من هدى القرآن - ج ٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-10-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٣٩٩

العميق.

[١٣٥] (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى)

الجميع ينتظر المستقبل ، ولكن ترقب المؤمن مبنيّ على أساس التعاليم الالهية ، بينما لا يستند تربص الكافرين الا على وهم ، فهم في ضلالة حاضرة ومصير مظلم ، وهذه الآية تنطوي على إنذار بالغ لهذه الفئة.

٢٦١
٢٦٢

سورة الأنبياء

٢٦٣
٢٦٤

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

عن النبي محمد (ص) قال :

«من قرأ سورة الأنبياء ، حاسبه الله حسابا يسيرا ، وصافحه وسلم عليه كلّ نبي ذكر اسمه في القرآن».

(مجمع البيان ـ ص ٣٨ ـ ج ٧)

وعن الامام الحسين (ع) قال :

«من قرأ سورة الأنبياء حبا لها ، كان كمن رافق النبيين أجمعين في جنات النعيم ، وكان مهيبا في أعين الناس حياة الدنيا».

(الثقلين ـ ص ٤١٣ ـ ج ٣)

٢٦٥
٢٦٦

الإطار العام

شروعها هزة ضمير ، ونهايتها ومضة أمل ، وبين البداية الصاعقة والنهاية الحانية ، يتلو علينا القرآن الكريم آيات الوعي ، ليعالج فينا الغفلة والإعراض ، واللعب واللهو ، مذكرا بعاقبة المكذبين ، وان الحياة جد ، وان الملائكة عباد مكرمون ، وان الآلهة لا تنفع ، وهي ليست كهفا منيعا للاعبين واللاهين ، وان الله واحد أحد ، وان الموت واقع ، وان الاستهزاء بالرسل عاقبته العذاب. كما انها تذكر بدور الرسل ، وعاقبة المكذّبين بهم ، وشهادة صدقهم في نصر الله لهم.

فما هو إذا الإطار العام لهذه السورة؟ هل انه يحيط بمحور النبوة ودور الأنبياء كما يدل عليه اسم السورة؟ أم ان محور السورة قضية الغفلة ، وكيف تعالج في النفس ، ليشعر الإنسان بمسؤولياته ، وان الحياة جد لا هي لهو ولا لعب؟

لعل السورة تحدثنا عن الأنبياء ، ولكن من زاوية تذكيرهم البشر ، وكيف ينبغي أن نداوي حالة الغفلة من أنفسنا بالاستماع إليهم ، والايمان بهم وبما أرسلوا به.

٢٦٧

ذلك إنّ سورا أخرى تحدثنا أيضا عن الأنبياء ، ولكن من زوايا مختلفة مثل طبيعة الصراع الاجتماعي أو السياسي الذي خاضوه (مثل سورة القصص) أو الأذى الذي لحقهم وكيف استقاموا حتى نصرهم الله (مثل سورة هود).

إن الشعور بالمسؤولية ، قمة الوعي وإن السبيل إليه مقاومة حالة الغفلة والسهو ، والتي لا تتحقق إلا بالإنذار باقتراب موعد الحساب!

وقد جاء النبي يذكرهم إلّا انهم استمعوا الذكر وهم يلعبون ، لان قلوبهم لاهية ، لا تستقر على فكرة.

وبعد أن يذكّر السياق بان إعراضهم عن الذكر بادعاء إنّه سحر ، أو حلم مختلط ، أو افتراء ، أو خيالات شاعر. وبالتالي تبريرهم التكذيب بالحق ، باننا نبحث عن آيات جديدة ، بعدئذ ينذرهم : بأن الهلاك هو مصير المكذبين (١١).

ويبين القرآن : إنّ الحياة جد لا لعب ، وأنّ الله خلق السماوات والأرض بالحق ، وبالتالي لا ينبغي اتخاذها لعبا ولهوا ، (١٦) ويؤكد ذلك بان الملائكة (وهم الأعرف والأقوى منهم) يعبدون الله بجد ويسبحونه وله يسجدون (١٩) ولأنهم يهربون من المسؤولية عادة الى كنف الآلهة فيزعمون انها تنقذهم من جزاء أفعالهم يذكرهم الرب بأنه الله الواحد (٢٠) ويستمر السياق بذكر التوحيد والشواهد الفطرية عليه (٣٠) ثم يعود بعد تزييف فكرة الشرك التبريرية ، ليهز الإنسان من أعماقه بذكر الموت ، وان كلّ نفس ذائقة الموت ، حتى النبي الكريم عند ربه (٣٤).

أما الاستهزاء (وهو صورة اللهو وعدم الجدية في استقبال القضية المصيرية) فان عاقبته الدمار (٣٦).

٢٦٨

وبعد تفنيد الشرك والاستهزاء يعالج القرآن حالة الاستعجال (٣٧) (حيث إن الإنسان يبعد المسؤولية عن نفسه بالادعاء انه لو كان لكلّ فعل جزاء فلما ذا يتأخر الجزاء).

ويعود السياق ليبيّن مصير المستهزئين (٤١) ويقول ان الله هو حافظكم في الليل والنهار فاحذروه (ولا تستهزؤوا به) وانه هو الذي يكلؤكم لا أحد غيره ، وان الآلهة لا تمنع عنكم العذاب (٤٣).

واستمرار النعم ، قد يوحي الى الإنسان بأنّه لا نقم ولا جزاء في الحياة ، ولكن الرب يذكرنا بأن نظرة الى الأرض كفيلة بإثبات هذه الحقيقة : ان الله غالب على أمره (٤٤).

إن من يلهو لا ينتفع بالوحي لأنه الصمّ ، وهل يسمع الصم الدعاء (حتى ولو تمّ إنذارهم بالخطر المحدق بهم) (٤٥).

إنهم يعترفون بذنبهم إذا أصابتهم نفحة بسيطة من عذاب الله ، فكيف يغفلون عن الموازين القسط الدقيقة التي وضعت ليوم القيامة؟ (٤٧).

لهذا الهدف وهو تذكرة الإنسان ، وإيقاظ ضميره ، واستثارة عقله ، جاء الأنبياء ، يحملون معهم الذكر ، والله أيدهم بنصره فأهلك المكذبين بهم ، والمستهزئين. وأنقذهم ، ومن آمن معهم من العذاب ورفع كلمتهم ، وهكذا يقصّ علينا القرآن قصة موسى وهارون (والنبي محمد (ص)) وإبراهيم ولوط واسحق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذا الكفل وذا النون وزكريا ويحيى ومريم وابنها (عيسى) ويبيّن كرامتهم عند ربهم وشهادة الصدق على رسالتهم الواحدة حيث ان الاختلاف جاء من قبل الناس أنفسهم (٩٣).

٢٦٩

ويستلهم السياق من تلك القصص المضيئة إن من يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه (٩٤) وهو الجانب الآخر لفكرة المسؤولية.

وبعد أن يبيّن أشراط الساعة واقتراب الوعد الحقّ وندم الكفار وكيف ان الله يلقي الآلهة المزيفة ومن عبدها في النار ، يؤكد بأن دخول هؤلاء النار التي لهم فيها زفير ، لدليل على أنهم ليسوا بآلهة (٩٩).

أتريد أن تتخلص من النار؟! فكن ممن هداه الله ، واستمع الذكر ، فهناك لا تسمع حسيسها ، ولا يحزنك الفزع الأكبر (١٠٣) هنالك يطوي الله السماء كما تطوى الأوراق ، ولكن قبل ذلك اليوم سوف يورث الله الأرض لعباده الصالحين ، وهذا البلاغ يفهمه القوم العابدون! (١٠٦).

والرسول رحمة للعالمين (وتتجلى الرحمة في يوم وراثة الأرض). وبعد أن يذكرنا السياق بالتوحيد ، وينذرنا من مغبة التولّي ، ويخبرنا بأن الله يعلم الجهر وما تكتمون ، وان المتاع الدنيوي فتنة ونهايته قريبة يختم السورة بالدعاء الذي يأمر به رسوله النذير ، بأن يطلب من الله أن يحكم بالحق (بينه وبين الجاحدين) وهو الرحمن المستعان على الأعداء وما يصفونه من تهم (١١٢).

٢٧٠

سورة الأنبياء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ

______________________

٢ [محدث] : جديد.

٣ [وأسرّوا النجوى] : أي أخذ يناجي بعضهم بعضا في شأن القرآن والرّسول.

[أفتأتون السحر] : أي كيف تقبلون السحر الذي أتى به محمد ، وتأتون بمعنى : تذهبون إلى السحر.

٢٧١

وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠)

______________________

٥ [أضغاث أحلام] : أي تخاليط أحلام ، وأحلام مضطربة ، وأضغاث جمع ضغث ، وهو : الخلط من الشيء.

٢٧٢

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ

هدى من الآيات :

عجيب أمر الناس إنهم يلهون ويلعبون والحساب يقترب إليهم.

لما ذا تراهم يعرضون عن الحق ، حتى أنهم لا يأتيهم ما يذكّرهم إلّا تراهم يتخذونه لعبا ، وتحيط بأفئدتهم الغفلة ويتناجون بينهم ـ ظالمين أنفسهم ـ هل هذا إلّا بشر مثلنا ، لما ذا نتبعه ، ويفسرون ذكر الله الجديد وأثره البليغ في قلوبهم ، بأنه سحر ، ويتناهون عنه.

والرسول يبلغهم رسالات ربه ، ويتوكل عليه ويشهد على صدقه الله الذي يعلم القول في السماء والأرض ، ويحتارون بما ذا يفسرون هذا الذكر المحدث الذي يتهربون منه ، بسبب لهو قلوبهم. فتارة يقولون أضغاث أحلام ، وحينا ينسبونه الى الافتراء ، ومرة يقولون إنه خيال شاعر ، وأخرى يطالبونه بآيات مقترحة.

٢٧٣

ويتساءل السياق إذا لم يؤمن السابقون حتى أهلكهم الله وقد أنزلت إليهم تلك الآيات المقترحة أفهم يؤمنون؟ ومن هم الرسل السابقون؟ أو لم يكونوا رجالا يوحى إليهم؟ دعهم يسألون من انتفع بالذكر إن كانوا لا يعلمون ، بلى كان الأنبياء يتعرضون للجوع ولم يكونوا خالدين.

وكانت ـ مع ذلك ـ شهادة صدقهم قائمة في الأمداد الالهي الذي تجلى في إنقاذهم ثمّ إهلاك المكذبين بهم ، الذين أسرفوا على أنفسهم.

وهذا كتاب فيه ذكر محدث ، وعلى المسلمين أن يتذكروا به إن كانوا يعقلون.

بينات من الآيات :

معرفة المصير :

[١] (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ)

معرفة الإنسان لمصيره وحسابه ، أفضل وسيلة لهدايته وفي الحديث : «كفى بالموت واعظا» لأن الموت زائر غير مرغوب فيه ، يزور الإنسان في أيّ لحظة يشاء ، دون أن يأخذ موافقة مسبقة ، فعلى الإنسان أن يستعد للموت في كلّ لحظة (فاذا مات ابن آدم قامت قيامته) ومن هنا يظهر الخطأ الفادح لأولئك الذين يزعمون بأن يوم القيامة بعيد ، إذا فلما ذا الغفلة ، ولما ذا الاعراض عن ذكر الله وعن الرسالة؟!

والناس على أقسام ثلاث ، فمنهم من يتحول قبره الى روضة من رياض الجنّة ، وهم الصالحون ، ومنهم من يصبح قبره حفرة من حفر النيران ، وهم المجرمون.

وواضح إن حساب هؤلاء أقرب إليهم من كلّ شيء لأنه لا يفصلهم عنه سوى الموت الذي ينزل بهم في أية لحظة.

٢٧٤

أما القسم الثالث فهم الذين يلهى عنهم حتى قيام الساعة حسب بعض النصوص ، وبالرغم من بعد الحساب عنهم زمنيا إلّا إنّ انعدام شعورهم خلال الفترة يوصل الموت وقيام الساعة ببعضهما في الواقع ، ولعلّه لذلك جاء في الحديث النبوي الشريف : «بعثت والساعة كهاتين ، وهو يشير إلى إصبعي السبابة والوسطى بعد جمعهما»

(وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ)

تحيط بهم الغفلة ، ويهربون مواجهته الحقيقية.

[٢] (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)

كلما أتتهم آيات جديدة من ربهم ، تذكرهم بواقعهم ومصيرهم ، إذا بهم يتشاغلون عنها بتوافه الأمور ، أو يتخذونها لعبا ، فلا يتعاملون معها بجدية. تصور إنّك لو مثلت أمام محكمة ، وأنت تعتقد بأنها إما أن تحكم عليك بالاعدام ، وإما أن تبرئ ساحتك ، كيف تقف في قفص الاتهام ، أو ليس متحفزا يقظا ، حتى لا تبدر منك كلمة في غير محلها ، لأنها لحظة حاسمة. أمّا إذا أخذت تدير مسبحة في يدك أو تدخل يديك في جيبك تبحث عن محتوياته العادية فان ذلك يسمى لعبا.

وكذلك الإنسان في هذه الحياة أشبه ما يكون في قاعة محكمة ، وعليه أن ينتظر الحكم عليه بدخول الجنّة أو بورود النار ، ولهذا ينبغي عليه أن يأخذ الحياة بجدية تامة ، ويحسب لأعماله وتصرفاته ، وأقواله ألف حساب ، وإلّا كان من الذين يشملهم قول الله سبحانه : وهم يلعبون.

تخرصات البشر :

[٣] (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)

٢٧٥

إن القلوب اللاهية لا تتقبل حقائق الحياة ، ولا تتفاعل معها ، تماما كالأحجار الصلدة التي كلما صببت عليها الماء فانها ترفض أن تحتفظ بقطرة واحدة منه.

(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ)

لما ذا كان حديثهم بينهم نجوى؟

لأنهم يخافون أن يفتضحوا أمام الملأ بسبب ضعف موقفهم العلمي أمام شواهد الصدق التي تميزت بها الرسالة ، ولأنهم انهزموا في واقع أنفسهم أمام قوة الرسالة ، فلم يجدوا بدّا من المؤامرة في السر ضدها! ولان ادعائهم بأنها سحر كان واضح البطلان فاحتاجوا الى التواطئ عليه في السر ، فالسحر شيء والرسالة شيء آخر ، السحر يداعب خيالهم بينما الرسالة تثير عقولهم.

[٤] (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

إنّ الإنسان يبرّر عمله أمام الآخرين ما دام يعلم إن تبريره يمكن أن ينطلي عليهم ، أما إذا علم أن هناك من يعرف حقيقة أمره ، فانه سيخجل من ذاته ، ويكف عن انحرافه إن كان أهلا للموعظة.

لذلك ذكر النبي (ص) المشركين بأن الله يعلم إنّ كلامهم باطل وهم بدورهم يعلمون ذلك ، فلما ذا يتحدثون به؟ ثمّ إنّ رسولهم الذي جاء بالذكر هو أول من يحذر ربّه ، لأنه يعرف أنّه يعلم القول في السماء والأرض ، فكيف يمكن أن يفتري عليه وهو الشاهد الناظر؟

[٥] (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ)

٢٧٦

أي أحلام مختلطة ببعضها.

(بَلِ افْتَراهُ)

إنّ كلامه معقول ، ولكنه كاذب في ادعائه أنّه وحي من الله.

(بَلْ هُوَ شاعِرٌ)

ولمّا رأوا إنّ كلامه عميق وذو أثر قالوا : إنّه شاعر! لأنّ الشعر أعلى درجات الثقافة لديهم. هكذا كان حديثهم عن الرسالة متناقضا ينبّئ عن حيرة كبيرة ، منشؤها عدم استعدادهم للإيمان بها ، وتحمل مسئولياتها ، وترك ما تعودوا عليه ، كذلك الإنسان حينما يقرر رفض مذهب أو موقف يتشبث بأعذار واهية وربما متناقضة.

ثمّ قالوا :

(فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ)

ومن الممكن أن نؤمن ، لكن على شرط أن يأتينا بآيات جديدة ، وإن آيات الله التي تنزل على البشر نوعان :

النوع الأول : هي التي تأتي لإثارة العقل وبيان الحجة من قبيل الآيات القرآنية التي تأتي في زمان الفرصة وفي أيام الأجل ، أما النوع الثاني : فهي التي تأتي لتفرض على الإنسان الحقّ شاء أم أبى وإنما تكون هذه بعد انتهاء الأجل ، ففرعون كان يقول : أنا ربكم الأعلى ، وحينما غرق في البحر وتقاذفته الأمواج ، قال : آمنت برب هارون وموسى ، ولكن هذا الإيمان مرفوض لأنه جاء بعد فوات الأوان.

٢٧٧

وهؤلاء حينما يطالبون بهبوط الآيات الحسية عليهم ، فإنهم يخطئون في ذلك! لأن هذه الآيات إذا جاءت فان فرصتهم تكون قد انتهت ، ولن يكون في مقدورهم الاستفادة منها شيئا.

[٦] (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها)

أي حينما أنزلت عليهم الآية أهلكت هذه القرية ، لتصبح عبرة للأجيال.

(أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ)

إنّ هؤلاء ينتظرون أن تنزل عليهم آية من نوع آيات القرى الهالكة ، ليؤمنوا بالرسالة ، في حين إنهم يرفضون الإيمان بالآيات العقلية الكثيرة ، وهذا خطأ فادح لأن في ذلك يكون هلاكهم.

حقيقة الرسل :

[٧] (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ)

لمّا زعموا بأنه بشر أجابهم القرآن بلى إنّه لبشر ، وكذلك كلّ الأنبياء السابقين كانوا بشرا.

(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)

لقد أعطى الله سبحانه الجاهل قدرا كافيا من العلم ليهديه الى ضرورة البحث عن عالم يسأله ، وهكذا فان لم يكن للناس علم بطبيعة الرسالات فليسألوا أهل الذكر والمعرفة عن كلّ ذلك ، والآية تشير الى إن سؤال الجاهل من العالم أصل شرعي يمكن الاعتماد عليه بشرط أن يكون العالم من أهل الذكر ، أي أن يكون قد

٢٧٨

استفاد من علمه.

[٨ ـ ٩] (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ* ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ)

مع ذلك نحن نؤكّد لكم : بأن الأنبياء متصلون بالله ، وإنّ كلامهم وعد من الله ، وأن الله سبحانه وتعالى ينفذ ما قال ، وينجي رسله ويهلك الآخرين.

وتتكرر في القرآن الكريم كلمة الإسراف بصيغ مختلفة لتدل على حقيقة يجب أن نتذكرها دائما ونتأمل فيها كثيرا وهي : إن الإسراف هو أحد الأسباب الرئيسية لانحراف البشر ، فالإنسان الذي يأكل ويشرب وينام ويتزوج بقدر حاجته ، لا ينحرف لأن الله دائما يوفر للإنسان رزقه ، ولكن الذي يضل عن الصراط هو المسرف الذي يريد أن يجمع أموال الناس الى أمواله ، ويبني سعادته على حساب الآخرين ، والقرآن يؤكد هنا : بأن الذين يهلكون إنّما هم المسرفون.

دور القرآن :

[١٠] (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ)

القرآن يأتي لينبه الإنسان عن تلك الغفلة التي تفصل بينه وبين الحساب ، ولا تدعه يتذكر أنّه مسئول محاسب وأن حسابه قريب.

إذا كلما رأيت نفسك غافلا فاقرأ القرآن ، لأن قراءة القرآن تعطيك ذكرا ، وتوجهك الى الحقيقة.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ)

٢٧٩

القرآن لا يقول أليس عندكم عقل ، لما ذا؟ لأنّ الناس جميعا رزقوا العقل ، ولكنهم يختلفون في مدى استفادتهم من عقولهم ، وهو التعقل ، كما إنّ الناس جميعا يملكون الأبصار ، ولكن بعضهم يفتحون أعينهم فيرون ، وبعضهم يذهلون عنها فينزلقون ، لذلك يقول القرآن : «أَفَلا تَعْقِلُونَ» أي لما ذا لا تنتفعون بعقولكم؟

إنّ الإنسان يبحث في حياته عن هدى ويبحث عن الوصول إلى الحقيقة فاذا قرأ القرآن بعمق وتدبر فيه وصل إلى الحقيقة ، فاذا وصل إلى الحقيقة عرف بأنّ القرآن من الله ، لأنه أوصله إلى الحقيقة.

٢٨٠