من هدى القرآن - ج ١٠

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-0
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٤

وَما يَعْرُجُ فِيها)

فالله محيط بكل شيء خبرا ، وجاء في تفسير الآية عن علي بن إبراهيم : «يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ» ما يدخل فيها «وَما يَخْرُجُ مِنْها» قال : من النبات «وَما يَعْرُجُ فِيها» قال : من أعمال العباد (٢) ولكن الله لا يتخذ علمه وسيلة ليضار بها البشر ، بل هو رحيم بهم ، وبعلمه يرحمهم ، وإذا علم منهم ذنبا فإنّه يغفره لهم.

(وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ)

روى أبو بصير عن الإمام الصادق عليه السلام انه قال :

«لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض التفت فرأى رجلا يزني ، فدعا عليه فمات ، ثم رأى آخر فدعا عليه فمات ، ثم رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا ، فأوحى الله اليه يا إبراهيم إنّ دعوتك مستجابة فلا تدع على عبادي فإني لو شئت لم أخلقهم» (٣)

(٣) وإذ يذكرنا القرآن بأسماء ربنا الحسنى ـ وانه حكيم خبير وعليم ـ فلكي ينعكس ذلك على وعينا وسلوكنا. أو ليس ربّنا حكيما ، إذا لا بدّ من يوم الجزاء ، وإنّما يكفر البعض بالساعة تهرّبا من حقيقة الجزاء.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ)

وهكذا بهذه البساطة أرادوا التملّص من ثقل المسؤولية ، بيد أنّ ربنا الجبار قال لهم كلمته التي لا تبديل لها :

__________________

(٢) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٣١٤).

(٣) المصدر / ج (١) / ص (٧٣٢).

٤٢١

(بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ)

وحين تعرضون أمام ربكم تعرفون أنّ كتاب ربكم قد احتوى كل صغيرة وكبيرة من أعمالكم.

(عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)

(٤) ويبين القرآن الهدف من الساعة ، وبالتالي الهدف من التذكرة بالرقابة الالهية على العباد ، الا وهو إثبات تحقيق العدل الشامل ، الأمر الذي يستوجب الحساب الحق .. الذي لا يغفل عن أيّ شيء يصدر من البشر مهما كان صغيرا.

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)

فما دامت مسيرة المؤمن العامة هي الصلاح ، فإنّ ما يشوبها من ذنوب بسبب غفلته ، يفتديها الله بغفرانه ، كما يثيبه على إيمانه وعمله الصالح بألوان الرزق الكريم ، الذي يصفه الحديث بما لا عين رأيت ولا اذن سمعت ولا خطر على بال بشر.

(٥) موقف المؤمن من آيات ربه هو التسليم الذي يسمو به الى درجة رؤية الحق مباشرة ، بينما موقف الكافر الرفض ، ولكن كيف يرفض البشر المزوّد بالعقل الحقيقة التي تترى عليها شواهد لا تحصى؟ أو تقدر العين أن تنزوي عن أشعة الشمس بسهولة؟!

كلا .. كذلك ليس من السهل أن يرفض الإنسان الحقائق الكبرى التي يذكر

٤٢٢

بها الوحي ، كحقيقة المسؤولية إلّا بصعوبات بالغة ، لذلك فهم :

أوّلا : يسعون سعيا حثيثا ـ وببالغ الجهد ـ من أجل إثبات كفرهم الباطل ، وإقامة الأدلة على ضلالتهم.

ثانيا : هدفهم من هذا السعي ليس إقناع أحد بالحقيقة ، وإنّما إسكات المؤمنين وإعجازهم بإثارة الشبهات حول الحقائق ، كلّما ردّت لهم شبهة منها أعدّوا شبهة جديدة مكانها ، فهم لا يهدفون الاقتناع بحديث الطرف الآخر ، ولا إقناعه لأنهم على باطل ، وإنّما يهدفون أن يخصموه موقتا ، لكي لا تقتحم أدلة الحقّ رحاب قلوبهم.

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ)

وآيات الله هي شواهد صدق رسالاته ، والتعبير بمعاجزين بالغ الدقة حيث ان الطرف الثاني (وهم المؤمنون) يحاولون اقناعهم أيضا ، وبالتالي محاولة إعجازهم (إيصالهم الى حد العجز عن الأدلاء بحجة جديدة) فكل طرف يحاول إعجاز الطرف الثاني ، وهذه الكلمة توضّح استراتيجية الاعلام عند الكفار القائمة فقط على أساس إسكات الخصم ، وطمس معالم الحق أمام عينيه.

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)

الرجز ـ كما قالوا ـ أشدّ العذاب ، ولعله يشير إلى ما يقابل الكريم في الآية السابقة ، وعلى هذا يكون معناه عذابا أليما فيه الذلّ والهوان ، أو ليسوا قد تكبروا ، فهم يستحقون الصغار والرجز.

(٦) ومن الناس من يعرج به اليقين درجة يرى الحقّ واضحا لا ريب فيه ،

٤٢٣

أولئك هم أولوا العلم.

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)

والعلم ـ هنا ـ ليس مجرد المعلومات التي يختزنها الذهن البشري ، ولا الألفاظ المتشابهة التي تتزاحم في ذاكرة المعاجزين من أدعياء العلم ، وإنّما هو ذلك النور الإلهي الذي يشرق على القلب فيجد الحقائق وجدانا ، ويعيها وعي دراية لا وعي رواية ، حتى

يقول أمثلهم هدى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام :

«والله لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا»

(الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ)

فهم يعلمون الحق ، ويرون ما أنزل الى الرسول ، فيعرفون أنّ ذلك الحق التام الذي لا يشوبه هوى ، ولا يخالطه باطل أو جهل هو هذا الوحي المنزل.

(وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)

والذي يؤتي العلم هو الذي يحيط به ، فيستطيع فهم القرآن ، والتمييز بين الحق والباطل ، بين الدساتير والمناهج الحديثة المضلة وبين الآيات القرآنية ، كما ميّز سحرة فرعون بين حبالهم وعصيهم التي يخيّل للناس أنّها تسعى وبين الآية الحقيقية التي جاء بها نبي الله موسى (ع).

ولعل اختيار اسمي العزيز الحميد ، من بين أسماء الله الحسنى ، جاء انسجاما مع الجو العام للسورة ، التي هي تجليات اسم الحمد ، ولأنّ الإنسان يتطلع الى العزة وحميد الخصال ، فلما رأى أولوا العلم الوحي عرفوا أنّه يحقّق ذلك الطموح.

٤٢٤

ويبدو أنّ الآيات الثلاث تبيّن ثلاثة نماذج من الناس : المسلمون أولا ثم الكفار ثم الصديقون.

٤٢٥

وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ

___________________

٩ [كسفا] : أي قطعا.

١٠ [أوّبي] التأويب الترجيع بالتسبيح ، وأوبي معه أي سبحي معه.

٤٢٦

سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢)

___________________

١١ [سابغات] : السابغ التام من اللباس.

[السرد] : سرد الحديد نظمه ، والسرد هو نسج الدرع ، مأخوذ من سرد في الكلام إذا تابع بعض جمله بعضا ، وقدّر في السرد أي أحكم صنعتك في نسج الدروع ، فلا تكون حلقة في الدرع وسيعة والأخرى ضيقة بل متشابهة ومتساوية.

١٢ [غدوّها] : حركة الريح في الغدوة وهي الصباح الى نصف النهار.

[رواحها] : جريها مساء من العصر حتى الليل.

[عين القطر] : عين النحاس ، والمراد بالعين معدنه حتى يتمكن من استعماله في الظروف والأواني ويصنع به كيف يشاء.

[يزغ] : ينحرف ويميل.

٤٢٧

يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣)

___________________

١٣ [محاريب] : جمع محراب ، والمحراب هو محل العبادة والصلاة ، ولعل المراد بها المساجد ، وانما سمّي محرابا لأنه محل المحاربة مع الشيطان والنفس.

[تماثيل] : جمع تمثال ، وهو الشيء المصنوع من معدن أو طين أو حجر أو خشب ، كتماثيل القصور والأشجار والأنهار وغيرها ، وقال صاحب المجمع أنها تماثيل الحيوانات لأنها لم تكن محظورة في ذلك الوقت.

[جفان كالجواب] : الجفان هي القصاع وظروف الأكل ، والجواب جمع جابية وهي الحوض العظيم يجبى فيه الماء.

[قدور راسيات] : جمع قدر وهو ما يطبخ فيه الطعام ، وراسيات جمع راسية بمعنى الثابتة في الأرض ، الكبير الذي يراد دوام الطبخ فيه يبنى في الأرض حتى لا يزول ولا يتحرك.

٤٢٨

اعملوا آل داود شكرا

هدى من الآيات :

استلهاما من اسمي الحميد العزيز لربنا عز وجل ، وانطلاقا من الحديث عن البعث والنشور ، وبيانا لبعض الشبهات التي يبثّها المشركون إنكارا للمعاد يحدثنا هذا الدرس ـ من بدايته ـ عن استنكارهم الظاهر لحقيقة النشور بعد الموت والتمزّق.

إنّ الكثير من الذين ينكرون الحقائق إنّما ينكرونها لأنّها أكبر من أفقهم وتفكيرهم الضيقين ، وهذه من مشاكل البشر المعقّدة ، إنّهم يكفرون بكل ما لم يصل اليه علمهم وعقلهم ، ولكنّ الله يضرب لهؤلاء فكرة البعث فيقول : صحيح ان ذلك من المستحيلات بالقياس الى القدرة البشرية ، ولكنه ممكن عند الله الذي يجمع الزمان والأعضاء ليعيد الخلق من جديد. وحتى يكون هذا الحديث مقبولا من الناحية المنطقية والفطرية ، يدعو ربنا هؤلاء الى التفكّر في الآيات من حولهم ، لأنها من مظاهر القدرة لربنا الحميد.

٤٢٩

ولعل لهذا التأكيد المتكرّر في القرآن على ضرورة التفكّر في آيات الله فائدة مهمة هي : إرساء قاعدة صلبة للبحث العلميّ الرصين عند الإنسان الذي اعتاد ـ ومن أول يوم عملت حواسه ـ على هذه الآيات ، وألفها حتى أصبحت لا تثير انتباهه ، لكنّه لو نظر إليها وكأنّها جديدة وبقلب متفتّح ، وعقل منير ، لازداد علما ، وتوسع أفقه ، مما يجعله أقدر على استيعاب الحقائق وتفهمها.

ثم يضرب القرآن لنا مثلا من حياة داود وابنه سليمان على نبيّنا وآله وعليهما السلام حيث ان قصصهما تجليات لاسمي العزيز الحميد.

فقد بلغ داود من الملك والسيطرة مبلغا عظيما ، حتى شملت هيمنته الطبيعة فكانت الجبال والطيور تسبّح معه ، والحديد طوع يده يصوغه كيف يشاء ، اما سليمان فقد ورث ملك والده ، وزاده الله عليه ملكا ، وهذه القصص والأمثال تفتح أمام البشر آفاقا ، وتدعوهم الى السير فيها والوصول الى أبعادها ، فقصة داود توحي بإمكانية تسخير الطير والحديد لخدمة الحضارة الإنسانية ، وقصة سليمان تشير الى إمكانية الاستفادة من الريح.

بينات من الآيات :

(٧) (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا)

وهم يستهزءون ، ويحاولون الانتقاص من الرسول والرسالة.

(هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ)

أي تفرقت أعضاؤكم ، وتمزّقت بددا.

(إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)

٤٣٠

(٨) ثم يتساءلون بحيرتهم.

(أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً)

هل ما يدعيه افتراء على الله؟! ثم عادوا الى وجدانهم فعرفوا أنّ الرسول لا يمكن ان يفتري على ربه الكذب ، وهو الصادق الأمين ، وقد بيّن بوضوح العقاب الذي ينتظر الذين يفترون على الله الكذب ، ثم إنّه أوّل المصدقين بالبعث ، والعاملين بما يستوجبه هذا التصديق. ألا يرون كيف يكاد يشقي نفسه بالعبادة حتى نزلت عليه الآية : (طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى)؟! لذلك تراهم عادوا وأكّدوا انه ليس مفتريا ، ثم إنّهم بكفرهم قالوا فيه قولا كبيرا ، لأنّهم كانوا من المعاجزين الذين يعملون بجهدهم على مقاومة القرآن ، قالوا :

(أَمْ بِهِ جِنَّةٌ)

وهي الجنون ، ويجيب القرآن على هذه التساؤلات بأن المشكلة ليست في الحقائق التي يبينها الرسول ، ولا في أسلوبه ، حتى يتهم بالكذب تارة ، وبالجنون أخرى ، إنّما المشكلة في الكفّار أنفسهم ، ومشكلتهم هي ضيق الأفق فلا يستوعبون النشور بعد الموت ، والسبب كفرهم وعدم اتباعهم المنهج السليم الذي يقودهم إلى الحقائق.

(بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ)

قالوا : إنّ العذاب هنا يقابل افتراءهم على رسولهم بالكذب ، بينما الضلال يقابل نسبة الجنون عليه. (١)

__________________

(١) الرازي ـ التفسير الكبير.

٤٣١

ويبدو لي أنّ السياق يؤكد على أنّ السبب في كفر هؤلاء بالرسول يكمن في كفرهم بالآخرة الذي يجعلهم يواجهون الحقائق دائما فيعيشون العذاب. أرأيت كيف يعاني من يعارض حكومة قاهرة ، كيف يحيط به العذاب ، كذلك الذين لا يؤمنون بالآخرة يضطرون مخالفة حقائق الخليقة.

ومن جهة ثانية أنهم يعيشون في حالة من الضلال البعيد جدا عن الهدى ، وآية ذلك أنّهم ينسبون من يهديهم إلى الحقائق والى سبيل سعادتهم إلى الجنون ، فهل تترقب لمثل هؤلاء هدى؟

ونستوحي من الآية انه لا يضل الإنسان عن أهدافه وعن الحقائق ، إلّا عند ما يكون الطريق الذي يختاره خاطئا ، وهؤلاء حين كفروا بالبعث وقعوا في الانحراف الكبير.

(٩) وحتى يتسع أفقهم ، ويهتدوا لصحة الحقائق ، وما يقوله الرسول ، يدعوهم القرآن للنظر في آيات الكون العظيمة والتفكر فيها ، لأنها علامات وشواهد على قدرة الله. كما أنه ينذرهم بأنّ استرسالهم في الضلالة قد يعرضهم لعذاب شامل من نوع عذاب القرون الغابرة ، كان يخسف الله بهم الأرض أو يسقط عليهم من السماء شهبا.

(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ)

ويبين لنا ربنا حقيقة هامة هي : إنّ الكون المحيط بنا قائم بالله ، وتهيمن عليه وتدبر شؤونه قدرته القاهرة ، كما تشير الآية الى بعض الحقائق العلمية ، فقد جعل الله الأرض في موقع معيّن ، وضمن نظام دقيق بحيث تحافظ على اتزانها ، وتمكّن

٤٣٢

الخلق من العيش عليها ، وأنشأ حجابا واقيا بين الأرض والسماء ، هو الغلاف الجوي الذي يمنع سقوط النيازك والشهب من السماء على الأرض.

ولكن من الذي يكشف هذا النظام المحكم وما وراءه من عظمة الرب؟

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)

إنّ الآيات وحدها لا تهدي الإنسان الى الحقيقة كلها ، فقد يؤمن بها ويتبعها الفرد فتأخذ بيده الى الهدف ، وقد يراها ولكنه يكفر بخلفياتها وما تشير اليه فلا تنفعه ، والقرآن يقول بأنّ الآيات المبثوثة في الكون تهدي الى الحقيقة ، ولكن على شرط ان يكون المتفكر فيها عبدا مسلّما لله ، فالعبودية والإنابة اذن شرطان للاستفادة من الآيات.

إنّ من مشاكل الإنسان انه حينما يسير في ركاب العلم ، وتنكشف له الحقائق ، وتتضح أمامه الألغاز المهمة في الحياة ، فإنّه لا ينظر الى خلفياتها إنّما ينظر إليها بذاتها ، فهو حينما يكتشف مكوّنات الذرة وهي النواة والإلكترون والبروتون ، ثم يجد أنّ كل عناصر الحياة المادية ومكوّناتها ، تعتمد نفس النظام وهو الذرة ، مع اختلاف التركيب ، لا يهتدي من خلال ذلك الى حقيقة التوحيد ، وان اليد التي خلقت الذرة هي التي خلقت المجرة.

وفكرة أخيرة نستوحيها من الآية الكريمة هي : إنّنا عند ما نتعمّق في فهمنا للآية نجد أنّ القرآن يربط بين فهم الحياة وتزكية النفس ، فكأن الذين لا يتصفون بالإنابة الى ربهم لا يفهمون الحياة فهما حقيقيا.

(١٠) وكما أن لأسماء الله تجليات في الطبيعة ، فإنّ لها تجليات أخرى في تاريخ البشر ، ولعل هذه هي علاقة السياق بين الحديث عن الطبيعة وبيان جانب

٤٣٣

من قصة داود وسليمان عليهما السلام.

وهناك صلة أخرى بين الموضوعين في السياق هي : إنّ الآية السابقة تنذر الكفّار بينما تبشر هذه الآية المؤمنين من خلال قصة داود الذي آتاه ربنا فضلا حين أناب إليه.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً)

وهذا الفضل مظهر لاسم الحمد الإلهي ، حيث خص الله نبيّه داود بأمور من دون الآخرين ، وكانت هذه الأمور من أركان وخصائص الحضارة التي بناها (ع).

قال تعالى :

(يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)

فكلاهما كان خاضعا لداود ، وسخّر له.

(وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)

وكان لتسخير الحديد هدف يشير له القرآن في الآية اللاحقة :

(١١) (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ)

لقد أمر الله داود (ع) بصناعة الدروع السابغة (أي الواسعة) حتى يلبسها المقاتل من غير تعب ، كما أمره بالإتقان في حياكتها ، حتى تكون حلقاتها منتظمة ومتساوية تؤدي كلّ واحدة دورها المحدّد ، ولعل الآية تشير إلى ضرورة الإتقان في العمل ، ولا سيما في الصناعة ، ولكن الصناعة المتقنة كأيّ تقدّم حضاري آخر يجب أن تكون بهدف حكيم هو العمل الصالح.

٤٣٤

(وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)

ونستوحي من الآية أنّ الله الذي سخّر لداود كلّ هذه الأمور ، لم يرتض منه أن تكون بديلا عن السعي والعمل الشخصي ، لأنّ قيمة الإنسان تكمن في سعيه وعمله.

وفي الحديث أن أمير المؤمنين (ع) قال :

«أوحى الله عزّ وجلّ الى داود (ع) انك نعم العبد ، لو لا انك تأكل من بيت المال ، ولا تعمل بيدك شيئا ، قال : فبكى داود (ع) أربعين صباحا ، فأوحى الله عز وجل إلى الحديد أن لن لعبدي داود ، فألان الله عز وجل له الحديد ، فكان يعمل في كل يوم درعا فيبيعها بألف درهم ، فعمل ثلاثمائة وستين درعا ، فباعها بثلاثمائة وستين الف واستغنى عن بيت المال» (٢)

كما نستوحي أنّ شكر نعم الله وحمده عليها يكون بالاستفادة منها في سبيل الخير والصلاح.

(١٢) ثم يضرب الله لنا مثلا آخر من حياة نبيّه سليمان (ع) فيقول :

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ)

قال علي بن إبراهيم : «كانت الريح تحمل كرسي سليمان فتسير به في الغداة مسيرة شهر وبالعشي مسيرة شهر» (٣)

وإذا عرفنا ان مسيرة الشهر تضاهي (٧٢٠) كيلومتر نعرف ان السرعة تقترب

__________________

(٢) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٣١٨).

(٣) المصدر / ص (٣١٨).

٤٣٥

من سرعة الطائرة اليوم خلال الساعة الواحدة.

(وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ)

يعني الرصاص والنحاس.

(وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ)

وتدلّنا هذه الآية على أمرين :

الأول : إنّ الجن ليسوا كما تزعم الأساطير أقوى من البشر ، بل الإنسان قادر على تسخيرهم بإذن الله.

الثاني : إنّه يمكن للإنسان أن يبلغ من التطوّر والتكامل الصناعي والمعنوي الى درجة يسخّر الأرواح ـ كالجن ـ في صالحه.

(١٣) ويبين لنا الله جانبا من أدوار الجن في حضارة سليمان (ع) إذ يقول :

(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ)

وهي أماكن الصلاة التي تتقدم بيت العبادة.

(وَتَماثِيلَ)

أي المجسّمات التي تماثل الخلق الطبيعي في ظاهرها.

(وَجِفانٍ كَالْجَوابِ)

٤٣٦

والجفان الأواني التي يقدم فيها الطعام ، وقد وصفها الله لعظمتها وسعتها بالحفر أو الأحواض ، لأنّ سليمان ما كان يقدر على إطعام جيشه في أوان صغيرة لكثرتهم. (٤)

(وَقُدُورٍ راسِياتٍ)

والراسية هي الثابتة ، مما يدل على ان لسليمان قدورا ثابتة ، وأخرى متحركة كان يحتاجها عند حركته وتنقله.

(اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)

إنّ أهمّ عبرة في هذه الآيات الكريمة هي ضرورة الشكر العملي ، فقبل أن يكون بيد الإنسان الفضل والخير الالهي ربما يكون مقبولا منه الشكر القولي وحده ، أمّا بعده فيجب ان يتحول هذا الشكر الى برنامج عملي ونعني بذلك ثلاثة أمور :

الاول : العمل الصالح ، كما قال ربنا لنبيّه داود : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) فعلى سبيل المثال يكون الشكر العملي للمال الإنفاق في سبيل الله ، والتصدّق على الفقراء ، وإقامة المشاريع الاسلامية ، وبالتالي استخدام هذه النعمة في أهدافها المحدّدة.

الثاني : الإبقاء والمحافظة على العوامل التي سببت الفضل والنعمة ، فالعالم إنّما أصبح عالما بسبب الدراسة والقراءة والتفكير والعمل ، فشكر العلم هو المحافظة على هذه العوامل ، لأنها تحفظ العلم وتزيده.

الثالث : الوصول بالنعمة الى غايتها وهدفها ، وهدف كل شيء في الحياة

__________________

(٤) راجع المجمع في تفسير الآية.

٤٣٧

وسيلة لهدف أكبر حتى يتصل الإنسان بهدفه الأعظم وهو الطاعة والتسليم لله ، فالمجاهد يقرأ حتى يتكلّم ، ويتكلم مع الناس لكي يهديهم ، ويهديهم حتى نتكون مجموعة رسالية ، وتتكون هذه المجموعة من أجل العمل السياسي والعسكري والثقافي الشامل ، وذلك يهدف إسقاط النظام الطاغوتي الفاسد ، لكي يقوم بدله حكم الله ، الذي يدافع عن المستضعفين ، ومن ثم يقيم حضارة إسلامية متكاملة ، وهكذا .. فالشكر العملي إذن أن ترقى من هدف لآخر أسمى منه.

٤٣٨

فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤) لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ

___________________

١٤ [دابة الأرض] : الدابة عموم ما يدب على الأرض ، والمقصود بها هنا هي الأرضة.

[منسأته] : والمنسأة العصا الكبيرة التي يسوق بها الراعي غنمه ، ولعل المقصود بها هنا الصولجان باعتبار سليمان ملكا.

١٦ [سيل العرم] : السيل العظيم الشديد ، وقيل العرم اسم للجرذ الذي ثقب السكر ، كما قيل أنه المطر الشديد.

[خمط] : كل شجر له شوك ، والمراد مرّ بشع.

[أثل] : الأثل الشجر الذي لا ثمر يؤكل له كالسمر.

٤٣٩

(١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)

٤٤٠