من هدى القرآن - ج ٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-10-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٣٩٩

الإنسان بهدى الإله ، ومن الذي ينقذ الإنسان في صراعه مع الطبيعة والشهوات ، وكيف ينبغي للإنسان أن يتحدى الطبيعة ، وبما ذا؟

في آيات سورة طه إشارات دقيقة الى موضوعات خفية ، ينبغي أن نتدبر فيها لنعرف أسباب رقي الإنسان ، وما هي العوامل التي لو التزم بها الإنسان لاستطاع أن يتحدى وأن يقاوم طبيعته وبالتالي لاستطاع الوصول الى الجنة؟

١٢١

سورة طه

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨)

______________________

٥ [استوى] : استولى ، وهو كناية من المالكيّة المطلقة.

٦ [الثّرى] : التراب.

١٢٢

الداعية وهموم الدعوة

هدى من الآيات :

يبحث هذا الدرس من سورة طه موضوعات شتى ولا غرابة ، فكما قلنا مرارا :

ان الدرس الأول والأخير من سور القرآن قد تبدو موضوعات غير منسجمة بادئ الرأي ، إلّا أنها ـ عند التأمل ـ نجدها ترمز الى كلّ الموضوعات التي نجدها في السورة ببلاغة نافذة وقول فصل.

والموضوعات في هذا الدرس تشير الى دور الرسالة ، وانها جاءت لسعادة الإنسان ، وان صاحب الرسالة التي يحملها لا ينبغي أن يقتل نفسه من أجل هداية الناس ، بل يكفي أن يذكرهم ، فمن خشي تذكر ، ومن لم يخش أعرض ، وان هذه الرسالة إنما هي من الله رب السماوات والأرض المحيط بهما وبالإنسان وبما يجهر به من القول أو يخفيه ، وان لله الأسماء الحسنى ، التي تتجسد في قصة موسى حيث انه ذهب فقيرا ، مسكينا ، ملتجئا الى الله فحمل معه مشعل الرسالة مضيئا وهّاجا وأنقذ سائر الناس بهذا المشعل الوقاد من الظلمات التي كانوا فيها.

١٢٣

ذلك المشعل الذي كان قوامه ذكر الله المتجسد ، وتوحيد العبادة لله ، والايمان بالآخرة ، والايمان بان عمل الإنسان هو الذي يتجسد في الآخرة ، وان كلّ نفس تجزى بما علمت ، هذه هي الموضوعات التي يبحثها الدرس الأول من سورة طه.

بينات من الآيات :

الرسول وهموم الهداية :

قيل في كلمة «طه» ما قيل في الحروف المقطعة في بداية السور ، وأقول فيها ما قلته في أمثالها في سائر السور القرآنية ، حيث أتصور بأن الكلمة ترمز الى القرآن الحكيم ، ولعلها هنا ـ كما جاءت في النصوص الاسلامية ـ رمز الى الرسول صلى الله عليه وآله ، فتكون لفظة (طاء) اختزالا لجملة (طالب الحق) بينما تكون لفظة (هاء) اختزالا لجملة (الهادي اليه) (١)

كما اننا نشير الى كتاب ونقول : هذا الكتاب ، فكذلك لفظة (طه) انما هي الى القرآن ذاته ، وقيل : ان طه هو رسول الله (ص).

[١ ـ ٢] (طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى)

إن رسالة السماء تنزل على الإنسان لا لكي يهلك نفسه حزنا عليها لان المجتمع لا يؤمن بها ، فهو لا يتحمل مسئوليته إلّا بقدر البلاغ فقط ، وانما الرسول مبلغ ، فلما ذا يشقي نفسه؟

قيل ان الرسول (ص) كان يسهر الليل بالعبادة ، ويمضي النهار بالصيام ، متعبا نفسه ، وقد جاء في حديث شريف عن أمير المؤمنين عليه السلام انه قال :

__________________

(١) تفسير نور الثقلين / ج ٣ / ص ٣٦٧.

١٢٤

«ولقد قام رسول الله عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورّمت قدماه ، واصفرّ وجهه ، يقوم الليل أجمع حتى عوتب في ذلك فقال الله عزّ وجل ـ (طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) ـ بل لتسعد به» (١)

والتفسير صحيح ، وهو سبب النزول ، ولكن القرآن الحكيم ليس خاصا بشخص الرسول الكريم فقط ، وانما نزل كما في حديث للإمام الصادق (ع) على لغة (إياك أعني واسمعي يا جارة) ، ونستفيد من هذه الآية أن صاحب الرسالة ينبغي أن لا يشقي نفسه لان الناس لا يؤمنون ، ولا أن يكلف نفسه فوق طاقتها في تحمل واجبات الرسالة ومندوباتها ، وقد أجهد الامام الحسن عليه السلام نفسه بالعبادة مرة فنهاه والده أمير المؤمنين (ع) قائلا : يا بني ان هذا الدين متين فأوغل فيه برفق.

[٣] (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى)

فاذا خشي الناس واعتبروا فلهم جزاؤهم ، وإلّا فليس عليك من أمرهم شيء.

والقرآن تذكرة لمن يستفيد منه ولمن يوجد في ذاته الاستعداد لذلك ، كما الأرض لا تستفيد من المطر إلّا بشرط أن تكون مستعدة لاستقباله ، وكذلك قلب الإنسان لا يستفيد من بركة الرسالة ، إلّا بشرط استعداده لاستقبالها واستعداده بالتذكرة والخشية.

ومن الذي يخاف؟

هل المجنون أو الطفل الصغير؟ أم الإنسان الهائج الذي أذهب الغضب عقله ، أو الغافل الذي حجبت الغفلة عقله؟ كلا .. انما يخاف الذي ينظر الى المستقبل ،

__________________

(١) المصدر.

١٢٥

ويفكر في عواقب الأمور ، وهذا هو الإنسان الذي يستفيد من الرسالة ، لأنه عاقل ، ولذا كان الخوف من علامات العقل.

هيمنة الله :

[٤] (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى)

السماوات العلى أي العالية.

قد يبدي الإنسان نوعا من الذهول عند ما يقرأ الأرقام العلمية ، فقد كان العلماء يقدّرون عدد النجوم بالآلاف ، ثمّ قدروها بمئات الألوف ، ثمّ بالملايين والمليارات ، وبعد ذلك عجز علمهم عن الإحصاء ، وكانوا في البداية يقدرون المسافات والابعاد التي تفصل الاجرام السماوية عن بعضها بوحدات القياس الاعتيادية ، ثم اكتشفوا ان هذه الوحدات الطويلة أعجز من أن تصمد أمام المسافات الكونية الرهيبة ، فلجئوا الى استخدام السنة الضوئية في القياس ، وهي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة كاملة في حين ان سرعة الضوء تبلغ حوالي (٠٠٠ ، ٣٠٠) كيلومترا في الثانية.

هذه الأرقام يكاد الإنسان لا يصدقها من ضخامتها ، وكثير منا لم يصدق بهبوط الإنسان على القمر ، وانه للحقيقة ، وكان القرآن الحكيم يشير الى أن رسالة السماء نور منزل من خالق السماوات العلى.

[٥] (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)

وهو رحمن ، لأنه خلق هذه السماوات وهذه النجوم وهذا الفضاء اللامتناهي وهذا الإنسان ، فرحمته تتجلى في إيجاد الأشياء من بعد العدم واعطائها كيانا بعد أن لم تكن شيئا مذكورا.

١٢٦

ثمّ لم يترك السماوات بعد خلقها عبثا ، انما استوى عليها ، أي يشرف عليها ويأمرها فتأتمر ويزجرها فتزدجر ، وبالتالي هو المسيطر المهيمن على السماوات والأرض ، فلا شيء فيها أقرب اليه من شيء ، لأنه محيط بها جميعا ، علما وقدرة وسلطانا وتدبيرا ، جاء في حديث شريف عن عبد الرحمن بن الحجاج قال ، سألت أبا عبد الله عن قول الله عزّ وجل (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ، فقال : استوى من كلّ شيء ، فليس شيء أقرب اليه من شيء ، لم يبعد منه بعيد ، ولم يقرب منه قريب ، استوى من كلّ شيء. (١)

والعرش هنا بمعنى مركز القدرة والسلطة والتدبير ، وتعالى الله عما يتصوره الجاهلون ، من أن العرش مقام ربنا المادي .. كلا : إن العرش لا يتحمل الرب ، انما الرب هو الذي يحمله ، جاء في حديث مأثور عن الإمام علي عليه السلام قاله لوفد النصارى ورئيسهم جاثليق :

فكان فيما سأله أن قال له : أخبرني عن ربك أيتحمل؟ فقال علي (ع) : إن ربنا جلّ جلاله يحمل ولا يحمل ، قال النصراني : وكيف ذلك ونحن نجد في الإنجيل : «ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية» فقال علي (ع) : ان الملائكة تحمل العرش ، وليس العرش كما تظن كهيئة السرير ، ولكنه شيء محدود مخلوق مدبر وربك عزّ وجل مالكه ، لا انه عليه ككون الشيء على الشيء ، وأمر الملائكة بحمله ، فهم يحملون العرش بما أقدرهم عليه ، قال النصراني : صدقت يرحمك الله (٢)

وجاء في حديث آخر مأثور عن حنان بن سدير قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن العرش والكرسي فقال : ان للعرش صفات كثيرة مختلفة ، له في كلّ سبب وضع في

__________________

(١) المصدر / ص ٣٦٨.

(٢) المصدر.

١٢٧

القرآن صفة على حدة ، فقوله : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) قول : الملك العظيم ، وقوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) يقول : على الملك احتوى : وهذا ملك الكيفوفية في الأشياء ، ثمّ العرش في الوصل منفرد من الكرسي لأنهما بابان من أكبر أبواب الغيوب ، وهما جميعا غيبان ، وهما في الغيب مقرونان ، لان الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه يطلع البدع ، ومنه الأشياء كلها ، والعرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحد والأين والمشية ، وصفة الارادة ، وعلم الألفاظ والحركات ، والترك وعلم العود والبداء ، فهما في العلم بابان مقرونان ، لان ملك العرش سوى ملك الكرسي ، وعلمه أغيب من علم الكرسي ، فمن ذلك قال : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي صفته من صفة الكرسي ، وهما في ذلك مقرونان(١)

[٦] (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى)

ولم يملّك القرآن أحدا شيئا ، لان الأشياء كلها لله سبحانه ، وهو الذي يحكم فيها ، وإذا أعطى الإنسان شيئا ، فانما يخوله الاستفادة منه ، ويكون في الواقع مستخلفا فيه لا مالكا حقيقيا له.

[٧] (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى)

إذا جهرت بكلامك وأعلنته ، فان الله سبحانه لا يعلم ما جهرت به فقط ، وانما أيضا يعلم خلفيات جهرك ، ان كلّ كلمة ينطقها الإنسان جهارا قد يكون من ورائها ألف مقصد ومقصد وكلّ ذلك قد أحاط به الله علما.

__________________

(١) المصدر / ص ٣٦٩.

١٢٨

الله يتجلى :

[٨] (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)

كلّ ذلك الجمال والجلال وتلك العظمة التي نشاهدها في الموجودات المخلوقة من حولنا انما هي آية لأسماء الله سبحانه وتعالى ، وانعكاس منها على الطبيعة ، أنت تبحث عن الجمال وعند ما ترى شيئا جميلا فانك تبحث عما هو أجمل منه ، وتبحث عن القوة ، فإذا رأيت قويا تبحث عمن هو أقوى منه ، وتبحث عن العظمة فاذا رأيت عظيما تبحث عمّن هو أعظم منه ، لان قلبك انعكست عليه أسماء الله الحسنى ، أسماء الجلال والجمال والعظمة التي هي لله ، فلا يقتنع القلب بالمخلوق ، بل لا يبحث عنه حقا.

وأسماء الله تشير الى صفاته وهي كثيرة ، منها ما أوتي البشر علمه ، ومنها ما أوتي الأصفياء من البشر فقط علمه ، ومنها ما هو غيب لا يعلمه إلّا رب العزة ، وقد جاء في حديث نبوي شريف :

«إن الله سبحانه وتعالى تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة» (١)

__________________

(١) تفسير نور الثقلين / ج ٣ / ص ٣٧٣.

١٢٩

وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦)

______________________

١٠ [بقبس] : القبس هو الشعلة للتدفئة.

١٣٠

النداء المقدس

هدى من الآيات :

في اطار موضوع سورة طه التي تتحدث عن علاقات البشر بالدنيا وزينتها من جهة ، ورسالات الله وقيمتها من جهة ثانية ، يتساءل السياق هنا : هل سمعت قصة موسى حينما حار بأهله في الصحراء فرأى نارا فذهب إليها ليأتي منها بقبس ، أو يجد هدى ، ليعرف كيف يخرج من أزمته؟

وحين وصل إليها ناداه الرب : إني أنا ربك ، وأمره بأن يخلع نعليه لأنه في مكان مقدس ، وأخبره بأنه اختاره لرسالاته ، وعليه أن يستمع إليها ، وهي عبادته ، وإقامة الصلاة لذكره ، والايمان بالساعة التي لا ريب فيها ، وحينها تجزى كلّ نفس بما تسعى ، والتحصن ضد من يصدون عن الساعة لأنهم لا يؤمنون بها ويتبعون أهواءهم ، وهم يريدون هلاكه.

كما ان الإنسان يفيق في الصحراء من الغفلة والضلالة فتحيط به الظلمات ، وتلاحقه عوامل الخوف ، فيبحث عن مشعل يستضيء به ، وعن دفء يأوي إليه ...

١٣١

كذلك موسى كان في تلك الليلة المظلمة الشاتية يسير في صحراء سيناء يبحث عن دفء وعن نور ، يبحث عن دفء يعالج به البرد القارص وعن هدى ونور يضيء به طريقه ، فحينما رأى نارا من بعيد ، كانت تلك النار بالنسبة اليه «أنسا» فاقترب إليها فاذا بها خير من النار ومن النور ، انها (الرسالة) التي تعالج مشكلة الإنسان ، معالجة جذرية ، فتسيّر سفينة عقله وتذكره بربه وتخط له خطا مستقيما الى الله.

إن تصوّر موسى في تلك الليلة ، في تلك الصحراء ، الى جانب وادي طوى ، وهو يكلم الله ، والله يكلمه ويناجيه ، تصور هذا المنظر يبعث إلينا مشاعر مختلطة من السرور والرهبة.

فمن جهة نشعر باننا حينما نضيع في صحراء الحياة فلا بدّ أن نجد ربا يأخذ بأيدينا ، ربا رحيما ودودا الى درجة أنّه يحدثنا. ترى أن الله يناجي موسى بعبارات قصيرة ، ولكنّ موسى يتحدث حديثا طويلا ، حديث موسى مع ربه يكون بنفس طويل ، لأنه وجد في حديث ربه أنسا ، كان يريد أن يبقى طويلا مع ربه ، برغم انه كان قد ترك أهله ينتظرونه ليرجع إليهم بالدفء والهدى ، وهذا هو دائما منظر الإنسان وحالته وعلاقته مع ربه في الحياة ، وهي علاقة الأخذ من دون تكلف ، والاهتداء به من دون خشية أو رهبة.

ويبعث فينا هذا التصور الرهبة ، حيث نخشى بأن يتركنا الرب إذا تركنا هداه.

ففي نفس الوقت الذي ترانا نحتاج الى الله حاجة ملحة فهو رحيم بنا ، ودود معنا ، مع ذلك شديد العقاب ، هذه هي علاقة الإنسان بالله سبحانه وتعالى.

١٣٢

والآيات هذه توحي إلينا بفكرة أخرى ، تلك هي فكرة ارتفاع الإنسان الى هذا المستوى ، حيث يكلمه الله سبحانه وتعالى تكليما.

نحتفظ بهذه الصورة لنقارنها بعدئذ بصورة آتية ، وهي صورة (فرعون) ، فمرة يكون الإنسان في صورة (موسى) ومرة يكون في صورة (فرعون) ، وكلّ واحد من أبناء آدم في قلبه إنسانان ، موسى وفرعون ، فخذ لنفسك ما تشاء.

وهناك أفكار أخرى تستلهم من هذه الآيات سوف نتعرض لها عبر حديثنا التفصيلي.

بينات من الآيات :

حديث موسى :

[٩] (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى)

وهذا الكلام ليس موجها الى رسول الله (ص) فقط وانما هو ـ بصورة مركزة ـ موجّه إليك وإليّ.

[١٠] (إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً)

عند ما جاء موسى (ع) من مدين الى مصر وبعد أن تاه في الطريق مع أهله فاذا به يشاهد نارا من بعيد فيتجه إليها لعله يحصل على جذوة منها كي يتدفى هو وأهله ، وآنست : مأخوذة من الأنس فلعله جاء تعبيرا عن تصور وجود بشر هناك.

(لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ)

ربما كانت النار بعيدة فلم يشأ موسى أن يأخذ أهله الى تلك النار فيحمّلهم

١٣٣

مشقة الطريق ، لذلك أبقاهم في مكانهم.

(أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً)

لعلّني أسأل من قد يكون عند تلك النار عن الطريق.

القرآن يوجز العبارات ، ويرمز من خلال الإيجاز الى حاجات الإنسان في الحياة ، فمن جهة كانت هناك حاجة مادية هي الدفء والنار ، ومن جهة أخرى كانت هناك حاجة معنوية وهي الهدى ، ورسالة الله تأتي بهاتين الحاجتين معا ولكن عبر سعي الإنسان.

فالإنسان+ الرسالة الوفاء بحاجاته كلها.

النداء المقدس :

[١١] (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى)

جاء موسى ليقتبس النار وليهتدي بهدى أصحابها ، فاذا بنداء يتناهى الى سمعه لا يعرف مصدره ، ولذلك عبر القرآن بكلمة «نودي» ، فيأتيه النداء في البدء وليست المناجاة لماذا؟

لأن الإنسان الغافل يحتاج الى نداء حتى يستيقظ من غفلته ، ثم يناجي من قريب.

من هذا الذي يناديني باسمي؟ من الذي يعرفني في هذه الصحراء ..؟

[١٢] (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ)

فجاءه الجواب واضحا بأن : الذي يكلمك هو رب العزة.

١٣٤

(فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ)

أول أمر هو أن يخلع موسى نعليه احتراما لمن يكلم ..

(إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً)

لما ذا يخلع نعليه؟ وما هي العلاقة بين خلع النعلين وبين وجود الإنسان في مكان مقدس؟ ولما ذا يقدس المكان ..؟

الجواب : إن خلع النعلين ـ كما أتصور ـ إنما هو رمز يشير إلى تجرد الإنسان من ارتباطاته وعلاقاته ، وهذا التجرد ضرورة تمهيدية لاستقبال نور السماء ، نور الرسالة ، فاذا كانت عندك علاقة بأهلك ، بأولادك ، بسلطانك ، فانك لن تفهم الرسالة ، ولن تتمكن من استيعابها.

إنما تفهم الرسالة ، إذا انفصلت عن علاقاتك ، واتجهت الى الله ، لذلك نحن في الحج ، تؤمر بأن نخلع ملابسك العادية ونلبس ملابس بسيطة ، يعني تجردنا عن علاقاتنا الأرضية ، وقيمنا المادية ، وتوجهنا الى الله سبحانه وتعالى ، لذلك أمر موسى بخلع نعليه ، وبذلك جاءت النصوص الاسلامية التي نفت في ذات الوقت أن تكون نعلا موسى ـ آنئذ ـ من جلد حمار ميت ولذلك أمر بنزعهما نقرأ معا النص التالي المأثور عن الامام الحجة القائم عجل الله تعالى فرجه :

في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى سعد بن عبد الله القمي عن الحجة القائم عليه السلام حديث طويل وفيه : قلت فاخبرني يا ابن رسول الله عن أمر الله لنبيه موسى : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) ، فان فقهاء الفريقين يزعمون انها كانت من إهاب الميتة؟ قال صلوات الله عليه : من قال ذلك فقد افترى على موسى فيها ، واستجهله في نبوته ، لأنه ما خلا الأمر فيها من خطيئتين :

١٣٥

أما أن تكون صلاة موسى فيها جائزة أو غير جائزة ، فان كانت صلاته جائزة ، جاز له لبسها في تلك البقعة إذا لم تكن مقدسة ، وإن كانت مقدسة مطهرة فليست بأقدس وأطهر من الصلاة ، وإن كانت صلاته غير جائزة فيها فقد أوجب على موسى عليه السلام : أنّه لم يعرف الحلال من الحرام ، وعلم ما جاز فيه الصلاة ، وما لم يجز ، وهذا كفر ، قلت : فاخبرني يا مولاي عن التأويل فيها : قال صلوات الله عليه : ان موسى ناجى ربه بالواد المقدس فقال : يا رب إني قد أخلصت لك المحبة مني ، وغسلت قلبي عمن سواك ، وكان شديد الحب لأهله ، فقال الله تعالى : «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» أي انزع حب أهلك من قلبك إن كانت محبتك لي خالصة ، وقلبك من الميل الى من سواي مغسول.

(١) والسؤال الآخر : ما هي العلاقة بين خلع النعلين وبين الوادي المقدس طوى؟

العلاقة ان الإنسان في الأماكن المقدسة والمشرّفة ، يجب أن لا يكتفي بخشوع قلبه ، وانما يجعل مظهره بشكل يدل على أنه خاشع لله سبحانه.

لذلك يستحب في بعض الأماكن المقدسة أن يتحرك الإنسان إليها بخطي وئيدة ، لكي تدل طريقة مشيه على انه خاشع ، وهكذا أمر الله موسى بأن يخلع نعليه في ذلك المكان المقدس الذي لم يقدس لذاته ، وانما لأنه ينتسب الى من هو متصف بالقدسية ، أو ليس أوحى الله سبحانه في هذا المكان ، أو ليس الوحي مقدسا؟

الوادي المقدس «طوى» هو في جانب طور سيناء ، وسبب قداسته حسب حديث الرسول (ص) لأنه قدست فيه الأرواح ، واصطفيت فيه الملائكة ، وكلّم الله عزّ وجل موسى تكليما. (٢)

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٣ / ص ٣٧٣ ـ ٣٧٤.

(٢) نور الثقلين / ج ٣ / ص ٣٧٤.

١٣٦

[١٣] (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى)

الاختيار هو تفضيل شيء لصفة مميّزة فيه ، وانما اختار ربنا الحكيم موسى (عليه السلام) لما وجد فيه من الصفات المثلى لحمل الرسالة ، وأهمها ـ فيما يبدو لي ـ صفة : الخروج عن الذات ، والاهتمام بالآخرين.

وهذه الصفة كانت متوفرة في كلّ الأنبياء وفي موسى ـ عليه السلام ـ بالذات ، فأنت ترى انه نسي أهله ، وجلس يتحدث مع الله حديثا مفصلا ، لم يقل : ائذن لي يا الهي حتى أذهب واحضر أهلي ثمّ أكمل الحديث ، كلّا بل ظلّ يواصل الكلام ، كذلك يقول الله عن يوسف : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ، إن الله يجزي أولئك الذين يحسنون الى الناس ويحبونهم ويعملون من أجلهم ، ويخرجون عن ذواتهم من أجل المصلحة العامة ، هؤلاء يهديهم الله بإعطائهم الرسالة ، والحكم (الرسالة).

خلاصة الوحي :

[١٤] (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي)

إن خلاصة الوحي هي هذه الكلمات : الايمان بالله إلها واحدا وعبادته.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)

وإقامة الصلاة ليست فقط بهذه الحركات الشكلية التي يؤديها المصلي ، وانما هي رمز لخضوع الإنسان لأمر الله عزّ وجل ، واستعداده لتطبيق كلّ أوامره وشرائعه على نفسه وعلى أسرته وعلى مجتمعة وأمته. ولذلك فهي عمود الدين ان قبلت قبل ما سواها ، وإن ردّت ردّ ما سواها ، ومن هنا وجب إقامة الصلاة متى ما ذكرها الفرد في وقتها أو بعده ، كما روى عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله :

١٣٧

«من نسي صلاة ، فليصلها إذا ذكرها ، لا كفارة لها غير ذلك ، وقرأ : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)» (١)

لما ذا قال الله لذكري؟

ان العبادة الشعائرية وحدها لا تكفي ، لأن تلك العبادة بمرور الزمن تتعرض للانحراف والتشويه ، لذلك فان الإنسان بحاجة الى ذكر دائم لله كي تبقى عبوديته لله سبحانه وتعالى في مأمن من التحول ـ بسبب ضغوط الحياة ووسوسة الشيطان ـ الى عبودية غير الله في شتى صورها.

لذلك ـ أتصور ـ إن كلمة «ذكرى» تعني : ان ذكر الله سبحانه إنما هو في الواقع الهدف الأسمى من الصلاة ، حيث جاء في آية أخرى «وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ» ، فالصلاة تهدف الى ذكر الله والارتباط المباشر به سبحانه.

وهذه الآية تدل على أن في الصلاة وجوبين :

الوجوب الأول : هو الصلاة في وقتها.

والوجوب الثاني : هو أن الصلاة واجبة بعد وقتها ، فاذا نسيت الصلاة وفات وقتها ، فعليك أن تقضيها في غير وقتها ، لما ذا؟ لأن وجوب الصلاة إنما هو لذكر الله ، وذكر الله هو سر السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة ، لأنه سبحانه مصدر الخير الحقيقي في هذا الوجود ، ولا يمكن للعبد المخلوق أن يحصل من الله على الخير ، في حين أنه منصرف عن ذكره والتوجه إليه.

كما تدل الآية أيضا على أن الصلاة يجب أن تكون بخشوع ومن أجل ذكر الله ،

__________________

(١) المصدر / ص ٣٧٥.

١٣٨

فأساس الصلاة هو تحيتك مع الله ، فحينما تركع وتقول : «سبحان ربي العظيم وبحمده» أو تسجد وتقول : «سبحان ربي الأعلى وبحمده» فان هذا هو نوع من التحية لربك تحييه بتنزيهه وتعظيمه.

الحتمية التي لا بدّ منها :

[١٥] (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى)

في بعض المدن التي تفتقد الأمن ، ترى أن السلطة تقوم ببعض الدوريات المفاجئة ، بالاضافة الى الدوريات الاعتيادية الثابتة ، فجأة تأتي دورية تقف على رأس شارع معين ، وتأخذ بتفتيش المّارين ، لماذا؟ لان الناس إذا كانوا يعرفون متى وأين تأتي الدورية فان بامكانهم أن يفلتوا منها بطريقة أو بأخرى.

وكذلك نلاحظ في بعض المدارس ، أنّ الأساتذة لا يحددون موعد الامتحان الى الطلبة ، وفلسفتهم في ذلك أن كثيرا من الطلبة لو علموا بهذا الأمر ، سيتقاعسون عن الدرس بانتظار أقرب موعد للامتحان ، حيث يجدّون ويجتهدون لفترة قصيرة فقط.

إنّ الله سبحانه وتعالى قد جعل الدنيا دار عمل وسعي يمر فيها الإنسان بمواقف كثيرة وامتحانات عديدة ، فيتحتّم عليه أن يبذل كلّ ما في وسعه ليجتازها بنجاح ، ولا يتقاعس أو يؤخر واجباته على أمل أن يقوم بها فيما بعد ، لأن الموت قد يفاجئه في أيّ لحظة ، ويفقد تلك الفرصة الذهبية الثمينة التي منحها الله إياه في الدنيا ، ثمّ لا يجد في الآخرة إلّا الحسرة والندامة ، والإنسان بطبعه يغفل أو يتغافل عن يوم الحساب ، وحينما يغفل فانه يقوم بجرائم وأخطاء ، فالغفلة طبيعية عند الإنسان ، وربما كان هذا من سنة الله ، فلو لم تكن الغفلة موجودة لم يكن الامتحان موجودا.

ولكن ما الذي يميز الطيبين عن الأشرار؟

١٣٩

إن الطيبين هم الذين يجدّون لكي لا يغفلوا ، ويعملون أبدا من أجل إيقاظ أنفسهم دائما.

إن القرآن يضع مسئولية الهداية والتربية على الإنسان نفسه ، فلا تنتظر أيها الإنسان مساعدة من الغير في تنبيهك من غفلتك ، بل يتوجب عليك أن توقظ نفسك باستمرار من تلك الغفلة ، وإلّا تعرضت للاخطار الجسيمة ، وصار مصيرك في الآخرة الى عواقب وخيمة.

وهذا التنبيه المستمر ، يتم عبر إقامة الصلاة بشرائطها وحدودها الصحيحة والمحافظة على جوهرها ، والحيلولة دون تحولها ـ مع مرور الزمن ـ الى شكليات وطقوس فارغة من كلّ محتوى ، وطريقة ذلك كما يرشدنا إليها الحديث الشريف :

«اعبد الله كأنك تراه ، فان لم تكن تراه فانه يراك»

وكلمة «أَكادُ أُخْفِيها» تشير الى أن الله عزّ وجل لم يخف الساعة إخفاء كاملا فقد أعلنها ، وبيّن كلّ ما يتعلق بها ، وفصل كلّ ما يجري فيها ، ولكنه فقط أخفى موعدها ، وهذا لكي يتحمل الإنسان المسؤولية كاملة في الحياة الدنيا ، ذلك انه لو عرف موعدها لأمضى قسما كبيرا من عمره دون تحمل أي مسئولية ، إذا فإخفاء موعدها لا بدّ منه لكي يكون الجزاء عادلا ، فالجزاء يأتي بعد تحمل المسؤولية ، وإلّا فانه سوف لن يكون له أيّ معنى ان كان ثوابا أو عقابا. وهناك تفسير أعمق من هذا التفسير نجده في أحاديث آل البيت ، حيث جاء في تفسير علي بن إبراهيم في قوله : «إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها» قال : من نفسي ، هكذا نزلت ، قلت : كيف يخفيها عن نفسه؟ قال : جعلها من غير وقت. وروي مثل ذلك عن ابن عباس ، وهي كذلك في قراء أبي. (١)

__________________

(١) نور الثقلين ج ٣ ص ٣٧٥

١٤٠