من هدى القرآن - ج ١٠

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-0
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٤

وقال (ع):

«طوبى لمن لم تقتله قاتلات الغرور» (٢)

(٣٦) ويعالج ربنا هذا الانحراف النفسي حينما يذكّر بأن ما في أيدي الناس من مال انما هو من عند الله لا من عند أنفسهم حتى يغتروا بها.

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ)

فتارة يزيد الله الرزق للعبد حتى يكفيه وأكثر ، وتارة يضيّق عليه فيه ، فالغنى والفقر اذن بيده عزّ وجل ، ولعل غني اليوم يكون فقيرا غدا أو العكس ، الا أن الغالبية من الناس لا يعقلون هذه الحقيقة لأنهم لا يعلمون الا ظاهر الحياة الدنيا ، فيعتقدون مثلا أن سعيهم فقط يدرّ الرزق ، ولو تعمقوا في الحياة قليلا لعرفوا أن ذلك وسيلة فقط أما السبب الحقيقي فهو رحمة الله.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)

ولعل من مشاكل البشر العقلية والنفسية انهم لا يتدرجون في تعليل ظواهر الحياة لمعرفة العلة الأسمى والأرفع ، انما يقتصرون على الأسباب الظاهرة المباشرة.

(٣٧) ثم لنفترض بأن المترفين يملكون الأموال والأولاد ، فهل ذلك يقربهم الى ربهم. كلا ..

(وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى)

بلى. من الممكن ان يكون المال والاتباع وسيلة لرضى الرب ، وذلك إذا بعث

__________________

(٢) غرر الحكم.

٤٨١

الايمان في القلب ، وتحول الى أعمال الخير والصلاح ، فعمر بالمال الحرث والنسل ، واستخدمت القوى البشرية للدفاع عن المستضعفين واحقاق الحق ، ومتى صار أصحاب المال والاتباع بهذا المستوى عظم شأنهم عند ربهم بزيادة الخير لهم في الدنيا ، وأعطاهم الجنان والأمن في الآخرة.

(إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ)

لايمانهم من جهة ، ولعلمهم من جهة أخرى ، وهذا ما يشير اليه الحديث الشريف

«شكر الغني خير من صبر الفقير»

وفي تفسير القمي قال : ذكر رجل عند أبي عبد الله (ع) الأغنياء ووقع فيهم ، فقال ابو عبد الله (ع):

«اسكت! فان الغني إذا كان وصولا لرحمه ، بارّا بإخوانه ، أضعف الله له الأجر ضعفين لان الله يقول : وذكر الآية» (٣)

أما جزاء الآخرة فهو الأمن من فزع يومئذ.

(وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ)

(٣٨) كان هذا جزاء الغنيّ حينما يستخدم قدراته المادية والبشرية في سبيل إعلاء كلمة ربه ، اما إذا كان الغنى طريقا للجحود ، ولحرب الرسالات الإلهية ، فليس جزاؤه سوى العذاب الشديد.

__________________

(٣) تفسير القمي / ج (٢) أص (٢٠٣).

٤٨٢

(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا)

وهي القرآن ، وما يتصل به من الحقائق المعنوية والمادية كالقيادات وآيات الطبيعة.

(مُعاجِزِينَ)

اي يجعلونها عاجزة عن بيان الحقيقة ، عبر إثارة الشبهات الزائفة حولها ، أو تفسيرها على غير وجهها.

(أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ)

أرادوا ذلك أو رفضوه.

وتتضمن الآية الكريمة معنيين :

المعنى الاول : ان المعاند الذي قرر الكفر بالله ، والسعي من أجل تحريف آياته ذاتها ، أو تأويل دلالاتها ، فانه حتى لو قرأ القرآن أو بحث عن الحقائق فليس للايمان بها وانما للبحث عن وسيلة لردها ومعارضتها.

المعنى الثاني : أن المنحرف يستخدم كل قوة يملكها في غير أهدافها المشروعة ، فاذا بالمال الذي هدفه تقويم النظام الاجتماعي ، وتحريك الفاعلية الاقتصادية ، يصبح وسيلة لدمار المجتمع ، وإفساد الإقتصاد ، وإذا بالسلطة التي هدفها اقامة العدل ، وبناء الحياة الفاضلة ، تصير أداة لفساد الأرض ، وهلاك الحرث والنسل (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٤)

__________________

(٤) البقرة / (٢٠٥).

٤٨٣

وإذا بالآيات التي هي وسيلة الهداية تضحى عندهم محورا للمعاجزة وللجدال العقيم ، فتزيدهم كفرا وطغيانا.

وحينما نقرأ اليوم عن اقتصاد العالم نرى كيف صارت الثروة أداة لهدم الحضارة ، فميزانيات التسلح في هذا العصر تبتلع انتاج الحضارة البشرية ، وكل التقدم العلمي والتكنلوجي لديها ، فاذا بالمترفين وحفاظا على مصالحهم ، يلقون بالقنابل المدمرة على مدينة بنتها القوى والفاعليات البشرية خلال عشرات السنين ، فتدمرها في بضع دقائق ، كما فعلت القنبلة الذرية في هيروشيما ونكزاكي ، أو كما فعلت قنابل الحلفاء في المدن الالمانية.

(٣٩) اذن فما هو الموقف السليم من الآيات والأفكار السليمة ، ومن الثروة والقوة وهما من آيات الله؟

الجواب أولا : معرفة المنعم مقدمة لشكره النظري والعملي.

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ)

فالذي يرى ان ربه هو الذي أعطاه ما يملك لا يكفر به ، ولا يحارب رسالاته ، وعباده الصالحين ، ولا يخشى من الإنفاق في سبيله ، بل يسعى لذلك إحساسا منه بالمسؤولية. أو ليس القدرات والإمكانات كما النفس امانة من عند الله؟! فلما ذا لا يردها حين يطلبها منه. بلى. سوف يعطيها راضيا مطمئنا لرزق ربه.

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)

وذلك من ناحيتين :

الناحية الغيبية :

قال رسول الله (ص) :

٤٨٤

«ومن يبسط يده بالمعروف إذا وجده يخلف الله له ما أنفق في دنياه ، ويضاعف له في آخرته» (٥)

وقال ابو عبد الله (ع):

«أن الرب ـ تبارك وتعالى ـ ينزل أمره كل ليلة جمعة الى السماء الدنيا من أول الليل ، وفي كل ليلة في الثلث الأخير ، وأمامه ملك ينادي : هل من تائب يتاب عليه؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل فيعطى سؤله؟ اللهم أعط كلّ منفق خلفا ، وكلّ ممسك تلفا ، الى أن يطلع الفجر ، فإذا طلع الفجر عاد أمر الرب ـ تبارك وتعالى ـ الى عرشه ، فيقسم أرزاق العباد» (٦)

ولعل الناحية الغيبية في خلف الرزق ومضاعفة تكمن في البركة الإلهية التي يسبغها على عبده ، وفي التوفيق الى القرارات الصائبة ، والتصرفات المالية النافعة.

الناحية الطبيعية : ان ما يدفع الإنسان للبحث عن حوائجه ومن بينها المال هو الشعور بالحاجة ، ولا شك أن المنفق سوف يسعى بقواه العقلية والمادية من أجل التعويض عما أنفقه ، عبر تحريك المال من خلال المشاريع والأعمال المختلفة.

وحتى ينفق الإنسان في سبيل الله ، لا بد ان يتعرف على كرم ربه عز وجل ، لهذا لم يكتف القرآن بذكر ما تقدم ـ من أن الله يخلف على من أنفق ـ انما أضاف.

(وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)

__________________

(٥) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٣٤٠).

(٦) المصدر / ص (٣٣٩).

٤٨٥

والأحاديث تؤكد هذه الحقيقة ، قال رسول الله (ص):

«من صدق بالخلف ، جاد بالعطية» (٧)

وقال (ص):

«من أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة» (٨)

وهل يصدق بالخلف ويوقن به الا إذا عرف أن ربه خير الرازقين.

ثم لماذا لا ينفق الإنسان ماله في سبيل الله وهو ان بقي لم ينتفع به ، وان أنفقه كان في سبيل الحق ، قال الامام الباقر (ع) للحسين ابن أيمن :

«يا حسين! أنفق وأيقن بالخلف من الله ، فانه لم يبخل عبد ولا أمة بنفقة فيما يرضي الله عز وجل الا أنفق أضعافها فيما يسخط الله» (٩)

(٤٠) هروبا من ثقل المسؤولية يتشبث البشر بأي تبرير ، ولا بد من إبطال كل تبريراته ، ليتحمل أمانته بصدق ، وما عبادتهم للأصنام أو الملائكة أو الجن إلا صورة لهذه الحقيقة ، ويفند السياق هذه العبادة عبر ذكر الحوار الذي يجري بين الرب وبين عباده المكرمين من الملائكة ، حيث يجمعهم هم والذين زعموا أنهم يعبدونهم من المشركين ، ثم يخاطب الملائكة بما يوحي : كيف رضيتم بعبادة المشركين لكم؟!

فيجيبون : أولا : نحن لا نتخذ من دونك وليّا ، وبالتالي لا نرضى بعبادة أحد

__________________

(٧) المصدر / ص (٢٣٩).

(٨) المصدر / ص (٣٤٠).

(٩) المصدر / ص (٢٤٠).

٤٨٦

لنا ، ثانيا : إذا كانت العبادة حقّا هي الطاعة فإنهم كانوا مطيعين للجن وليس لنا نحن الملائكة.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً)

المشركون ومن عبدوهم.

(ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ)

ولعل تقديم المفعول الذي يدل على الحصر يوحي بأن طبيعة العبادة لا تتجزأ ، فلو كانوا يعبدون الملائكة حقا فلا بد انهم كانوا يخلصون العبادة لهم.

(٤١) هنالك انكشف زيف ادعاء المشركين عبادتهم للملائكة إذ ...

(قالُوا سُبْحانَكَ)

لا يمكن أن نرضى بشريك لك ، فأنت الرب القدوس ، الذي لا شريك له.

(أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ)

ويبدو ان معنى «الولي» هو القريب ، فيكون مراد الملائكة : أنت الذي نتقرب إليك ، ولسنا نرضى بقرب هؤلاء الذين لا يسوى ولاؤهم لنا شيئا ، فما قيمة عبادة همج رعاع ، لا يضرون ولا ينفعون؟!

ونستوحي من هذه الإجابة : ان علينا ألّا نرضى بطاعة الناس لنا إذا كانت تسخط الرب ، فان طاعتهم لا تغني شيئا عن عذاب الرب ، وما قيمة طاعتهم إذا أسخطت ربنا الذي بيده نفعنا وضرنا وهو بكل شيء قدير؟!

ثم أشارت الملائكة إلى أن عبادة المشركين هي للجن في الواقع.

٤٨٧

(بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ)

فالعبادة هي الطاعة ، وبالطاعة تنعكس توجهات المعبود على سلوك العابد ، وبما ان سلوك المشركين المنحرف يعكس توجهات الجن فإنهم كانوا في الواقع يعبدون الجن التي هي الموجودات الغيبية التي يمكن ان تكون منحرفة ، ولذلك أمرنا الله ان نستعيذ به منهم في سورة الناس فقال : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ* مَلِكِ النَّاسِ* إِلهِ النَّاسِ* مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ).

ثم ان العبادة تعكس عادة صلة العابد بالمعبود ، وصلة هؤلاء كانت مع الجن دون الملائكة ، إذ أن الجن كانت توسوس في صدورهم ، وتدعوهم الى الضلالة.

(أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ)

فالجاهليون كانوا ينسبون الخوارق للجن ، ويقدسونها ، ولعل تغيير الصيغة من العموم الى الاكثرية جاء بسبب أن العبادة أشمل من الايمان إذا فسرناها بالتسليم والطاعة المطلقة ، فكثير أولئك الذين يعبدون السلاطين خوفا وطمعا ولا يؤمنون بهم ، ومن أبرز مظاهر العبادة بلا إيمان طاعة البسطاء للأحبار والرهبان ، واتخاذهم أربابا من دون الله ، دون ان يسجدوا لهم ، أو يؤمنوا بأنهم خالقوهم ورازقوهم.

(٤٢) وينسف القرآن الكريم أساس الشرك ، وعبادة الملائكة والجن بأن الخلائق لا تملك نفعا ، ولا تدفع ضرا من دون أمر الله وإذنه.

(فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا)

ويؤكد ربنا مسئولية الإنسان عن أفعاله دون ان يقدر الشركاء الذين يعبدون

٤٨٨

من دون الله نجاته من النار.

(وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ)

٤٨٩

وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ

٤٩٠

فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)

___________________

٥٢ [التناوش] : بمعنى التناول ، أي لا يتمكنون من تناول الإيمان المفيد لحالهم.

٤٩١

قل جاء الحق

وما يبدأ الباطل وما يعيد

هدى من الآيات :

في سياق معالجة أمراض الفؤاد ، والتبريرات التي يتشبث بها الكفار يداوي الذكر هنا مرض التقليد الأعمى ، الذي يدعو الى تكذيب الرسول ، ويسوق الحجج على صدق الرسالات :

أولا : بان القوم جاهليون ، ولا رسالة إلهية لهم من قبل حتى يفتخروا بها ، ولا رسول نذير.

ثانيا : ان الله أهلك القرون الغابرة بتكذيبهم ، وقد كانوا أشد منهم قوة ، وما بلغ هؤلاء معشار ما بلغه أولئك.

ثالثا : ليقوموا لله مثنى وفرادى ، ثم يعودوا الى ضمائرهم ويتساءلوا في أنفسهم : هل صحيح ما يتهمون به رسولهم من الجنون ، أفلا يعرفون ان صفاته صفات من ينذرهم بعذاب شديد وليس صفات مجنون حاشاه؟!

٤٩٢

رابعا : ان ما نسبوه اليه من الكذب ينفيه شدة إخلاصه لرسالته ، وانه لا يطالبهم بأجر ، بل كل ما يبتغيه هو خير لهم ، وان يشهد ربه على أفعاله.

خامسا : انه يذكر أبدا بالحق ، وان الحقّ باق ، ويقذفه الله على الباطل فيدمغه ، وانه إذا جاء الحق زهق الباطل ، وهذا أكبر شهادة على صدق رسالات الله ، حيث انها حق ، وأن الله ينصرها.

وتشير الآيات الى ان الهدى من الله ، وان الرسول يهتدي بهدى الله ، وان عاقبة الضلالة تعود الى صاحبها.

سادسا : يحذرهم عذاب الله الذي أعده للكافرين برسالاته حين يؤخذون فزعين ، لا يفوت أحد منهم هربا ، بل يؤخذون من مكان قريب.

وحينذاك قالوا : آمنا ، ولكن كيف يؤمنون هنالك ولا ينفعهم الايمان الا في الدنيا؟! ويكون مثلهم مثل من يريد التناوش من مكان بعيد. أو ليسوا قد كفروا به من قبل يوم كانت الفرصة متاحة؟!

وهكذا لا يبلغون مناهم كما لم يبلغ الأولون أمانيهم لأنهم كانوا في شكّ مريب.

بينات من الآيات :

(٤٣) يخلط أعداء الرسالة أمرها عادة وأمر صاحبها ، فاذا بهم يتركون الحديث عنها وعن الآيات الواضحة التي تتلى عليهم ويحاولون النيل من رسولهم (مبلغها إليهم).

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ

٤٩٣

يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ)

فهم يريدون أولا إسقاط شخصية الرسول (ص) في المجتمع ، حتى يتسنى لهم رفض أفكاره ، وذلك عن طريق إثارة العصبيات الجاهلية ، وأنهم لو أفلحوا في ذلك لأوجدوا هدفهم وهو العداء بين المجتمع وبين الرسول ، بحيث يتخذ المجتمع موقفا مسبّقا تجاه كل ما يصدر عنه من الأفكار ، وكان هذا وراء كفرهم ، الّا أنهم برّروا كفرهم بأن اتهموا الرسول (ص).

(قالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً)

حتى لا يسلّم الناس مباشرة للرسالة ، ثم يقوموا بإعطاء المقاييس الخاطئة التي تنتهي الى نتيجة من جنسها ، ولهذا أسموا الرسالة بالإفك المفترى وهو الكذب المحبوك ، ولما اكتشفوا ان الكذب هو ما يخالف الحقيقة ، وان الذي يقوله الرسول (ص) عين الحقيقة ، فكروا في تغيير موقفهم بالبحث عن تسمية أكثر مناسبة من الكذب ، فيها شباهة بالواقع ولو ظاهرا ، حتى يقنعوا المجتمع بأن ما يراه ليس هو الحق ، فلم يجدوا في نظرهم أفضل من تهمة السحر.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)

(٤٤) ويبين الله الدافع الحقيقي لهؤلاء نحو تكذيب الرسالة ومعارضتها الا وهو الجهل ، وفي الحديث قال أمير المؤمنين (ع):

«الناس أعداء ما جهلوا» (١)

وجهل المجتمع الذي جاءه الرسول (ص) يتجسد في انعدام الخلفية الفكرية

__________________

(١) بح ج / (٧٨) / ص (١٤).

٤٩٤

الصحيحة.

(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها)

اي لم تصلهم أصداء الرسالات الأخرى فيستنيروا بها.

(وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ)

فتكون ثمة بقايا لحركته الرسالية فيهم ، ليقيسوا بينك وبينه فيعرفون الحقيقة ، فإنكار هؤلاء نابع من غرور الجهل لا من أسس علمية ، ولعل في الآية اشارة الى ان هؤلاء الذين يتغنون بامجاد أجدادهم ، ويخشون عليها من الرسالة ، لا يوجد في ماضيهم نور المعرفة أو ضياء الرسالة ، فلا ينبغي لهم ان يقلدوا آباءهم البعيدين عن العلم والرسالة.

(٤٥) ثم ينسف الله قاعدة أخرى لكفرهم وهي غرورهم بقوتهم ، وينذرهم بان القوة الظاهرية لا تمنع عنهم جزاء كفرهم وظلمهم ، وان الذين كفروا بالرسالات من قبلهم كانوا أشد منهم قوة ، وأكثر جمعا ، ولكن الله دمرهم فهل يقدرون على تجنب هذا المصير.

(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ)

من القوة.

(فَكَذَّبُوا رُسُلِي)

غرورا بما يملكون من طاقات وامكانات وجهلا بهما ، ولكن هل منعت قوتهم عنهم العذاب؟! كلا .. انما تعرضوا لنقمات الله الجبار ، والقرآن يوجّهنا لدراسة

٤٩٥

تاريخ تلك الأمم ومصائرهم للاعتبار بها فيقول :

(فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)

والنكير : السوء الذي ينكره الإنسان ولا يريده ، اشارة الى فظاعة الخطب والدمار اللاحق بهم.

وبعد ان نسف القرآن قواعد الكفر ، وأبطل أعذار رفض الرسالة من اتباع الآباء ، أو الغرور بالقوة ، دعاهم الى التفكر. وهذا هو المنهج السليم في الدعوة : ان ترفع في البدء الحجب التي تمنع الرؤية ، ثم تخاطب الوجدان ، وتستثير العقل بالدعوة الى التفكر.

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى)

بصورة جماعية ـ اثنان اثنان وأكثر ـ أو بصورة فردية.

ويجب ان يكون هذا القيام بهدف التفكر لمعرفة الحقيقة التي تخالف أراجيف الكبراء والمترفين حول الرسول (ص).

(ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ)

وأول ما يذكرهم به بعد استثارة عقولهم هو ان صاحبهم الذي عرفوه طوال أربعين سنة ليس بمجنون ، وكيف يكون به جنة والحكمة تتفجر من جوانبه ، وتشهد مواقفه على كمال عقله ، وفصل منطقه؟!

فهو انما يتحدث لكم عن حقيقة لو تركتموها أصابتكم نقمة ، وهذا أدعى الى

٤٩٦

التفكر ، وأقوى في اثارة العقل.

وإذا كان الله قد رفع عن أمة النبي محمد (ص) العذاب المادي كالصواعق والريح كرامة له ، فان سنته في تعذيب الجاحدين جارية في صور أخرى كالتخلف والتبعية والحروب ، فما تعيشه الامة الاسلامية الى اليوم انما بسبب الأفكار والعادات المتخلفة التي تعارض رسالة الله.

ولعل هذه الآية تنسحب الى كل الدعوات الاصلاحية ، وفي كل عصر ، فليس من الصحيح ان يرفض المجتمع أو يقبل اية دعوة بصورة ارتجالية سريعة ، فلعل ما يرفضه يكون صحيحا ، ولعل ما يقبله يكون خطأ ، انما يجب عليه التفكر الشامل عميقا ، في ظروف مناسبة ، وعبر منهج حكيم ، وبهدف شريف هو التوصل الى الحقيقة ، ولهذا أكّد القرآن أن يكون القيام لله وليس بهدف آخر ، إذ من الممكن ان يطلب العلم من أجل المصالح الشهوانية المادية كالشهرة والمال فلا يبلغ الحقيقة ، بينما إذا أخلص الإنسان نيته لله عند بحثه عن الحق هداه الله اليه ، لان من شروط التفكير السليم الهدف السليم منه ، ولعل هذا هو سبب تقديم النية المخلصة (القيام لله) على التفكير.

بعد ان نسف السياق قواعد الجحود ورفع عن الأبصار غشاوات العناد والمعاجزة ثمّ أمرهم بالتفكر بنية صادقة ، ذكّرهم بشواهد صدق الرسول (ص) ومن أبرزها :

إخلاصه في دعوته ، حيث لا يطمع في أجر ، اللهم إلّا أجرا يعود إليهم نفعه ، أو ليس الكاذب أو الساحر يقترف جريمة التضليل بهدف مادي؟! وها هو الرسول لا يبحث عن أجر مادي فهو إذا صادق.

(٤٧) ولان التفكير السليم سوف يقود الإنسان للايمان بالله ، والالتزام بالدين ، الأمر الذي يكلف شيئا من التضحية كضريبة لتحمل الرسالة ، يؤكد القرآن أن هذه

٤٩٧

التضحيات تخرج من يد الناس لتعود إليهم بالنفع في الدنيا والآخرة.

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ)

وليس للرسول ، لأنه يعمل لله وليس للمصلحة ، وهذا من الدلائل على صدق الأنبياء في دعوتهم.

(إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)

يلحظ كل جهد وحركة في سبيله ، ليضيف ذلك الى رصيد الرساليين ، ويثيبهم على عملهم بالتوفيق والنصر في الدنيا ، وبالجنة والرضوان في الآخرة.

(٤٨) ثم تهدينا الآيات الى احدى خصائص الأنبياء في صراعهم مع أنصار الباطل وهي شهادة الله على صدق رسالاتهم ، لأنها حق ، والله يؤيد الحق ، ولمعرفة الرسل بهذه الحقيقة فإنهم يتوكلون على ربهم ، ويخوضون غمار التحديات دون ان يخشوا أحدا أو يخافوا فشلا.

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ)

على كيان الباطل فيهدمه ، والله ..

(عَلَّامُ الْغُيُوبِ)

ولان الرسول يوحى اليه من لدن علام الغيوب ، فهو يبصر مالا يراه الآخرون ، ويتدرج من نصر الى نصر حتى يفتح الله على يديه البلاد ، وهذا أقوى شاهد على صدقه ، وانه يدعوا الى الله الذي هو على كل شيء شهيد ، ولعل خاتمة الآية السابقة كانت تمهيدا لبيان هذه الحقيقة وهي شهادة الله على صدق رسالته.

٤٩٨

(٤٩) وحين يأتي الحق يزهق الباطل ، وربّ أمة تبقى سادرة في الغيّ والضلال مئات السنين ، لكنها تهتدي للحق إذا جاءها مصلح يحمل راية الحق.

(قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ)

فهو مسلوب الارادة أمام الحق ، وهذا يعني ان ما نراه من غلبة ظاهرية لانصار الباطل على أنصار الحق ، ليس لقوة فيهم بل لضعف في الطرف المقابل ، فهؤلاء تدعمهم ارادة الله ، وسنن الحياة ومنطق الحق ، وكان أحرى بهم ، ان يربحوا المعركة لو لا انفصام العلاقة بينهم وبين عوامل النصر.

ولعل معنى (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ) : انه لم يكن ـ منذ البدء ـ شيئا ، فهو زهوق بذاته.

وفسروا الآية تفسيرات شتى ، وربما الأقرب ما ذكرناه آنفا ، ويحتمل أيضا ان يكون المعنى : ان الباطل لا يبتدأ في كيان جديد ولا يتجدد كيانه السابق.

(٥٠) ثم ان الضلالة نابعة من نفس الإنسان ، بما تنطوي عليه من الضعف والعجز والجهل و.. و.. ، بينما الهدى نعمة من الله له ، وإذا ضل الإنسان فان المردود السلبي للضلالة سيعود عليه.

(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)

وفي الآية تذكرة بالرسالة ، وانها مبعث الهدى ، وان الضلالة تعود على صاحبها بالخسار العظيم.

ولعل خاتمة الآية تشتمل على طلب بالهداية ، في أرقى صيغ الدعاء ، بما تشتمل

٤٩٩

عليه العبارات من تنزيه لله ، واعتراف بالضعف أمامه ، والحاجة اليه ، وانه مصدر الخير الذي ذروته الهداية للحق ، وانه السميع لدعاء عبده برحمته ، والقريب في الاجابة بكرمه وجوده.

(٥١) وفي نهاية السورة يعود السياق للتذكير بالآخرة ، لأنها أعظم فكرة تعطي التوازن لروح الإنسان وعقله ، ولهذا نجد الذكر الحكيم يؤكد على الايمان بالآخرة عند حديثه عن مختلف حقول المعرفة.

وانما يجحد البشر الحق اتباعا لشهواته ، وبحثا عن مصالحه في زعمه ، فإذا عرف ان الجحود ينتهي به الى نار جهنم فأية مصلحة له فيه؟

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ)

فهم يرهبون يوم القيامة ، ولكنهم لا يستطيعون الفرار من العدالة الالهية حينئذ.

(وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ)

لان قدرة الله وحكومته تشمل الكون بأكمله ، فأينما كانوا فهم قريبون من أخذ الله ، وجاء في رواية أبي حمزة الثمالي قال سمعت علي بن الحسين والحسن بن علي يقولان :

«هو جيش البيداء يؤخذون من تحت اقدامهم» (٢)

وهو اشارة الى يوم ظهور القائم من آل محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ حيث يبيد الله جيش الكفر في منطقة بين مكة والمدينة تسمى بالبيداء.

__________________

(٢) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٣٤٣).

٥٠٠