.

(إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً)

اقتلعت خيام الكفار ، وكانوا يزمعون اللبث فيها وهم يحاصرون المدينة ، التي منعهم الخندق من دخولها ، مما أشاع الفوضى وعدم الاستقرار في نفوس العدو.

(وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها)

من الملائكة.

وقد مر في تفسير سورة الأنفال القول : بأن أهم عمل قامت به الملائكة ، كان تثبيت قلوب المؤمنين من جهة ، وتشتيت قلوب الكافرين من جهة أخرى ، وعلى ضوء هذا التفسير نستطيع القول بأن أهم قوة عسكرية تستطيع هزيمة العدو هي التي تتوفر فيها صفتي الوحدة والاستقامة ، اللتان تؤديان الى الثبات في المعركة.

٢٧٣

ونصر الله للمؤمنين لا يأتي الا إذا بذلوا قصارى جهدهم ، وكل ما بوسعهم من اجله ، فلو كان المسلمون يوم الأحزاب ينتظرون عون الله ، من دون تهيئة الظروف المناسبة له ، من استعداد لمواجهة العدو ، وإعمال للعقل في سبيل ذلك لما نصروا عليهم ، ولعله لهذا يشير الى سعي المؤمنين.

(وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً)

فلأنكم بذلتم ما في وسعكم ، وحفرتم الخندق في أربعين يوما متواصلة ، وارهقتم أنفسكم في شهر رمضان ، وفي حرارة الصيف ، وقد رأى الله منكم كل ذلك وعلم بنواياكم الصادقة نصركم على الأحزاب.

(١٠) (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ)

اي من فوق الوادي ـ من ناحية الشام ـ وهم يهود بني قريظة وبني النضير وغطفان.

(وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)

من ناحية مكة ـ قبل المغرب ـ وهم قريش ومن تبعها من العرب ، وكان من شدة الأمر ان الأبصار في تلك الحالة لم تكد ترى أو تستقر ، وهذه الحالة تصيب الإنسان لا إراديا إذا واجه أمرا يهوله ويعظم في نفسه.

(وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ)

كما ان القلب يظل ينبض بقوة وسرعة في مواطن الفزع ، بحيث يشعر الإنسان وكأنه صعد الى حنجرته.

(وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا)

٢٧٤

في ساعة العسرة تأتي البشر مختلف التصورات حول ربّه ، وربما يكون الكثير منها سلبيا ، فاذا به وهو يقف في صف المؤمنين لمحاربة أعداء الرسالة يفقد الثقة بنصر ربه ، ويظن انه لن ينصره.

(١١) لكن الله يجعل الاحداث تتصعد وتتأزم ، وقد يؤخر النصر ، ويعرض المجتمع لأنواع الابتلاء ، وذلك تمحيصا للقلوب ، وفرزا للمجتمع ، فاذا به فريقان ، فريق المؤمنين وفريق المنافقين.

(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ)

اما المؤمنون فقد كان الأمر بالنسبة إليهم امتحانا ـ أظهر ما يضمرونه في قلوبهم على ألسنتهم ـ كما تسببت شدته ، في ذهاب الصفات التي لحقت بهم ، والتي ليست من طبيعة الشخصية المؤمنة ، فاذا به يزيدهم ايمانا وصفاء.

(وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً)

ويحتمل هذا الشطر أحد تفسيرين : فاما يكون وصفا لطبيعة الامتحان بأنه من الصعوبة يشبه الزلزال الشديد ، وإما يكون حديثا عن نتيجة الامتحان ، فيصير المعنى ان المؤمنين اهتزت مواقفهم وتأثروا ، فيحمل تفسير الآيتين (٢٢ ـ ٢٣) مضافا لهذه الآية : ان المؤمنين صاروا فرقتين ، فرقة تأثرت بالامتحان سلبا في بادئ الأمر ، فاكتشفت ضعفها وجبرته ، وفرقة ما زادهم إلّا ايمانا وتسليما.

(١٢) اما المنافقون فقد افتضح أمرهم ، وبرزوا على حقيقتهم أمام القيادة الرسالية يومذاك وأمام المجتمع ، ولعل هذا الفرز من أهم أهداف وفوائد الأزمات التي يتعرض لها البشر في حياتهم.

٢٧٥

والمنافق هو الذي يعيش شخصيتين : شخصية الإنسان المؤمن الصادق ـ وهذه يظهرها ليستر بها شخصيته الحقيقة الثانية بما فيها من الأنانية والدجل ـ فاذا استوجبت الظروف تعرّض مصالحه للخطر ، ووجد الالتزام ولو ظاهريّا بالشخصية الإيجابية يعرضها للزوال ظهر على حقيقته.

(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)

وهم المؤمنون الذين يحملون الحقد والحسد والاستكبار و.. و.. في قلوبهم ، فإن شأنهم شأن المنافقين ، لأن هذا المرض سوف يسبب لهم الانهيار والفرار في ساعة المواجهة ، فهم يلتقون مع المنافقين في خور عزيمتهم ، وطبيعة موقفهم من الشدائد ، والذي يتجسد في فرارهم وسلبيتهم في المجتمع بخلاف المؤمنين الصادقين ـ تماما ـ فبينما يقول أولئك : صدق الله ورسوله ، ويزدادون ايمانا واستقامة على الطريق ، يقول هؤلاء :

(ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً)

ويستدلون على ذلك بان النصر لم ينزل عليهم.

(١٣) وثمة مجموعة من المشككين لا يكتفون بهزيمتهم إنما يشيعون جوّا من الهزيمة بهدف زلزلة عقائد الآخرين ، وهذه من طبيعة المنافقين.

(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا)

حينما تتعرض الامة للخطر فهي أحوج ما تكون الى الثقة بنفسها وبقيادتها وبربها ، وبالتالي فان الألسن والأقلام التي توهن المجتمع ، وتبث فيه روح الهزيمة لهي منافقة ، وعلى المجتمع أن لا يستجيب لها ، إنما يلتف حول قيادته الرسالية ،

٢٧٦

كما ان من واجب القيادة فضح هذه الشريحة واقصائها عن موقع المسؤولية والتوجيه.

(وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ)

ويغطون هذه الهزيمة بمجموعة من الأعذار والتبريرات الواهية.

(يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ)

قالوا : ان بيوتنا مكشوفة للعدو ، ولا نأمن على أهلنا منه ، فلا بد أن نبقى معهم نحميهم ، لكن الله فضحهم إذ قال :

أولا : ان بيوتهم ليست كما يدّعون ، ولكنهم يريدون الفرار من الحرب.

(وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً)

(١٤) ثانيا : لو أنهم دعوا الى حرب فيها مصالحهم ، غير هذه الحرب المقدسة التي فيها مصلحة الإسلام ، لخاضها أكثرهم ، ولما تخلف عنها أحد منهم ، أو ليسوا في الجاهلية يحاربون بعضهم لمآت السنين ولأتفه الأسباب؟!

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ)

الحرب.

(مِنْ أَقْطارِها)

جهاتها وأهدافها التي يريدون ، لأنها تتفق مع أهوائهم مثلا.

(ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً)

٢٧٧

(١٥) وما كانوا يلتزمون ولا حتى يلتفتون لعهدهم مع رسول الله (ص).

(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ)

على الدفاع عن الإسلام وعن رسوله.

(لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ)

دون تراجع أو هزيمة ، وكان هذا العهد عبر الرسول امتدادا لميثاقهم مع الله في عالم الذر ، وتأكيدا للمسؤولية.

(وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً)

٢٧٨

قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ

___________________

١٧ [يعصمكم من الله] : يدفع ويمنع عنكم قضاء الله.

١٨ [هلمّ إلينا] : تعالوا وأقبلوا إلينا.

[ولا يأتون البأس] : لا يحضرون القتال.

١٩ [أشحة عليكم] : الشحة هي البخل ، فهم بخلاء عليكم لا يبذلون مالا ولا نفسا.

[سلقوكم بألسنة حداد] : آذوكم بالكلام ، وخاصموكم بألسنة سليطة ذربة.

٢٧٩

بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠)

___________________

٢٠ [بادون في الاعراب] : يكونون في البادية مع الاعراب.

٢٨٠