من هدى القرآن - ج ١٠

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-0
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٤

وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥)

٣٢١

إِنَّما يُرِيدُ اللهُ

لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ

بينات من الآيات :

(٣٣) لا يعارض الإسلام خروج المرأة من حدود البيت وتعلمها ، أو دخولها المعترك الاجتماعي والسياسي ، وحتى العسكري بعض الأحيان ، انما يرفض خروجها بهدف الفساد والإفساد.

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى)

لما في ذلك من فساد النفوس ، وانحطاط الأخلاق بالنسبة للمجتمع.

(وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ)

توثيقا للعلاقة مع الله.

(وَآتِينَ الزَّكاةَ)

٣٢٢

تطهيرا للمال والنفس ، وبناء لاقتصاد المجتمع.

ثم ينعطف السياق ليحدثنا عن ضرورة طاعة الله والرسول ، كما يشير الى طهارة أهل بيته ، وهذه الانعطافات والالتفافات عادة ما يكون التدبر فيها مفتاحا لفهم الآيات ، والعلاقة بينها ، وتحول الخطاب من الغائب الى المخاطب ، أو من الخاص الى العام ، أو العكس هو من قبيل هذه الالتفاتات في السياق القرآني ، والمثل الظاهر للالتفات في القرآن هو ما نكرره عند كل صلاة في سورة الحمد ، فبعد ان نقول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) كل ذلك بضمير الغائب ، نقول : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بصيغة المخاطب ، وذلك لاسباب منها :

١ ـ لان الإنسان في أول علاقته مع ربه يكون بعيدا عنه بعد الذكر وليس المسافة ، لكنه حينما يستمر في ذكره والعبادة له يتقرب اليه ، ولعل السورة تحدثنا عن هاتين المرحلتين ، ففي البداية يخاطب الإنسان ربه بضمير الغائب ، اما حينما يتقرب اليه فانه يتحدث معه بضمير المخاطب القريب.

٢ ـ لو قلنا نعبدك ونستعينك ، لظنّ اننا نعبد غيره أيضا ، أما وقد تقدمت كاف الخطاب التي تخص بالخطاب فقد حصرت العبادة والاستعانة في الله وحده ، وهنا في هذه الآيات من سورة الأحزاب نرى تغيّرا في لحن القرآن ، فبينما كان الخطاب بصيغة جمع المؤنث ، موجها لنساء النبي «(يا نِساءَ النَّبِيِّ) ...» فاذا به يتغيّر الى صيغة المفرد المؤنث «وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَ» «لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَ» ومنه الى الصيغة العامة وجمع المذكر ، والتحول الى الصيغة الاخيرة (المذكر العام) يذكرنا بانعطاف آخر مر في الدرس السابق ، حيث تحول السياق من المخاطب الجمع ، للمؤنث الى المفرد «لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً» ولعل الحكمة في ذلك : ان

٣٢٣

السياق أراد التأكيد على ان القيم العامة والواضحة كقيمة التقوى قائمة ، وتشمل الجميع حتى نساء النبي (ص) فلا تصبح المرأة من أهل الجنة بمجرد انتمائها للنبي ، بل لا بد ان تكون هي نفسها محسنة وصالحة أيضا.

فالله سبحانه يذهب الرجس عن أهل البيت إذا كانوا ممن انتمى الى الرسالة قلبا وقالبا ، اما من انتمى ظاهرا بنسبه أو بسب دون العمل فهو غير طاهر لأن ما يطهر الإنسان هو الرسالة والعمل الصالح بما يغيرانه من سجايا الإنسان الباطنة والظاهرة فدخولك في هذا البيت أو خروجك منه لا يؤثر الا بقدر ما تستوعب من قيم هذا البيت ورسالته وسلوكه أو بالعكس ، من هنا جاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق عليه السلام :

«ولايتي لمحمد أحبّ اليّ من ولادتي منه»

(وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)

ولهذه الآية علاقتان وثيقتان بما قبلها : الاولى : علاقتها الخاصة بقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) فالسورة كلها تدور حول قضية القيادة الرسالية ، المتجسدة أيام الرسول (ص) في شخصه ، ومن بعده فيمن يمثل امتدادا حقيقيّا لقيمه وقيادته ، لاقتدائه به وهم أهل بيته الذين طهرهم الله عن الرجس ، قال الامام علي (ع):

«انا وضعت في الصغر بكلا كل العرب ، وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر ، وقد علمتم موضعي من رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد ، يضمني الى صدره ، ويكنفني في فراشه ،

٣٢٤

ويمسني جسده ، ويشمني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل ، ولقد قرن الله به ـ صلى الله عليه وآله ـ من لدن ان كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل اثرامه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ، ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وخديجة وانا ثالثهما ، ارى نور الوحي والرسالة ، وأشم ريح النبوة» (١)

ولم يكن هذا الحديث كلاما كتبه الامام (ع) في كتاب وأبقاه لتقرأه الأجيال ، انما هي خطبة ألقاها أمام عامة المسلمين ، وصدقوه جميعا ، ولم يرد في التاريخ ان أحدا قد كذبه في ذلك.

والعلاقة بين آية التأسي وهذه الآية : انه كما تجب طاعة الله والرسول على نساء النبي والمسلمين ، تجب كذلك طاعة أهل بيته الذين تعنيهم الآية وهم الأئمة (ع) الذين اذهب الله عنهم الرجس ، وطهرهم بالعلم والتقوى والعصمة.

الثانية : علاقتها العامة بالآيات السابقة حول نساء النبي ـ ومنهن المرأة المسلمة ـ فهذا الاهتمام والتركيز الذي يوليه الإسلام للمرأة في صورة تعاليم تربوية واجتماعية وسياسية نابع من نظرة الدين لموقعها الحساس في المجتمع المسلم والأسرة المسلمة ، ودورها الخطير في مستقبلها ، فتحقيق هدف الإسلام ـ وهو بناء المجتمع النموذجي الذي ينطلق من الاسرة النموذجية ـ يبدأ من خلق المرأة الفاضلة.

ولعله لهذا السبب جاء الحديث عن البيت الفاضل الطاهر بعد مجموعة التعاليم

__________________

(١) نهج البلاغة / خ (١٣٤) / ص (٢٠٠).

٣٢٥

في شأن المرأة ، اشارة الى هدف هذه التعاليم القرآنية.

وقبل ان نمضي قدما في التدبر في بقية آيات هذا الدرس ، نورد بعض النصوص التي تفسر بشكل أوضح الآية الكريمة والمروية عن الكتب المعتمدة لدى الفرق الاسلامية جميعا.

يقول صاحب تفسير الميزان (رض) وبهذا الذي تقدم اشارة للشرح بتأييد ما ورد في أسباب النزول : ان الآية نزلت في النبي (ص) وعلي وفاطمة والحسنين عليهم السلام خاصة ، لا يشاركهم فيها غيرهم.

وهي روايات جمة تزيد على سبعين حديثا ، يربو ما ورد منها من طرق أهل السنة على ما ورد منها من طرق الشيعة. فقد روتها أهل السنة بطرق كثيرة عن أم سلمة ، وعائشة ، وأبي سعيد الخدري ، وسعد ، ووائلة بن الأسقع ، وأبي الحمراء ، وابن عباس ، وثوبان مولى النبي ، وعبد الله بن جعفر ، وعلي ، والحسن بن علي ـ عليهما السلام ـ في قريب من أربعين طريقا.

وروتها الشيعة عن علي ، والسجاد ، والباقر ، والصادق ، والرضا ـ عليهم السلام ـ وأم سلمة ، وأبي ذر ، وأبي ليلي ، وأبي الأسود الدؤلي ، وعمر بن ميمون الأودي ، وسعد بن أبي وقاص في بضع وثلاثين طريقا.

في الدر المنثور اخرج الطبراني عن أم سلمة : ان رسول الله (ص) قال لفاطمة :

«ائتيني بزوجك وابنيه فجاءت بهم فألقى رسول الله (ص) عليهم كساء فد كيّا ثم وضع يده عليهم ثم قال : اللهم إن هؤلاء أهل محمد ـ وفي لفظ آل محمد ـ فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمّد كما جعلتها على آل إبراهيم انك حميد مجيد»

٣٢٦

قالت أم سلمة : فرفعت الكساء لا دخل معهم ، فجذبه من يدي وقال : «إنك على خير».

ورواه في غاية المرام ، عن عبد الله بن احمد بن حنبل ، عن أبيه باسناده ، عن أم سلمة.

وفيه اخرج ابن مردويه ، عن أم سلمة ، قالت : نزلت هذه الآية في بيتي (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وفي البيت سبعة : جبرئيل ، وميكائيل ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، وانا على باب البيت ، قلت : يا رسول الله ألست من أهل البيت؟ قال : «إنك على خير انك من أزواج النبي».

وفي الكتاب ذاته اخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، عن أم سلمة زوج النبي : ان رسول الله (ص) كان ببيتها على منامة له ، عليه كساء خيبري ، فجاءت فاطمة ببرمة فيها خزيرة ، فقال رسول الله (ص): «ادعي زوجك وابنيك حسنا وحسينا» فدعتهم ، فبينما هم يأكلون إذ نزلت على رسول الله (ص): (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

فأخذ النبي بفضلة إزاره فغشاهم إياها ، ثم اخرج يده من الكساء وأومأ بها الى السماء ثم قال : «اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فاذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا» قالها ثلاث مرات.

قالت أم سلمة : فأدخلت رأسي في الستر ، فقلت : يا رسول الله وانا معكم؟ فقال : «انك الى خير» مرتين.

٣٢٧

وروي الحديث في غاية المرام ، عن عبد الله بن حنبل بثلاث طرق ـ عن أم سلمة ، وكذا عن تفسير الثعلبي.

وفيه اخرج ابن مردويه ، والخطيب ، عن أبي سعد الخدري قال : كان يوم أم سلمة أم المؤمنين ، فنزل جبرئيل الى رسول الله (ص) بهذه الآية : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) قال : فدعا رسول الله (ص) بحسن وحسين وفاطمة وعلي فضمهم اليه ، ونشر عليهم الثوب ، والحجاب على أم سلمة مضروب ثم قال : «اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» قالت أم سلمة : فانا معهم يا نبي الله؟ قال : «أنت على مكانك وانك على خير.

» وفيه أيضا عن مسلم في صحيحة باسناده ، عن يزيد بن حيان ، عن زيد بن أرقم ، قال : قال رسول الله (ص):

«اني تارك فيكم الثقلين أحدهما كتاب الله هو حبل الله من اتّبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة»

فقلنا : من أهل بيته نساؤه؟ قال :

«لا ايم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر ثم الدهر ، ثم يطلقها فترجع الى أهلها وقومها ، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده» (٢)

كما ان الآيات منقولة في كتب أخرى من جملتها الصحاح ، بما لا يمكن إنكاره لبلوغه حد التواتر ، وهكذا تؤكد الأحاديث ما فسرناه بخصوص هذه الآية الكريمة.

__________________

(٢) راجع تفسير الميزان / ج (١٦) / تفسير الاية.

٣٢٨

بالاضافة الى هذه الروايات ، فانا من خلال دراستنا للتاريخ نجد ان وضعا خاصا كان يتمتع به أهل البيت (ع) وبالذات فاطمة الزهراء والأئمة المعصومين ـ عليهم السلام ـ ولا يمكن لمؤرخ منصف ان ينكر تميزهم بالرغم مما لقوه من الضغوط والمصاعب ، فقد كانوا يجسدون روح الإسلام وقيمه في سلوكياتهم الشخصية ، ودعوتهم للناس ، وقيادتهم للحركة الرسالية عبر التاريخ ، ومواجهتهم للطغاة و.. و.. إلخ.

بلى. كانت في أيام حياتهم بعض الأقلام والالسنة التي باعت نفسها للطغاة ، تحاول النيل منهم لقاء المال والجاه ، اما الآن فبامكان الجميع ان ينظروا للتاريخ نظرة واضحة مجردة ليكتشفوا دور أهل البيت في التاريخ الإسلامي ، وإذ أنزل الله هذه الآية فيهم فلعلمه بأنهم سوف يجسدون الحق في حياتهم ، من خلال اقتدائهم بالرسول ، وتربيته لهم ، وهو الذي ربّي البشرية ودفعها دفوعات حضارية ، لا زالت تتقدم بسببها الى اليوم وغد ، ونتساءل : أو ليس الرسول قادرا على ان ينقل تلك الروح الى أولاده؟

ان علماء النفس والتربية والاجتماع يجمعون على أن الأب يؤثر في أولاده مرتين : مرة من خلال التربية ، ومرة من خلال الوراثة ـ هذا بغض النظر عن العامل الغيبي الذي يختص به أهل بيت النبوة ـ ونحن من مجمل دراستنا للتاريخ ، ومعرفتنا بهذه العلوم ، وواقع حياة الرسول وسيرته ، وحياة أهل البيت وسيرتهم نستطيع ان نكتشف بان تلك الرسالة امتدت بعد الرسول في أهل بيته وخاصة الأئمة (ع).

وهو لم يأل جهدا في بيان هذه الحقيقة ، فلم يدع مناسبة إلا وأكد فيها منزلة أهل البيت عند الله وعنده.

٣٢٩

قال رسول الله (ص):

«اني تارك فيكم الثقلين خليفتين : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» (٣)

وقال (ص): «من دان بديني ، وسلك منهاجي ، واتبع سنتي ، فليدن بتفضيل الأئمة من أهل بيتي على جميع أمتي ، فان مثلهم في هذه الأمة مثل باب حطّة في بني إسرائيل» (٤)

وقال (ص):

«انما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق ، ومثل باب حطّة من دخله نجا ومن لم يدخله هلك» (٥)

وفي الأثر انه (ص) كان يطرق باب دار علي وفاطمة (ع) ويقول :

«الصلاة الصلاة أهل البيت»

ثم يقرأ الآية (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ) ... الآية ، بصوت عال عند الفجر ، استمر لي ذلك ستة أشهر ، وكان هدفه ان يسمع جميع الناس بذلك الأمر ، ولم يكن هذا التأكيد من رسول الله (ص) بدافع العاطفة والشفقة على أولاده ، انما كان أمرا الهيا مباشرا ، كما أن سنة الله في الحياة تقتضي ان يبقى خط رساليّ صالح العمل ،

__________________

(٣) بح ج / (٢٣) / ص (١٠٧).

(٤) المصدر / ص (١١٩).

(٥) المصدر / ص (١٢٠).

٣٣٠

وطاهر النفس ، تمتد الرسالة من خلاله للأجيال ، ولعل حفظ الله للرسالة في قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) يتم بوسائل عديدة من أهمها وجود الخط الأصيل الذي يحفظ الرسالة من التحريف.

كما أنه لا بد للناس من قدوة وامام ، وخط أصيل يستوعب أفراده روح الرسالة ، ويجسدونها في سلوكهم ، ويتوارثونها عبر الأجيال ليكرسوها في الأمة جيلا بعد جيل ، ومدة بعد مدة ، وفي دعاء الندبة اشارة واضحة الى هذه الفكرة ، فقد ورد فيه :

(اين أبناء الحسين ، صالح بعد صالح ، وصادق بعد صادق ، اين السبيل بعد السبيل ، اين الخيرة بعد الخيرة ، اين الشموس الطالعة ، اين الأقمار المنيرة ، اين الأنجم الزاهرة ، اين أعلام الدين ، وقواعد العلم ، اين بقية الله التي لا تخلو من العترة الهادية) (٦)

وفي أصول الكافي (ج ١) : قال الامام الباقر (ع):

«والله. ما ترك الله أرضا منذ قبض آدم (ع) الا وفيها أمام يهتدى به الى الله ، وهو حجته على عباده ، ولا تبقى الأرض بغير إمام حجة لله على عباده» (٧)

فليس غريبا اذن ان نجد الحديث عن أهل البيت في سورة الأحزاب التي جاءت لبيان الرسالة وموضوع القائد الرسالي ، وسوف نجد الآيات المناسبة لهذا الموضوع في ضمن السورة ـ وهو أمر طبيعي ـ إذ لا بد للقائد الرسالي من امتداد في المجتمع.

__________________

(٦) ضياء الصالحين / ص (٦٠٢) / الطبعة القديمة.

(٧) أصول الكافي / ج (١) / ص (٢٥٢) / الطبقة الفارسية.

٣٣١

(٣٤) ثم يذكرنا الله بواحدة من الواجبات التي ينبغي على زوجات الرسول مراعاتها وهو ضرورة ان يكنّ داعيات للرسالة ، ملتزمات بها.

(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ)

لأنها السبيل لتقويم السلوك والطهارة ، وليس من شك ان التلاوة التي لا يعقبها العمل لا تنفع صاحبها ، وانما يؤكد الله على نساء النبي بذكر الآيات لكي لا يتصورن الرسالة ما دامت تنطلق من بيوتهن الى الناس فهي لا تخصهن ، بل إن مسئوليتهن تبليغ الرسالة ، فالقرآن كما جاء ليصنع قدوة للرجال تتمثل في الرسول الأعظم (ص) فكذلك جاء أيضا ليصنع قدوة للنساء ونساؤه أولى بالعمل بها.

(إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً)

فهو يحيط بكن ، ويعلم هل استوعبتن الرسالة ، وعملتن بها أم لا.

(٣٥) ثم نجد اشارة الى حقيقة هامة وهي : ان ما جاء في القرآن من الآيات بصيغة المذكر لا يدل على اختصاصها بالذكور دون الإناث ، انما يشمل الجنسين.

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ)

كل ذلك قولا وعملا.

(وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ)

الذي يكون الاحساس سمة علاقتهم مع الآخرين ، فهم كما يسعون لإصلاح

٣٣٢

أنفسهم وبنائها يسعون لبناء المجتمع وسد حاجته.

(وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ)

تزكية للنفس.

(وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً)

ان اخطأوا لأن مسيرتهم العامة هي الصلاح.

(وَأَجْراً عَظِيماً)

على أعمالهم الصالحة ، وعموما فان ما تقدم من الصفات هو صورة نظرية لسمات المجتمع الاسلامي ، والاسرة المسلمة ، في ظل الالتزام بالقرآن الكريم ، ومسئوليتنا السعي والاجتهاد لايجادها في واقعنا بتجسيدها عمليا.

٣٣٣

وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي

___________________

٣٦ [الخيرة] : التخيير والاختيار.

٣٧ [وطرا] : الوطر كل حاجة يكون لك فيها همة ، فاذا بلغها البالغ قيل : قد قضى وطره وإربه.

٣٣٤

الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩)

___________________

٣٨ [قدرا مقدورا] : قضاء مقضيا ، وقيل : معناه جاريا على مقدار لا يكون فيه التفاوت من جهة الحكمة.

٣٩ [حسيبا] : أي حافظا لأعمال خلقه ، ومحاسبا ومجازيا عليها.

٣٣٥

محورية القيادة الرسالية في المجتمع

هدى من الآيات :

حينما نرجع الى الشريعة الاسلامية ـ كما سائر الانظمة ـ نجد فيها ثلاث قوى أساسية هي القضائية ، والتشريعية ، والتنفيذية ، أما الاولى فان وظيفتها تشريع القوانين والأحكام العامة ، وأما الثانية فشأنها تطبيق القوانين على الوقائع المختلفة ، بينما مهمة القوة التنفيذية هي تطبيق القانون الذي تقضي به كلا القوتين على الواقع.

وفي الشريعة الاسلامية تتركز جميع هذه القوي في القيادة الرسالية العليا وهو النبي (ص) أو من يمثل امتدادا حقيقيا له ، فهي المرجع التشريعي والقضائي الأعلى ، وإذا قضى النبي أو من يكون خليفة حقيقيا له لا يحق لأحد الاعتراض عليه.

ويضرب لنا القرآن مثلا من واقع الأمة الاسلامية على هذه الحقيقة ، حيث

٣٣٦

عارض الإسلام العادات الجاهلية الغاصبة حرمة الزواج من مطلقة الابن بالتبني ، ووضحت الآيات بأن ابن الإنسان هو الذي ينسل من صلبه ، أما الآخر الذي يلتقطه ويتبناه فلن يصبح أبنا له أبدا ، لان الأبوّة كما النبوة وعموم العلاقات الاجتماعية المشابهة قضية طبيعية واقعية وليست اعتبارية تشريعية.

وكان هذا القضاء الجديد يومذاك يحتاج الى من يملك الجرأة والإقدام ، وهنا تبرز وبصورة واضحة القدوة في الأمة ، فاذا بالرسول (ص) يتزوج من مطلقة زيد ابن حارثة وهو ابنه بالتبني ، وكان النبي قد خرق عادتين جاهليتين في هذه الحادثة ، الاولى ما تقدمت الاشارة إليها ، والثانية انه زوّج زينب بنت جحش ـ ذات الحسب والنسب الشريف ـ من رجل أقل نسبا ، تأكيدا لقيمة التقوى ، ونسفا للقيم الجاهلية المادية.

ورفعا للحرج في مثل هذه الحوادث عن المسلمين ، ولأنّ خرق العرف الاجتماعي سوف يسبب شيئا من الإحراج للرسول ، وربما ألوانا من الضغط عليه من قبل الساذجين والمنافقين ، فقد حذّره الله من الخضوع للناس على حساب الحق ، مؤكدا بأنّ أهم صفات المبلغ للرسالة هي الخشية من الله وحده ، والتوكل عليه.

بينات من الآيات :

(٣٦) المؤمن حقّا هو الذي يسلم لقضاء الله ورسوله تسليما مطلقا في جميع جوانب الحياة ، ذلك أنّ كلمة الله ، والرسول ، والقيادة التي تمثل امتدادا صحيحا له ، يجب أن تكون هي الحاسمة في المجتمع الاسلامي.

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)

٣٣٧

والقرآن حينما يوجّه الخطاب بصيغة المذكر فإنه يشمل النصف الآخر للمجتمع بصورة طبيعية ، ولكنه هنا يخصّ النساء أيضا «ولا مؤمنة» لأنّ الكثير من الأحكام ـ وبالذات في باب القضاء ـ ترتبط بالنساء ، ولا بد ان يخضعن كما الرجال لقضاء الله والرسول خضوعا حقيقيا.

والخضوع الحقيقي هو الذي تشير اليه الآية الكريمة (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (١) فحتى في المجال الفكري والنفسي لا يجوز للمؤمن أن يتضايق من قضاء الرسول ، بل يجب أن يسلّم له راضيا به دون أدنى شكّ أو تردد.

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)

ولعلّ أهم ما قضى به الله والرسول ان اختار أهل البيت ، وقضى بطاعتهم ، إذ أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، فلا يجوز للمؤمن الاعتراض على هذا القضاء أو الفسوق عمليا عنه ، وهذا مما يعزّز تفسير الآية الكريمة (٣٣) في الدرس الماضي.

جاء في أصول الكافي عن عبد العزيز بن مسلم قال : كنّا مع الرضا (ع) بمرو فاجتمعنا في الجامع في بدوّ قدومنا ، فأداروا أمر الإمامة ، وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها ، فدخلت على سيدي (ع) فأعلمته خوض الناس فيه ، فتبسم (ع) ثم قال :

يا عبد العزيز! جهل القوم وخدعوا عن أديانهم ، إنّ عزّ وجلّ لم يقبض نبيه (ص) حتى أكمل له الدّين ـ الى قوله (ع) ـ : ولقد راموا صعبا ، وقالوا إفكا ، وضلّوا ضلالا بعيدا ، ووقعوا في حيرة إذ تركوا الإمام عن بصيرة ، وزين

__________________

(١) النساء / (٦٥).

٣٣٨

لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل ، وكانوا مستبصرين ، ورغبوا عن اختيار الله واختيار رسوله (ص) الى اختيارهم ، والقرآن يناديهم : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) وقال عز وجل : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (٢)

(٣٧) وكمثال على قضاء الله في الحقل الاجتماعي ، يستعرض السياق بشيء من التفصيل قصة زيد ابن حارثة ابن شرحبيل ، فهي من المسائل التي كان قضاء الله فيها مخالفا للعرف آنذاك ، وزيد ابن شيخ لقبيلة اسمه حارثة ، أغارت عليها قبيلة أخرى ، فأخذ وبيع في مكة ، فاشتراه الرسول (ص) والذي كان يسعى حتى قبل بعثته لتصفية آثار الجاهلية قدر ما يستطيع ، وهكذا ينبغي للإنسان المؤمن السعي بما يستطيع وكيفما يقدر لازالة آثار الجاهلية (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) فالرسول (ص) لم يكن قادرا على شراء كلّ العبيد وعتقهم أو تربيتهم ، ولكنه اشترى بعضهم.

وفي قصة طويلة جاء والد زيد زائرا لمكة ، وطلب من الرسول ان يشتري ولده ، فجعل الرسول الخيار لزيد في البقاء معه أو الرحيل مع والده ـ بعد أن أعتقه ـ فاختار البقاء مع المسلمين وفي كنف النبي (ص).

فعاش كأبرز صحابة الرسول ، وقد أبلى في الإسلام بلاء حسنا ، وكذلك ابنه اسامة (رضي الله عنهما).

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ)

__________________

(٢) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٢٧٩).

٣٣٩

إذ جعله يعيش تحت ظل رسول الله (ص).

(وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ)

وكان انعام الرسول يتمثل في عتقه لزيد من العبودية ، وقد حدث ان أراد زيد طلاق زوجته زينب بنت جحش فنهره الرسول وقال :

(أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ)

لا تطلقها.

(وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ)

اي ان الله كتب زينب زوجة لك ، ومهما أخفيت ذلك فإنه سيظهره يوما من الأيام.

(وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ)

هكذا يحكي الله عن رسوله ، بالرغم من أنّ آية لا حقة تصف المبلغ للرسالة بأنّه لا يخشى إلّا الله ، فكيف نوفّق بين الآيتين؟

الجواب : إنّ الرسول (ص) لم يكن يخشى أحدا إلّا الله ، ولكنّه كان يخشى الناس أن يكفروا برسالة ربه لو تزوج بزينب ، بسبب شكهم في أنّ الرسول ضغط على زيد (ابنه بالتبني) ليطلق زوجته ثم يتزوجها بعدة ، وهكذا كانت سيرة الأنبياء انّهم يكلمون الناس على قدر عقولهم ، وفي رواية «ما كلم رسول الله الناس بكنه عقله قط» وهذه الآية تشبه قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (٣)

__________________

(٣) المائدة / (٦٧).

٣٤٠