من هدى القرآن - ج ١٠

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-0
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٤

اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))

___________________

٥٤ [شيبة] : حال الشيخوخة والهرم.

٦٠ [لا يستخفنك] : لا يستفزنك.

١٠١

هذا يوم البعث

هدى من الآيات :

تقلّب البشر في كفّ التقدير دليل على قدرة المدبّر ، كما أن تقلّبات الأرض تجليات قدرة ربنا سبحانه ، وفي دروس مضت ذكرنا السياق بتغيّرات الطبيعة ، وها هو الدرس الأخير يذكرنا بان الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من ضعف ، ويردّه الى ضعف من بعد قوة ، فهو الذي يخلق ما يشاء (وليس البشر نفسه) وهو العليم القدير.

وسفينة الزمن تحمل البشر عبر أمواج المتغيرات إلى شاطئ الساعة حيث يواجه الحساب ، أما المجرمون فإنهم يقسمون ما لبثوا غير ساعة ، لأنّهم كانوا يؤفكون ، بينما يعرف أهل العلم والايمان ان هذه نهاية المطاف ، إنّه يوم البعث الذي لم يعلموا عنه شيئا ، وهنا لك لا تنفع الظالمين المعذرة ، ولا هم يسألون عن ذنوبهم ، بل يلقون جزاءهم بلا عتاب استخفافا بهم.

١٠٢

وهكذا لم يدع القرآن حقيقة إلّا وبيّنها عبر مثل ، ولكن الكافرين لن ينتفعوا به لأنهم يجحدون به. بلى. إنّ قلوبهم مغلقة ولا بدّ أن يصبر المؤمنون ، ولا تدعوهم إثارات الكفار إلى العجلة.

بينات من الآيات :

(٥٤) نظرة المؤمن إلى الزمن تختلف عن غيره ، إذ انه يستوحي من التغيرات الطارئة إيمانا ومعرفة بالحقائق الثابتة ، ويستشهد بها على ما سيحدث مستقبلا ، أمّا الكافر فإنّه ليس لا يستوحي من التحولات والتغيرات الطارئة عبرة ، بل وتشوّش رؤيته هذه التحولات أيضا.

إنّ هذا التطور في حياة الإنسان يدل على أنّ الإنسان هو الإنسان نفسه ، ولكن التغيير إنّما طرأ على شيء خارج ذاته ، فالقوة التي كانت ضعفا في الصغر ، وتعود ضعفا في الكبر ليست من ذات الإنسان ، وإلّا لاستمرت معه ، والعلم ليس من ذات الإنسان ، وإلّا لكان يلازمه ، ولكن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا ، فجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة ، وكل شيء فيك سوف يزول.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ)

ولم يكن خلق الإنسان أساسا من مادة الضعف ، لأنّ الله جلّ وعلا يخلق الأشياء بالإرادة الإلهية (كن فيكون) وانما جعله ضعيفا ، لأنّه خلقه من التراب ، أو كان الضعف أساس خلقته ، وواقع ذاته ، جاء في دعاء مأثور عن الامام الحسين (ع):

«أنا الفقير في غناي ، فكيف لا أكون فقيرا في فقري؟! أنا الجاهل في علمي ،

١٠٣

فكيف لا أكون جهولا في جهلي؟!» (١)

(ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً)

في شبابه حتى كهولته ، إذا القوة ليست من ذات البشر.

(ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً)

وهذا الضعف الثاني يعتريه نتيجة المرض أو نتيجة الشيخوخة. ومن المعروف ان مرض الشيخوخة لا يعالج إذ أنّه يتسبب من انعدام أو ضمور خلايا المخ التي لا تعوّض بأية وسيلة.

قال بعض الشعراء :

عجوز تمنّت أن تكون فتية

وقد شاب منها الرأس واحدودب الظهر

فمرّت على العطّار يصلح شأنها

فهل يصلح العطّار ما أفسد الدهر

(يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)

هذه التحولات التي تجري على الإنسان تكشف عن قدرة الله وعلمه سبحانه. ان أعظم آية على قدرة الرب انه يقلب الإنسان من حال إلى حال ، في إطار تقدير حكيم ، وتدبير رشيد ، حتى يعرف انه القادر المهيمن العليم الحكيم ، جاء في دعاء الامام الحسين (ع):

«إلهي علمت باختلاف الآثار ، وتنقّلات الأطوار أنّ مرادك مني أن تتعرف

__________________

(١) مفاتيح الجنان / ص (٢٧١).

١٠٤

اليّ في كل شيء ، حتى لا أجهلك في شيء» (٢)

(٥٥) لا يتوقع المجرم امتثاله للمحاكمة ، وتراه يسوّف في نفسه الجزاء ، ويتمنّى لو أنّه لا يأتيه أبدا ، ولكن المكتوب عند الله غير ذلك تماما ، فكل يوم يمر يقرّبه إلى يوم الجزاء خطوة وما دامت الساعة آتية ، وما دمنا امتطينا صهوة الأجل ، فلا بد أن نلتقي يوما وإياها.

ولهول المفاجئة يحلف المجرم إنّما لبث ساعة واحدة ، وهي اللحظة العابرة من الوقت ، وهكذا تتلاشى المسافة آنئذ بين لحظة الذنب ولحظة الحساب ، وفعلا ما هي قيمة أيّام الدنيا بالقياس إلى الخلود ، بل ما وزن اللحظات العابرة التي يقضيها المجرم مع شهواته بالأحقاب التي يلبثها عند الجزاء.

وهكذا يحلف المجرم بأنه ما لبث غير ساعة ، ولعلّه صادق بالقياس إلى الموازين التي اختلقها بنفسه فيما يرتبط بالعقاب ، فهو كان يزعم انه لا يأتيه أبدا ، أو إذا كان يأتيه فهو بعيد ، وبعيد جدا في زعمه ، وهكذا كذب على نفسه ، وصرف ذاته عن الحقيقة بهذا التسويف وتلك التمنيات.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ)

بأهوالها ، وصعقة مفاجئتها ، وعظيم وقعها في السموات والأرض ، يومئذ ..

(يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ)

وهم الذين ارتكبوا الموبقات ظانين ألّا جزاء ينتظرهم.

__________________

(٢) المصدر / ص (٢٧٢).

١٠٥

(ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ)

حتى كأنهم يواجهون الجزاء فور الانتهاء من الجريمة.

ولو أننا ننتبه إلى مدى سرعة طيّ الزمن ، ومدى اقتراب الأجل ، وكيف أنّ العقاب أقرب بكثير مما نتصور ، وأنّ المسافة التي نتخيلها تفصل بيننا وبين الجزاء ليست إلّا وهما ، إذا لارعوينا.

هكذا يقول المؤمنون في دعائهم لربهم :

«ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته»

ويقولون :

«اللهم عظم بلائي ، وأفرط بي سوء حالي ، وقصرت بي أعمالي ، وقعدت بي أغلالي ، وحبسني عن نفعي بعد املي ، وخدعتني الدنيا بغرورها ، ونفسي بجنايتها ، ومطالي يا سيدي» (٣)

ويقول الامام أمير المؤمنين (ع):

«أيّها الناس إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان : اتباع الهوى ، وطول الأمل ، فاما اتباع الهوى فيصدّ عن الحق ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة» (٤)

(كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ)

__________________

(٣) رائعة من دعاء الكميل للإمام علي (ع) / مفاتيح الجنان / ص (٦٣).

(٤) نهج البلاغة / الخطبة (٤٢) / ص (٨٣).

١٠٦

ويصرفون عن الحق ، ويزعمون أنّ الجزاء بعيد ، أو أنه لا يأتي أبدا ، والسؤال :

من الذي يصرفهم عن الحق؟ الجواب : قد يكون الشيطان أو المجتمع الفاسد أو هوى النفس ، وبالتالي أنّى كان عامل الضلالة فإنّهم لا يمكنهم أن يغيّروا الواقع بتمنياتهم الحلوة ، كلّا .. الجزاء آت ، وسوف يقولون عنده أنهم لم يلبثوا غير ساعة.

ولعلّ كلمة «كذلك» هنا توحي بأنّ ضلالتهم في معرفة مدة لبثهم تشبه ضلالتهم في إبعاد فكرة الجزاء عن أذهانهم.

ومن هنا ينبغي أن يتضرع الإنسان إلى ربّه ألّا ينسيه الآخرة ، وأن يقصر أمله بحسن العمل.

(٥٦) أمّا المؤمنون فإنّهم على يقين من الآخرة ، ويحذرون الحساب ، ويشفقون من الساعة ، ويسعون دائبين لاتقاء عذاب ربهم ، فلذلك لا تفاجأهم الساعة ، أو ليسوا قد أعدّوا عدّتها ، وتزودوا لرحلتهم إليها الزاد الأوفى؟

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ)

لعل العلم هنا هو علم الساعة ، بدليل قوله سبحانه في آخر هذه الآية : (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أمّا الإيمان فهو التصديق لما يقتضيه العلم بالقول الصادق والعمل الصالح.

(لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ)

ليس المهم المدة التي لبثتم خلالها ، طالت أم قصرت ، المهم انكم بالتالي واجهتم ما هربتم منه بزعمكم.

ولعل التعبير ب «فِي كِتابِ اللهِ» يشبه ما نقوله : (في الواقع) أي انه بعكس

١٠٧

تمنياتكم بألا تأتي الساعة أو أن تطول المسافة بينكم وبينها لم يقع ما هوت أنفسكم ، بل وقع ما أراد الله ، وما أثبته في كتابه الذي هو مقياس الحق ، وليس أهواءكم وتمنياتكم وما تشتهيه أنفسكم.

إنّ أهم ما ينبغي أن يعرفه الإنسان أنّ العالم المحيط به لا يتبع اهواءه ، ولا يمشي حسب أحلامه ، بل حسب ما كتب الله.

(فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ)

الذي أنكرتموه ولم يجدكم انكاركم له نفعا ، بلى. إنّ إنكاركم أفرز نتيجة واحدة هي جهلكم وعدم استعدادكم.

(وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)

ونستوحي من هاتين الآيتين : أنّ الكافر لا يعيش الزمن ، ولا يعترف بالنهاية ، ولا يحترم وقته الذي يسوّفه إلى تلك النهاية الفظيعة ، بينما المؤمن يعي حقيقة الزمن التي هي فرصته الوحيدة ، ويتحسّس بمرورها ، فلا يدع ساعة من وقته دون ان يملأها عطاء ليتزود به ليوم فاقته «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

بلى. إنّ منطق المؤمن من الزمن يجسده الامام زين العابدين علي بن الحسين (ع) حين يناجي ربه قائلا :

«وأعني بالبكاء على نفسي ، فقد أفنيت بالتسويف والآمال عمري ، وقد نزلت منزلة الآيسين من خيري»

ثم يضيف ضارعا :

١٠٨

«ومالي لا ابكي ولا ادري الى ما يكون مصيري ، وأرى نفسي تخاد عني وأيامي تخاتلني وقد خففت عند رأسي أجنحة الموت»

ثم يصوّر نفسه الساعات الرهيبة التي تنتظره لكي يتزود لها ويقول :

«فمالي لا أبكي ، أبكي لخروج نفسي ، أبكي لظلمة قبري ، أبكي لضيق لحدي ، أبكي لسؤال منكر ونكير اياي»

ويبلغ ذروة ضراعته عند تذكّر أهوال الساعة فيقول :

«أبكي لخروجي من قبري عريانا ذليلا ، حاملا ثقلي على ظهري ، أنظر مرة عن يميني ، وأخرى عن شمالي ، إذ الخلائق في شأن غير شأني ، لكلّ امرء منهم يومئذ شأن يغنيه ، وجوه يومئذ مسفرة ، ضاحكة مستبشرة ، ووجوه يومئذ عليها غبرة ، ترهقها قترة وذلة» (٥)

(٥٧) لعلّ الشيطان يسوّل للعاصي فعل المحرمات بأنّ الآخرة مثل الدنيا ، إذا ارتكب جريمة تنصل عنها ، واعتذر ، فتقبل معذرته ، يقول ربنا لعلاج هذا الوسواس :

(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ)

وأساسا إنّ ذلك اليوم هو يوم الجزاء ، لذلك لا يطالب الظالمون بالتوبة ، لأنّ فرصتهم قد انتهت.

(وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)

__________________

(٥) روائع من دعاء أبي حمزة الثمالي / مفاتيح الجنان / ص (١٩٣).

١٠٩

(٥٨) (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)

يبيّن القرآن لنا من كل حقيقة في الخلق أو في النفس جزءا لنستدل به على الحقيقة كلها ، ولكن كل تلك الحقائق لا تنفع الكافرين رغم وجود آيات الصدق عليها.

(وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ)

لماذا ينكر هؤلاء أبدا الحق؟ وما هي عوامل الإنكار عندهم؟ الجواب : لأنهم بظلمهم فقدوا القدرة على الفهم.

(٥٩) (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)

لأنهم تركوا العلم والإيمان بالرسالة إلى الجهل والعناد ، وعند ما يترك الإنسان علمه الى جهله يتحوّل قلبه إلى صندوق مقفل ، ومختوم عليه.

(٦٠) كان ذلك موقف الذين كفروا ، أمّا موقف المؤمن فهو الصبر ، وانتظار الفرج ، ولان الله آل على نفسه أن ينصر عباده الصالحين.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)

وهذه إشارة الى النبي (ص) ان يستمر على عمله ، ولا يتأثر بما يقوله الذين لا يوقنون.

١١٠

سورة لقمان

١١١
١١٢

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

روي عن الامام الباقر (ع) انه قال :

«من قرأ سورة لقمان في ليلة وكلّ الله به في ليلته ملائكة يحفظونه من إبليس وجنوده حتى يصبح ، فاذا قرأها بالنهار لم يزالوا يحفظونه من إبليس وجنوده حتى يمسى»

(١) نور الثقلين / ج (٤) / ص (١٩٣).

١١٣
١١٤

الإطار العام

الاسم :

لم يكن لقمان نبيا ولكنه كان رجلا حكيما ، وكانت حكمته الهية ، وقد خلدها الذكر الحكيم في آياته لتكون نبراسا وهدى ، وسمّى السورة باسمه ليضرب مثلا من واقع عبد شكر الله فشكره الله ، وآتاه الحكمة بفضله.

جملة معارف سورة لقمان التّنويه بحكمة الله التي تجلت في الكتاب وتتجلى في قلوب المحسنين ولا ينتفع بها المستكبرون.

ولقد آتاها ربنا لقمان ، ولخصها في كلمة هي شكر الله ، وفصلها لقمان لابنه في عشر وصايا تنبعث من الشكر. أولها معرفة الخالق وآخرها عدم التكبر على المخلوقين.

وتبين السورة بتفصيل آيات الله التي تهدي الى توحيده ، وتوحيد الله هو حدود شكر عباده ، اي لا يجوز ان يطيع الفرد والديه إذا أمراه بالشرك بالله.

١١٥

وضمن هذا الإطار تنتظم موضوعات سورة لقمان وفيما يلي بعض التفصيل :

الف : ان حكمة الكتاب تنفع المحسنين فتكون لهم هدى ورحمة ، وهم الذين يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويوقنون بالآخرة ، فهم أصحاب الهداية والفلاح ، بينما هنا لك أناس يشترون بأعمارهم وأموالهم لهو الحديث ، من أفكار باطلة ، وممارسات ما جنة كالغناء ، وهدفهم الضلالة عن سبيل الله ، ويحذر القرآن بأن لهذه الطائفة عذابا مهينا.

بينما أعد ربنا للصالحين جنات النعيم. أو ليس ربنا حكيما ، يعطي كل فريق جزاءه العادل وهو القوي العزيز؟! ولكي نعرف حكمة الله وبالتالي نشكره ليرزقنا من حكمته يذكرنا السياق بخلق السموات بغير عمد يرى ، ووضع الجبال في مراسيها لتحافظ على استقرار الأرض ، وخلق كل دابة (ممكنة التصور) ورزقها عبر النبات الذي ينبته في الأرض بالغيث ، ويجعله زوجا كريما (بحكمته البالغة) هذا ما خلقه الله ، وهكذا خلقه ، فما ذا خلق الشركاء. كلا .. ان الظالمين في ضلال مبين (١).

ويعود السياق لبيان آيات الله (٢٠) بعد ان يذكرنا بمفردات الحكمة التي آتاها لقمان ولخصها في كلمة واحدة (شكر الله) ذلك لأن شكر الله لا يتم الا بمعرفته ومعرفة آلائه ونعمائه علينا ، وأول ما يذكره ان الشكر لله يعود الى نفس الشاكر ، لان الله غنيّ حميد ، ثم يذكر بأن شرط الشكر اجتناب الشرك ، وينبغي أن يشكر الإنسان والديه ولكن في حدود شكر الله ، فاذا أمراه بالشرك فلا يجوز إطاعتهما.

ولا بد ان يعرف الإنسان انه مسئول عن أعماله ، وأنه حتى لو كان العمل بوزن

١١٦

خردلة أتى الله به انى كان (وهكذا تعود الى الإنسان أعماله).

ومن مفردات الشكر وبالتالي الحكمة اقامة الصلاة ، والأمر المعروف ، والنهي عن المنكر ، والصبر ، ومن مفرداته المشي هونا ، وعدم المشي مرحا ، واجتناب الاختيال والفخر ، والقصد في المشي ، والغض من الصوت (١٢).

ثم يذكرنا السياق بنعم الله علينا والتي تستدعي الشكر. أو ليس كل شيء نقدر عليه فانما سخره الله لنا ، وأسبغ النعم ظاهرة وباطنة ، بينما نجد البعض يجادل في الله بغير أثارة من علم أو هدى أو كتاب منير.

وهم يتبعون آباءهم الذين اتبعوا الشيطان ، وأكد ربنا ان الخوف من الآباء لا أساس له ، لان التسليم لله وحده ، والإحسان الى العباد يجعل العبد مصونا من الأشرار ، لأنه العروة الوثقى ، ولأن لله عاقبة الأمور.

أما الكفار فإنهم لا يحزنون المؤمنين لأن عاقبتهم الى الله الّذي يجازيهم ، بلى. يمتعهم في الدنيا قليلا (دون ان يدل ذلك على قربهم الى الله) ثم يضطرهم الى عذاب غليظ.

ويذكر السياق بعشر أسماء حسنى لرب العالمين مع تقديم شواهد حقّ عليها ، لترسيخ قواعد الايمان في قلوبهم ، فالله هو الخالق الّذي لا ينكر أحد ذلك ، وهو الغني الحميد ، فله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم الّذي لا تحصى كلماته وهو السميع البصير.

وهو الخبير الّذي يولج الليل في النهار ، والنهار في الليل ، وقد سخر الشمس والقمر وأجراهما في المسير المحدد لهما.

١١٧

وهو الحق الّذي لا يزال ملكه ، بينما يبطل ما يدعون من دونه وهو العلي الكبير.

والله يهدي الناس عبر آياته ، ولكن الذين يعيشون الصبر والشكر يهتدون بها ، ويعرض ربنا سبحانه الناس لبعض الساعات الحرجة ليتضرعوا اليه ، ولكنهم بعدها ينقسمون فريقين فمنهم مقتصد ومنهم جاحد ، والجاحد هو كل ختار كفور ، وهو الّذي لا يفي بوعده ولا يشكر نعماء ربه.

ويحذر ربنا الناس من يوم القيامة حين لا تنفع العلاقات النسبية الحميمة ، ويؤكد لهم ان وعده حق ، فلا تغرنهم الدنيا وأهلها (وبذلك يلخص الرب التحذير من عوامل الانحراف).

وفي الخاتمة يذكرنا بعلمه المحيط وقدرته الواسعة.

١١٨

سورة لقمان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨)

___________________

٦ [لهو الحديث] : الباطل الملهي عن الخير.

٧ [وقرا] : الوقر الحمل الثقيل ، أي كان في مسامعه حمل ثقيل يمنعه عن الاستماع ، حتى يهتدي.

١١٩

خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١)

___________________

١٠ [أن تميد بكم] : لئلا تضطرب بكم.

١٢٠