من هدى القرآن - ج ٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-10-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٣٩٩

الناس يلهجون بذكرهم ، وصحيحا ما يلهجون وصادقا ما يقولون.

وهكذا نجد إبراهيم (ع) ترك والده وقومه وهجرهم ولكن بعد أن أتمّ الحجة عليهم ، وحاول بكل جهده هدايتهم ، وحين تركهم عوّضه الله بأفضل منهم ، وجعلهم قدوة صالحة للآخرين.

إذن فعلاقتنا بآبائنا وبمن حولنا يجب أن تكون علاقة رسالية يوجهها التوحيد والايمان بالله تعالى.

وفكرة أخيرة : إن المجتمعات الثورية الرسالية هي المجتمعات التي لا تخضع للارهاب ، ولكن كيف يمكن للإنسان أن يتحرر من الإرهاب وكيف يقاومه؟

إن ذلك يكون عن طريق بناء أسرته على أساس الحرية ، لأنّ الفرد الذي يخضع في بيته لإرهاب والده ، لا يمكنه أن يقاوم إرهاب النظام ، فإرهاب النظام صورة لإرهاب الأسرة ، وإذا تحرر الإنسان من إرهاب الأسرة واستطاع أن ينقذ نفسه من ذلك المجتمع الضيق الخانق ، فانه يستطيع غدا أن يقاوم إرهاب السلطات الجائرة ، وأمّا الذي يخضع لوالده كليا خشية بطشه اليوم فكيف لا يخضع للنظام الفاسد غدا؟!

إن الأسرة هي الأم الحقيقية للمجتمع لذلك فأن قصة إبراهيم مع والده تبين لنا : إن الخطوة الأولى في تحرير المجتمع هي تحرير الأسرة من الإرهاب والضغط الفكري ..

٦١

وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩)

______________________

٥٩ [غيّا] : جزاء الضلال.

٦٢

القدوات الرسالية

هدى من الآيات :

لكي تكون علاقات الإنسان إيمانية سليمة مع أسرته ، وبالذات مع والده وأبنائه وأخواته فانه يحتاج إلى أن يقتدي بأولياء صالحين يتخذ من حياتهم أسوة لتصرفاته.

وفي سورة مريم يذكرنا القرآن الحكيم ببعض تلك القدوات الصالحة ، كما يضرب لنا مثلا من أمثلة السوء الذين عكسوا الآية ، وكانت علاقاتهم سيئة بالنسبة الى أسرهم.

فمن جهة نرى موسى (ع) يتخذ من أخيه هارون مساعدا له في تبليغ رسالته ، وتربطه مع أخيه علاقة رسالية هدفها تبليغ الرسالة الالهية ، وذلك لأنه كان ملخصا قد أخلص نفسه لله ، وانصهر في بوتقة الايمان فانزاحت عنه سلبيات البشر ، لذلك فهو لم يفكر أن يتخذ من أخيه وسيلة للفخر والغرور أو أن تكون علاقته بأخيه مصلحية شخصيّة ، بل إنه استفاد من هذه العلاقة من أجل الرسالة.

٦٣

ونرى إسماعيل الذي كان صادق الوعد مع الآخرين ، تربطه بأهله علاقة فريدة ، حيث انه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة ، ولذلك فقد كان مرضيّا عند الله سبحانه.

إن هؤلاء زكريا وابنه يحيى ، ومريم وابنها عيسى ، وكذلك موسى وأخاه هارون ، وإسماعيل وأهل بيته إبراهيم وأبناءه ، يجب أن يصبحوا قدوات لنا.

من جهة أخرى نرى في الطرف الآخر ذرّيتهم الذين كان ينبغي أن يكونوا لا أقلا مثلهم أو في مستواهم ، قد ضيّعوا الصلاة ، وتركوا عبادة الله ، واتبعوا شهواتهم.

بيّنات من الآيات :

موسى النبيّ المخلص :

[٥١] (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى)

ذكر موسى ، وذكر سائر الأنبياء في القرآن ، إنما كان من أجل أن يتخذوا قدوة وأسوة.

انّ من المستحبات الأساسية ، بل أحيانا من الواجبات ، الصلاة على محمد وآل محمد لأننا حينما نذكر رسول الله (ص) فاننا نتذكر صفاته وسلوكه ، وبالتالي نبحث في حياتنا عمّا يوافق حياة الرسول ونهتدي بهداه ، وهكذا يستحب ذكر النبيين والسلام عليهم بين الحين والآخر لتوثيق الصلة الروحية بهم ، وذلك بهدف إتباع نهجهم الصائب والقرآن الحكيم يؤكد هذه الفكرة هنا فيقول : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى) ، (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ) ، (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ) .. إلخ لكي نشعر بأننا لسنا وحيدين في رحلة الايمان الطويلة ، فحينما نتحرك ومعنا إبراهيم وعيسى ويحيى وموسى وإسماعيل فاننا سوف نستلهم منهم

٦٤

الاستقامة والصمود كلما ضعفنا أو أصابنا الوهن.

(إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً)

لقد كانت علاقة موسى بالله خالصة ، وإذا كانت علاقتك أيها المؤمن بالله كذلك ، فأن لك علاقة أيضا مع موسى ، إذ أنه سيصبح أخا لك في الايمان. وقدوة صالحة.

(وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا)

فموسى هو أخوك في الإيمان وأبوك بالاقتداء ، من جهة هو أخوك لأنه كان مخلصا لله في علاقته ، ومن جهة أخرى هو بمنزلة أبيك لأنه كان نبيا ورسولا إليك.

[٥٢] (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ)

إن الإنسان ليشعر بالاطمئنان حينما يرى إن واحدا من بني جنسه قد تقرب الى الله بهذا المستوى ، حيث ناداه الله وتحدث معه بصورة مباشرة من جانب الطور الأيمن والطور هو الجبل.

(وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا)

لو أن أحدا كان على مسافة منك وهو يحدّثك فأن ذلك لا يعتبر نجوى ، بينما حين يقترب منك ويكلمك حينذاك يصبح حديثه نجوى. لقد قرّب الله موسى وتناجي معه ، فأيّ مستوى هذا الذي يرتفع إليه الإنسان حينما يتكلم الله معه ويناجيه؟!

إن الإنسان لا يمكن أن يصبح الله ، ولكن يمكنه أن يصبح قريبا من الله ، وهذا هو أفضل كرامة له على سائر خلق الله.

٦٥

[٥٣] (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا)

ان من النعم العظيمة التي تفضل الله بها على موسى انّه استجاب لدعائه فجعل أخاه هارون نبيّا معه ليؤازره في مهمته العظيمة.

إسماعيل صادق الوعد :

[٥٤] (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا)

لقد جاء في الحديث الشريف ان إسماعيل هو إسماعيل بن حزقيل وليس إسماعيل بن إبراهيم الخليل ، وانه قد تواعد مع شخص خلف جبل ، فنسي الرجل موعده ولكن إسماعيل ظلّ ينتظره في مكانه عاما كاملا. وحدث ان مر الشخص صدفة في نفس المكان فوجد إسماعيل ينتظره ، فلذلك سمّي بصادق الوعد.

ثلاث قواعد في التربية :

[٥٥] (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)

لقد كان يستفيد من علاقة الأبوّة التي تربطه بأبنائه من أجل الله لكي يأمرهم بالاتصال الدائم معه عن طريق الصلاة والزكاة.

في هذه القطعة من الآية ثلاث ايحاءات :

الإيحاء الاول : ان من أهم أركان التربية العائلية هي تربية الأبناء على الصلاة ، لأنها أساس سائر الأعمال الصالحة ، وهي تقرّب الإنسان الى الله.

ليس من المهم أن تلقّن طفلك كل صغيرة وكبيرة من الواجبات والاخلاقيات ، بل الأهم من ذلك هو أن تربطه بالله برابطة الايمان ، وذلك عن طريق الصلاة ، فاذا

٦٦

أصبح الولد مؤمنا صادقا في طفولته ، فانه سوف يبحث عن الواجبات بل المندوبة عند ما يكبر ، اما إذا كان ايمانه غير ثابت من الأساس ، فلن ينفعه علمه بكل تعاليم الدين.

ان الصلاة عملية منتظمة والقيام بها خمس مرات في اليوم شيء صعب ، لذلك فان الإنسان يحتاج الى ان يتعوّد عليها من الصغر ، وإذ ذاك تصبح جزءا من حياته ، وضرورة لا يستغني عنها.

الإيحاء الثاني : الزكاة قد تكون بمعنى الفريضة الخاصة التي تتعلق بالغلّات الأربع والانعام الثلاث والنقدين ، وقد تعني مطلق العطاء والإنفاق ، وهي بنوعيها تربي الأبناء على الخروج من الذات الى الاهتمام بالآخرين.

الإيحاء الثالث : اننا نجد في سورة مريم تكرار معنى : الرضا وما يخالفه من التجبر والشقاء ، وهذا التكرار يعود لسببين :

الاول : أن الإنسان يجب ان يربي طفله على أن يكون متكامل الشخصية ، حتى يكون مرضيّا ، يرضى الناس عنه في سلوكياته وتصرفاته ، وبتعبير علمي يجب تنمية حسّ التوافق الاجتماعي عند الطفل تنمية سليمة ، لكي لا يصبح غير مبال بالآخرين ، بل يفكر فيهم ويرضيهم.

الثاني : ان طبيعة الإنسان ان يكون مقبولا في المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه ، ومن واجب الوالدين ان يربّيا أولادهما بحيث تكون هذه الصفة الطبيعية فيهم متجهة الى الله ، أي في حدود تقوى الله ومناهج رسالته.

إدريس الصديق :

[٥٦] (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا)

٦٧

اما إدريس فان القرآن يذكرنا بصفة من صفاته التي يجب أن تتوفر عند الإنسان وهي كونه صدّيقا. والصدّيق صيغة مبالغة من صفة الصادق وهو الذي يصدق في المواقف الصعبة ، ويكون الصدق صبغة لحياته كلها.

يمكن ملاحظة ان ذكر الأنبياء في عدة آيات يكون مسبوقا بصفات مختلفة ، فترى مثلا (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) ، (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا). مما يوحي إلينا فيما يبدو : ان من أسباب نبوة هؤلاء هي تلك الصفات الفاضلة التي تحلّوا بها.

فمن دواعي نبوة أحدهم رسالته ، فحينما يبدأ شخص بحمل رسالة الله بفطرته ، فان الله يختاره نبيا ، لقد كان إبراهيم منذ طفولته يحاور والده ويتكلم معه حول عبادة الأصنام ، وكثير من الأنبياء كانوا يحملون الرسالة قبل النبوة ، وذلك لان الرسالة موجودة في وجدانهم ، فإذا حملها الإنسان ورأى الله منه الصدق فانه يرزقه النبوّة. وأمّا لما ذا سبقت كلمة (الرسول) كلمة (النبي) في الآية (رسولا نبيا) للاشارة الى ان وسام الرسالة اقدس من وسام النبوة وأعلى درجة.

وبالنسبة لإسماعيل ربما كان صدقه لوعده هو السبب الذي أهّله لحمل الرسالة ، كما أن صفة الصدق هي التي أهّلت إدريس لحمل رسالة الله ، حيث ان الله يختار رسله من الصادقين العاملين ، ولا يختار من لا تتوفر فيهم هذه الصفات فيقول ربنا : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ).

[٥٧] (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا)

إذا أردت العلو ، فكن صدّيقا مثل إدريس ، لان الصادق يحبه الناس ويرفعونه ، فيرتفع بين جماعته الى منزلة عالية.

٦٨

الذرية الصالحة والخلف الصالح :

[٥٨] (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا)

هؤلاء هم الذرية الصالحة التي يجب أن تكيف أسرتك وفق هداها. ولعل تأكيد القرآن الحكيم على كلمة الذرية هنا يشير الى هذه الفكرة.

(إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا)

ان الصفة الهامة التي وجدت في هؤلاء بعد هداية الله واجتبائه لهم هي علاقتهم بالله وقربهم الروحي منه ، وهذا أعلى وسام يحمله الإنسان المؤمن الصادق.

ان المؤمنين حينما تتلى عليهم آيات الرحمان وما فيها من أوامر ونواهي وبرامج واخلاقيات ، فإنهم يسجدون دلالة على تقبلهم ، وعلامة على استعدادهم لتطبيقها.

ان السجود هو إظهار الخشوع خارجيا ، اما البكاء فهو إظهار الخشوع نفسيا ، لان نفسية الإنسان تتفاعل مع الموعظة فتجري دموعه ، وهؤلاء قد خشعوا بهيأتهم وكذلك بنفوسهم فخروا سجدا وبكيّا.

[٥٩] (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)

وهؤلاء هم النموذج الآخر وهم الأمثلة السيئة ، فقد أضاعوا الركن الاساسي للدين مما سبب فساد حياتهم ، والركن الأساسي هو الصلاة.

والقرآن لم يقل تركوا الصلاة ، بل أضاعوا الصلاة ، وهذا يشمل بالاضافة الى معنى ترك الصلاة معنى آخر وهو تحويل الصلاة الى هيئة فارغة لا محتوى فيها ،

٦٩

فالصلاة الحقيقية هي صلاة المؤمنين الذين يقول عنهم ربنا سبحانه : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ). وهؤلاء الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا أهواءهم وشهواتهم فإنهم سوف يسيرون في طريق الغواية والضلالة بدل الهدى ..

٧٠

إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧)

٧١

الآخرة حصاد الدنيا

هدى من الآيات :

الاسرة الفاضلة في الدنيا هي الاسرة التي تصنع في بيتها جنة معنوية تشبه الى حدّ بعيد جنّات عدن في الآخرة. ومن عاش في الجنان في الدنيا فحريّ به ان يعيشها في الآخرة ، فجنة الآخرة توفر للإنسان الراحة الروحية والرفاه الجسدي ، وكذلك الاسرة الفاضلة في الدنيا ، أما الراحة المعنوية فهي السلام ، البعيد عن اللغو ، والذي هو قمة تطلع الإنسان في الحياة ، فحين لا يوجد ألم ولا مرض ولا خوف ولا حزن ولا عقد نفسية ولا حسد ، وما الى ذلك مما تنغص حياة الإنسان ، فآنئذ يعيش الإنسان في جوّ من السلام يشمل العافية بكل أبعادها والنجاة من الأخطار جميعها.

ويوم القيامة يدخل ربنا سبحانه المتقين جنة السلام الخالدة ، لان المتقين قد ابتعدوا عن كل ما يسبب لهم انحرافا أو فسادا في الدنيا ، فالآخرة حصيلة الدنيا وانعكاس لها ، وحسب ما يفيدنا القرآن الحكيم : ان الآخرة هي إرث الدنيا ، فما تعمل في الدنيا ترثه في الآخرة.

٧٢

ان الصفات السيئة لها جزاء في الدنيا وجزاء في الآخرة ، فنار الحسد تأكل الإنسان في الدنيا مرة ، وفي الآخرة مرة ، وثعبان الحقد يلدغ الإنسان في الدنيا بطريقة ، ويلدغه في الآخرة بطريقة اخرى ، وفي الآخرة يرى الإنسان الحقد في صورة ثعبان عظيم أو عقربة ضخمة تلدغه ، أما في الدنيا فان ذات الحقد يلدغ قلب الإنسان ، ولكن دون أن يتجسد في ثعبان ظاهر ، ولا فرق بين أن يلدغ جسمه هناك أو يلدغ قلبه هنا. وهكذا سائر الصفات «وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً».

وهكذا نعلم بأن جهنم الآخرة انعكاس لجهنم الدنيا ولا أقول : ان جهنم هناك رمز لجهنم هنا كلا .. لان عذاب جهنم في الآخرة أشدّ ألما وأشد ظهورا وهي حصيلة هذه وحصاده ، من هنا تأتي آيات القرآن تعبر لنا عن الإرث ، فما هو الإرث ،؟ أليس يعني : أن تعمل ثم يأتي الآخرون ليأخذوا نتيجة عملك بعد ما تموت ، وقد لا يأتي إنسان آخر ليأخذ ارثك وانما تكون أنت نفسك بعد موتك تأخذ ما كسبت ، وهذا نوع آخر من أنواع الإرث «وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً».

هناك شبهة عميقة الجذور في فكر الإنسان ، تقول بأنه كيف يمكن للإنسان ان يبعث من بعد الموت؟

ان مصدر هذه الغرابة جهل الإنسان ببداية خلقه ، فلو عرف الإنسان كيف خلقه الله وما ذا كان قبل ذلك ، ولو تذكر الإنسان أنه كان نطفة في صلب أبيه أو مضغة في رحم أمه أو طفلا وليدا لا يتجاوز وزنه (٣) كيلو غراما ، لو تذكر كل ذلك آنئذ يتحسس بأن الذي خلقه وربّاه قادر على أن يحيله الى تراب ثم يخلقه مرة اخرى.

ان تذكّر هذه الحقيقة بصورة مستمرة يرفع عن الإنسان حجاب الغفلة عن

٧٣

الآخرة.

ان شبهات الجهل في قلب الإنسان تشبه (الفطر) الذي يتكاثر باستمرار ، هذه هي طبيعة الشبهة الناتجة عن الضعف البشري ، أنت تجوع وتشبع ، ثم تجوع فتشبع .. وهكذا تحتاج أبدا الى الطعام حتى تمنع عن نفسك الجوع ، لماذا؟ لان الجوع من طبيعتك ، كذلك الشبهات في قلب الإنسان .. هي من طبيعته ، إذ طبيعة الإنسان الجهل والغفلة والنسيان. فاذا قرأت كتابا ثم لم تعد قراءته ، أو سمعت خطابا ثم لم نستمع اليه مرة أخرى ، فانك بمرور الزمان تنسى ما قرأت وما سمعت ، لان الجهل والغفلة من طبعك ، كذلك الشبهات من طبيعة الإنسان ، لذلك على الإنسان ان لا يكتفي بدفع الشبهات عن نفسه مرة واحدة ، لأنه إذا رفعها عادت ونمت نفس الشبهة.

إذا يحتاج الفرد الى مبضع يقوم بواسطته بعملية جراحية مستمرة لقلع الخلايا السرطانية الفاسدة التي تتكاثر في قلبه ، وذلك عن طريق التذكر المستمر.

وهكذا يوجهنا القرآن الحكيم في مجال الحديث عن البعث الى ان نتذكر أبدا ، كيف كنا؟ وكيف خلقنا؟ وكما كنا وخلقنا وترعرعنا ، كذلك يعيدنا الله سبحانه مرة أخرى.

بينات من الآيات :

وعد الرحمن :

[٦٠] (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً)

يبين القرآن في هذا السياق ثلاث مراحل مرّ بها المجتمع :

٧٤

مرحلة الروّاد والقادة وهم (الأنبياء) ومرحلة الانحراف بعدهم الذي قال عنه ربنا في آية أخرى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ) ، ومن رحم هذا الجيل جاءت طائفة مثلت المرحلة الثالثة حيث أنهم تحدوا سلبيات هذا الجيل الفاسد وتابوا وأصلحوا ، فهيّء الرب لهم الجنات.

[٦١] (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ)

ان الجنات لا ترى بالشهود ، بل بالغيب وقد قلت في حديث مضى : ان الطالب الذي يجسد امام ناظرية قاعة الامتحان ، والتاجر الذي يتصور يوم خسارته ، والجندي الذي يتخيل في ذهنه ساحة المعركة ، ان هؤلاء أنفع من غيرهم ، وهكذا الحياة كلها والقرآن الحكيم يقول : (وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) فالرحمن برحمته الواسعة يريد أن يرحم عباده الذين خلقهم فجعل لهم جنة كبيرة مليئة بالطيبات والنعم ، ولكن بشرط أن يؤمنوا بها بالغيب.

(إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا)

ما دام ذلك الوعد هو وعد الله فهو لا ريب آت.

[٦٢] (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً)

اللغو هو الانحراف مثل السب والفحش ، والجدل ، وكل ما يعكس حالة العداء بين الناس ، ويقابله السلام ذلك النور الذي يضيء الجنة وإنّ أول وأهم تجليات السلام هو سلام القلب حيث يعيش الجميع في ظل رب السلام يشربون من كأس السلام ، ويسرحون في وادي السلام ، ويسمون الى أفق السلام ، ولا يبقى غل في قلوبهم ، ولا طمع ولا حسد ، وإذا التقى بهم خزنة الجنة حيّوهم بالسلام :

(ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) (٣٤ / ق)

٧٥

وربّهم سبحانه يحييهم بالسلام :

(سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (٥٧ / يس)

وسلام القلب يعكس سلامة الأعضاء والعافية من جميع الأخطار الحالية والمستقبلية.

(وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا)

يظهر من هذه الآية ومن النصوص ان أفضل وجبات الرزق ما كان أول النهار وآخره (١).

ولعله في الجنة يتبدل الوقت الى ما يشبه الليل والنهار بازدياد النور ونقصه ونتسائل : أليست الجنة تفيض أبدا بالنعم ، فلما ذا إذا الرزق بكرة وعشيا. والجواب : ان المؤمن يزداد رزقا كل يوم ويسير نحو التكامل هناك أبدا.

فقد جاء في حديث نبوي شريف ونعطيهم طرف الهدايا من الله لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا (٢).

[٦٣] (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا)

الجنة ميراث العباد الذين قاموا باكتسابها في الدنيا عن طريق التقوى.

[٦٤] (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ)

لا تنزّل الملائكة من السماء الى الأرض الّا بأمر الله وحكمته ، كما جاء في

__________________

(١) راجع تفسير نور الثقلين ج ٣ ص ٣٥١

(٢) روح المعاني ج ١٦ ص ١٠٣

٧٦

الحديث : ان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال لجبرئيل :

ما منعك ان تزورنا أكثر مما تزورنا؟

فنزلت الآية : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) ، وهذه الآية توحي بأن الوعد الذي وعد الله سبحانه وتعالى عباده بالغيب انما هو وعد أكيد اثبته القرآن ، لا ينزل الا بأمر الله سبحانه.

(لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ)

ان الله تعالى هو الذي وعد وليس (الملائكة) التي وعدت ، وانما الملائكة رسل لله تأتي بالوعد الى البشر ومن ثم فان الله لا ينسى وعده.

(وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)

الله سبحانه وتعالى وعدكم وهو يعلم وعده وسيفي لكم به ، ولو كان ربنا سبحانه ينسى ، إذا لاختلّ نظام الكون ، ولما استطاع ان يلبّى نداء الكائنات ، ولما استطاع ان يحفظ جزاء المحسنين ، أو يميّز المحسن من المسيء حين لقائه.

الايمان بالله وبالبعث :

[٦٥] (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ)

ان طاعة الله وعبادته والاستقامة عليها بحاجة الى صبر عظيم (واصطبر لعبادته) لان عبادة الله تعني التحرر من كل القيود ، والارتفاع فوق كل السفاسف ، والصبر أمام كل الضغوط ، لذلك فان القرآن الحكيم يقول (واصطبر) اي حمّل نفسك الصبر حتى تستطيع أن تعبد ربك ...

٧٧

(هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)

لعل أحد معاني هذه الآية هل هناك اله يدّعي ولو مجرد ادعاء بأنه رب السماوات والأرض ، ورب هذه الآفاق البعيدة اللامتناهية؟!.

كلا ، ليس هناك أحد يدّعي الالوهية بهذا المعنى ، اما هؤلاء الطواغيت الذين يدّعون الالوهية صراحة أو ضمنا ، فان أقصى ما تصل اليه ادعاءاتهم هو أن يقولوا : نحن نمتلك جنودا نسيطر عليهم ، أو اننا نسيطر على قطعة ارض.

[٦٦] هذا عن الايمان بالله سبحانه وتعالى ، وهناك بعد آخر من الايمان هو الايمان باليوم الآخر ، وإذا ما آمن الإنسان بهذين البعدين (مبدأه ومعاده) فانه يصبح إنسانا متكاملا ، لذلك يركز القرآن الحكيم دائما عليها.

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا)

أتصور ان القرآن حينما يستخدم كلمة (الإنسان) دون كلمة الناس أو البشر وما أشبه فان ذلك للدلالة على طبيعته ، فهناك غريزة اركزت في خلقة البشر وهي : ان هذا الإنسان كثيرا ما يتساءل إذا ما مت لسوف اخرج حيّا؟!

هل الموت نهاية أم بداية ، أم مرحلة بين هذه وتلك؟!

[٦٧] (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً)

على الإنسان ان يفكر .. ما ذا كنت قبل أن أخلق ، ان الذي خلقني وأوجدني يستطيع أن يعيدني ، وهذا الكلام ليس كلاما يمكن ان يقنعك بمجرد طرحه عليك ، انما هذا يوافق الوجدان ، فاذا عدت الى وجدانك وتذكرت أحوالك الماضية ، وتخيلت العدم الذي كنت فيه ، وكيف جئت بعد ذلك الى الوجود ، آنئذ تفهم قدرة الله

٧٨

سبحانه وتعالى ، وتحيط ببعض أسمائه الحسنى ، وكذلك تعرف نفسك ، وتعرف انك مخلوق ، وانك مقدّر ، وان الله هو الذي يدبّر حياتك وبذلك تستطيع ان تؤمن بالآخرة.

٧٩

فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ

______________________

٦٨ [جثيّا] : الجثيّ جمع جاثي وهو الذي برك على ركبتيه.

٦٩ [عتيّا] : العتي مصدر كالعتو وهو التمرد والعصيان.

٧٣ [نديّا] : الندي والنادي المجلس الذي قد اجتمع أهله.

٧٤ [رئيا] : الرّئي ما يراه الرجل من ظاهر أحوال القوم.

٨٠