من هدى القرآن - ج ١٠

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-0
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٤

ولا يكون القول سديدا حتى يكون سليما ، وفي وقته المناسب ، ولا يكون كذلك الا بالتفكير والنظر الى الواقع والمستقبل. والذي يميز المؤمن عن المنافق ان المؤمن يتحمل مسئولية كلامه ، فهو يفكر كثيرا قبل الكلام ، بينما المنافق يبادر بالحديث دون رؤية فيبتلى بكلام ، وفي الحديث :

«وان لسان المؤمن من وراء قلبه ، وان قلب المنافق من وراء لسانه» (٨)

ولو تكلم المؤمن بكلام ثم اكتشف أنه كان خطأ اعترف بالخطإ ، وتراجع عن موقفه وكلامه ، اما المنافق فتأخذه العزة بالإثم.

قال ابو عبد الله (ع) لعباد بن كثير البصري الصوفي :

«ويحك يا عباد! غرك ان عف بطنك وفرجك! إن الله ـ عز وجل ـ يقول في كتابه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) اعلم انه لا يقبل الله عز وجل منك شيئا حتى تقول قولا سديدا» (٩)

وقال رسول الله (ص) وقد سأله أحدهم : وهل يحاسبنا ربنا على ما نقول؟! قال :

«وهل يكب الناس في النار الا حصائد ألسنتهم؟!» (١٠)

(٧١) ولكي يكون كلامنا سديدا يجب ان نبتعد عن التبرير ، والكذب والنميمة ، والغيبة ، والتهمة ، وكل آفات اللسان ، وهذا ينعكس مباشرة على سلوكنا ، وسلامة تحركنا في الحياة.

__________________

(٨) نهج البلاغة / خ (١٧٦) / ص (٢٥٣).

(٩) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٣٠٩).

(١٠) بحار الأنوار / ج (٧٧) / ص (٩٠).

٤٠١

(يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)

وفي الحديث عن الامام الصادق (ع):

«ان الله جعل للشر أقفالا ، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، وشر من الشراب الكذب» (١١)

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً)

والسؤال : ما هي العلاقة بين صلاح الأعمال والطاعة لله وللرسول؟

من خلال السياق القرآني نكتشف ان الكلام السديد هو الكلم الحق الطيب والذي يدعم التسليم لله ولرسوله.

(٧٢) والتسليم للقيادة هو الامانة ، وهو من أبرز تجليات الإرادة البشرية.

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها)

ولكن الإنسان تحملها ، وبظلمه وجهله الذين ارتكز فيهما يخون هذه الامانة.

(وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)

الظلوم صيغة المبالغة من الظلم ، والجهولة صيغة المبالغة من الجهل ، وهذا يشير الى انهما صفتان مغروزتان في الإنسان ، وهما من طبيعته العدمية الضعيفة ، وهو يستطيع التغلب على هاتين الطبيعتين عن طريق العمل الصادق ، والوعي الدائم ،

__________________

(١١) وسائل الشيعة / ج (١٧) / ص (٢٦٣).

٤٠٢

وبالتالي عن طريق اتصاله برسالة الله وتسليمه له ولأوليائه ، من الرسل والأئمة والقيادات الصالحة.

(٧٣) وهذا هو أبرز مصاديق تحمل الأمانة ، التي يتحدد مصير الإنسان حسب موقفه منها ، فمن يخونها ـ وهم المنافقون والكفار ـ يصير الى الجحود والعذاب ، ومن يرعاها ويحفظها يصير الى التوبة والثواب.

(لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ)

على خيانتهم ورغبتهم عن التسليم.

(وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ)

لان المؤمن الحقيقي حينما يقع في الذنب بسبب الغفلة أو الجهل سرعان ما ينتبه لخطئه ، فيعود الى مسيرته المستقيمة ، فيتوب الله عليه.

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)

والطريف هنا ان تنتهي هذه السورة ـ التي اشتملت على آيات العذاب والعقاب ـ بالإشارة الى غفران الله ورحمته ، مما يعمق فينا ـ نحن البشر ـ الملفوفين بالظلم والجهل الأمل بربنا عز وجل.

الامانة في الأحاديث :

وختاما لتفسير هذه السورة نذكر جانبا من الأحاديث التي ركزت على تفسير الأمانة بأنها التسليم للقيادة الرسالية :

١ ـ قال الامام الرضا (ع) وقد سأله الحسين بن خالد عن قوله عز وجل : (إِنَّا

٤٠٣

عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) ... الآية .. فقال :

«الامانة الولاية من ادعاها بغير حق كفر» (١٢)

وقال ابو بصير : سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عز وجل : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) .. الآية قال :

«الامانة الولاية» (١٣)

وعنه (ع) قال :

«هي ولاية أمير المؤمنين (ع)» (١٤)

وقال ابو جعفر (ع) : في قول الله تبارك وتعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها) قال :

«الولاية ، أبين أن يحملنها كفرا ، وحملها الإنسان» (١٥)

وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي رحمه الله ، عن أمير المؤمنين (ع) في حديث طويل يقول فيه (ع) لبعض الزنادقة ، وقد قال :

وأجده يقول : «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً» فما هذه الامانة ومن هذا الإنسان؟ وليس من صفة العزيز الحكيم التلبيس على عباده؟ واما الامانة

__________________

(١٢) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٣٠٩).

(١٣) المصدر / ص (٣١١).

(١٤) المصدر / ص (٣١٢).

(١٥) المصدر / ص (٣١٣).

٤٠٤

التي ذكرتها فهي الامانة التي لا تجب ولا تجوز ان تكون الا في الأنبياء وأوصيائهم ، لان الله ـ تبارك وتعالى ـ ائتمنهم على خلقه ، وجعلهم حججا في أرضه ، والسامري ومن اجتمع معه وأعانه من الكفّار على عبادة العجل عند غيبة موسى (ع) ما تم انتحال محل موسى من الطغام ، والاحتمال لتلك الامانة التي لا ينبغي الا لطاهر من الرجس فاحتمل وزرها ووزر من سلك سبيله من الظالمين وأعوانهم ، ولذلك قال النبي (ص) : من استن سنة حق كان له أجرها وأجر من عمل بها الى يوم القيامة ، ومن استن سنة باطل كان عليه وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة (١٦)

__________________

(١٦) الاحتجاج / ص (٢٥١).

٤٠٥
٤٠٦

سورة سبأ

٤٠٧
٤٠٨

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

١ ـ روي عن الرسول الأعظم (ص) انه قال :

«من قرأ سورة سبأ لم يبق نبيّ ولا رسول الا كان له يوم القيامة رفيقا ومصافحا»

(نور الثقلين / ج (٤) / ص (٣١٤))

٤٠٩
٤١٠

الإطار العام

الاسم :

أقتبس أسم السورة من قصة مشهورة عند العرب ، وقد بين القرآن عبرتها الأساسية وهي قصة حضارة سبأ ، التي دمرت بسيل العرم لانحرافها وفسادها.

تتشابه آيات الذكر في بيان مسئولية الإنسان عن أفعاله ، وتفنيد الأعذار التي يتشبث بها البشر للفرار عنها بزعمه.

ومن غرر السور التي تزرع الأحساس بالمسؤولية الذي لو ترسخ في قلب الإنسان زكّاه ، وأصلح أعماله ، هي سورة «سبأ» التي تذكرنا أيضا بالوحي المنزل على النبي (ص).

وواقع الجزاء (المسؤولية) تجل لاسمي الحكيم الخبير اللذين نحمد الله بهما ، فهو العالم بما يلج في الأرض وما يخرج منها (١).

٤١١

وعند قيام الساعة يتجلى الجزاء بأبرز صوره ، حيث لا ينفع تشكيك الكفار بها ، وحيث يحيط الرب علما بكل شيء ، لا يعزب عنه مثقال ذرة ، وحيث الجزاء الوافر للصالحين ، والعذاب الأليم لمن يسعون في آيات الله معاجزين (معاندين ومتحدين) (٣)

وينقسم الناس فريقين تجاه الوحي : فبينما يراه أهل العلم هو الحق ، يستهزأ به الكفار ، ويقولون : هل الرسول مفتر أم به جنة؟! كلا .. بل أنهم لا يؤمنون بالآخرة فهم في العذاب والضلال البعيد.

وينذرهم الذكر بأن كفرهم برسالات الله قد يعرضهم لعذابه ، الذي ان شاء خسف بهم الأرض أو أسقط عليهم من السماء كسفا (٧).

ويعرض السياق صورتين للحضارة : أولهما صالحة حيث استمرت ، بينما الثانية دمرت لفسادها ، وهما بالتالي صورتان بارزتان لواقع الجزاء والمسؤولية.

فلقد آتى الرب داود فضلا ، وألان له الحديد ، وعلّمه صنعة الدروع السابغة ، وسخر لسليمان الريح ، وسخّر له الجن ، وأمر داود وسليمان بالشكر له ، فاستمرت حضارتهما الى ما بعد موت سليمان ، الذي ما دل على موته إلا الأرضة التي أكلت عصاته ، فعلمت الجن أنهم بقوا في العذاب لجهلهم بالغيب (وبالتالي لا يجوز الاعتماد عليهم للهروب من الجزاء كما زعم الجاهليون).

أما الصورة الثانية فتتمثل في قصة سبأ ، الذين أتاهم الله جنتين عن يمين وشمال ، وأمرهم أيضا بالشكر ، فأعرضوا ، فأرسل عليهم سيل العرم.

ومثلهم مثل القرى الآمنة التي بارك الله فيها ، فكفرت ، فجعلهم الله أحاديث يعتبر بها كل صبار شكور (١٠).

٤١٢

وينسف القرآن الكريم أسس التبرير التي يعتمد عليها الكفار ، والتي هي في ذات الوقت حجب للقلب ، وغشاوة للبصر.

الف : إلقاء اللوم على إبليس الذي صدّق عليهم ظنّه ، ويؤكد الذكر انه لا سلطان له عليهم ، وإنما يبتلي الله به الناس ، ليعلم من هو المؤمن حقّا بالآخرة ممن هو منها في شك.

باء : الأنداد الذين يزعمون أنهم يغنون عنهم شيئا ، ويجرمون اعتمادا عليهم ، إنهم لا يملكون مثقال ذرّة في السموات والأرض ، ولا شرك لهم في السلطة ، ولا لهم أعوان وأعضاد ، ولا تنفع شفاعتهم إلا لمن أذن الله له ، كما أنهم لا يملكون للناس رزقا ، ولا يتحمّلون عنهم وزرا.

جيم : إنّ الناس إمّا على هدى أو في ضلال مبين ، وإنّ أهل الصلاح لا يزرون من مسئولية المجرمين شيئا (٢٠).

ويذكّر السياق بأنّ الرسول بشير ونذير لكافة الناس ، وأنّ وعد الله آت ، لا يستأخر ساعة ولا يستقدم ساعة ، ويصوّر لهم مسئوليتهم عن إيمانهم بالرسالة ، وأنّ جزاء كفرهم اليوم يتجلّى عند قيام الساعة ، حيث يتلاوم الكفار ، ويلقي بعضهم المسؤولية على عاتق البعض الآخر.

دال : يلقي المستضعفون اللوم على المستكبرين ، ولكنهم لا يتحملون عنهم وزرا ، بل يقولون لهم : انكم كنتم مجرمين. وحين يشترك الجميع في الأغلال يعلمون أنهم كانوا جميعا مسئولون عن أعمالهم (بشهادة أنّهم في العذاب مشتركون).

هاء : كثرة الأموال والأولاد لا ترفع عن أصحابهما الجزاء والمسؤولية ، ويزعم

٤١٣

المترفون الذين كفروا بالرسالات الالهية : أنهم غير معذّبين ، ويفند الذكر هذه الفكرة بما يلي :

أولا : إنّ الرزق من الله ، فكيف يقف حاجزا دون جزاء الله؟

ثانيا : إنّ الأموال والأولاد لا يقربونهم عند الله زلفى الا بقدر الاستفادة منهما في العمل الصالح والإنفاق ، ويعود القرآن ليذكرنا : أن الإنسان مسئول عن رفضه ، وأنّ الذين يسعون في آيات الله معاجزين يحضرون للجزاء غدا عند ربهم.

واو : إنّ بعضهم كانوا يعبدون الجن ، ويزعمون أنهم يعبدون الملائكة (كل ذلك ليستمروا في جرائمهم اعتمادا على شفاعة الملائكة) ويرفضهم الملائكة.

ويبين الرب أنهم لا يملكون لبعضهم نفعا ولا ضرّا ، وأن الظالمين مجزيّون بالنار (ولا ينقذهم ادعاؤهم الانتماء الى الملائكة من جزاء ظلمهم) (٢٨).

ويكشف القرآن الحجب التي يتلبس بها قلب الكافر الواحد بعد الآخر :

أولا : حجاب التقليد. حيث تراهم يتهمون رسولهم بالافتراء أو بالسحر لأنه يريد ان يصدهم عما كان يعبد آباؤهم.

ويقول الذكر : إن آباءهم لم ينزل عليهم كتاب يدرسونه ، ولا بعث فيهم نذير (حتى يفتخروا بآبائهم الذين لم يكن لهم رسالة ولا معرفة).

ثانيا : حجب الغرور. حيث تجدهم يكذبون بالرسالة اعتمادا على قوتهم ، في حين أنّ قوة الأمم الغابرة التي كانت أكثر من هؤلاء عشرات المرات لم تدفع الجزاء المتمثل في العذاب النكير.

٤١٤

ثالثا : حجاب الغفلة. حيث يدعوهم الرب للقيام من أجل الله ، والتفكر في رسولهم ليعرفوا دلائل الصدق فيه. فهو ليس بمجنون ولكنه يرى عذابا شديدا فينذر به (وهذا هو دليل حماسه الكبير الذي فسّره الكفار بالجنون) وهو لا يطلب أجرا إلا ما يعود بالتالي إليهم ، وهذا شاهد صدق على أنّه حق.

ثم إنّ الرب يشهد له بالصدق ، وهو على كل شيء شهيد ، فهو يقذف بالحق فيهدم أركان الباطل فلا يتجدد ولا يعود.

ويؤكّد ربنا أنّ خسارة الضلالة تعود على صاحبها (فالإنسان مجزيّ بضلالته شاء أم أبى) (٤١).

ويحذّر الرب من مغبّة الضلالة ، حيث لا يفوت أحد منهم من قبضة العدالة ، بل يؤخذون من مكان قريب ، فيقولون : آمنا! ولكن هيهات لقد فات الآوان ، وهنالك حيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأتباعهم من قبل. كل ذلك بسبب أنهم كانوا في شك مريب (٥١).

٤١٥

سورة سبأ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ

___________________

٢ [يلج] : يدخل.

[يعرج] : يصعد.

٣ [لا يعزب] : لا يفوته ولا يخفى عليه.

٤١٦

كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦)

___________________

٥ [معاجزين] : المعاجز الذي يحاول إبطال حجة الطرف الآخر ، وقيل مثبطين.

[رجز أليم] : العذاب السيء.

٤١٧

وله الحمد وهو الحكيم الخبير

هدى من الآيات :

تبدأ هذه السورة المباركة بالحمد ، وبذكر اثنين من أسماء الله ، وهما الحكيم الخبير ، ومن خصائص القرآن انه يبين آياته وعبره ، بعد التمهيد لها ببراعة الاستهلال ، وهو بدء المتكلم بالاشارة الى حديثه ، وفي القرآن الحكيم نجد بيانا للموضوعات التي يفصلها السياق بعدئذ عبر ألفاظ مجملة ، مما يدل على نزول الوحي من عند الله ، إذ لا يقدر أحد على التحدث بهذا الإجمال والتعبير ، وبهذه الاحاطة غير الله.

وعند البحث عميقا في هذه السورة التي تبدأ بالحمد ، نجد إشارات وتجليات لاسمي الحكيم والخبير ، وحديثا عن جوانب من انعكاساتهما في الحياة ، وهكذا نبدأ المعارف الالهية والقرآنية كما الدين بذكر الله ، وتنتهي اليه ، وفي الحديث :

«أوّل الدين معرفته» (١)

__________________

(١) نهج البلاغة / خ (١) / ص (٣٩).

٤١٨

وهكذا تتركز المعرفة ثم تتسع وتعود بعدها لتتركز مرة أخرى. في البدء نتعرف على أن ربنا حميد وحكيم وخبير ، ثم نفتش في الحياة وإذا بها تدلنا بما فيها من سنن وأنظمة على ذلك ، والنظرة الكلية للحياة (الفلسفة العامة) يجب أن توفر للإنسان الإجابة على السؤال التالي : ما هي السنن والأنظمة العامة التي تسير الحياة؟ وبتعبير آخر : ان الحكمة (الفلسفة) هي التي تبصرنا بحقيقة أنفسنا ، وما يحيط بنا من الخلائق ، وبما تحكمها من سنن ثابتة ، وبالتالي تجعلنا قادرين على معرفة أفضل وعمل أصلح. وهذه الحكمة نجدها مفصلة في كتاب ربنا الحكيم ، وأكثر آيات الذكر تبصّرنا بتعابير ظريفة يستطيع أن يستوعب مضامينها حتى الطفل الصغير ، وبشكل متكامل ، فقوله الحمد لله الحكيم الخبير يشتمل على حقائق كثيرة في الحكمة العامة ، لأنه يحدّد بداية الكون ونهايته وهدفه ، وانه قائم على علم ونظام يتجليان في كل جزء وجزء منه ، لأنّ خالقه هو الله الذي يملك السموات والأرض حاضرا ومستقبلا مما يوجب علينا الحمد له في كل مكان وزمان.

والخبير هو المحيط بدقائق الأمور نظريا وعمليا ، ومن مصاديق خبره انه يحيط علما بكل ما يلج في الأرض وما يخرج منها حتى الغازات التي تمتصها الأرض أو التي تلفضها ، يعلم الله وزنها وحجمها وطبيعتها ، كما يحيط علما بكل ما ينزل من السماء وما يعرج إليها ، وألطف ما يعرج هو النية الحسنة والعمل الصالح اللذان يرفعهما الله.

ثم يشير السياق الى أحد تجليات الحكمة الالهية ، حينما يذكرنا بأنّ الله عادل في جزائه للناس ، فالذي يعمل الصالحات يجازيه بالمغفرة والرزق الكريم ، بينما يعذب الذين يعملون السوء برجز أليم.

٤١٩

بينات من الآيات :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(١) (الْحَمْدُ لِلَّهِ)

قال بعض المفسرين ان معنى الآية : يا أيها القارئ للقرآن قل الحمد لله ، والحال أننا لا نحتاج الى تقدير كلمة «قل» لان جملة «الحمد لله» مفيدة للمعنى المطلوب ، فالحمد التام الدائم لله تعالى شئنا أم أبينا ، قلنا أم سكتنا ، عرفنا أم جهلنا ، ومن هو أحقّ بالحمد ممن خلق فرزق ، وقدّر فألهم ، وصوّر فأحسن.

(الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)

وما في الدنيا صورة مصغرة ومحدودة مما في الآخرة ، وحين نتذكر بالآيات التي تدلّ على أن ربنا حميد في الدنيا نعرف انه حميد في الآخرة.

(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ)

ومن آيات حمده حكمته وخبره.

(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)

(٢) ولكن ما هي تجليات هاتين الصفتين الالهيتين؟

يحدثنا القرآن عن علم الله (خبره) أوّلا ، وذلك عند ما يعرّفنا بإحاطته علما بكل شيء ، وعن حكمته ثانيا ، وذلك عند ما يذكرنا بجزائه العادل للخلق.

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ

٤٢٠