من هدى القرآن - ج ١٠

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-0
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٤

الإطار العام

بسم الله الرحمن الرحيم

الاسم :

في أربع سور في القرآن يجب السجود عند الأمر به ، وهي التي تسمى بالعزائم.

وهذه السورة أولها في الترتيب ، ولذلك حقّ ان تسمى بذلك ، وقد تسمى ب (الم السجدة).

لعلّ آية السجدة (١٥) هي محور السورة ، وهي تبيّن أعظم صفات المؤمنين المخلصين ، المتمثلة في تجلّي الله لقلوبهم الزكية ، حتى أنهم يخرّون سجدا لله إذا ذكروا بآياته ، وتتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم.

وتترى آيات السورة للوصول الى هذا المحور ، انطلاقا من اسم الربوبية لإله العالمين ، فهو الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ، مما يوحي بترتيبها خلقا بعد خلق ، وطورا بعد طور. ثم هو الذي يدبر الأمر من السماء الى الأرض ، وإليه يرجع العباد وأعمالهم ، وهو عالم الغيب والشهادة ، يحيط علما بالخلق ، فلا

٢٠١

يعزب عن علمه شيء في السموات والأرض.

ويذكرنا السياق بتجليات اسم الرب في خلق الإنسان الذي بدأ خلقه من طين ، وتعاهد أمره طورا بعد طور حتى جعله بشرا سويا ، ويتقلّب في تقدير الرب وتدبيره ما دام حيّا ، ثم يتوفّاه ملك الموت الذي وكّل به من عند الرب ، وحين يتحول ترابا ، وتنتشر اجزاؤه في الأرض ، لا يكون بعيدا عن هيمنة الرب وتقديره ، وحين يبعث إلى محكمة العدل الإلهية ، ترى المجرمين ناكسي رؤوسهم ، يتضرعون إليه ، ويدعونه ان يرجعهم ليعملوا صالحا.

كلّا .. ان الله أقسم صادقا أن يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين ، ولذلك تركهم يختارون طريقهم بحرية تامة ، فاذا شاؤوا اختاروا الجنة ، ولكن كيف النجاة من ذلّ ذلك الموقف ، حين يندم المجرمون على أعمالهم؟

إنما بالتضرع اليه ، وهكذا يحصر القرآن المؤمنين بآيات الله. أولئك الذين إذا سمعوها خرّوا سجدا ، وسبحوا بحمد ربّهم.

وجزاء هؤلاء عظيم الى درجة لا يمكن وصفه ، حيث يقرّ الله أعينهم بالجزاء الحسن.

وإن من هؤلاء من يختارهم الله للإمامة ، لأنهم يهدون بأمر الله ، ويصبرون على الأذى في جنبه ، ولأنهم كانوا بآيات الله يوقنون.

ولعلّ الهدف الأسمى للسورة بناء هذه الطائفة المختارة ، وهذا هو محور السورة الأساس ـ فيما يبدو لي ـ الّا انّ هناك بصيرة أخرى تعطيها آيات السورة هي : نسف التمنيات التي يحلم بها الإنسان ، ويريد ان يكون المؤمن والفاسق سواء. كلّا .. لا يستوون. إن للمؤمنين جنات المأوى ، بينما مأوى الفاسقين النار

٢٠٢

خالدين فيها ، ودليل الفرق في الآخرة عذاب الله الذي يصيب الفساق بأعمالهم في الدنيا ، الفقر ، والذل ، والأمراض ، والحروب ، والزلازل ، والفيضانات و.. و.. كل ذلك دليل مسئولية البشر عن أعمالهم السيئة ، وانها لن تمر بلا حساب.

وميزان الله دقيق ، يفصل به يوم القيامة بين هؤلاء وهؤلاء ، ونظرة الى التاريخ تهدينا الى نكال الله الذي يصيب الكفار ، وهو ـ برغم عظمته ـ يعتبر عند الله عذابا أدنى ، فكيف يهرب الفاسقون والمجرمون الذين يعرضون عن آيات الله عن الانتقام بالعذاب الأكبر؟!

وفي خاتمة السورة يذكرنا الربّ بآيات رحمته ، وانه يسوق الماء الى الأرض الجرز لينبت لهم ولأنعامهم زرعا.

ويحذر أولئك الذين ينتظرون الآيات الواضحة التي تجبرهم على الإيمان وينذرهم بأنه في يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم في ذلك اليوم.

ثم يأمر المؤمنين بالإعراض عنهم ، والانتظار ، كما ان الكفار ينتظرون. ليرى الجميع جزاء أعمالهم ، إن خيرا فخير ، وان شرا فشر.

٢٠٣

سورة السّجدة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ

___________________

٢ [الريب] : الشك.

٣ [افتراه] : اختلقه من تلقاء نفسه.

٤ [استوى] : استولى على العرش بالقهر والاستعلاء.

٥ [يعرج إليه] : يصعد ويرتفع إليه.

٢٠٤

عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١)

___________________

٨ [سلالة] : السلالة الخلاصة ، وقيل الصفوة التي تنسل من غيرها ، ويسمى ماء الرجل سلالة لانسلاله من صلبه.

[ماء مهين] : مني حقير لقذارته ورائحته.

٢٠٥

الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ

هدى من الآيات :

تذكرنا الآيات هذه بأن الربّ الذي يجب أن يسجد له من في السماوات والأرض ، هو الله ربّ العرش ، وأن ما يعبد من دونه ليس سوى أوهام وأساطير أبتدعتها أفكار الناس ، وأن القرآن كتاب حكيم لا ريب فيه لأنه من عند الله ، ولكن لماذا يقول القرآن عن نفسه (لا رَيْبَ فِيهِ)؟

الجواب : إنّ الشك نوعان : الأول ينبعث من العقل لعدم توفر الحجج والآيات الكافية ، والثاني ينبعث عن هوى الإنسان بسبب كبره أو حجب الغفلة التي تعمي قلبه ، لذلك نجد القرآن يقول في إحدى الآيات عن الكفار : (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (١) ناسبا الشك الى الكفار أنفسهم ، أما القرآن ذاته فهو لا ريب فيه ، لأنه صورة أخرى لعقل الإنسان المحض والمجرد عن المؤثرات السلبية ، كما أن

__________________

(١) التوبة / (٤٥).

٢٠٦

العقل هو الآخر صورة باطنية للقرآن ، وإذ يثير الوحي الالهي عقل البشر فان هذا العقل يؤيد حقيقة القرآن ، للتطابق التام بين الذي يذكره القرآن وبين العقل البشري ، ولذلك تتكرر في الآيات كلمة : (لا رَيْبَ فِيهِ).

ثم يستمر السياق في الحديث عن القرآن نفسه ، مؤكدا بأنه لا يمكن أن يكون افتراء كما يتقوّل البعض ، لان هدف القرآن هو إنذار الناس وهدايتهم للحق ، ولا يمكن أن يتحقق الهدى بالكذب ، كما أن القرآن ليس مجردا عن الادلة والبراهين حتى يكون موضعا للريب والشك ، ومن أنصع الادلة أن الكاذب انما يكذب لمصلحة نفسه ، ونحن لا نرى من جاء بالقرآن وهو الرسول (ص) يدعو الى نفسه أبدا بل الى ربّهم ، وهذا دليل على صدق الرسل ، بل والدعوات الاجتماعية التي تأخذ هذا المنحى وتتبع منهج الرسل ، والتي تتمحور حول العقل وعبادة الله فهي الصادقة ، وأنصارها هم الصادقون ، أما الدعوات التي تنتهي الى الأشخاص لا الى القيم ، وتعتمد غير الله هدفا وغاية فهي خاطئة ، وأنصارها كاذبون.

والأنبياء من أول نظرة إليهم يعرفون بأنهم انما جاؤوا من عند الله ، فالرجل الذي يلبس الخشن ، ويأكل الجشب ، ولا يجمع من حطام الدنيا شيئا ، ولا يدعو الناس الى نفسه ، ويتحمل كل الأذى من أجل خير الناس ليس أنانيا ، انما يضحي لإيمانه فهو صادق لا ريب فيه.

ثم يذكرنا القرآن بخلق السماوات الذي تم في ستة أيام ، مثنّيا بخلقة الإنسان التي تمت على مرحلتين : الاولى : خلقه من الطين ، والثانية : خلقه في الأرحام ، وهذا قد يشير الى عالم الذر حيث خلق الإنسان مرة واحدة على صورة ذر (موجودات صغيرة) ثم وضعت في أصلاب الرجال ، وخلق مرة أخرى عبر النكاح ، ونمى في بطن أمه ، ثم يشير الى نفخ الروح فيه وهذا خلق آخر بعد ذلك الخلق ، ويوصل

٢٠٧

كل ذلك بقضية النشور بعد الموت.

بينات من الآيات :

(١ ـ ٢) (الم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)

كلمة الرب توحي بالعطاء المتدرج (كالتربية) والله رب السماوات والأرض أي يعطيها كمالا بعد كمال ، وخلقا بعد خلق وكما أشار الله لذلك حين قال : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٢) وكيف يعترى الريب كتابا أنزله رب العالمين ، المهيمن على خلقهم وتدبير شؤونهم؟! إنّ فطرة البشر جبلت على الثقة بالله ، وتزداد هذه الثقة بتنامي معرفتهم بربهم ، لذلك فإنّ المنهج الصائب لبعث الثقة بالكتاب في النفوس تذكيرهم أولا بالله الذي أنزله ، كما نجده هنا وفي سورة الفرقان وغيرهما.

(٣) (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ)

ويرد الله على الكفار بأن القرآن ليس مفترى وذلك لسببين :

الاول : أن المحور في هذه الدعوة هو الحق ، وليس ذات الرسول مثلا ، كما يفترض في الدعوات الكاذبة التي هدفها تأكيد مصلحة أنصارها وأصحابها.

(بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ)

الثاني : أن ما تنتهي إليه هذه الرسالة وهو الهداية دليل على صحتها ، ذلك أن الدعوة الكاذبة لا يمكن أن تنتهي الا الى إضلال الناس.

__________________

(٢) الذاريات / (٤٧).

٢٠٨

(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)

والكتاب يهيئ الفرصة للهداية ، ولا يحققها بصورة إكراه ، فإن شاء الإنسان اهتدى بالكتاب ، وإن شاء جحد.

(٤) ثم يذكر السياق بخلق السماوات والأرض الذي تم في ستة أيّام ، ولعل سائلا يقول : لماذا في ستة أيام وليس عشرة؟ الا أن الجواب الفطري على ذلك أنه لو قال القرآن عشرة أيام لقالوا : لماذا لم تكن ستة؟ وهذا لا ينفي وجود حكمة يعلمها الله تفسر هذا العدد. ومع ذلك فإننا نجد السياق يبين بأن الحساب عند الله يختلف عنه عند الناس إذ يقول : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) ، وعموما فان في الآية اشارة الى حقيقة التكامل في الخلق.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)

يتطور خلالها الخلق يوما بعد آخر.

بالاضافة الى دلالة هذه الآية على نظرية التكامل الاسلامية ، فانها تدل على دور الزمن في واقع الأشياء ، إذ هو جزء منها ، وهذا ما نستوحيه من عدة آيات قرآنية من بينها قوله تعالى : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) (٣) أي وبأجل مسمى ، ولعل الباء المحذوفة هنا هي نفسها التي في كلمة بالحق وتعني الاستعانة.

وإذ خلق الله الخلق لم يتركه سدى كما تدعي ذلك اليهود ، مستوحية من النظريات الفلسفية البائدة ، بل هيمن عليه بتدبيره.

__________________

(٣) الأحقاف / (٣).

٢٠٩

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ)

وهو تعبير عن القدرة والهيمنة. وما دام الكون خلق بإرادة الله ، ويدبر بمشيئته فلا بد أن نتوجه إليه ونعبده ، لأنه لا أحد يقف دون تنفيذ إرادته ، واجراء قضائه.

(ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)

هذه الحقيقة مغروزة في فطرة الإنسان ، وآياتها مبثوثة في الخليقة ، ولكن ينساها البشر مما يجعله محتاجا الى التذكرة.

(٥) ثم تؤكد الآيات هيمنة الله على الخلق ، وتدبيره له من مراكز أمره في السماء :

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ)

أي يجعله محددا ، وكلمة تدبير مأخوذة من الدبر أي النهاية ، وتدبير الأمور أي معرفة عواقبها ، وما تؤول إليه.

(ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)

حينما يتدبر الأمر لا يعني أنه انتهى ، بل أن أي عمل يقوم به الإنسان يحدده الله ثم ينتهي اليه عند ما يكتسبه العبد. ونستوحي من هذه الآية أن كل شيء في هذا الكون لا ينعدم ، فالكون يشبه الشريط السينمائي وهو يتحرك مع الزمن ، وما نعتقد حدث وانتهى ليس كذلك ، فهو موجود في هذا الشريط ، ويعود يوم القيامة. قال تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ). (٤)

__________________

(٤) الأنبياء / (١٠٤).

٢١٠

والآية هنا صريحة في ان مقدار يوم القيامة الف عام ، بينما نجد في آية أخرى ان مقداره خمسين الف سنة ، لماذا؟ لعلّه لأنّ ساعات يوم النشور خمسون ، ويدّبر الله في كل ساعة امرا ، وان عروج الأعمال اليه انما يتم في ساعة واحدة منه ، بمثل هذا جاءت رواية مأثورة عن الامام الصادق عليه السلام :

«إنّ في القيامة خمسين موقفا ، كل موقف مثل الف سنة مما تعدون».

ثم تلا (ع) هذه الآية :

«فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» (٥)

(٦) وبعد أن تعرفنا الآيات على ربنا ، لتنتهي بنا الى أن القرآن لا ريب فيه ، باعتباره من عنده تعالى ، تؤكد لنا بعض صفاته الحسنى :

(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)

يعلم خفيات الأمور وظواهرها ، فان كان الإنسان أحسن في عمله ، جزاه الله برحمته ، وإن أساء عاقبه بعزته ، أو تاب عليه برحمته.

(٧) (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)

ولعل هذه الآية تشير الى أن كل مخلوق يحس وانطلاقا من وظائفه الحياتية وظروفه بالكمال في خلقه ، فلو أبدلت أسنان الأسد بأسنان الإنسان أو منقار الغراب لما كان صالحا ولا مناسبا ، فكل شيء تجده متناسقا ومتكاملا في حدوده ، وبالنسبة الى وسطه وطبيعته.

__________________

(٥) تفسير نمونه ج (١٧) / ص (١١٧).

٢١١

ثم يبدأ الحديث عن خلق الإنسان ، والمراحل التي يمرّ بها ، ودوره الذي يؤديه في الحياة منذ البداية حتى الموت والى الرجعة.

(وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ)

(٨) (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ)

للإنسان بدايتان : الاولى عند خلق آدم (ع) وذريته في صورة ذر ، ولقد تم خلقهم مباشرة من الطين ، والثانية عند خلق سائر البشر من أصلاب الرجال ، وذلك من ماء مهين ، يحتقره الإنسان ولكنه أساس خلقه ، وفيه انطوى سرّ حياته.

بلى. من الطين ومن الماء المهين خلق الله هذا البشر السويّ ، الذي اضحى خصيما مبينا ، ويتكبر في الأرض بغير الحق. أو لا ينظر إلى أصل خلقه المهين فيرعوي عن غيّه؟! قال تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ* إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ). (٦)

(٩) ثم أن الله بعد أن كون هيكل الإنسان الاول وهو آدم وحواء ، نفخ فيهما من روح انتسبت اليه لفرط عظمتها ، ليصبحا بشرا سويا ، حيث يكون الإنسان من جسد وروح ، إكراما للإنسان في مقابل الماء المهين.

(ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ)

ثم أحسن هذا الخلق إذ منّ عليه بنعمة الحواس والعقل.

(وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ)

__________________

(٦) الطارق / (٤ ـ ٧).

٢١٢

وكان من واجب البشر أمام هذه النعمة أن يشكروا ربّهم ويتبعوا رسالاته ، ولكن غالبيتهم كفروا بأنعم الله.

(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)

وهذا يدل على أن الطبيعة الطينية في الإنسان هي التي تغلب عليه في أكثر الأحيان ، ولهذا نجد في القرآن أمثال (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) أو (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).

إن الشكر الحقيقي هو تحسس الإنسان بأن النعم من عند الله ، ومن ثم التسليم المطلق له ، وفي الحديث عن الامام الصادق (ع):

«أوحى الله تعالى الى موسى (ع) يا موسى! اشكرني حق شكري ، فقال : يا ربّ كيف أشكرك حق شكرك ، وليس من شكر أشكر به الا وأنت أنعمت به عليّ؟!

فقال : يا موسى شكرتني حق شكري حين علمت أن ذلك مني» (٧)

(١٠) ولعلّ من عوامل كفران النعم الجحود بيوم البعث ، لماذا؟ لأنّ النعم عند من يشكرها عبارة عن مسئوليات ، وشكرها الوفاء بحقوقها ، ومن يجحد القيامة يتهرب عن مسئولية النعم ، وبالتالي لا يشكرها. بل لعلّ السبب النفسي لجحود البعث التهرب عن مسئولية النعم وحقوقها المفروضة علينا.

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ)

توزعت اشلاؤنا ، وتناثرت اعضاؤنا.

__________________

(٧) بح ج (١٣) / ص (٣٥١).

٢١٣

(أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)

هذا هو ظاهر الاعتراض على دعوة الرسالة ، ولكن الواقع هو التشكيك في قدرة الله سبحانه ، والكفر بلقاء الله.

(بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ)

ولعلّ الآية تشير الى أنّ الكفار إنما ذكروا هذا الاعتراض جدلا فثم عقدوا العزم على الكفر بلقاء ربهم ، خشية تحمل المسؤولية في الدنيا ، فأخذوا يتشبثون بأدلة جدلية لتبرير كفرهم هذا.

(١١) ولكن الله يؤكد أنه هو الذي يدبر شؤون الحياة ، وليست الصدفة ، وما دامت الحياة قائمة على تدبير الهي فلما ذا التشكيك في يوم المعاد ، وهو مما تقتضيه الحكمة؟!

ولماذا يستغرب الإنسان من فكرة البعث ، وقد خلقه الله ولم يكن شيئا مذكورا ، ثم أنه هو الذي يميته بمشيئته وليست الصدفة.

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)

ولقد وكّل الله الملائكة بإجراء قضائه بما آتاهم من قوته ، وحسب ما يهبط إليهم من أمره ، دون ان يسبقوه بالقول ، ووكلّ ببني آدم ملك الموت ليقبض أرواحهم وليتوفاهم دون نقيصة.

وملك الموت أعظم زاجر لأبناء آدم الذين لا يمكنهم الفرار منه ، جاء في حديث مأثور عن سيد المرسلين ـ صلى الله عليه وآله ـ :

٢١٤

«الأمراض والأوجاع كلها بريد الموت ، ورسل الموت ، فاذا حان الأجل أتى ملك الموت بنفسه فقال : يا أيها العبد! كم خبر بعد خبر ، وكم رسول بعد رسول؟ وكم بريد بعد بريد؟ انا الخبر الذي ليس بعدي خبر» (٨)

__________________

(٨) تفسير نمونه ج (١٧) / ص (١٤١).

٢١٥

وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً

___________________

١٦ [تتجافى] : تبتعد وترتفع.

[المضاجع] : المضجع موضع الاضطجاع أي الفراش.

٢١٦

بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١)

٢١٧

تتجافى جنوبهم عن المضاجع

هدى من الآيات :

تثير فينا السور القرآنية التي تتحدث عن مشاهد القيامة ، مزيجا من الرغبة والرهبة ، وتدعونا الى السعي الحثيث نحو عمل الصالحات ، حتى لا نكون من ضحايا الغفلة ، وفي هذا الدرس يصور لنا القرآن المجرمين ـ الذين يعتقدون بأن الجريمة والخط المنحرف هو السبيل لإشباع الغرور في الدنيا ـ وهم منكّسي الرؤوس ، بما نسوا وتغافلوا عن يوم القيامة ، تاركين الاستعداد لهذا اليوم ، فنسيهم الله.

ثم يؤكد السياق على أن الاتكاء على الأحلام والامنيات من دون العمل الصالح والمستمر لتحقيق ذلك خطأ كبير ، وأنه من عمل الشيطان ، فالجنّة لا تنال الا بالايمان ، والعمل بما يقتضيه هذا الايمان ، أما أن يتصور الإنسان بأن الله رحيم ورؤف لا يعذب أحدا فذلك خطأ.

والقرآن يبرّر هذه الأمنيّة بثلاثة أمور :

٢١٨

الأول : القسم الالهي بأنه تعالى سوف يملأ النار من الجنة والناس ، ويكفينا هذا خوفا وحذرا.

الثاني : إن العذاب الدنيوي يعطينا فكرة تخالف الاماني والأحلام الساذجة ، فكما أن نعم الله الظاهرة والباطنة تدلنا على أنه رحيم ورؤف بعباده ، فان جانب العذاب فيها يدلنا على أنه جبّار متكبر ، يغضب ، وينتقم ، ويعذّب ، ويدمّر تدميرا.

الثالث : يخبرنا القرآن بأن عدالة الله تأبى أن يستوي المحسن والمسيء ، والمؤمن والكافر. وهذه من الأفكار الحساسة في تربية النفس ، أن يطرد الإنسان عن ذهنه حلم التساوي مع الصادقين من دون عمل وسعي (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) (١) فكيف مثلا يستوي عند الله الساكت عن جرائم الظلمة ، والآخر الذي يقاسي أنواع العذاب بسبب معارضته لهم؟!

ثم تذكرنا الآيات ببعض صفات المؤمنين ، والتي من أهمها وأبرزها خضوعهم للحق ، وتسليمهم له في مختلف الظروف والأحوال ، خوفا وطمعا ، فاذا بك تجدهم يقاومون سلبيات النفس البشرية بذكر الله ، فهم كما وصفهم الامام علي (ع):

«عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم» (٢)

كما أن من صفات المؤمنين أنهم تتجافى جنوبهم عن المضاجع ، يهجرون الفراش ، ويتوجهون الى ربّهم بالعبادة والتبتل ، والإنفاق في سبيله ، مما يجعلهم أهلا لثوابه ، وهذا مما يخالف التمنيات والآمال ، ويؤكد أن العاقبة الحسنى لا

__________________

(١) النجم / (٢٤).

(٢) نهج البلاغة / خ (١٩٣) / ص (٣٠٣).

٢١٩

تكون إلا بالسعي والعمل.

بينات من الآيات :

(١٢) المؤمن هو الذي يرى المستقبل البعيد رؤية واضحة ، فاذا به يجتنب المهالك لأنه يستضيء بنور عقله الذي يتّقد بالوحي ، فيعلم يقينا بالنتائج التي ينتهي إليها منهج الانحراف عن الرسالة.

أما الكافر الذي أطفأ البصيرة في نفسه ـ لكثرة مخالفته عقله وضميره ـ فهو لا يستفيد من رسالة ربّه في معرفة الحقائق ، ويكون عرضة للاخطاء والمخاطر ، لأنه بمنطقه المادي البحت لا يهتدي الى النتائج الا بالتجربة ، وماذا ينفع الإنسان لو اكتشف خطأ في مرحلة لا ينفعه ذلك كالآخرة؟!

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)

تعبيرا عن الذلة والحسرة الشديدتين.

(رَبَّنا أَبْصَرْنا)

الآن في الآخرة إذ رأينا الحقيقة.

(وَسَمِعْنا)

لعلّ معناه : رأينا بأعيننا ، وسمعنا عن ما رآه غيرنا ، أو معناه : رأينا الحقائق ، وسلّمنا لها تسليما.

(فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ)

لقد كان بالإمكان أن يصل هؤلاء الى هذا اليقين في الدنيا ، لو استفادوا من

٢٢٠