من هدى القرآن - ج ١٠

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-0
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٤

ولا يأتون البأس الا قليلا

هدى من الآيات :

مرض النفاق الذي تظهره الأزمات الشديدة التي تعصف بالأمة قضية ذات أبعاد متعددة ، ومعرفة أبعاد النفاق الاجتماعي ضرورة للسيطرة على هذا التيار الخطر ، حتى لا يجرف خيرات الامة ، أو يستلب بركاتها وايجابياتها.

والمجتمع الذي يترك المنافقين أحرارا ، يستغلون طاقات الأمة وانتصاراتها ، فينزون على السلطة على غفلة من أبنائها ، ولعدم وعيهم ، فانه لن يدوم طويلا في مسيرته الصاعدة ، وأبناؤه يعلمون أن أعمالهم تنتهي الى جيوب المستغلين والمنافقين.

والقرآن الكريم يفضح ـ في أكثر من سورة ـ المنافقين الذين يبحثون عن المكاسب والمغانم ، دون ان يقدموا من أنفسهم شيئا للحصول عليها ، فهم في الأزمات والحروب يتهربون من المسؤولية ، ولكنهم يبرزون ويظهرون أنفسهم أبطالا حين المغانم والانتصارات.

٢٨١

بينات من الآيات :

(١٦) كانت حرب الأحزاب من الأزمات الصعبة التي مرت بها الأمة الاسلامية ، وكان من ايجابياتها ـ كما سائر الأزمات ـ انها كشفت واقع فريق المنافقين ، والقرآن لا يذكر تفاصيل هذه الحادثة في هذه السورة ، انما يذكّر ببعض النقاط الحساسة منها.

فيؤكد لنا بأن الإنسان لا يستطيع ان يدّعي القدرة على الخلاص من الموت أو القتل بالفرار ، أو أن ذلك ينفعه. كلا .. فهو قد يبعده عن ذلك لحظات وأياما ، ولكنه لن يكون سببا للبقاء والاستمرار ، فما يدفعه المجتمع وحتى الإنسان الفرد عن الهزيمة يفوق ما يدفعه حين الاستقامة والاستمرار أضعافا مضاعفة ، فهو بالفرار من المعركة يعطي العدو زخما من القوة والثقة بالنفس.

(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً)

بينما تهب الشجاعة للإنسان عمرا طويلا ، لأن الشجاع يقاوم الأعداء ومن ثم يضمن استمراره.

(١٧) وبالاضافة إلى أن الفرار من الموت لا يجدي نفعا ، إذ انه يدركهم انى كانوا ، بالاضافة الى ذلك فانه يغضب الرب ، وهم لا يملكون من دونه وليّا ولا نصيرا ، فاذا أراد بهم سوء فلا عاصم لهم منه يمنعهم من عذابه ، وإذا أراد بهم رحمة فلا أحد قادر على منع رحمته عنهم.

(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً)

٢٨٢

ان الهزيمة امام الأعداء مظهر من مظاهر ضعف الايمان بالله وتعلق القلب بالشركاء من دونه ، وهكذا ينسف القرآن هذه الفكرة بقوله :

(وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)

(١٨ ـ ١٩) ثم يذكرنا القرآن بجانب من صفات المنافقين وهي :

أولا : انهم يبحثون عن أمثالهم ، أولا أقل مثلهم عمليا ، فاذا بهم يثبطون أناس عن المواجهة مع العدو عند الحرب ، حتى يكون المجتمع مثلهم فيتخلصون من اللوم وممن يسمهم بالجبن.

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا)

اي المثبطين الذين يبثون روح الهزيمة والضعف في المجتمع ، و «قد» تفيد التأكيد وليس الإمكان والتحقيق.

ثانيا : الجبن وعدم الإقدام ، وقليلا ما يتواجدون حين المعارك الحاسمة ، وهكذا فان الصعوبات والمشاكل هي التي تكشف المنافقين على حقيقتهم فاذا بهم ـ وقد ادعوا الشجاعة سابقا ـ تخور عزيمتهم في لحظة المواجهة ، وتدور أعينهم من الخوف ، كما المغشي عليه من الموت ، وإذا انجلى الخطر بصمود المؤمنين واستقامتهم في ساحة الصراع تجدهم مرة أخرى بألسنتهم السليطة يشتمون ويحمّلون الآخرين المسؤولية ، وحدة كلامهم تكون بمقدار هزيمتهم وجبنهم في الأزمات.

(وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً* أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ)

٢٨٣

ثالثا : السعي من أجل المغانم ، والأخذ من المجتمع الاسلامي بحرص شديد يوازي شحهم وبخلهم عن الإنفاق لصالح الإسلام والمسلمين ، وأساسا لا ينتمي هؤلاء للمسلمين إلا سعيا وراء المصلحة.

(أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)

وانما أحبط الله أعمالهم لأنها لا تقوم على أساس صحيح واهداف مبدئية شريفة ، كما نزع عنهم اسم المؤمنين لان انتماءهم للمؤمنين ظاهري ، وانتماؤهم الحقيقي هو للكفار أو لذواتهم وشهواتهم.

(٢٠) رابعا : ومن خوف المنافقين انهم حتى بعد انتهاء المعركة لصالح المسلمين ، وانسحاب الأحزاب لمّا تطمئن نفوسهم ، فهم يزعمون أن المعركة لا زالت قائمة ، ويعيشون حالة الخوف والرعب ، وكيف تطمئن نفوسهم وهي خالية من الايمان وذكر الله؟!

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا)

فهم وجلون على مصيرهم ومصالحهم من قوى الشرك.

(وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ)

يتمنون لو كانوا بعيدين عن المسلمين ، كما سكان البادية الذين همّهم سماع الاخبار بعيدا عن المسؤولية ، وهذه من صفات المنافقين انهم في ساعة العسرة والخطر ينهزمون في داخلهم.

(يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ)

٢٨٤

خارجون الى (البدو) في الصحراء.

(فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ)

ليعرفوا مصير المعركة حتى يتكيفوا معه ، فهم لا يصنعون الأحداث بل يتقلبون معها.

(وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً)

مما يدل على ان المنافقين ينهزمون نفسيا بتلك التمنيات ، وعمليا بالفرار من بين المسلمين حفاظا على حياتهم ، ولو لم يحالفهم الحظ بالفرار والهزيمة ما كانوا يؤثّرون في المعادلة أبدا ، لأنهم غير مستعدين للتضحية ولا للقتال المستميت.

وتدل هذه الآية : (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) على أحد معنيين :

الاول : أنهم لو كانوا في المسلمين لم يقاتلوا الأحزاب ـ على افتراض عودتهم ـ لأنهم يبحثون عن المعارك التي يكون فيها العدو ضعيفا وقليلا ، بحثا عن المغانم حيث يكون النصر فيها للمسلمين ، وحتى في هذه الحالة فإنهم لا يؤدون دورا أساسيا ، ولا يدخلون قلب المعركة.

الثاني : انهم لو صادف مجيء الأحزاب للقتال مرة ثانية ، ولم يتمكنوا من الفرار فإنهم لن يؤدوا مهامات خطرة في القتال ، بل سيكتفون بالأدوار الهامشية التي لا تكلفهم شيئا من التضحية ، كما أنها تحافظ على شخصياتهم ومكانتهم في المجتمع المسلم.

قصة غزوة الخندق :

وهذه النفوس المريضة أظهرتها ساعة الازمة في غزوة الخندق ، التي نصر الله فيها

٢٨٥

الامة الاسلامية نصرا عزيزا ، وكانت في أيام نشأتها ، والله يذكرنا بهذه الغزوة حتى نستفيد عبرا منها ، ويذكرنا بالنصر تذكيرا للأمة بأن ميلادها كان رهين تلك الحروب وبأولئك الابطال الذين خاضوها ، وعلى سواعدهم جاء النصر ، ومع أن الامة واقع قائم الآن إلا انها لا تستطيع ان تنكر فضل أولئك الرواد الأوائل الذين ساهموا في صناعة الامة وحافظوا على كيانها ، لذلك يجب ان تبقى قصة غزوة الخندق وسائر الحروب التي شهدتها الامة في بداية انطلاقتها وفي أيام مخاضها راسخة في ذاكرة كل فرد من ابنائها ، والإنسان يتأثر بالتاريخ فهو ابن له ، وهو ينعكس عليه بصورة ما ، فاذا عرف تاريخه معرفة حسنة وسليمة ، وعرف محيطه بجميع أبعاده فان اخطاءه سوف تقل ، اما لو كانت رؤيته للتاريخ غامضة أو ناقصة فان حياته ستكون مليئة بالأخطاء ، ولذلك يذكر القرآن بهذه القصص والعبر التي خلفتها لنا أحداث التاريخ ، ونحن ـ بدورنا ـ نثبت هنا بعض ما جاء في السيرة من تاريخ الواقعة.

ذكر محمد بن كعب القرظي وغيره من أصحاب السير قالوا : كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود منهم سلام بن ابو الحقيق ، وحيي بن اخطب في جماعة من بني النضير الذين اجلاهم رسول الله (ص) خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة ، فدعوهم الى حرب رسول الله (ص) وقالوا : إنا سنكون معكم عليهم حتى نستأصلهم ، فقالت لهم قريش : يا معشر اليهود إنكم أهل الكتاب الأول فديننا خير أم دين محمد ، قالوا : بل دينكم خير من دينه فأنتم أولى بالحق منه ، فهم الذين انزل الله فيهم : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) إلى قوله : (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) فسرّ قريشا ما قالوا ، ونشطوا لما دعوهم اليه ، فأجمعوا لذلك واتعدوا له ، ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا غطفان فدعوهم إلى حرب رسول الله (ص) واخبروهم انهم سيكونون معهم عليه (ص) وان قريشا قد بايعوهم

٢٨٦

على ذلك فأجابوهم فخرجت قريش وقائدهم ابو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر في فزارة ، والحرث بن عوف في بني مرة ، ومسعر بن جبلة الأشجعي فيمن تابعه من أشجع ، وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد فأقبل طليحة في من اتبعه من بني أسد ـ وهما حليفا أسد وغطفان ـ وكتب قريش إلى رجال من بني سليم فأقبل ابو الأعور السلمي فيمن اتبعه من بني سليم مددا لقريش ، فلما علم بذلك رسول الله (ص) ضرب الخندق على المدينة وكان الذي أشار عليه سلمان الفارسي (ره) وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله (ص) وهو يومئذ حرّ ، قال : يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا ، فعمل فيه رسول الله (ص) والمسلمون حتى أحكموه ، وفي رواية اخرى : خط رسول الله (ص) الخندق عام الأحزاب ، أربعين ذراعا بين عشرة ، فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي ، وكان رجلا قويّا ، فقال الأنصار : سلمان منا ، وقال المهاجرون : سلمان منا ، فقال رسول الله (ص) : «سلمان منا أهل البيت» ، قال عمرو بن عوف : فكنت انا ، وسلمان ، وحذيفة بن اليمان ، والنعمان بن مقرن ، وستة من الأنصار ، نقطع أربعين ذراعا. فحفرنا حتى إذا بلغنا الثرى ، اخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مدورة فكسرت حديدنا ، وشقت علينا ، فقلنا : يا سلمان ارق إلى رسول الله (ص) فأخبره عن الصخرة ، فإما ان نعدل عنها فإن المعدل قريب ، وإما ان يأمرنا فيه بأمره فإنا لا نحب ان نجاوز خطه ـ وهذا مما يدل على الانضباط ـ فرقى سلمان حتى أتى رسول الله (ص) وهو مضروب عليه قبة ، فقال : يا رسول الله! خرجت صخرة بيضاء من الخندق مدوّرة ، فكسرت حديدنا ، وشقّت علينا ، حتى ما يحك فيها قليل ولا كثير ، فمرنا فيها بأمرك ، فهبط رسول الله (ص) مع سلمان في الخندق ، وأخذ المعول (١) وضرب به

__________________

(١) المعول : الفأس العظيمة التي ينقر بها الصخر.

٢٨٧

ضربة فلمعت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها (٢) ـ يعني لابتي المدنية ـ حتى لكأن مصباحا في جوف ليل مظلم ، فكبّر رسول الله (ص) تكبيرة فتح ، فكبّر المسلمون ، ثم ضرب ضربة اخرى فلمعت برقة أخرى ، ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى ، فقال سلمان : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا الذي أرى؟! فقال : «أما الاولى فإن الله عز وجل فتح علي بها اليمن ، وأما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب ، وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق» فاستبشر المسلمون بذلك وقالوا : الحمد لله موعد صادق. قال : وطلعت الأحزاب ، فقال المؤمنون : «هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ» وقال المنافقون : ألا تعجبون يحدثكم ويعدكم الباطل ، ويخبركم انه يبصر في يثرب قصور الحيرة (٣) ومدائن كسرى ، وانها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق ، ولا تستطيعون ان تبرزوا؟!

وقال جابر بن عبد الله : كنا يوم الخندق نحفر الخندق فعرضت فيه كدية (٤) وهي الجبل ، فقلنا : يا رسول الله إن كدية عرضت فيه. فقال رسول الله (ص) : «رشّوا عليها ماء» ثم قام فأتاها وبطنه معصوب بحجر من الجوع ، فأخذ المعول أو المسحاة فسمّى ثلاثا ، ثم ضرب فعادت كثيبا أهيل فقلت له : ائذن لي يا رسول الله الى المنزل ، ففعل ، فقلت للمرأة : هل عندك من شيء؟ فقال : عندي صاع من شعير وعناق (٥) فطحنت الشعير ، وعجنته وذبحت العناق وسلختها ، وخليت بين المرأة وبين ذلك ، ثم أتيت الى رسول الله (ص) فجلست عنده ساعة ثم قلت ائذن لي يا رسول الله ، ففعل ، فأتيت المرأة فإذا العجين واللحم قد أمكنا ، فرجعت الى

__________________

(٢) اللابة : الحرة وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها ، والمدينة المنورة ما بين حرتين عظيمتين.

(٣) قال الحموي : الحيرة مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة على موضع يقال له النجف.

(٤) الكدية : قطعة غليظة صلبة لا يعمل فيها الفأس.

(٥) العناق الأنثى من أولاد المعز قبل استكمال الحول.

٢٨٨

رسول الله (ص) فقلت : أن عندنا طعيما لنا ، فقم يا رسول الله أنت ورجلان من أصحابك فقال : «وكم هو؟» قلت : صاع من شعير ، وعناق ، فقال للمسلمين جميعا : قوموا إلى جابر ، فقاموا فلقيت من الحياء ما لا يعلمه الا الله ، فقلت : جاء بالخلق على صاع شعير وعناق ، فدخلت على المرأة ، وقلت : قد افتضحت ، جاءك رسول الله (ص) بالخلق أجمعين ، فقالت : هل كان سألك كم طعامك؟ قلت : نعم ، فقالت : الله ورسوله اعلم ، قد أخبرناه ما عندنا ، فكشفت عنّي غمّا شديدا ، فدخل رسول الله (ص) فقال : «خذي ودعيني من اللحم» فجعل رسول الله (ص) يثرد ويفرّق اللحم ، ثم يحمّ هذا ويحمّ هذا ، فما زال يقرّب الى الناس حتى شبعوا أجمعين ، ويعود التنور والقدر املأ ما كانا ، ثم قال : رسول الله (ص) : «كلي واهدي» فلم نزل نأكل ونهدي قومنا أجمع. أورده البخاري في الصحيح ، وعن البراء بن عازب قال : كان رسول الله (ص) ينقل معنا التراب يوم الأحزاب وقد وارى التراب بياض بطنه وهو يقول :

«اللهم لو لا أنت ما اهتدينا ، ولا تصدقنا ولا صلّينا ، فانزلن سكينة علينا ، وثبّت الأقدام ان لاقينا ، انّ الاولى قد بغوا علينا ، إذا أرادوا فتنة أبينا»

يرفع بها صوته ، ولمّا فرغ رسول الله (ص) من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بين الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة ، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا الى جانب أحد ، وخرج رسول الله (ص) والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم الى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هناك عسكره والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام ، وخرج عدو الله حيي بن اخطب النضيري ، حتى أتى كعب بن أسد القرظي ـ صاحب بني قريظة ـ وكان قد وادع رسول الله (ص) على قومه ،

٢٨٩

وعاهده على ذلك ، فلما سمع كعب صوت ابن اخطب أغلق دونه حصنه ، فاستأذن عليه فأبى ان يفتح له ، فناداه : يا كعب افتح لي ، فقال : ويحك يا حيي انك رجل مشؤوم ، اني قد عاهدت محمدا (ص) ولست بناقض ما بيني وبينه ، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا. قال : ويحك افتح لي اكلّمك! قال : ما انا بفاعل. قال : ان أغلقت دوني إلا على حشيشة تكره ان آكل منها معك ، فاحفظ الرجل ففتح له. فقال : ويحك يا كعب جئتك بعزّ الدهر وببحر طام. جئتك بقريش على قادتها وسادتها ، وبغطفان على سادتها وقادتها. قد عاهدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه ، فقال كعب : جئتني والله بذلّ الدهر. بجهام قد هراق ماؤه يرعد ويبرق ، وليس فيه شيء ، فدعني ومحمدا وما انا عليه ، فلم أر من محمد إلا صدقا ووفاء ، فلم يزل حيي بكعب يفشل منه في الذروة والغارب ، حتى سمح له على ان أعطاه عهدا وميثاقا ، لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن ادخل معك في حصنك ، حتى يصيبني ما أصابك ، فنقض كعب عهده ، وبرىء مما كان عليه فيما بينه وبين رسول الله (ص) فلما انتهى الخبر إلى رسول الله (ص) بعث سعد بن معاذ بن النعمان بن امرء القيس ـ أحد بني عبد الأشهل ـ وهو يومئذ سيد الأوس ، وسعد بن عبادة أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج ـ وهو يومئذ سيد الخزرج ـ ومعهما عبد الله بن رواحة ، وخوّات بن جبير. فقال : «انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ، فإن كان حقا فالحنوا لنا لحنا نعرفه ، ولا تفتوا أعضاد الناس ، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس» وخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث مما بلغهم عنهم ، قالوا : لا عقد بيننا وبين محمد ولا عهد ، فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه ، وقال سعد بن معاذ : دع عنك مشاتمتهم ، فإن ما بيننا وبينهم أعظم من المشاتمة ، ثم أقبلوا إلى رسول الله (ص) وقالوا : عضل والقارة لغدرة عضل ، والقارة بأصحاب رسول الله خبيب بن عدي وأصحابه أصحاب الرجيع ، فقال رسول الله (ص) : «الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين» وعظم عند ذلك البلاء واشتدّ

٢٩٠

الخوف ، وأتاهم عدوّهم من فوقهم ، ومن أسفل منهم ، حتى ظنّ المؤمنون كل ظنّ ، وظهر النفاق من بعض المنافقين ، فأقام رسول الله (ص) واقام المشركون عليه بضعا وعشرين ليلة لم يكن بينهم قتال إلا الرمي بالنبل ، إلا ان فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود ـ أخو بني عامر بن لوي ـ وعكرمة بن أبي جهل ، وضرار بن الخطاب ، وهبيرة بن أبي وهب ، ونوفل بن عبد الله ، قد تلبسوا للقتال ، وخرجوا على خيولهم. حتى مروا بمنازل بني كنانة ، فقالوا : تهيأوا للرحب يا بني كنانة ، فستعلمون اليوم من الفرسان ، ثم أقبلوا تعنق بهم خيولهم ، حتى وقفوا على الخندق ، فقالوا : والله ان هذه لمكيدة ، ما كانت العرب تكيدها ، ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق ، فضربوا خيولهم فاقتحموا ، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع ، وخرج علي بن أبي طالب (ع) في نفر من المسلمين ، حتى أخذ عليهم الثغرة التي منها اقتحموا ، وأقبلت الفرسان نحوهم ، وكان عمرو بن عبد ود فارس قريش ، وكان قد قاتل يوم بدر حتى ارتثّ واثبته الجراح ، ولم يشهد أحدا ، فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مشهده ، وكان يعد بألف فارس وكان يسمى فارس يليل ، لأنه اقبل في ركب من قريش ، حتى إذا كانوا بيليل ـ وهو واد قريب من بدر ـ عرضت لهم بنو بكر في عدد ، فقال لأصحابه : امضوا ، فمضوا ، فقام في وجوه بني بكر حتى منعهم من ان يصلوا اليه فعرف بذلك ، وكان اسم الموضع الذي حفر فيه الخندق المذاد وكان أول من طفره عمرو وأصحابه فقيل في ذلك :

عمرو بن عبد كان أوّل فارس

جزع المذاد وكان فارس يليل

وكان ينادي عمرو : من يبارز؟ فقام علي (ع) وهو مقنع في الحديد ، فقال : «أنا له يا نبي الله» فقال : «انه عمرو اجلس» ونادى عمرو : ألا رجل؟! وهو يؤنبهم ويقول : اين جنتكم التي تزعمون ان من قتل منكم دخلها! فقام علي (ع) فقال : «انا له يا رسول الله». ثم نادى الثالثة فقال :

٢٩١

ولقد بححت من النّداء

بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجّع

موقف البطل المناجز

إنّ الّسماحة والّشجا

عة في الفتى خير الغرائز

فقام علي فقال : «يا رسول الله انا» فقال : «انه عمرو» فقال : «وان كان عمرو» فاستأذن رسول الله ، فأذن له رسول الله ، فألبسه رسول الله (ص) درعه ذات الفضول ، وأعطاه سيفه ذا الفقار ، وعمّمه عمامة السحاب على رأسه تسعة أكوار ، ثم قال له : «تقدّم» فقال لما ولّى : «اللهم احفظه من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، ومن فوق رأسه ، ومن تحت قدميه» فمشى علي (ع) اليه وهو يقول :

لا تعجلنّ فقد أتا

ك مجيب صوتك غير عاجز

ذو نيّة وبصيرة

والصّدق منجي كلّ فائز

إنّي لأرجوا ان أقي

م عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقى

ذكرها عند الهزاهز

قال له عمرو : من أنت؟! قال : «انا علي» قال : ابن عبد مناف؟ فقال : «انا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف» فقال : غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو اسنّ منك ، فإني اكره ان أهريق دمك؟! فقال علي (ع) : «لكني والله ما اكره ان أهريق دمك» فغضب ونزل وسلّ سيفه ، كأنه شعلة نار ، ثم اقبل نحو عليّ مغضبا ، فاستقبله علي بدرقته ، فضربه عمرو بالدرقة فقدّها ، واثبت فيها السيف ، وأصاب رأسه فشجّه ، وضربه عليّ على حبل العاتق ، فسقط وتسيّف على رجليه من أسفل ، فوقع على قفاه ، وثارت بينهما عجاجة فسمع عليّ يكبّر. فقال رسول الله (ص) : «قتله والذي نفسي بيده»

٢٩٢

فكان أول من ابتدر العجاج عمر بن الخطاب ، فإذا عليّ يمسح سيفه بدرع عمرو فكبّر عمر بن الخطاب ، وقال : يا رسول الله قتله ، فحزّ عليّ رأسه ، واقبل نحو رسول الله ووجهه يتهلل ، فقال عمر بن الخطاب : هلّا استلبته درعه ، فإنه ليس للعرب درع خير منها؟! فقال : «ضربته فاتقاني بسوأته فاستحييت ابن عمي ان استلبه» فقال النبي (ص) : «أبشر يا علي ، فلو وزن اليوم عملك بعمل امة محمد لرجح عملك بعملهم ، وذلك انه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلا وقد دخله وهن بقتل عمرو ، ولم يبق بيت من بيوت المسلمين إلا وقد دخله عزّ بقتل عمرو» (٦)

__________________

(٦) مجمع البيان / ج (٧ ـ ٨) / ص (٣٤٠).

٢٩٣

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤)

___________________

٢٣ [قضى نحبه] : النحب النذر ، وقضى نحبه أي قتل واستشهد في سبيل إنجاز عهده.

٢٩٤

وما بدلوا تبديلا

هدى من الآيات :

بعد ان تعرض الدرس الماضي لصفات المنافقين يبين القرآن الحكيم في هذه الآيات صفات المؤمنين الصادقين عند الصعوبات والحروب ، والصور المتقابلة في القرآن توضح بما فيه الكفاية الحقائق وبالخصوص في الحقل الاجتماعي.

فالمؤمنون ـ على خلاف ما كان عليه المنافقون من العصيان ـ يتبعون رسول الله (ص) ويستجيبون لقيادته ، فهو أسوه حسنة لهم في حياتهم بما جسده في حياته من صفات الخير ، ولا ريب أن الاقتداء برسول الله (ص) ليس عملا بسيطا ، لأن الإنسان لا يستطيع أن يصبح تابعا للرسول ، ومهتديا بهداه إلّا إذا تجرد عن شهواته وحبه للدنيا ، وإنما يتجرد عن حب الدنيا ذلك الذي يذكر الله كثيرا بذكر نعمه وعظمته وأسمائه ، والشكر له دائما.

٢٩٥

بينات من الآيات :

(٢١) يدعي بعض المنافقين أنهم قادة ، وان من صفات القائد في تصورهم أن لا يدخل المعركة ولا يضحي بنفسه ، بل يجلس بعيدا عن الصراع ليصدّر الأوامر فقط ، لكن القرآن يؤكد بأن القيادة الحقيقية تتمثل في رسول الله (ص) وأن حياته يجب ان تكون نموذجا لنا نقتدي به ، والسبب انه كان الأمثل في كل حقل فهو الأشجع والمقدام في الحروب ، وصورة مناقضة للمنافق فهو يعمل أولا ثم يأمر الناس ، وكان الإمام علي (ع) المعروف بشجاعته واقدامه يقول عنه :

«كنا إذا أحمر البأس اتقينا برسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فلم يكن أحد منا أقرب الى العدو منه» (١)

وإذا قرر الحرب كان أول من يلبس لامتها ، فبعد ان وضعت حرب الخندق أوزارها ، وعادت قريش أدراجها منهزمة ، عاد الرسول الى بيته ـ وكان الوقت بعد الظهر ـ فوضع الحرب واستحم لصلاة العصر ، وقبل الدخول فيها نزل عليه جبرئيل (ع) وقال له : يا محمد! وضعت لامة الحرب ونحن (اي الملائكة) لم نضعها؟! فعرف النبي انه يجب ان يبادر لحرب بني قريظة الذين ساعدوا كفار قريش في حرب الخندق ، ونقضوا بذلك عهدهم مع الرسول (ص) فسرعان ما لبس لامة حربه وقال للمسلمين : لا نصلي العصر الا في بني قريظة ، فمشى المسلمون الى هناك ، وحاصروا قلاعهم خمسة وعشرين يوما ، الى ان استسلموا وعاد المسلمون الى المدينة ، وهكذا كان الرسول هو السبّاق الى الخيرات ، كما كان القمة السامقة في كل فضيلة ومكرمة ، فهو الذي يحب التأسي والاقتداء به لا المنافقين.

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)

__________________

(١) نهج البلاغة / خ (٩) / ص (٥٢٠).

٢٩٦

ولكن هل يتمكن من الاقتداء بالرسول كل أحد. كلا .. بل الذي ارتفع بإرادته وروحه وسلوكه عن حطام الدنيا ، وتطلع الى الآخرة.

(لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ)

اما الذي يكون هدفه شهواته أو زينة الدنيا ، فانه لا يستطيع الاقتداء بالرسول (ص) الذي أخلص نفسه ووجهه لله ، وزهد في درجات هذه الدنيا الدنية ، وزخرفها وزبرجها.

اما الصفة الاخرى لمن يتبع الرسول فهي : تذكر غايته الأساسية وهي رضوان الله ، والاستقامة عليها ، وحين يعرف الإنسان وجهته يعرف ـ بوضوح ـ سائر أهدافه ، وتتوضح له استراتيجياته ومعالم سلوكه ، إذ يجد المعيار السليم لمعرفة كل ذلك. وهكذا يعطي ذكر الله ضمانة للإنسان حتى لا ينحرف عن أهدافه التي تجمعها كلمة واحدة هي رضوان الله.

(وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً)

(٢٢) وبعد ذلك يثنى السياق على أهم صفات المؤمنين ، والتي تناقض صفات المنافقين وأهمها :

أولا : انهم لا تكسرهم الأزمات ، ولا ينهزمون أمام الصعوبات مهما كانت ، فهم يعرفون بأن ذلك كله من طبيعة طريقهم (ذي الشوكة) فكلما رأوا المصاعب تتزاحم في طريقهم كلما ازدادوا يقينا بصحة طريقهم ، وتسليما لربّهم وقيادتهم.

ولعل المؤمن يبحث عن ساعة حرجة يجرب فيها نفسه (ايمانه وإرادته) وبالتالي يظهر فيها كفاءاته الرسالية الحقيقية لوجه الله.

٢٩٧

(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ)

لم ينهزموا كما فعل المنافقون ، بل ازدادوا يقينا بخطّهم.

(قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ)

ومن هذا نستفيد ان التربية الرسالية السليمة هي التي تصارح الإنسان بطبيعة المسيرة ، وانها محفوفة بالمخاطر على صعيد الدنيا ، مما يساعد الفرد على الاستقامة حين الأزمات والمصاعب ، لأنها حينذاك لن تكون مفاجئة له ، بل سيعتبرها أمرا طبيعيا وقد استعد لها فهي مما تزيده تثبّتا على طريقه ، لهذا كان المؤمنون يزدادون إصرارا على مواصلة الدرب برغم الواقع الصعب حيث كان العدو قد جمع لهم ، وجاء لحربهم بكل قوته ، وبرغم الحرب النفسية التي كان يشنها المنافقون ضدهم.

وحين يرى المؤمنون الصعوبات والأزمات وقد وعدهم الله ورسوله بها يتيقنون بالفرج لأنهم وعدوا به أيضا ، وتحقق الوعد الأول يدل على تحقق الآخر.

(قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ)

ردا على المنافقين ، وإخمادا لأهواء النفس.

ألم يعدهم الرب سبحانه بالمواجهة التي تنتهي بالنصر المؤزر ، ان أعظم عامل للصمود في الظروف الصعبة التنبأ بها ، والاستعداد النفسي مسبّقا لمواجهتها ، وها هم المؤمنون في هذا المستوى ، وكما النار تفتتن الذهب ، وكما المبرد يلمع زبر الحديد ، كذلك مواجهة المشاكل تستخرج معدن المؤمن الصافي ، وتجلي نفسه من أدرانها ، هكذا زادت الحرب مع الأحزاب ايمانهم وتسليمهم.

(وَما زادَهُمْ)

٢٩٨

تجمع الأحزاب ، وتخذيل المنافقين وتوهينهم.

(إِلَّا إِيماناً)

بالله ، ورسالاته ، والصراط المستقيم الذي هم عليه.

(وَتَسْلِيماً)

لربهم وقيادتهم ، وحينما ندرس حياة الشعوب نجدها نوعين : فبعضها حينما يتعرض للضغوط والتحديات ينهار ، والبعض الآخر ـ على العكس تماما ـ يزداد قوة وثباتا ، وتحديا ، ويعود هذا الاختلاف لنوعية الثقافة التي يؤمن بها ويمارسها كلا النوعين. فبينما يمارس النوع الاول ثقافة الانهزام ، يمارس النوع الثاني ثقافة التحدي ، والمؤمنون الحقيقيون هم الذين يتمسكون بثقافة التحدي ، فاذا بهم كلما تراكمت العقبات والمشاكل أمامهم كلما فجّروا طاقاتهم ، وسدوا ثغراتهم ، واستعدوا لمواجهتها ، كما انهم عند المصاعب يكتشفون أنفسهم ، والطاقات التي أودعها الله فيهم ، ويستثمرون كل ذلك في سبيل الانتصار على الأزمات والتحديات.

(٢٣) ثانيا : انهم لا يفكرون في أنفسهم كأفراد ، انما كقيم وتجمع وأمة ، فلا يفكر أحدهم في ذاته ، وانه ربما يقتل في المعركة ، انما يقول : إذا قتلت فسوف يأتي الآخرون ويتابعون مسيرتي (فالمهم عنده ان تنتصر القيم ، لا ان ينتصر هو نفسه) وإذا بقيت فسوف أرث الشهداء الذين أريقت دماهم في هذا الطريق ، وأتابع دربهم ، وأفي بحقوقهم ، فأنا مسئول أمام الله عما أرثه من دماء الشهداء. فشعور المؤمن اذن شعور اجتماعي لا فردي.

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ

٢٩٩

قَضى نَحْبَهُ)

وصار شهيدا في سبيل الله.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ)

لقاء الله ويستعد له ، فالمؤمنون متماسكون كالبنيان المرصوص ، بعضهم يمضي ويبقى البعض الآخر ليكمل مسيرته ، دون ان يفكر أحدهم في نفسه وشهواته ، ويقول لماذا انا الذي اقتل وليس فلان؟ ولماذا انا الذي اقتل ويبقى فلان يتنعم بالنصر والمكاسب؟ كلا .. فالقضية قضية صراع مستمر كل واحد يؤدي دورا معينا فيه ، والمجموع الكلي هو المهم عندهم جميعا ، وهذا نابع من اعتقاد المؤمنين بأنهم باعوا أنفسهم لله ، فهم لا يملكونها ، ولا يحق لهم ان يفكروا في مصالحها ، انما يتصرف فيها ربهم وقائدهم حسبما تقتضيه القيم الالهية ، فهم مسلّمون الأمر لله ولقيادتهم ، وهذا الايمان هو الذي يبعث فيهم الاستقامة والصمود في الطريق.

(وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)

(٢٤) وبعد هذا العرض الصريح والمختصر لجانب من صفات المنافقين وبعدهم المؤمنين ، يشير السياق القرآني اشارة الى جزاء كل من المؤمنين والمنافقين إذ يقول :

(لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ)

ولكن ليس بانتمائهم الاجتماعي الظاهر لحزب المؤمنين ، بل بعملهم الذي يتجانس مع تسميتهم وانتمائهم الحقيقي.

(بِصِدْقِهِمْ)

٣٠٠