من هدى القرآن - ج ١٠

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-0
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٤

بينهما ، ولم يمض عنهما حتى تحابا ، ولم يسمع قولا قط من أحد استحسنه الا سأل عن تفسيره وعمن أخذه ، وكان يكثر مجالسة الفقهاء والحكماء ، وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين فيرثي للقضاة مما ابتلوا به ، ويرحم الملوك والسلاطين لغرتهم بالله وطمأنينتهم في ذلك ، ويعتبر ويتعلم ما يغلب به نفسه ، ويجاهد هواه ويحترز به من الشيطان ، وكان يداوي قلبه بالفكر ، ويداوي نفسه بالعبر ، وكان لا يظعن الا فيما يعنيه ، فبذلك أوتي الحكمة ومنح العصمة» (٣)

الإحسان الى الناس ظاهرة تنبع من الشكر لله سبحانه ، ذلك انه يعني الرضا النفسي والعملي ، الذي ينعكس على السلوك في صورة عطاء وتضحية وجهاد ، مقابلة لجميل نعم الله ، وإحساسا بالمسؤولية تجاهها. ولكل نعمة شكر يختص بها ، تبعا لمعطياتها ، فشكر نعمة العلم نشره وهداية الناس به :

«زكاة العلم نشره» (٤)

وشكر الجاه بذله للمحتاجين :

«زكاة المال بذله»

بينما شكر نعمة القوة السعي لتحقيق الأهداف السامية كاقامة حكم الله في الأرض من خلال الجهاد الشامل.

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ)

وبذل الإنسان للنعمة في مجالها الذي حدده الله هو الشكر ، وسنن الله في الحياة

__________________

(٣) المصدر / ص (١٩٦ ـ ١٩٧).

(٤) بحار الأنوار / ج (٧٨) / ص (٢٤٧).

١٤١

ـ التشريعية منها والتكوينية ـ تقتضي بذلك نماء النعمة ، فمن حكمة الله ان تسقي السماء الأرض ذات الزرع أكثر من الجرداء ، وان من يستخدم عضلاته أكثر هو الذي تنمو العضلات لديه بينما تضمر عند الخامل ، وأن من يقرأ أكثر ينمو عقله وفكره ، والذي لا يستفيد من النعم أو يستخدمها في غير مجالاتها المحددة لا تنمو لديه وتكون مضرة له ، كما لو بذل العلم للتباهي أو المال في اللهو واللعب.

(وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ)

لان المحتاج للشكر هو الإنسان لا الله المتعالي عن الحاجة ، والشكر هنا يشمل أيضا الناس ، لكن ضمن هدف محدد هو ان يكون ذلك من أجل الله وحده ، وطلبا لمرضاته وذلك كله يعود على الإنسان نفسه ، بما يسببه الشكر من انماء النعمة (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ). (٥)

(وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)

وليس غنى الله كغنى الناس ، لان الآخر غالبا ما يتأسس على النهب والاستغلال ، أو يصرف في سحق الآخرين وابتزازهم حقوقهم ـ وهو غيري ـ بينما غنى الله ذاتي يتفضل به على الآخرين خيرا ونعمة ، وهذا هو الغنى المحمود.

(١٣) ثم تتعرض الآيات لبعض وصايا لقمان (ع) لابنه ، والتي تشكل أبعاد الحكمة ، ومفردات الشكر لله.

وأول ما يفتتح وصاياه يبين له العلاقة الفاضلة التي يجب ان ينتهجها مع الآخرين والتي تقوم على مبدأ التوحيد ، فيحذره من الشرك ، فالخضوع المطلق لا

__________________

(٥) إبراهيم / (٧).

١٤٢

ينبغي الا لله سبحانه ، أما البشر فيتقبل توجيهاتهم الصائبة ، ولكن بشرط المحافظة على استقلاليته تجاههم بالتوحيد.

اذن فالتوحيد هو الجوهر الذي يجب على الإنسان اعتماده في كل سلوك فردي أو اجتماعي وهذا ما دعا اليه كل الأنبياء ، ولعل هذا التأكيد على موضوع الشرك في القرآن يرجع إلى عامل مهم وهو ان مشكلة الإنسان في غالب الأحيان ليس الكفر المحض ، فهو يؤمن باله لهذا الكون ، انما مشكلته هي الشرك بالله.

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)

ما هو ذا الظلم العظيم الذي يفرزه الشرك بالله؟

إن هناك جوانب خفية ، وأخرى ظاهرة لهذا الظلم.

حقا ان ضياع الإنسان عن ربه الكريم الذي أسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة ، وهبوطه إلى حضيض عبادة الأشياء الضعيفة العاجزة التي لا تنفع ولا تضر إنه لظلم عظيم.

ما الذي نجده لو فقدنا رب العزة وهو الرحيم الودود الذي احاطنا بإحسانه ، ودعانا الى نفسه ، ووعدنا المزيد من عطائه؟!

من هو أشد فقرا وفاقة ومسكنة منا حين نضل عن السبيل الوحيد للهدى والفلاح والغنى والعز والكرامة؟!

من أكثر عجزا وذلّا وهوانا منا لو خرجنا من حصن الرب الى مسبعة ذئاب القدرة ، وحقل ألغام الثروة ، حيث المستكبرين في الأرض بغير الحق ..

١٤٣

الله أكبر.

ما أخسر من ترك متجر ربه وتوجه تلقاء غرور الشيطان ، ورام عن ربه بدلا.

إن علينا أن نتأمل كثيرا لنعرف هول الابتعاد عن الله ، وأخطار الشرك به في عمق ذواتنا ، وفي آفاق حياتنا الشخصية.

لكن هذا الظلم العظيم قد يخفى على من لم يتأمل فيه. بيد ان هناك ظلما عظيما ظاهرا يتجلى للناس جميعا ، ويتمثل في عاقبة النظام المشرك السائد على الانسانية جمعاء ، هذا النظام العالمي الذي انساقت اليه البشرية حين خرجت عن حصن التوحيد وعبدت رجال الثروة والقوة والضلالة.

لا يسع تفسيرنا الموجز لسرد تفاصيل هذا الظلم ولكن لا يسعنا أيضا ان نمر عن هذه الآية الكريمة دون ان نلقي نظرة خاطفة على الحياة من خلالها وعبر بصيرتها النافذة.

ولنتخذ مثلا واحدا من بين الحقائق الأشد ظهورا في حياة الخاضعين للشرك ، ونرى اي ظلم عظيم هم فيه.

يقول شاهد من أهل عصرنا ما يلي :

* لو حاولنا إتلاف الأموال التي دفعت للأغراض العسكرية في سنة (١٩٨٦ م) بمعدل دولار واحد في كل ثانية لاحتجنا الى (٣٦٠٠٠) سنة.

* بتعبير آخر فان معدل ما يصرفه العالم على السلاح في الدقيقة الواحدة هو (٢) مليون دولار في الوقت الذي يعيش فيه ملياري إنسان في العالم في حالة فقر ، وخمس مائة مليون منهم يعانون من سوء التغذية بشدة.

١٤٤

* لقد وصف السكرتير السابق للأمم المتحدة «يوثانت» المدفوعات العسكرية للعالم انها تضييع مفرط للثروات.

* ان قيمة غواصة نووية واحدة تزيد كثيرا عن ميزانية التعليم السنوية لاكثر من اثنى عشر دولة نامية ، ان العالم يدفع للتسلح أكثر مما يدفع للتعليم سنويا.

* روسيا ، الولايات المتحدة الامريكية ، الصين ، بريطانيا والسعودية هي الدول الأكثر دفعا في المجال العسكري.

* من الملفت للنظر ان كثيرا من الدول النامية قد زادت من مدفوعاتها على التسلح وذلك بتخصيص مبالغ كبيرة من الناتج الوطني.

* ان الدول المديونة لا زالت تخصص أموالا للسلاح أكثر مما تخصص لبناء المدارس ، ويكفيك ان (٨٠٠) مليون نسمة في العالم لا يقرءون ولا يكتبون (أميون).

* انه من الأحسن ان يدفع بذلك المال ، وبتلك الطاقة البشرية ، وبتلك الخامات إلى بناء السدود والقضاء على البطالة ، وتحسين الأحوال المعيشية للبشر ، وبناء المساكن ، واقامة السدود والمصانع ، وبناء المدارس ، وتخزين الحبوب بدلا من ان تدفع تلك الأمور في صنع الدبابات والطائرات القاذفة للقنابل والصواريخ.

* ان العالم ينظر الى امتلاك السلاح على انه حافظ للسلام أو مثبط عن إشعال الحرب.

* لكل دولة قصتها التي يمكن ان تحكى ، فمثلا اتيوبيا من الدول التي تعاني من المجاعة ، ومعدل دخل الفرد فيها (١١٠) دولار سنويا وبها طبيب لكل

١٤٥

(٦٩٠٠٠) شخص ، وعشرين في المائة من أطفالها يموتون قبل بلوغ الخامسة في حين ان ربع الميزانية الحكومية يصرف على الدفاع ، وبعض المتخصصين يقولون : ان مدفوعات اتيوبيا على الدفاع تبلغ نصف ميزانية الدولة ، والروس باعوا لا ثيوبيا بثلاثة مليارات دولار ليس الغذاء وانما السلاح.

اتيوبيا تستخدم ما يقارب (٢٥٠٠٠٠) جندي لا لخدمة الجائعين ونقل الغذاء لهم ، وانما لمحاربة بعض الحركات الفدائية.

ونفس القصة يمكن ان تروي عن الدول الأخرى في العالم الثالث :

* مستوى المدفوعات العسكرية السنوية يقدر ب (تريليون) دولار ، ومن العجيب ان كثيرا من الاسلحة قد استخدم ، حيث ان (١٠٠) مليون نسمة قد قتلوا في القرن العشرين.

وأكثر من (١٠٠) حرب قد وقعت بعد الحرب العالمية الثانية ، وان (٧) ملايين نسمة قد قتلوا في حروب وحرب اهلية خلال الخمسة عشر سنة الماضية.

* وأنت تقرأ هذه المقالة ، فان هناك (٣٠) الى (٤٠) شعب يستخدمون السلاح في حروب أهلية ، أو حروب حدودية ، أو نزاعات دينية ، أو أسباب أخرى ، ان واحدا من بين كل ثلاثة من سكان العالم (٥ مليار نسمة) داخل في نزاع مسلح.

* ان هذه الفترة هي أخطر فترة تمر على الإنسان خلال (٦٠٠٠) سنة.

(١) رشاش (٦٠٠) دولار ٨٢ مسحاة (٨) دولار.

(١) دبابة (٢٨٠٠٠٠٠) دولار ٦٢٢٢ بقرة (٤٥٠) دولار.

١٤٦

(١) طائرة (٢٧٠٠٠٠٠٠) دولار ١٣٥٠ تراكتور (٧٨) حصان (٢٠٠٠٠) دولار.

(١) غواصة (٢٠٠٠٠٠٠٠٠٠) دولار ٢٥٠٠٠ بيت (٨٠٠٠٠) دولار. (٦)

(١٤) ثم يوصي الله بالوالدين خيرا ، حفاظا على نعمة الحنان والعطف من قبلهما للابن ، وشكرا لهما على جهدهما تجاهه ، فاذا كان الأكل والشرب غداء الجسد ، فان الحنان والعطف أفضل غذاء للروح ، ولنمو النفس نموا فاضلا متكاملا ، والذي يسبب استمرارهما هو الشكر للوالدين ، وبقاء العلاقة معهما ، ولا يعني هذا من قريب ولا بعيد ان لا يشكر الإنسان ربه ، بل يجب ان يقدم شكره لله على شكرهما ، لأنه مصدر كل نعمة ، وانما الآخرون وسيلتها اليه.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ)

ويخصص الله الام أكثر من الأب ، لأنها هي التي تتحمل اعباء الوليد منذ اللحظة التي تنعقد فيها نطفته ، أضف إلى ذلك ان المرأة وهي المخلوق الضعيف حين تحمل في بطنها وليدا إلى مدة تتراوح بين الستة إلى التسعة أشهر أليس يزيدها ضعفا على ضعفها؟! ولذلك ورد الأثر المروي عن النبي صلى الله عليه وآله انه جاء اليه رجل فقال : يا رسول الله من أبر؟ قال : «أمك» قال ثم من؟ قال : «أمك» ، قال : ثم من؟ قال : «أمك» ، قال ثم من؟ قال : «أباك» (٧)

(وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ)

__________________

(٦) ترجمة مجلة الحقيقة الواضحة العدد (٣) المجلد (٥٢) التاريخ مارس / ١٩٨٧ م وطبع منه (٧١٤٠٠٠٠).

(٧) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٢٠٠).

١٤٧

وبعد الولادة تستمر رضاعتها له عامين ـ كحالة طبيعية ـ يمتص فيهما من طاقة أمه وقدراتها غذاؤه ، كما تسقيه من عطفها وتربيتها الكثير.

(أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)

وإذا كان شكر نعمة الوالدين هو الوفاء بحقّيهما ، فان شكر الله هو ان يفي الإنسان بحقوق الوالدين في اطار أوامر الله ، وتعاليم دينه ، فالشكر للوالدين واجب شرعيّ على الولد ، ولكن بشرط ان لا يفقد استقلاله تجاههما لان ذلك يخالف روح التوحيد.

ان توحيد الله يقتضي معرفة انه سبحانه صاحب كل نعمة عليه ، فيحمده عليه ، جاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق عليه السلام قال :

«أوحى الله عز وجل الى موسى : يا موسى! اشكرني حق شكري ، فقال : يا رب وكيف أشكرك حق شكرك وليس من شكر أشكرك به إلّا وأنت أنعمت به علي ، قال : يا موسى! الآن شكرتني حين علمت ان ذلك مني» (٨)

اما إذا شكر الفرد ربه ولم يشكر والديه فقد خالف تعاليم دينه ، وبالتالي خرج عن اطار توحيد الله أيضا ، وهكذا ورد الحديث المروي عن الامام الرضا (عليه السلام):

«وأمر الله بالشكر له وللوالدين فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله تعالى» (٩)

وهكذا كل منعم من الناس من ترك حقه من الشرك فقد ترك شكر الله أيضا ،

__________________

(٨) المصدر / ص (٢٠١).

(٩) المصدر.

١٤٨

كذلك جاء في الحديث المأثور عن الامام الرضا (عليه السلام):

«من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عز وجل» (١٠)

(١٥) صحيح ان الوالدين هما القناة التي تنتقل عبرها المكاسب المادية ، والخبرات الحضارية للإنسان ، ولكن لا يصح ان يستقبل الإنسان كلما تحمله هذه القناة اليه من غث وسمين ، لأنها كما تحمل ايجابيات الحضارة التاريخية أو القائمة ، تنقل اليه أيضا السلبيات ، لذلك يؤكد الرب :

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما)

اذن على الإنسان ان يكون ذكيّا ، يستفيد من المكاسب والمغانم الحضارية القادمة اليه عبر والديه من التاريخ أو المجتمع ، ويترك السلبيات لأنهما ـ على فطرتهما ـ يغذيان الطفل بشتى الأفكار الواقعية والخرافية ، الايجابية والسلبية ، دونما تمييز على الأغلب ، وهما بذلك يحاولان فرضها على ولدهما ، وهنا تقع على الفرد نفسه مسئولية مقاومة الضغط ولكن بمعروف.

(وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً)

يقول الرسول (ص):

«كل مولود يولد على الفطرة ، حتى يكون أبواه يهوّدانه وينصرانه» (١١)

فاذا ما قاوم الابن الأفكار الخاطئة استطاع النمو على الفطرة ، لأنه بذلك يبعدها

__________________

(١٠) المصدر.

(١١) بحار الأنوار / ج (٣) / ص (٢٨١).

١٤٩

عما يدنسها من الأفكار الخاطئة ، والتوجيهات السقيمة ، وذلك لا يعني بالضرورة التعدي على الأبوين ، فقد جاء في الحديث :

«ثلاثة لا يدخلون الجنة : قاطع رحم ، وعاق لوالديه ، وشيخ زان»

وهنا تستوقفني مسألة وهي : اني لا أعلم من اين استخرج البعض انه تجب طاعة الوالدين طاعة مطلقة ، بينما تخالف النصوص الاسلامية صراحة ذلك ، فهي تأمر بالشكر والإحسان لهما ، أما الطاعة فهي لله ، ولمن أمر الله بطاعته ، وولاية الوالدين التي تشير لها بعض النصوص لا تكون الا ضمن الحدود الشرعية.

من هنا نقرأ في كتاب مصباح الشريعة : ان الامام الصادق (ع) قال :

«بر الوالدين من حسن معرفة العبد بالله ، إذ لا عبادة أسرع بلوغا بصاحبها إلى رضا الله تعالى من حرمة الوالدين المسلّمين لوجه الله ، لانّ حق الوالدين مشتق من حقّ الله تعالى ، إذا كانا على منهاج الدين والسنة ، ولا يكونان يمنعان الولد من طاعة الله إلى معصيته ، ومن اليقين إلى الشك ، ومن الزهد إلى الدنيا ، ولا يدعو انه إلى خلاف ذلك ، فاذا كانا كذلك فمعصيتهما طاعة ، وطاعتهما معصية» (١٢)

ولكن السؤال هو : إذا ما ترك الإنسان والديه عند شركهما فالى من يتجه؟ يجيب السياق عن ذلك :

(وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ)

وهم الأولياء ومن يسير في خطهم من أبناء المجتمع ، حيث يجب على الإنسان البحث عنهم في المجتمع ، ليتبع سبيلهم ، وينظمّ إلى تجمعهم الرسالي ، لان

__________________

(١٢) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٢٠٢ ـ ٢٠٣).

١٥٠

الوالدين حينما لا تكون طاعتهما طاعة لله ، ويترك الابن الانصياع لهما ، فانه سيجد من هو أكثر عطفا وحنانا عليه منهما في الله ، أو لم يترك مصعب ابن عمر أبويه؟ فوجد من عوّضه عنهما بأفضل صوره ، أو لم يترك فلان وفلان آباءهم؟ ولكن إلى اين وفقهم الله؟

لقد وفقهم إلى احضان الإسلام ، حيث تربوا على يدي الرسول (ص) وبين ظهراني المؤمنين ، وأخيرا كان الرجوع إلى ربهم الودود.

(ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

بلى. قد يخسر الإنسان بعض المكاسب الدنيوية ـ مادية ومعنوية ـ ولكن الله سوف يعوضه عن ذلك في الآخرة.

(١٦) وهناك حقيقة هي ان عمل الخير لا بد وان يعود لمن عمله ـ مهما كان صغيرا أو كبيرا ، معلنا أو خفيّا ، سواء كان جزاؤه في الدنيا أو الآخرة ـ والله لا يظهر العمل الصالح وحسب ، بل يجازي عليه مهما قل وصغر.

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ)

وهي حبة صغيرة ليس لوزنها اعتبار لدى الناس.

(فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)

فبلطفه قرب من الأشياء ، وبخبرته أحاط بها علما ومعرفة ، ومن الحري بنا ان نهتم بأعمالنا لأنها تحت عين الله ، ولا نحقر ذنبا أو نستهين بواجب ، فقد جاء في الحديث عن الإمام الصادق (ع):

١٥١

«اتقوا المحقّرات من الذنوب ، فإنّ لها طالبا. لا يقولن أحدكم : أذنب واستغفر الله. ان الله تعالى يقول : (إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) ..» (١٣)

(١٧) (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) لأنها زكاة الأعمال ، إذا كانت بشروطها ، كما يقول الحديث ، فهي حينذاك تشبه النهر لو اغتسل منه الإنسان في اليوم الواحد خمس مرات لا يبقى عليه من الدرن شيء ، وإذا أراد الإنسان تنمية معرفته بالله وايمانه به ، فما عليه الا ان يسبغ الوضوء ، ويصلي خاشعا لله ، لذلك قال الرسول (ص):

«وقرة عيني في الصلاة» (١٤)

وقال الامام علي (ع):

«الصلاة قربان كل تقي» (١٥)

وكما ان للصلاة جانبا عباديّا روحيّا ، فإن لها جانبا آخر لا تكتمل الا به وهو الجانب الاجتماعي الذي يتمثل في الشهادة على الواقع القائم.

(وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ)

واقامة الصلاة كما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كل ذلك يحتاج إلى الصبر على ما يصيبه في هذا الطريق ، فان الجنة حفت بالمكاره ، كما حفت النار بالشهوات.

__________________

(١٣) المصدر / ص (٢٠٤).

(١٤) الخصال / ص (١٦٥).

(١٥) نهج البلاغة / ص (٤٩٤).

١٥٢

ولكن ترك هذه الواجبات تؤدي إلى عواقب وخيمة ، لا تقاس اخطارها العظيمة ببعض الصعوبة التي تكتنف العمل بها. قال الامام أمير المؤمنين (عليه السلام):

«لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم ، ثم تدعون فلا يستجاب لكم» (١٦)

(إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)

التي يضبط بها الإنسان الحياة الشخصية والاجتماعية معا. ويحتمل ان يكون معنى (عَزْمِ الْأُمُورِ) الأمور التي تحتاج إلى عزيمة راسخة ، وارادة قويّة ، وهي مما عزم الله وفرضه علينا ، ويبدو ان كلمة «ذلك» تشير إلى كل الأوامر التي سبقت.

(١٨) الشكر لله يعني الاعتراف بان ما لدى الإنسان من حول وقوة فمن الله ، فبماذا يفتخر؟! ولماذا يتحدى الناس ويتعالى عليهم؟!

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ)

تحديا بهدف إثارة العداوة والبغضاء ، لأن الميل بالخد مثال للتحدي والاستعلاء على الآخرين ، وذلك مما يزيد الأعداء ، بينما ينبغي للإنسان السعي لكسب العدد الأكبر من الأصدقاء.

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً)

متفاخرا.

فقد روى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):

__________________

(١٦) نور الثقلين / ص (٤٢٢).

١٥٣

«من مشى على الأرض اختيالا لعنه الأرض ومن تحتها ومن فوقها» (١٧)

ونهى ان يختال الرجل في مشيته وقال :

«من لبس ثوبا فاختال فيه خسف الله به في سعير جهنم ، وكان قرين قارون ، لأنه أوّل من اختال فخسف الله به وبداره الأرض ، ومن اختال فقد نازع الله في جبروته» (١٨)

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ)

يختال بنفسه ويفتخر بماله ، وذلك نوع من الشرك ، وفي الحديث القدسي عن الله عز وجل :

«العظمة ردائي ، والكبرياء إزاري فمن نازعني فيهما قصمته»

(١٩) (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ)

وكلمة القصد هنا تعني تحديد الهدف ، ولا يصح من العاقل ان يمشي بلا هدف ، كما تعني الاقتصاد أيضا ، ولا شك ان من يمشي على بصيرة ولهدف معين لن يحتاج إلى صرف المزيد من الطاقات التي لا داعي لها ، فلو افترضنا ان سيارة تحركت باتجاه معلوم فان مقدار الوقود الذي ستصرفه سيكون اقتصاديا متناسبا مع الهدف ، اما لو تحركت سيارة أخرى تريد هدفا غير محدّد أو من دون هدف فستبقى تحرق الوقود من غير نهاية ، وليس ثمة شك في ان حركة الإنسان دليل على نفسيته.

(وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ)

__________________

(١٧) المصدر / ص (٢٠٧).

(١٨) المصدر.

١٥٤

لان الهدوء دليل العقل بينما الصراخ خلافه ، والكثير انما يعلي صوته ويكثر من الدعايات ليصنع الظروف التي تجبر الناس بشكل من الأشكال على تقبل أفكاره ، والصحيح ان يقبل الآخرون الأفكار لمحتواها لا لوسائلها ، اذن فلا داعي للصراخ ، وانما يحتاج إلى الصراخ صاحب الفكرة الخاطئة ، ليعوض الفراغ في المحتوى.

(إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)

لأنه يزيد الآخرين نفورا من صاحبه.

وجاء في السنة عن الامام الصادق عليه السلام قال (في تفسير هذه الآية):

«وهي المرتفعة القبيحة ، والرجل يرفع صوته بالحديث رفعا قبيحا إلّا أن يكون داعيا أو يقرأ القرآن» (١٩)

__________________

(١٩) المصدر / ص (٢٠٨).

١٥٥

أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ

___________________

٢٢ [استمسك] : تمسك وتعلق.

١٥٦

وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧)

___________________

٢٧ [يمده] : يزيده.

١٥٧

لماذا سخر الله الخليقة للإنسان

هدى من الآيات :

بعد ان يذكرنا الله سبحانه هنا بنعمه التي أسبغها علينا يستأدينا الشكر عليها ، ويذكرنا بأن من الناس من يأكل رزق الله ، ويعبد غيره ، لأنهم لا يتبعون حجة حقيقيّة ، ولا بصيرة سليمة ، فلا علما ، ولا هدى ولا كتابا منيرا ، بل يتبعون آباءهم دون أن يعرفوا بأنهم أيضا يتأثرون بعوامل الغواية والانحراف ، فالشيطان الذي يضلّ الأولاد هو نفسه الذي يضل الآباء ولا تصبح الضلالة هدى إذا اتّبعها الآباء.

ثم تبين الآيات بان الشكر الحقيقي هو التسليم المطلق لله تعالى ، لأن الهدف الأسمى من نعم الله هو أن يعبد الإنسان ربه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وان تكون علاقته بالناس من خلال هذه النعم هي الإحسان والعطاء ، وهذا ما تؤكده هذه السورة الكريمة ، وإذا ما توفرت هاتان الصفتان في البشر فقد استمسك بالعروة الوثقى التي لا تنفصم.

١٥٨

أما الكفار فان كفرهم يعود إليهم بالضرر العظيم حيث يخبرهم الله بعد عودتهم إليه بما عملوا من ظاهر العمل ونياتهم ، أو ليس ربنا عليما بذات الصدور؟!

وعلى المؤمن الا يحزن عليهم لأن متعة هؤلاء في الدنيا قليلة وعذابهم في الآخرة غليظ.

ويذكّرنا السياق بأسماء ربنا لنزداد إيمانا وشكرا ، ويبين عشرة من أسماء الله سبحانه بشواهدها الظاهرة وأولها : أنه الخالق لما في السموات والأرض ، وأن الحمد كله له بالرغم من أن أكثرهم لا يعلمون.

الثاني : انه سبحانه الغني. أو ليس يملك ما في السموات والأرض ، والثالث : انه الحميد في غناه.

والرابع والخامس : أنه ـ تعالى اسمه ـ عزيز حكيم وشواهد عزته ، وكلمات حكمته لا تحصى ، حتى ولو كانت الأشجار أقلاما والبحار مدادا.

وفي الدرس القادم يذكرنا السياق بان ربنا هو السميع العليم ، وانه هو الخبير والعلي الكبير.

بينات من الآيات :

(٢٠) تحيط بالبشر حقائق لو استوعبها وعيه أوتي الحكمة واهتدى إلى السبيل.

ولكن يعيش ويموت أكثر الناس في ضلال. لماذا؟

لان بينهم وبينها حجب متراكمة ، وإنما القرآن هدى لأنه يثير العقل ، ويرفع الحجب ، فاذا بالقلب المحدود ينفتح على الآفاق الرحيبة.

١٥٩

حقّا ما أبعد غور العلم عند المؤمن الذي ينظر إلى الخليقة من دون حجاب ، وبفؤاد فارغ من العقد والأوهام والتمنيات ، فاذا أبصر البدوي الموغل في الصحراء مع سفينته التي يحبها ويرتل لها الاشعار على نغم الحدى فاذا بينه وبين إبله أكثر من مجرد صلة مادية.

هنالك يقول المؤمن : ما شاء الله كيف سخّر هذا الحيوان الصبور للبشر ، وجعل أفضل عابر للرمال المتحركة والصحاري القفر.

وإذا رأى رجلا شجاعا يمتطي ظهر جواده في المعركة ، فاذا بالجواد يستجيب لاشاراته الخاطفة وكأنه جهاز الكتروني حساس ، هنالك يقول : الله أكبر كيف سخر الله لنا هذا الحيوان الذكي ، وما كنا عليه بقادرين.

وحين يجتاز البشر أعمدة القرون ويمتطي صهوة الطائرات الأسرع من الصوت ، والصواريخ الفضائية ذات الوقود الذري ، يقول المؤمن بذات النبرة سبحان الله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين.

ان من سخر لنا الإبل والجواد هو الذي سخر لنا الحديد والذرة ، وعلمنا كيف نصنع من خردة حديد ، وبضع كيلوات من مادة متفجرة صواريخ مدارية.

ان مثل المؤمن مثل الفنان الذي يقف أمام لوحة بارعة الجمال فتغمر قلبه الحساس موجات من الاعجاب والرضا والانشراح ، بينما الكافر كالأعمى لا تزيده اللوحة إلّا ظلاما.

أغلب الناس ينشرحون إذا زار والاول مرة مزرعة للورود ، أو حقولا خضراء منبسطة على امتداد البصر ، أو شاهدوا مصنعا عظيما أو إنجازا علميّا باهرا ، ولكنهم يعودون بعد لحظات محدودة إلى واقعهم الاول فتشغل قلوبهم الهموم ، ويغرقون في

١٦٠