من هدى القرآن - ج ١٠

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-0
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٤

لله منه ، وما يستلزم ذلك من انكسار القلب ، وعقد العزم على عدم العود اليه ، ثم المجيء للقيادة الرسالية أو من يجسدها والاستغفار عنده.

وبكلمة : هناك فكرة للشفاعة يتخذها الإنسان غطاء لجرائمه ، وتهر به عن مسئولياته ، وهي الشفاعة الشركية المرفوضة التي يزعم صاحبها أن أصنام السلطة والثروة وجنودهما قادرين على إنقاذه من غضب الرب لأنهم يشاركون الله في سلطانه تعالى الله عما يشركون.

وهناك شفاعة مسئولة تبعث الإنسان نحو المزيد من المسؤولية والطاعة وهي التي يبيّنها القرآن في أكثر من مناسبة ، والتي تعني دعاء الرسول والأئمة والصالحين بالمغفرة لمن اذن الله له بذلك ، وهم المسلمون المطيعون لله وللرسول والأئمة بصفة عامة.

وانما تبعث هذه الفكرة نحو المزيد من العمل لأنها تقاوم اليأس ، وتزيد من طاعة القيادة الالهية.

يدخل على الامام الباقر (ع) أبو أيمن ـ وهو مولى لامرأة علي بن الحسين (ع) ـ فيقول له : يا أبا جعفر تغرون الناس وتقولون : شفاعة محمد ، شفاعة محمد ، فغضب أبو جعفر حتى تربّد وجهه (٦) ثم قال :

«ويحك يا أبا أيمن ، اغرّك ان عف بطنك وفرجك؟! اما لو قد رأيت افزاع القيامة لقد احتجت الى شفاعة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ويلك وهل يشفع الا لمن وجبت له»

__________________

(٦) تغيير لونه.

٤٦١

ثم قال :

«ما من أحد من الأولين والآخرين الّا وهو محتاج الى شفاعة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يوم القيامة» ثم قال :

«ان لرسول الله الشفاعة في أمته ، ولنا الشفاعة في شيعتنا ، ولشيعتنا شفاعة في أهاليهم»

ثم قال :

«وان المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومضر» (٧)

وعند ما تغشاهم افزاع القيامة تطير ألبابهم ، وتزيغ أبصارهم ، ولا يعودون الى رشدهم الا بعد ان يفرّغ الله قلوبهم من الفزع ، وهنالك يتساءلون : ماذا قال الرب؟ ويجاوبون : لقد قال الحق.

(حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ)

وحرف «حتى» يدل على ان الفزع يستمر معهم الى ان يفرجه الله عنهم ، مما يدل على ان الشركاء لا يغنون عنهم شيئا.

وكلمة «فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ» تشبه قول العرب (قرّد البعير) إذا أخذ منه القراد ، ويسمونه السلب ، ومعناه سلب عنهم الفزع.

(قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَ)

__________________

(٧) المصدر / ص (٣٣٥).

٤٦٢

لعل السائل والمجيب هم نفس الفريق ، فسأل البعض وأجاب الآخرون ، ويحتمل ان يكون السائل الملائكة وأهل الشفاعة ، والمجيب هم المشفوع لهم من المذنبين ، والكلام يكون خاصا بالذين يؤذن لهم بالشفاعة ، حيث ينزع عنهم الفزع حينما يؤذن لهم بالشفاعة ، بينما يبقى الآخرون في فزع عظيم.

(وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)

فلا شفاعة الا باذنه ولا أمنة إلا منه ، ولا نجاة إلّا به سبحانه.

وفي الآية تفسيرات عديدة ، بيد أن ما ذكرنا أنسب الى السياق من غيره فيما يبدو لي.

(٢٤) ثم يمضي السياق قدما في تفنيد الأفكار التبريرية ومنها الزعم بأن غير الله يرزق شيئا ، وسواء كان السلطان أو المترف أو غيرهما فان ربنا ينفي ان يكون الرازق حقا غير الله.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

من يرسل السحاب ، ويبعث بأشعة الشمس ، ويهدي الإنسان الى طرائق الزراعة والصناعة ، ويرزقه القوة؟

(قُلِ اللهُ)

ثم يستفيد من أسلوب التشكيك المنهجي لإيصال الإنسان الى الحقيقة.

(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)

وهذا الأسلوب يجعل الكافر يشكك في طريقه شكّا منهجيّا ، كما يشك ـ على

٤٦٣

الأقل ـ في صدق الرسالة ، مما يجره للبحث والتعرف ، وهذا بالطبع سيقوده الى الحق ، مرحلة فمرحلة ، وانما يبقى في الضلال الذي لا يشكك نفسه ، بل يعتقد جازما انه على الصواب.

وكما ان جزم الإنسان بأن طريقه هو الأصح من دون بحث وتدقيق خطأ ، فان اعتقاده بصحة كل اعتقاد كما يدعي ذلك البعض هو الآخر خطأ.

(٢٥) والفكرة التبريرية الرابعة التي ينسفها القرآن : هي الاعتقاد بأن عمل الإنسان يمكن ان يلقى على عاتق غيره ، وإذا كان هذا ممكنا في الدنيا ، حيث يلقي بالمسؤولية على الآخرين ، فانه مستحيل في الآخرة.

(قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ)

فكل إنسان يلزم طائره في عنقه.

(٢٦) ولكي نتخلص من هذه الفكرة التبريرية يجب ان نتطلع الى الآخرة ، حيث نقف جميعا امام الله ليحكم بيننا وهناك يتحدد المصير الأبدي.

(قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ)

فلا بد ان نعتقد بيوم يتميز به الحق عن الباطل وان أهلهما بحكم الله ، وضرورة هذا الاعتقاد ان الإنسان ربما يعتمد على نفسه في التمييز بينهما ، فاذا بالضغوط والإغراءات تؤثر فيه وتضيع منه المقاييس.

وعلى سبيل المثال : لو لم تكن في العالم مقاييس وموازين محدودة للباعة لاجتهد كل واحد في تحديد مكيال خاص به ، وهذا أمر خطير ينهي الى التلاعب بالاقتصاد ، لكن إيجاد مقياس محدد يفرض على الجميع (البائع والمشتري) تكييف

٤٦٤

أنفسهم مع هذا المقياس ، فيكون حاكما بينهم ، كذلك العلم بوجود مقياس ثابت عند الله لا بد ان ننتهي اليه جميعا يقف دون العمل بالأهواء.

(٢٧) وفي نهاية هذا الدرس يذكرنا القرآن بأن الشركاء ليس فقط لا يملكون شيئا ، بل هم أنفسهم ليسوا بشيء إذا فكر الإنسان فيهم.

(قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ)

وادّعيتم انهم يتصرفون في الحياة معه ، أو يؤثرون عليه ، أو يعينونه.

(كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ)

الذي لا يحتاج الى معين لأنه قوي وقادر بذاته.

(الْحَكِيمُ)

الذي يحيط بالأمور علما ، ويتصرف فيها بدقة ، فلا يخطأ حتى يحتاج الى من يسدده أو يصحح حكمه عز وجل.

٤٦٥

وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ

٤٦٦

لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣)

٤٦٧

هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ

هدى من الآيات :

بعد ان نسف السياق التبريرات التي يحتمي بها المجرمون هربا من المسؤولية ، أبلغهم ان الرسول (ص) جاء مبشرا ومنذرا لهم جميعا ، فالناس أمام مسئولياتهم شرع سواء ، وان وعد الله بالجزاءات ، وان لكل أمة أجلاهم بالغوه ، ولن يؤخر عنهم إذا جاءهم لحظة واحدة ، كما لا يتقدم أجلهم باستعجالهم.

وحين تحدى الكفار الرسالة ، وقالوا : لن نؤمن بها ولا بالذي سبقها من الكتب ، انذرهم الرب أنهم سوف يندمون يوم الجزاء الأكبر ، حين يرون العذاب ، وتوضع الأغلال في أعناق الذين كفروا جزاء بما كانوا يعملون ، وهنالك لا ينفعهم التبرير الذي يتوسلون به اليوم حين يلقي المستضعفون (التابعون) المسؤولية على المستكبرين (المتبوعين).

ويبين السياق فساد هذا التبرير عند ما يصور الحوار الساخن بينهما ، حين يرجع

٤٦٨

بعضهم الى بعض القول فيقول المستضعفون : أنتم كنتم السبب في ضلالتنا ، فيتبرأ من ذلك المستكبرون ، ويقولون : انكم كنتم مجرمين بأنفسكم ، ولا يسع المستضعفون آنئذ إلا إلقاء اللوم على الزمن فيقولون : بل مكر الليل والنهار ، إذ يأمروننا بالكفر.

بينات من الآيات :

(٢٨) ان ما يميز الرسول (ص) عن سائر الأنبياء انه بعث لعامة الناس ، إذ لم تختص دعوته بجماعة دون أخرى ، ولا بقوم دون آخر ، وهذا بذاته دليل على صدق رسالته ، ذلك أن الإنسان مهما حاول التجرد فانه يبقى ابن بيئته التي تعكس عليه آثاره في واقع الثقافة ، كما تعكس عليه الآثار الطبيعية. من هنا حين يأتي الرسول برسالة تتجاوز القومية ، والعنصرية ، والاقليمية ، نظريّا وعمليّا ، فان ذلك يكون دليلا على ان رسالته الهية.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً)

ويلاحظ هنا تقديم البشارة على الإنذار ، بينما نجد العكس في بعض الآيات ، ولعل الحكمة أنه إذا كان الحديث عن هداية الإنسان استلزم تقديم الإنذار لأنه الأقوى أثرا في البشر ، بينما إذا جرى الحديث عن شخص الرسول تقدمت البشارة للدلالة على انه بعث رحمة للعالمين.

والسؤال : من الذي تسوقه البشارة الى العمل الصالح ، ويمنعه الإنذار عن الذنب؟

انه العالم. أو ليس العلم يجعل الإنسان يؤمن بالحقائق؟! لهذا جاءت آيات كثيرة تؤكد على علاقة العلم بالايمان ، وتكميل أحدهما للآخر ، ومن أبرزها قوله

٤٦٩

تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (١) وانما لا يستجيب غالبية الناس للرسل ببشارتهم وإنذارهم لجهلهم ، فاذا رأيت أغلب الناس كفّارا فلا تستوحش من ذلك ، ولا تظنّ بان ذلك دليل على ضعف أدلة الرسالة ، بل على ان الايمان ـ كما العلم ـ درجة رفيعة لا يبلغها إلّا الصفوة من الناس.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)

فهم لا يؤمنون.

(٢٩) (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

ويتشبث الإنسان بتبرير فاسد آخر حين يتساءل : إذن أين الجزاء؟! لماذا يتأخر عن المجرمين؟! إذا كنتم صادقين في ان لكل عمل صالح جزاء حسنا يبشر به الرسول ، ولكل جريمة عقابا ينذر به.

(٣٠) ويبطل السياق هذا التبرير أيضا بان الجزاءات ، وان تأخيره لأجل محدود ، وانه حين يحين ميعاده لا يتأخر ساعة ولا يتقدم.

(قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ)

وقد أخفى الله أجل الإنسان ، فهو لا يدري متى يوافيه الموت والجزاء ، ولعل اي لحظة يمر بها تحمل في طياتها أجله ، مما يدعوه الى التسارع والمبادرة لعمل الخير ، والاستقامة عليه. يقول الرسول (ص) لابي ذر (رض):

«يا أبا ذر! اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل

__________________

(١) فاطر / (٢٨).

٤٧٠

سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك» (٢)

ذلك ان الحكمة من إخفاء الأجل هي بعث روح المبادرة في الإنسان ، هكذا يقول الامام الصادق (ع):

«ثم [لو] عرف ذلك ـ يعني أجله ـ وثق بالبقاء ، وانهمك في اللّذات والمعاصي ، وعمل على انه يبلغ من ذلك شهوته ، ثم يتوب في آخر عمره ، وهذا مذهب لا يرضاه الله من عباده ولا يقبله ، الى ان يقول (ع) : فكان خير الأشياء للإنسان ان يستر عنه مبلغ عمره ، فيكون ـ طول عمره ـ يترقب الموت فيترك المعاصي ، ويؤثر العمل الصالح» (٣)

والساعة التي تعنيها الآية الكريمة ليست كما هي عندنا ، انما هي في عرف القرآن اللحظة وأقل منها ، وفي الخبر يسأل الامام الصادق (ع) عن الناس يموتون بين فاتح لعينه وآخر مغمضها؟ يجيب : ان ملك الموت حينما يأتي على الرجل ليقبض روحه وهو مغمض العين ، يستأذنه ويقول : ائذن لي افتحها ، والآخر على خلافه ، فلا يأذن لهما اذن لماذا نستهين بالزمن! ولماذا نقتل المسافة التي تفصلنا عن أجلنا باللهو واللعب والمعصية ، ونحن لا نعرف متى ينتهي هذا الزمان!

(٣١) ان من عقبات الايمان بالرسالة حالة العناد التي يعالجها الذكر ببيان نتائجها السيئة ، فيحدثنا السياق عن كلمة الكفّار : بأنهم لا يؤمنون بالقرآن ، ولا بالكتب التي سبقته ، وكأنهم قد عقدوا العزم على هذا الرفض القاطع لرسالات ربهم.

__________________

(٢) بح ج / (٧٧) / ص (٧٥).

(٣) بح ج / (٢) / ص (٨٤).

٤٧١

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)

والله يعالج مشكلة العناد هذه عن طريق تصوير مشاهد رهيبة من يوم الآخرة.

ومن بين تلك المشاهد التي تتعرض لها آيات هذا الدرس وقوف الظالمين أمام ربهم ، يلوم بعضهم بعضا ، ولعل هذه المعالجة القرآنية تدل على أن الإنسان يعتمد أولا على قوة ارضية يزعم انها تمنعه من ربه ، وتخلصه من جزاء كفره ، ثم يستكبر على ربه ، ويتحدى رسالاته ، لذلك يبين السياق بطلان ذلك ، ويصور لنا مشهد الحوار بين الكفار ومن كانوا يعتمدون عليهم في الدنيا في كفرهم بالرسالة ، فيقول :

(وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)

يلقي بعضهم المسؤولية على البعض الآخر ، طمعا في النجاة من الذل والعذاب.

(يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ)

متصورين انهم يقدرون على ذلك ، كما هو الحال في الدنيا ، ويتشبث بعضهم وهم المستضعفون بحجة اتباع المستكبرين.

(يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)

ولكن هل خلق الله الناس مستكبرا ومستضعفا حتى يكون لبعضهم على بعض سلطان مبين؟! كلا .. بل خلقهم أحرارا ، ولكن خضع بعضهم للبعض الآخر بحريته ، فشجعه على الاستعلاء في الأرض.

ولو عرف الإنسان مدى ضلالة الاعتماد على اولي القوة والثروة وادعياء العلم

٤٧٢

والدين ممن ينصبون أنفسهم سادة على الناس ، ويأمرونهم باتباعهم ، لما تورط كثير من الناس في الجرائم ، اتّباعا للسلاطين والمترفين ومؤيديهم من ادعياء العلم والدين.

ولكن الإنسان يزعم ان هؤلاء المستكبرين ينقذونه من عذاب ربه يوم القيامة ، كما انهم يوفرون له بعض الحماية في الدنيا ، ولا يعلم انهم مجرد ابتلاء له في الدنيا ، وانهم لا يغنون عنه من عذاب ربه شيئا.

(٣٢) اما المستكبرون فإنهم من جانبهم يدفعون عن أنفسهم التهمة بأن الإنسان حرّ ومختار ، لا يمكن لأحد إجباره على نمط معيّن من الحياة ، وإذا ترك الحق للباطل فبما ينطوي عليه قلبه من النزوع الى الجريمة.

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا)

وهم يحاولون إلقاء المسؤولية عن كاهلهم.

(أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ)

بلى. قد يتوسل المستكبرون بالمكر والاساليب المضلة ، ولكن يبقى الإنسان صاحب القرار ، وإذا انحرف فلا يعدو إضلال المستكبرين له دور التشجيع.

(بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ)

وهذا ضرب من الشماتة على الإنسان من قبل من كان يزعم انه يخلّصه وينجّيه ، ولعل ذلك من أشد أنواع العذاب الذي يلقاه أصحاب النار.

ولو عقل الناس هذه الحقيقة لانهارت أسس الظلم في المجتمعات ، حين يعلون

٤٧٣

المستكبرون فيها ، ويعيثون فسادا ، ويتبعهم المستضعفون زاعمين أن ذلك يلقي المسؤولية عن كاهلهم ، ويجعلهم مبرئين من الجرائم التي يرتكبونها بحق بعضهم ، ويقولون : المأمور معذور ، وكأن الله أمرهم باتباعهم ، أو انه خلقهم مستضعفين وجعل أولئك مستعلين عليهم.

(٣٣) ومن صور الفكر التبريري الذي يعتمده الإنسان : اعتقاده بأن الزمان هو الذي يفرض عليه نوعا من السلوك ، فيلقي عليه اللوم!

(وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً)

والكفر بالله ليس بالضرورة نفي وجوده بقدر ما هو تحدي رسالاته ، واتباع الأهواء ، أو الأشخاص ، أو القوانين الوضعية ، وهذا ما يبعث على الإنسان بالندامة يوم الحساب ، حيث يتبرأ منه الأنداد المزيفون ، ويكتشف أنهم لا ينفعونه بل يضرونه ، وان الكلمة الفصل هناك لله الحق.

(وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ)

ولات حين مندم.

(وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا)

وحتى يقاوم الإنسان فكرة إلقاء المسؤولية على الآخرين ، يؤكد القرآن مرة أخرى بان ما يلاقيه الإنسان في الآخرة من ألوان العذاب وصنوفه هو جزاء أعماله في الدنيا ، وأساسا ـ في الرسالة الإلهية ـ الجزاء من جنس العمل ، فالصلاة التي يقيمها المؤمن في الدنيا تتحول حورية في الآخرة ، وعلى العكس فان الغيبة تصبح

٤٧٤

زقوما يؤذي صاحبه ، وربما تحولت الى حيات وعقارب والتي ورد في الحديث ان حجمها بحجم البغل ، ولعل الأغلال التي يجعلها الله في أعناق الكفار هي ذات القيود التي يغل بها الناس أنفسهم باتباعهم في الدنيا للأهواء والأشخاص والقوانين ، ولعل خاتمة الآية تشير الى ذلك حين تقول :

(هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

ولم يؤكد القرآن الكلام بحرف الباء فيقل : بما كانوا يعملون ، للاشارة إلى أن الأغلال هي ذات الأعمال التي عملوها في الدنيا والله العالم.

٤٧٥

وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩)

___________________

٣٧ [زلفى] : مصدر زلف بمعنى قرب وهو منصوب على المصدرية أي تقربكم تقرّبا.

٤٧٦

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢)

٤٧٧

وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ

هدى من الآيات :

في سياق تفنيد التبريرات التي يتشبث بها الإنسان للتهرب من مسئولياته تبين الآيات ضلالة الاعتماد على المال والثروة ، فما من قرية أرسل الله فيها منذرين الّا وادّعى مترفوها بأنهم الأولى بالقيادة ، لأنهم يملكون الثروة ، فهم في زعمهم مرضيون عند ربهم ، ولا يمسهم العذاب.

وينسف القرآن هذه الفكرة مرتين :

مرّة حينما يذكرنا بأن ثروة هؤلاء ليست من أنفسهم ، بل هي من عند الله ، ومرّة أخرى عند ما يبين لنا بان مقياس رضى الرب عن الإنسان ليس ما يملك من الثروة ، فربّ غنيّ بغيض عند ربه ، وربّ فقير مرضي عنده ، انما الثروة كما السلطة والقوة وسائر النعم الالهية وسائل لابتلاء الإنسان واختباره في الدنيا.

٤٧٨

ثم يوجهنا السياق لاتخاذ الثروة سبيلا لمرضاة الخالق باستخدامها الصحيح ، وإنفاقها في سبيله ، كما يؤكد ذلك بأن ما يعطيه الإنسان في سبيل الله يخلف له بزيادة الخير في الدنيا ، وبالجنان في الآخرة ، ثم بأن ما يملكه الناس انما هو من الله وليس من عند أنفسهم.

ثم تعالج الآيات فكرة عبادة الأولياء ـ كالملائكة ، والجن ، والصالحين ـ من دون الله ، وذلك عبر حوار بين الله وملائكته ، إذ يسألهم : هل كان هؤلاء يعبدونكم؟ فتنفي الملائكة ذلك ، وتستغفر الله خوفا ورهبة مما يدعيه الناس عنهم اما عن هدف هذه العبادة فهو التهرب من المسؤولية ، والزعم بان الملائكة سوف ينقذونهم من نار جهنم ان هم عبدوهم.

بينات من الآيات :

(٣٤) يبدو أن أغلب المترفين ـ وهم الذين نعّمهم الله فأسرفوا ـ معاندون ، ويكفرون بالرسالات ، بل ويحملون لواء الحرب ضدها.

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ)

ولعل القرآن عبّر في هذه الآية بكلمة «قرية» عن المدينة ، بل عن الحضارة بأجمعها ، استصغارا لها ، ولأن من لا يعبدون الله ، ولا يتبعون رسالاته في حياتهم وحضارتهم أقليه وان كثرت أعدادهم ، ذلك أن القيمة الحقيقيّة للإنسان كما المجتمع بقربه من الحق أو بعده عنه ، لا بما يملك من تقدم ماديّ بحت.

(٣٥) اما لماذا يكفر هذا الفريق فذلك ـ كما يصرحون أنفسهم ـ للأسباب التالية

٤٧٩

الاول : كثرة الأموال والأولاد ، ولعل التعبير كما الأموال لا يختص بظاهر الكلمتين انما تشمل كلمة الأموال كلّ أنواع الثروة ، كما تنطوي كلمة الأولاد أيضا على الأتباع والمطيعين.

(وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً)

إذ أن أول أهداف الرسل هو تغيير القوة السياسية الحاكمة على الناس ، ولكن المترفين يعارضون ذلك مبررين رفضهم بأن السلطة لا تكون لصاحب الحق والعلم ، انما للمترف بما يملك من المال والاتباع.

الثاني : الاعتقاد بأن من يملك المال والرجال لا يلحقه الأذى ، ولا يشمله العذاب الالهي ، حتى ولو فعل الفواحش.

(وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)

ولعل هذه الفكرة تكون سببا لتوغلهم في الجرائم ، لأن اعتماد الإنسان على ما يملك من مال ومؤيدين ، بعيدا عن هدى الله والعقل يقحمه في المهالك ، وهذا ما دفع امريكا للدخول في حرب فيتنام ، فتمرغ أنفهما ، وسقطت هيبتها المزيفة ، كما سقطت روسيا باحتلالها افغانستان الاسلامية غرورا واستكبارا ، فتعرضت لهزائم منكرة على يد ابطال الإسلام هنالك.

وما يدريك لعل الغرور يكون سببا لانتهاء الجاهلية الحديثة؟ فقد قال الامام علي (ع) يصف بعض الأقوام :

«زرعوا الفجور وسقوه الغرور ، وحصدوا الثبور» (١)

__________________

(١) نهج / خ (٢) / ص (٤٧).

٤٨٠