من هدى القرآن - ج ١٠

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-0
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٤

الإحسان تكامل وهداية

هدى من الآيات :

تدور الآيات في هذا الدرس حول موضوع الإحسان ، الّذي يجب ان يكون صيغة العلاقة بين الإنسان والآخرين ، ولا ريب ان سعي البشر لبناء المستقبل الفاضل لنفسه طموح شريف ، اما إذا كان هذا السعي مبنيّا على أساس الاستئثار والأخذ من الآخرين فقط فهو أمر مرفوض ، إذ ينتهي بالمجتمع الى الصراع والشقاء ، من هنا يحث القرآن الحكيم على علاقة متوازنة ، تعتمد ركيزتي الأخذ والعطاء ، التي لو انتهجهما المجتمع لتدرج نحو الكمال الحضاري لان العلاقة حينها ستكون البناء والتكامل بين افراد المجتمع ، وعلى عكس ذلك العلاقة المعتمدة على عبادة الذات ومحورية المصلحة ، حيث تصل بالمجتمع الى حضيض التخلّف والانهيار ، ويصبح الشغل الشاغل لكل فرد آنئذ هو افتراس الآخرين بأية وسيلة كانت ، ولا غرابة ان تؤكد هذه السورة المباركة على ضروة العطاء ، وتبتدئ بعبارة «وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ» لان السبيل الى رحمة الله هو العمل برسالته ، ولا يتأتى ذلك الا بالإحسان والعطاء.

١٢١

ولكي تحل علينا رحمة الرب لا بد ان نحسن للآخرين فنأخذ منهم لنعطيهم ، وإلا فلن تكون الرحمة من نصيبنا ولا الهدى. لماذا؟ وما هي علاقة الإحسان بالهداية في حياة الإنسان؟

والجواب : ان الّذي يعيش حالة مناقضة للإحسان كابتزاز حقوق الآخرين ، انما يقوم بذلك لما يعيشه من حب مفرط للذات ، فلا يرى من هذا الكون الرحيب سوى نفسه ، فيعبد هواه ، وبالتالي يبتعد عن الحق ، وهكذا يكون مقياسه المصلحة لا القيم ، وهدفه الذات لا الحق وهذا يسبب كل انحراف. ان العقل والرسالات الإلهية توجه الإنسان الى حقائق الخليقة ، بينما توجهه شهواته واهواؤه الى داخل ذاته ومن هنا فان استمرار اتباع الهوى يطفئ شعلة العقل ، وهذا هو الضلال البعيد ، ومن هنا يؤكد ربنا بأن المحسن هو الّذي يصيب طريق الهدى في عالم المعنويات ، والرحمة في عالم المادة ، والتي هي الأخرى نتيجة للهدى.

ولو تدبرنا آيات القرآن لوجدنا ان من أهم ميزات الأنبياء الإحسان الى الناس ، بل وقد تكون العامل الهام في اصطفائهم للنبوة.

قال تعالى عن نبيه يوسف (ع) : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١)

وقال عن النبي موسى (ع) : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٢)

وأكد ربنا هذا المعنى بصورة عامة إذ قال : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ

__________________

(١) يوسف / (٢٢).

(٢) القصص / (٢٨).

١٢٢

إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٣)

ولعلنا نستوحي من آيات الذكر ان الذين يتخذون الدين وسيلة لابتزاز الآخرين واستغلالهم ، أو مطيّة للمصالح والأهواء ، لا يفهمون الدين فهما حقيقيا وعميقا ـ لأنه لا يفهمه الا من كان محسنا ، بعيدا عن شهواته واهوائه ـ ، (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (٤)

وبالرغم من أن الجميع يطمحون الى الإحسان ، الا أنهم يجدون أيديهم وأنفسهم مقبوضة عن العطاء حينما ينزلون إلى ساحة العمل ، فكيف نخلق صفة الإحسان في أنفسنا؟!

بالصلاة لأنها تخلق في الإنسان دوافع الإحسان ، وبالزكاة لأنها تطهر القلب من حب الذات كما تطهر المال ، وكذلك باليقين ، فكلما تأكدت الحقائق عند الإنسان كاليقين بالموت وبما بعده من الجزاء كلّما كان أكثر إحسانا للآخرين ، إذ يتأكد بان ما يعطيه لا يذهب سدى ، بل يعود إليه في صورة جنات أعدها الله للمتقين ، فهو آنئذ لا يعتبر المغنم ما يصرفه على نفسه ، بل المغنم كل المغنم هو ما ينفقه في سبيل الله.

وفي السيرة ان رسول الله (ص) ذبح شاة وتصدّق بها ولم يبق الا الكتف ، فقالت له عائشة : لم تبق الا الكتف يا رسول الله! فقال (ص) : لم يذهب الا الكتف ، لأنه يعلم بان ما يأكلونه يتنعمون به وينتهي ، بينما يبقى ما يعطونه صدقة في سبيل الله ، وينفعهم في يوم لا ينفع فيه الا العمل الصالح.

__________________

(٣) الأعراف / (٥٦).

(٤) الإسراء / (٨٢).

١٢٣

وفي نهاية الدرس يحدثنا القرآن الحكيم عن الطرف المقابل من الذين يقتصدون لهو الحديث ، لان الأشياء تعرف بأضدادها ، وبينما يهتدي أولئك لآيات الله ، يصد هؤلاء عنها ، كأن في آذانهم وقرا ، وليس جزاء هؤلاء سوى النار.

بينات من الآيات :

(١) (الم) كما احتملنا سابقا : ان الا حرف التي ترد في أوائل السور رموز لا يعلمها الا الله والراسخون في العلم ، ويحتمل ان تدل على ألفاظها.

(٢) ومن تركيب هذه الأحرف البسيطة في ظاهرها ، انزل الله سبحانه القرآن وآياته ، في كتاب ثابت ينبعث بالحكمة.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ)

(٣) كما تعطي هذه الآيات الهدى والبصائر للمحسنين.

(هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ)

والإحسان ليس رحمة للمجتمع وحسب ، بل هو هدى له أيضا ، إذ يهديه الإحسان الى سبل استغلال الطبيعة وتسخيرها في خدمة الإنسان ، ذلك ان من صفات المجتمع الايماني ، بحث افراده عن وسائل للعطاء والإحسان ، ولا يمكنهم ذلك الا بتسخير الطبيعة ، مما يدفعهم لاستغلالها ، واعمال عقولهم بحثا عن حل لكل المشاكل والعقبات التي تعترض هذا الهدف ، وبالتالي فان أبوابا كثيرة سوف تنفتح أمامهم ، وكلها طرق جديدة للسيطرة على الحياة واستغلالها ، وهذا جانب من الهداية. أو ليست الحاجة أم الاختراع؟!

١٢٤

(٤) ولكن كيف يمكن ان نوجد صفة الإحسان في المجتمع؟

١ ـ بالصلاة لأنها معراج الروح نحو الفضيلة ، باعتبارها تقرب الإنسان الى رب العالمين.

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ)

واقامة الصلاة بالمعنى الحقيقي تتضمن بل تستدعي الإحسان ، كما ان الصلاة تأتي نتيجة الإحسان ، أليس المحسن يهديه الله؟! أو ليس الإحسان يروض النفس ويزكيها؟!

٢ ـ بالزكاة التي تربي الروح على الإحسان ، وتطهرها من حب الذات.

(وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ)

والزكاة ليست مجرد واجب ديني يقوم به المؤمن ، بل هي برنامج يدرّ به على الإحسان ، ومنطلق له نحو العطاء.

٣ ـ باليقين بالآخرة ، فالذي يقتصر نظره على الدنيا يكون منتهى السعادة عنده ان يتنعم ويستلذ حتى يعتقد كما قيل : ان الحياة لذة وشهوة ، اما الآخر الّذي يتيقن بالآخرة (الجزاء) وان مستقبله فيها قائم على ما يقدمه في سبيل الله هنا في الدنيا ، فهو يكتفي بما يقيم أوده لنفسه ، ويدخر ما سواه لآخرته.

(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)

(٥) ويؤكد القرآن الكريم : ان هذه الصفات دليل على الهدى من جهة ، وسبب الفلاح من جهة أخرى.

١٢٥

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

في الدنيا بالهدى والنمو الّذي يسببه الإحسان ، ومحبة الناس لهم ، وفي الآخرة بجزاء الله لهم ، وإذ يحدثنا الله بصيغة المجتمع عن تجمع بصفة عامة وليس عن فرد واحد ، فلأن الإحسان بالنسبة لفرد واحد يعيش في مجتمع فاسد قد لا ينفعه في الدنيا ، اما إذا كان ضمن تجمع من المحسنين فانه سيكون ذا جدوى في الآخرة والدنيا أيضا ، بتعميقه روح المحبة والوئام داخل المجموع.

(٦) ولأن من مميزات السياق القرآني انه يعرفنا مختلف المسائل والحقائق بذكر أضدادها ، فبذكر النار يعرّفنا الجنة ، وبذكر الكفر يعرفنا الإيمان ، نجده هنا أيضا يحدثنا عن الحالة المخالفة للإحسان.

فهناك من ينفق في سبيل الله من أجل الهداية ، وهو بالتالي يمهّد أرضية الهدى لنفسه بإحسانه وإنفاقه ، وهناك من ينفق في سبيل الضلال ويشتري لهو الحديث. كلاهما يعطي من نفسه وماله ولكن هذا للهدى وذاك للضلال.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ)

ولكن لماذا يكون الضلال هدف هؤلاء؟ حتى انك تجدهم يشترون (لهو الحديث)؟

لأنهم يرون الحق يناقض أنانيّاتهم ، تماما بعكس المحسنين الذين يرون الحق محورهم ، وقلب الإنسان لا يمكن ان يكون فارغا أبدا ، فاذا لم يملأه بالايمان والعلم ، فسيكون بيتا للهو والانحرافات.

١٢٦

واللهو هو القول والعمل الّذي يخلو من أي هدف ، وهو في النهاية يعود على الإنسان بالخسران ، فهو لا يشتري اللهو بدراهم معدودة ، انما يدفع من أجله عمره الغالي وما يملك من فرص ، ومثال ذلك الّذي يشتري الافلام والاشرطة والمجلات والكتب المنحرفة ، ومن الطبيعي ان يبتعد هذا الإنسان عن آيات الله ويرفضها.

(وَيَتَّخِذَها هُزُواً)

على عكس المحسنين الذين يهتدون بالآيات (هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) وهذه من اخطر المراحل التي يصل إليها البشر في الضلال.

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)

لاستهزائهم بآيات الله ، واستكبارهم عليها.

والملاحظ أن السياق ربط بين الإحسان والهدى ، ولكنه لم يسمّه (شراء الهداية) بينما سمي الإنفاق في سبيل الضلال (بشراء لهو الحديث) وذلك لان الهداية من الله ، وهي أعز من أن تشترى.

كما ان هناك مفارقة بين الكتاب الحكيم وبين لهو الحديث ، كما بين الهدى للمحسنين والضلال لمن يشتري لهو الحديث.

ومفردات لهو الحديث كثيرة تشير الى بعضها الرواية المأثورة عن الامام الصادق (ع) حيث قال :

«هو الطّعن في الحق ، والاستهزاء به ، وما كان ابو جهل وأصحابه يحيّون به ، إذ قال : يا معاشر قريش ألا أطعمكم من الزقوم الّذي يخوفكم به صاحبكم؟ ثم أرسل الى زبدة وتمر ، فقال : هذا هو الزقوم الّذي يخوفكم به» قال : «ومنه

١٢٧

الغنا» (٥)

وقد استفاضت الأحاديث المأثورة في تفسير هذه الآية بالنهي عن الغناء ، باعتباره من لهو الحديث.

نقرأ معا بعض تلك النصوص.

جاء في الأثر عن الامام الباقر (ع) انه قال :

«الغنا مما أوعد الله عز وجل عليه النار» وتلا هذه الآية (٦)

وروي عن الامام الصادق (ع) انه قال :

الغنا مجلس لا ينظر الله الى اهله وهو مما قال الله عز وجل وقرأ : «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ» (٧)

وروى أبو أمامة عن النبي (ص) انه قال :

لا يحل تعليم المغنيات ، ولا بيعهن ، وأثمانهن حرام ، وقد نزل تصديق ذلك في كتاب الله «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ» (٨)

وجاء في حديث مروي عن الامام الصادق (ع) وهو يعدد مفاسد الغناء :

«بيت الغناء لا تؤمن من فيه الفجيعة ، ولا تجاب فيه الدعوة ، ولا يدخله الملك» (٩)

__________________

(٥) نور الثقلين / ج (٤) / ص (١٩٥).

(٦) المصدر / ص (١٩٤).

(٧) المصدر.

(٨) المصدر.

(٩) وسائل الشيعة / ج (١٢) / ص (٢٢٥).

١٢٨

وجاء في نص آخر مأثور عنه أيضا قال :

«الغناء يورث النفاق ، ويعقب الفقر» (١٠)

ويبدو ان حكمة تحريم الغناء في الشريعة الاسلامية تتشابه وحكمة تحريم الخمرة والمسكرات والمخدرات والقمار ، حيث أنّها جميعا تلهي الناس عن ذكر ربهم ، وتنسيهم الآخرة ، وتخدّرهم فيما يتصل بمشاكل حياتهم ، وهي بالتالي نوع من الهروب عن مواجهة تحديات الحياة التي يتناسونها عبر الملهيات ، كما انها تجر المجتمع الى المفاسد الاجتماعية ، التي تسبب الصراعات وتزرع النفاق.

ولهذا أكد رسولنا الأكرم (ص) على هذا الجانب ، فيما رواه عنه احمد امام المذهب ، عن ابن مسعود انه قال :

«الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل» (١١)

والغناء يشجع أيضا الفساد والجنس ، ويتخذه أصحاب الهوى وسيلة لاثارة شهواتهم ، واتخاذ السبل السيئة لاشباعها مما يهدد التماسك الأسري بأخطار كبيرة.

من هنا جاء في الحديث المأثور عن الامام الباقر (ع) حول الغناء ... انه سئل عن كسب المغنيات فقال :

«التي يدخل عليها الرجال حرام ، والتي تدعى الى الأعراس ليس به بأس» (١٢)

__________________

(١٠) المصدر / ص (٢٣٠).

(١١) تفسير نمونه / ج (١٧) / ص (٢٢) نقلا عن تفسير روح المعاني للآلوسي عند تفسير الآية.

(١٢) نور الثقلين / ج (٤) / ص (١٩٤).

١٢٩

وفي الغناء بالاضافة الى كل ذلك حالة إدمان كما المسكرات والمخدرات ، لأنها تخلف آثارا خطيرة على شبكة الأعصاب ، ومن هنا دلت البحوث التي أجريت في حياة كبار رجال الغناء والموسيقى ، انهم تعرضوا لمتاعب روحية ، حتى أنهم فقدوا قدراتهم العصبية ، وابتلي بعضهم بأمراض نفسية ، وفقد البعض منهم مشاعرهم ، وانتهى ببعضهم المطاف الى المصحات العقلية ، أو أصيبوا بالشلل ، وبعضهم تعرض لموت الفجأة بسبب ارتفاع ضغط الدم عند ضرب الموسيقى. (١٣)

(٧) ولا يمكن ان تنطفئ شعلة الهدى من قلب البشر بصفة كلية ، بل لا بد ان يبقى فيه وميض من نور العقل مهما تراكمت عليه الشهوات ، هكذا أراد الله ان يقيم الحجة عليه أبدا من نفسه.

فبالرغم من وصول فرعون الى قمة العناد ، حيث ادعى الربوبية ، ولكنه ما استطاع إطفاء الفطرة داخله ، وإذا به يقول «آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى» بلى. يمكن للبشر أن يخالف فطرته في فكره وسلوكه ، لذلك تجده يسعى جادّا للانفلات من وخز ضميره ، ويهرب من أسباب هدايته.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً)

عنادا منه.

(كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها)

ولم يقل لم يسمعها ، وهذا دليل على الاختيار ، فالإنسان هو الّذي يختار بنفسه لنفسه ان لا يسمع نداء الفطرة ولا آيات ربه مع تمكنه من الاستماع لذلك.

__________________

(١٣) تفسير نمونه / ج (١٧) / ص (٢٦) / نقلا عن كتاب تأثير موسيقى بر روان واعصاب / ص (٢٦).

١٣٠

(كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً)

وهو الثقل في السمع أو الصمم ، وهذا الوقر أو الحجاب بينه وبين الآيات يكون تارة بسبب الأفكار المسبقة ، وتارة أخرى بسبب العوامل الآنيّة كالاستكبار ، وعموما فان المقاييس الخاطئة التي يعتمدها الإنسان في تقييمه للأفكار والأشخاص والأشياء هي السبب في النتائج الخاطئة.

(فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)

هناك قال ربنا «مهين» لأن جزاء الاستكبار في الدنيا الإهانة في الآخرة ، حتى جاء في الحديث ان الله يحشر المستكبرين في صورة ذرّ يطأهم الناس حتى ينتهي الحساب.

وهنا يقول ربنا سبحانه : (أَلِيمٍ) لأن الإنسان يستكبر ، ويعرض عن الآيات من أجل التلذذ بشهوات الدنيا ، وجزاء ذلك الإيلام في الآخرة ، ويدل انسجام التعابير في موارد العذاب على ان الجزاء من جنس العمل ، وبتعبير أبلغ الأعمال هي التي تتجسد جزاء وفاقا في الآخرة ، بل في الدنيا أحيانا كثيرة.

(٨) وفي مقابل هذا الجزاء يأتي الحديث عن جزاء المؤمنين.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ)

جزاء لهم على ما أنفقوا من نعيم الدنيا في سبيل الله.

(٩) ويختلف هذا النعيم عن الدنيا بأن الجنة خالدة.

(خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا)

١٣١

ويدل على صدق وعد الله عزته وحكمته ، ذلك أن الّذي يخلف الوعد اما يكون قاصرا عن تحقيقه والوفاء به ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ)

القوي القادر.

وإما ان يكون عن جهل كأن يعد الإنسان أخاه بشيء ما ثم يكتشف خطأه انه غير قادر على الوفاء فلا يفي بوعده ، وحاشا لله وهو ...

(الْحَكِيمُ)

الذي يحيط علمه بكل شيء.

(١٠) ومن آيات عزة الله وحكمته الظاهرة الإبداع والمتانة المتجليان في خلقه.

(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها)

وهذا مما يزيدنا ثقة بوعد الله سبحانه ، فهذه السماء الواسعة خلقها ورفعها كالسقف ، من دون عمد نراها ، وفي الحديث :

«فثم عمد ولكن لا ترونها» (١٤)

وقال البعض : ان المقصود من العمد هو الجاذبية التي تثبت السماء وما فيها بقدرة الله وحكمته.

وحينما ننظر الى الأرض ، نلمس تجليات صفات الله وأسمائه الحسنى في بديع

__________________

(١٤) نور الثقلين / ج (٤) / ص (١٩٥).

١٣٢

خلقه فيها.

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ)

وهي الجبال.

(أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ)

لكي تحافظ على توازن الأرض ، وتمنع عنها الحركات ، وسميت بالرواسي تشبيها لها بالمرساة ، التي تثبت السفينة في البحر. فالجبال التي تتصل ببعضها من تحت الأرض يجعلها شبيهة بدرع صخري متين ، تمنع عن الأرض الهزات الهائلة التي ـ كانت ـ لو لا الجبال تحول الأرض الى ارجوحة لا تتوقف ، وذلك بفعل الغازات الكثيرة الموجودة في وسط الكرة الترابية ، والتي منها تأتي الزلازل وانفجار البراكين.

من جهة أخرى كانت جاذبية القمر تجعل الأرض لو لا الجبال كسطح البحار خاضعة لقانون المد والجزر ، كما ان اعتدال الهواء منوط بوجود الجبال ، ولولاها لكان البرد القارص والحرّ الشديد يجعل الحياة صعبة ، كما أن الرياح الشديدة كانت تلعب فوق الكرة كما في الفلوات الواسعة ، وتجعلها ميدان جولاتها الخطيرة.

على ان في الجبال منابع الماء ، وفي داخلها مخازن حفظ المياه من مواسم المطر الى أيام الصيف ، وفي بطونها معادن لمختلف الفلزات والأحجار الكريمة وسائر ما يحتاج اليه البشر.

أو ليس كل ذلك دليل قدرة الله ، ومتين صنعه ، وحسن تقديره وتدبيره؟!

(وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ)

١٣٣

ونستوحي من الآية ان كل نوع ممكن ومناسب من الدواب قد خلقت ، فهناك الصغير والكبير وما بينهما كثير من الاحجام ، وهناك الطائر والماشي ، والزاحف والهائم فوق البحار والغائص في أعماقها وهكذا ، مما جعل داروين يذهب الى نظريته في أصل الأنواع وتسلسل نشوئها ، والواقع ان انعدام الحلقات التي قيلت بأنها مفقودة في المخلوقات وعظيم تشابهها وكثرة أنواعها جعلت أصحاب نظرية التكامل يذهبون الى ما ذهبوا اليه ، وهذا دليل قدرة الله ، وعظيم تدبيره ، وقد سأل علي بن الحسن بن علي بن فضّال عن أبيه عن أبي الحسن الرضا (ع) قال : قلت له : لم خلق الله سبحانه وتعالى الخلق على أنواع شتى ، ولم يخلقهم نوعا واحدا؟! فقال :

«لئلا يقع في الأوهام انه عاجز ولا يقع صورة في وهم ملحد إلا وقد خلق الله عز وجل عليها خلقا لئلا يقول قائل : هل يقدر الله عز وجل على ان يخلق صورة كذا وكذا ، لأنه لا يقول من ذلك شيئا إلا وهو موجود في خلقه تبارك وتعالى فيعلم بالنظر إلى أنواع خلقه انّه على كل شيء قدير» (١٥)

فأجابه (ع) : انما فعل ذلك حتى لا يقول أحد لو كان قادرا لكان يخلق كذا وكذا ، ومن كانت هذه قدرته فلما ذا يخلف وعده؟ فليكن عندنا يقين بوعد الله ، حينما نستقيم في سبيله ، وهذا ما يدفعنا للإحسان والإنفاق من أجل الله.

وتستمر الآية في ذكر خلق الله فيقول :

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)

وهكذا نجد الحياة يكمل بعضها البعض الآخر ، وتحتاج أجزاؤها لبعض ، وهذا

__________________

(١٥) علل الشرائع / ج (١) / ص (١٤).

١٣٤

من حكمة الله البالغة لعلمه بصلاح ذلك.

(١١) ثم يتحدى الله الأنداد.

(هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)

انهم لم يخلقوا حتى ذبابة وان يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ، ضعف الطالب والمطلوب.

(بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)

وهل يشك أحد في ضلال هذا الإنسان الضعيف حينما يدعي الالوهية؟!

١٣٥

وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ

___________________

١٤ [فصاله] : فطامه.

[جاهداك] : بذلا ما في وسعهما كي يبدلا دينك.

١٥ [أناب إليّ] : رجع إليّ بالطاعة.

١٦ [مثقال حبة] : مقدار أصغر شيء.

١٣٦

خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)

___________________

١٨ [لا تصعر خدك] : لا تمله كبرا وتعاظما ، وصعر بمعنى أمال.

[مرحا] : فرحا وبطرا وخيلاء.

[مختال فخور] : متكبّر مباه بمناقبه.

١٩ [واغضض من صوتك] : اخفض وانقص من صوتك.

[أنكر] : أقبح ، يقال : وجه منكر أي قبيح.

[أسبغ] : أتمّ وأوسع.

١٣٧

وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ

هدى من الآيات :

كيف تتكامل البشرية وتحظى بالهدى والسعاد؟ وما هي الحكمة الإلهية التي تجعل الفرد فاضلا والمجتمع سويّا؟ في هذا الدرس من هذه السورة إجابة كافية لمن تدبر عبر وصايا يلقيها الحكيم الالهي لقمان (ع).

فقد أعطاه ربنا الحكمة ، واوجزها في كلمة «أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» ويبدو ان الشكر جماع فضائل عديدة أبرزها :

الف : الاعتراف بفقدان النعمة ذاتا ، فلو لا فضل الله علينا لما كنّا مخلوقين ، ولما كانت لنا الأسماع والأبصار والافئدة ، ومن هذا الاعتراف تنبثق فضيلة التواضع ، وتجنب الخيلاء والفخر ، وعدم تحدي الناس استكبارا وسائر ما ذكر في الآيات.

باء : التصديق بفضل من أنعم علينا وهو الله سبحانه ، ولا يتم التصديق الا

١٣٨

بتوحيده ، والا نشرك به من لا فضل له علينا انى كان حتى ولو كان واسطة وصول الفضل إلينا. وهذا ما أمرت به الآية (١٣) ثم الآية (١٥).

جيم : احترام وسائط الفضل الذين قاموا بدور من وصول النعمة إلينا وأبرزهم الوالدان ، وهذا ما أمرت به الآية (١٤) والآية (١٥) إذ ان اتباع سبيل من أناب إلى الله يشير إلى احترام التجمع الايماني.

دال : السعي نحو تكريس النعمة ، واتقاء ما يسبب زوالها. أولا : بمعرفة ان عمل الإنسان يؤثر في بقاء أو زوال النعمة. ثانيا : بإقامة الصلاة ، التي هي مظهر الشكر لله. ثالثا : بالدعوة الى الخير والنهي عن الشر والصبر عند المكاره.

هكذا نعرف ان الشكر لله حقا هو أساس الحكمة الالهية.

بينات من الآيات :

لقمان الحكيم الالهي :

(١٢) لقد خلد الله لقمان في كتابه بالرغم من انه لم يكن نبيا ، فمن هو وكيف أضحى حكيما؟

في الحديث الذي يرويه العلامة الطبرسي في تفسيره مجمع البيان عن نافع ، عن ابن عمر ، عن الرسول صلى الله عليه وآله نجد الجواب :

سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول :

«حقا أقول لم يكن لقمان نبيّا ، ولكن كان عبدا كثير التفكر ، حسن اليقين ، أحبّ الله فأحبّه ، ومنّ عليه بالحكمة ، كان نائما نصف النهار إذ جاءه نداء : يا لقمان! هل لك ان يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحق؟

١٣٩

فأجاب الصوت : إن خيّرني ربي قبلت العافية ، ولم اقبل البلاء ، وان هو عزم علي فسمعا وطاعة ، فاني اعلم انه ان فعل بي ذلك اعانني وعصمني ، فقالت الملائكة بصوت لا يراهم : لم يا لقمان؟ قال : لان الحكم أشد المنازل وآكدها ، يغشاه الظلم من كل مكان ، ان وفى فبالحرى ان ينجو ، وان اخطأ اخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلا وفي الآخرة شريفا خير من أن يكون في الدنيا شريفا في الآخرة ذليلا ، ومن تخير الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ولا يصيب الآخرة ، فعجبت الملائكة من حسن منطقه ، فنام نومة فأعطي الحكمة ، فانتبه يتكلم بها ، ثم كان يوازر داود بحكمته ، فقال له داود : طوبى لك يا لقمان أعطيت الحكمة ، وصرفت عنك البلوى» (١)

ويبين لنا الامام الصادق عليه السلام تفاصيل أخرى عن حياة لقمان ، والسبب الذي جعل به حكيما ، نثبت منه بعض النقاط العامة.

قال الامام الصادق (عليه السلام):

«اما والله ما أوتي لقمان الحكمة بحسب ، ولا مال ، ولا أهل ، ولا بسط في جسم ، ولا جمال ، ولكنه كان رجلا قويا في أمر الله ، متورّعا في الله ، ساكتا ، مستكينا ، عميق النظر ، طويل الفكر ، حديد النظر ، مستغن بالعبر ، لم ينم نهارا قط ، ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط ولا اغتسال لشدة تستره ، وعموق نظره ، وتحفظه في أمره ، ولم يضحك من شيء قط مخافة الإثم ، ولم يغضب قط ، ولم يمازح إنسانا قط ، ولم يفرح بشيء آتاه من أمر الدنيا ، ولا حزن منها على شيء قط ، وقد نكح من النساء وولد له من الأولاد الكثير ، وقدم أكثرهم إفراطا (٢) فما بكى على موت أحد منهم ، ولم يمر برجلين يختصمان أو يقتتلان الا أصلح

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) / ص (١٩٦).

(٢) من أفرط فلان ولدا أي مات له ولد صغير قبل ان يبلغ.

١٤٠