من هدى القرآن - ج ٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-10-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٣٩٩

[١٦] (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى)

والذي يؤمن بالساعة ويتذكرها دائما يتبع برامج الله ويمتثل أوامره ، وبالتالي يجد الفلاح ، وإلّا فان مصيره التردّي والسقوط ، ولو اتبع موسى هواه ، ونسي ذكر الله ، لهبط الى الحضيض ، كما حدث ذلك بالنسبة الى بلعم بن باعوراء الذي أكرمه الله وأتاه علم الاسم الأعظم ، ولكن حين اتبع هواه أخلد الى الأرض ، فجرّده الله من كلّ ما أنعم عليه ، ثمّ شبهه بالكلب وقال : «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ ...».

وبكلمة موجزة ، فان ذكر الله يعني السعادة ، والانصراف عن ذكره يعني الشقاء.

١٤١

وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ

______________________

١٨ [وأهشّ] : الهش ضرب ورق الشجر ليتساقط ، أي أسقط بها ورق الشجر.

٢٢ [جناحك] : الجناح هو اليد ـ سمّيت به تشبيها بجناح الطائر ـ والمقصود بجناحك : «الإبط».

١٤٢

لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦)

______________________

٢٨ [واحلل] : أي وفكّ.

٣١ [أزري] : ظهري ، ومنه المئزر لما يشدّ على الظهر.

١٤٣

موسى يحمل رسالات الله

هدى من الآيات :

وجد موسى عليه الصلاة والسلام عند ربه في تلك الليلة المظلمة الشاتية دفئا وأنسا وهدى ، وحينما سأله الله عن عصاه فاذا به يسترسل في حديثه ، بلى ان الفائدة الاولى التي يحصل عليها المؤمن من إيمانه ، هي السكينة القلبية والاطمئنان النفسي.

لكن سرعان ما امتحنه الله وابتلاه بأمره الصعب ، إذ لا يكفي للإنسان أن يدعي الإيمان من دون أن يحمل ـ بقدر إيمانه ـ مسئوليّة وبلاء ، وكلما كان الإيمان أعمق ، كلما كان البلاء أشدّ «البلاء للأنبياء ثمّ الأولياء الأمثل فالأمثل».

وقد مرّ موسى (ع) بامتحان عسير ، ففي البدء أمره الله أن يخلع نعليه ، لأنه في الوادي المقدس طوى ، وربما خشي موسى أن يؤمر من قبل الله سبحانه بترك عصاه كما فعل بنعليه ، فلذلك حينما سأله الله عنها إذا به يبين فوائدها العديدة : إنه يتوكأ

١٤٤

عليها ، ويهش بها على غنمه ، وله فيها حاجات أخرى غير تلك ، فأمره الله أن يلقي عصاه فألقاها ، وسرعان ما رأى أن تلك العصا قد تحولت الى ثعبان ضخم ، حيث جاء في النصوص إنه كان من القوة ، بحيث يحطم الحجر ، ويقتلع الشجر ، وتتوقد عيناه في الليل المظلم. كان هذا امتحانا : حيث أمره الله بأن يلقي عصاه فامتثل موسى ، والامتحان الآخر كان حيث أمره بأن يأخذ الثعبان فيمسكه من حلقه ، وهو أخطر عضو فيه. ترى كم ينبغي أن يكون إيمان الإنسان بالله وبالرسالة ، وتغلّبه على طبيعته البشرية كبيرا حتى يتمكن من أن يقدم على هذه العملية الصعبة؟!

إنّ الإنسان بطبيعته يشكك نفسه ـ ألف مرة ـ في مثل هذه الحالات ، فاذا تعرض لامتحانات صعبة كما تعرض لها موسى (ع) ، يقول لنفسه : من يقول بان هذا هو الله؟ ومن يقول بأن الأمر واجب ، ومن يقول بأن الأمر فوري؟ وهكذا .. ولكنّ موسى بالرغم من خوفه الشديد النابع من طبيعته البشرية تحدى وأخذ الثعبان فتحول ـ بمجرد أن أمسك به ـ الى عصا كما كانت.

لقد اجتاز موسى في لحظات معدودة تلك المراحل التي اجتازها إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في سنين ، فامر بحمل الرسالة الى البشر. لقد تعرض إبراهيم الخليل (ع) لخطر شخصي حينما القي به في النار ، وكذلك موسى تعرض لهذا الخطر حينما أمر بأن يأخذ الثعبان ، وإبراهيم ترك زوجته وطفله الرضيع وحيدين في الصحراء ، وانفلت عنها وتوجه الى الله ، وكذلك موسى ترك أهله وهم في ظروف صعبة ، وتوجه الى الله.

إبراهيم الخليل تعرّض ـ مرة أخرى ـ للغربة والابتعاد عن بلده ، وكذلك موسى تعرض لذلك حيث بقي ضالا في الصحراء مدة الى أن اهتدى بفضل الله ، هذا غير فراره الى مدين وبقائه هناك لمدة عشر سنين.

١٤٥

هكذا اجتاز موسى مراحل الاختبار ، وتخطى امتحانات الرسالة بسهولة ويسر ، فلما اجتازها جميعا بنجاح ، حمّله الله الرسالة ، وبعد أن حمل الرسالة ، طلب موسى من ربه أشياء لم تكن مجرد طلبات ، بل كانت أيضا قرارات أقرّها موسى على نفسه.

إنك لا تدعو ربك بدعاء إلّا بعد أن تقرر الوصول الى ما تدعو الله له بكل وسيلة مادية مقدورة لك ، وتدع بقية الوسائل التي لا تستطيعها الى الله سبحانه. إذا دعوت الله أن يطعمك فلا يعني ذلك بأن تجلس في بيتك إنّما عليك أن تبحث عن أرض صالحة وعن طريقة لتوصيل الماء إليها ، وعن حب تزرعه فيها ، وعن عملية مبتكرة للزراعة والسقاية والحرث والحصاد ، ثمّ تطحنه وتخبزه وتحضره ، وآنئذ تأكله.

وأنت في هذه المسيرة الطويلة تتعرض لصعوبات وعوامل مضادة لعملية الزراعة ، تلك العوامل المضادة التي ليس في وسعك التغلب عليها ، فتدعو الله أن ينصرك عليها ، أما العوامل التي تستطيع أن تقوم بتوفيرها عمليا فينبغي أن تسعى من أجلها ، هذا هو جوهر الدعاء.

لقد طلب موسى من الله سبحانه مجموعة طلبات كانت في نفس الوقت مجموعة قرارات أقرّها لنفسه كي يقوم بما طلب : أن يشرح له صدره ، ويحل عقدة من لسانه ، وييسر أمره ، ويجعل له وزيرا من أهله وهكذا ، هذه الطلبات كلها كانت تعني حيث علم موسى : ان حمل الرسالة بحاجة الى هذه الشروط الخمسة.

الشرط الأول : سعة الصدر ، فسعة الصدر آلة الرئاسة ولا يستطيع الفرد أن يصل الى الرئاسة الحقيقية بحمل الرسالة وتبليغها الى الناس ، من دون أن يكون صدره واسعا ، وسعة الصدر تعني الصبر ، وعدم الحزن أو التأثر من كلام المخالفين

١٤٦

والجاهلين ، وبالتالي فان صاحب هذه الصفة يستطيع أن يصدع بالحق دون أن تأخذه في الله لومة لائم ، أو يتأثر باعلام الناس.

الشرط الثاني : هو القدرة على الحديث ، فلقد كان موسى تمتاما لا يحسن الإعراب والإفصاح في حديثه عما يريده.

الشرط الثالث : بذل الجهود المكثفة لإفهام الناس رسالة الله وأحكام شريعته ، فليس وظيفة حامل الرسالة أن يكره الناس على تطبيقها تحكما واستبدادا ، وعوها أم لم يعوها.

الشرط الرابع : هو أن يبحث حامل الرسالة عمن يؤازره ، ويشترك معه في أمره ، وينبغي أن يكون أقرب الناس إليه.

الشرط الخامس والأخير هو : أن يكون هو مع هذا الوزير يهدفان الى تسبيح الله وذكره ، والدعوة اليه ، لا الاستعلاء في الأرض ، والطغيان على الناس.

وهذه الشروط تنبّه إليها موسى عليه الصلاة والسلام حينما حمّل الرسالة ، وكان في ذلك دليل على أن اختيار الله موسى لرسالته انما تمّ بحكمته البالغة ، إذ انّ الله أعلم حيث يجعل رسالته ، فلننظر كيف يحاور موسى ربه.

بينات من الآيات :

معجزتان :

[١٧ ـ ١٨] (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى * قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى)

يعلم الله سبحانه ما في يد موسى ، ويعلم لماذا هو يحمل عصاه ، ومع ذلك فهو

١٤٧

يسأله ربما ليمتحنه ، إذ ان هذا السؤال يجعل موسى ينتبه الى أهمية عصاه وفوائدها المادية له التي ربما يكون قد غفل عنها.

فعند ما يأتيه أمر الله بطرحها والقائها بعيدا يمتثل لهذا الأمر بوعي.

كما اننا نستفيد من جواب موسى (ع) عدة أمور جانبية اخرى وهي : انه يتعب نفسه في العبادة والشغل بدلالة قوله (أتوكأ) ، وانه كان يعمل في مهنة الرعي ، كما كان يستعمل عصاه في أغراض اخرى ، كالدفاع عن نفسه إذا تعرض للاعتداء مثلا.

[١٩] (قالَ أَلْقِها يا مُوسى)

أن أمر الله لموسى بإلقاء العصا بعد أمره بخلع النعلين بالاضافة إلى ما قلناه من اختبار للطاعة ، والتوجه الخالص له سبحانه ، فهو أيضا لاعطاء درس لموسى (ع) ولنا من بعده ، وذلك الدرس هو ان اعتماد الإنسان يجب أن يكون فقط على الله الذي بيده ملكوت كلّ شيء ، وهو يجير ولا يجار عليه ، وان اعتماد الإنسان على الوسائل المادية الموجودة في الحياة ما لم تكن بإذن الله وامتثالا لأمره فانه لا يغني عنه شيئا فان القوة لله جميعا.

[٢٠] (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى)

كانت هذه مفاجأة مذهلة ومنظرا رهيبا بالنسبة الى موسى ، وقبل أن يستبد به الخوف ويؤدي به الى الانهيار جاءه النداء الرحماني.

[٢١] (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى)

أي كما كانت من قبل عصا.

١٤٨

[٢٢] (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ)

أي اجعلها تحت إبطك ، فادخل موسى يده الكريمة تحت إبطه ثمّ أخرجها فاذا هي تشرق نورا. ومعنى من غير سوء : ان البياض لم يكن من البرص كما توحي الى مثل ذلك التوراة المنحرفة.

(آيَةً أُخْرى)

وذلك تعزيزا للآية الأولى (العصا).

[٢٣] (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى)

وعد الله موسى بأن يريه آيات أخرى أكبر من هذه ، وفعلا كان فلق البحر وإغراق فرعون وأصحابه آية كبري ، ولا ننسى الآيات المفصّلات الاخرى (الجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم و.. و..).

هذه الآيات يجب أن تزيدنا إيمانا بامكانية الانتصار ، وبامكانية الحصول على آيات أكبر منها ، ان الله سبحانه يعطينا بعض الآيات الصغيرة ليشير بذلك الى قدرته ، ويجعلنا نؤمن بأن الآية الكبرى أمامنا هي الانتصار الكبير ، وانما علينا أن نسعى ونبذل جهدنا ، ولا نتقاعس أو نجبن ونخاف.

[٢٤] (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى)

القرآن حدد كلمة واحدة حول فرعون وهي الطغيان ، ولكن هذه الكلمة تكفينا عن ألف كلمة ، فالإنسان الطاغي يفعل كلّ الجرائم ويرتكب كلّ الشرور ..

الضروريات الرسالية :

هذه هي طلبات موسى وفي نفس الوقت هي خطط موسى :

١٤٩

[٢٥] (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي)

اجعل صدري واسعا شرحا لا أتهيب الصعاب التي قد تواجهني في الطريق ، اني أعلم بأن حمل الرسالة عملية صعبة لذلك فأنا أحتاج الى صدر يسع كلّ مشاكل التبليغ ويزيد.

[٢٦] (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي)

لعل موسى (ع) كان يرى إنّ فرعون يصعّد الموقف مما يدفع بموسى (ع) الى التصعيد أيضا ـ خصوصا ـ وان موسى (ع) كان مشهورا بالغضب في الله ، فكان يريد أن تمشي المسائل بهدوء بدون حاجة الى العنف.

هذا من ناحية ومن ناحية ثانية فان موسى (ع) كان يدرك خطورة وصعوبة المسؤولية على عاتقه ، فكان يريد التيسير في أموره ، ورفع الثقل جرّاء حمله الرسالة.

هذا إذا علمنا أنّ الإنسان الذي يحمل هموما كثيرة بسبب عمله لن يفلح أثناء عمله ، لأن الهم والاحساس بثقل العمل يثبّط الإنسان عن العمل ، فلذلك أراد موسى أن يزيل هموم عمله بدعائه لربه لتيسير عمله .. الذي يعني الاستعداد للقيام بدور أكبر ..

[٢٧ ـ ٢٨] (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي)

كلمة اللسان هنا ربما تعبّر عن الاعلام ، فموسى (ع) كان يطمح الى أعلام قوي يدخل في الأعماق ، وربما هذه الفكرة مأخوذة من قوله (يَفْقَهُوا قَوْلِي) وبمعنى آخر إن موسى يطمح الى شيئين :

الشيء الأول : قوة الاعلام الذاتية ، وهذا لا يتم إلّا بمعرفة منطق الناس ، كما

١٥٠

قال رسول الله (ص) : «نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم» وهذه الفكرة يدل عليها قوله : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) وهي التي تدل عليها الرواية التالية.

الشيء الثاني : خلق التأثير أو بمعنى آخر انه طلب من الله أن يلهم عقولهم التفهم لرسالته ، وكأن موسى يدعو لهم بالعقل : وهذا ما تدل عليه الجملة الثانية (يَفْقَهُوا قَوْلِي).

جاء في تفسير القمي عن الامام الباقر (ع) : «وكان فرعون يقتل أولاد بني إسرائيل كلما يلدون ، ويربي موسى ويكرمه ، ولا يعلم أن هلاكه على يديه ، ولما درج موسى كان يوما عند فرعون ، فعطس فقال : الحمد لله رب العالمين ، فأنكر فرعون ذلك ولطمه وقال : ما هذا الذي تقول ..؟ فوثب موسى (ع) على لحيته وكان طويل اللحية فهبلها ـ أي قطعها ـ فألمه ألما شديدا ، فهمّ فرعون بقتله ، فقالت له امرأته : هذا غلام لا يدري ما تقول ، فقال فرعون بلى يدري ، فقالت : ضع بين يديك تمرا وجمرا ، فان ميّز بين التمر والجمر فهو الذي تقول ، فوضع بين يديه تمرا وجمرا ، وقال له : كل ، فمد يده الى التمر فجاء جبرئيل فصرفها الى الجمر فأخذ الجمر في فيه فاحترق لسانه ، وصاح وبكى ، فقالت آسية لفرعون : ألم أقل لك انه لم يعقل .. فعفا عنه» ..

هكذا أضحى موسى (ع) منذ ذلك اليوم ألثغا.

[٢٩ ـ ٣٠] (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي)

لقد كان هارون أكبر سنا من موسى ، وكان جلال النبوة ظاهرا على محياه ، وكانت مهمات موسى عظيمة ، إذ لم تقتصر على تبليغ رسالات الله فحسب ، بل وأيضا مقاومة طاغوت متجبر كفرعون ، وإنقاذ شعب مستضعف ثمّ قيادته

١٥١

وتوجيهه ، فدعا ربه أن يجعل هارون وزيره.

وقد جاء في حديث مأثور عن أبي جعفر الباقر عليه السلام :

قال الراوي فقلت لابي جعفر : وكان هارون أخا موسى للأم وأبيه؟

قال : نعم أما تسمع قول الله تعالى : (يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي)؟

فقلت : فأيهما كان أكبر سنا؟ قال : هارون ، قلت : وكان الوحي ينزل عليهما جميعا؟ قال : كان الوحي ينزل على موسى ، وموسى يوحيه الى هارون ، فقلت : أخبرني عن الأحكام والقضايا والأمر والنهي كان ذلك إليهما؟ قال : كان الذي يناجي ربه ويكتب العلم ، ويقضي بين بني إسرائيل موسى ، وهارون يخلفه إذا غاب من قومه للمناجاة.(١)

[٣١] (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي)

أي قوّ به ظهري ، ولعل ذلك يعني انه كان يستخلفه عند ما يغيب عن قومه.

[٣٢] (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)

أي يتحمل جزء من مسئولياته حتى عند وجوده.

[٣٣] (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً)

التسبيح هو تنزيه الله كما جاء في الحديث : انه سئل الامام أبا عبد الله عن معنى سبحان الله؟ فقال : تنزيهه. (٢)

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٣ / ص ٣٧٧ ـ ٣٧٨.

(٢) بحار الأنوار / ج ٩٣ / ص ١٧٧.

١٥٢

[٣٤] (وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً)

ولا يعني ذكر الله مجرد تحريك اللسان ، بل جعل الله مراقبا في السر والعلن ، ويدل على ذلك الحديث الشريف : قال أبو عبد الله (ع) : «ما ابتلي المؤمن بشيء أشدّ عليه من خصال ثلاث حرمها ، قيل : وما هنّ؟ قال : المواساة في ذات الله ، والإنصاف من نفسه ، وذكر الله كثيرا.

أما واني لا أقول لكم : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ، ولكن ذكر الله عند ما أحل له ، وذكر الله عند ما حرم عليه» (١)

[٣٥] (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) بأعمالنا وتصرفاتنا ، ولعلّ هذه الآيات توحي بأن هدف موسى وهارون لم يكن السيطرة بل تطبيق واجبات الرسالة.

ونتساءل : ما الذي دعا موسى (ع) الى أن يطلب من الرب وزيرا كهارون (ع)؟ الجواب : إنّ موسى عليه السلام عرف منذ البدء أبعاد الرسالة التي سوف يحملها ، والصعاب التي تعترضه في سبيل تبليغها ، والضعف الذي اعترى قومه من بني إسرائيل نتيجة الاستعباد مدة طويلة ، والقوة التي طغى بها أعداؤهم من الأقباط بقيادة فرعون.

وكان يشعر ـ لذلك ـ بالحاجة الى من يسند ظهره ، ويطبق واجبات الرسالة بلا تردد ، فيكون إماما في الطاعة ، وقدوة في تنفيذ أوامر القيادة ، فلم يجد أفضل من أخيه هارون.

__________________

(١) المصدر / ص ١٨٣.

١٥٣

وهكذا كلّ صاحب دعوة بحاجة الى شخصية تتجلى فيه رسالته ويكون مثلا أعلى لها ، كما كان هارون لموسى ، وواصف بن برخيا الذي أوتي علما من الكتاب لسليمان ، ويحيى لعيسى بن مريم ، وكما كان علي بن أبي طالب عليه السلام للنبي محمد صلى الله عليه وآله ، وهكذا نجد الرسول يكرر : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا إنّه لا نبي بعدي.

ولقد حدثت واقعة تاريخية : أظهرت الحاجة الى ذلك.

حيث إنّ النبي لما أراد الخروج الى غزوة تبوك استخلف أمير المؤمنين عليه السلام في أهله وولده وأزواجه ومهاجره فقال له : يا علي ان المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك ، فحسده أهل النفاق وعظم عليهم مقامه فيها بعد خروج النبي صلى الله عليه وآله وعلموا انها تتحرس به ولا يكون للعدو فيها مطمع ، فساءهم ذلك لما يرجونه من وقوع الفساد والاختلاف عند خروج النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ عنها ، فارجفوا به عليه السلام وقالوا : لم يستخلفه رسول الله إكراما له ولا إجلالا ومودة وإنما استخلفه استثقالا له ، فلما بلغ أمير المؤمنين (عليه السلام) إرجاف المنافقين به أراد تكذيبهم وفضيحتهم ، فلحق بالنبي صلى الله عليه وآله فقال : يا رسول الله ان المنافقين يزعمون : أنك انما خلفتني استثقالا ومقتا ، فقال رسول الله (ص) : «إرجع يا أخي الى مكانك فان المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك ، فأنت خليفتي في أهلي ودار هجرتي وقومي ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا انه لا نبي بعدي؟» (١)

[٣٦] (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى)

وهكذا منّ الله على عبده ورسوله موسى بن عمران ، فأتاه كلّ ما سأله مرة واحدة ، لأنه كان من وسائل تبليغ الرسالة ولم تكن طلبات شخصية.

__________________

(١) المصدر / ص ٣٧٨.

١٥٤

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢)

______________________

٣٩ [التّابوت] : صندوق من خشب.

[اليمّ] : البحر ، وهو بحر الأحمر الموجود في مصر.

[ولتصنع] : أي ولتربّى.

٤٢ [ولا تنيا] : لا تضعفا ، من ونى يني ـ بمعنى الضعف والفتور.

١٥٥

موسى بين يدي العناية الالهية

هدى من الآيات :

سلسلتان من النعم تتوافر عند الإنسان لتكوّن شرطا مسبقا لتلقّيه النعمة الكبرى ، وهي نعمة الهداية الالهية.

السلسلة الأولى : النعم المادية.

مثل النمو الجسدي ، والتكامل العقلي ، ووجود أدنى ضرورات الحياة المعيشية.

السلسلة الثانية : النعم المعنوية.

مثل سلامة القلب ، وعدم وجود نقص في أيّ حاجة من الحاجات النفسية ، أو في احساس الإنسان تجاه الآخرين ، وسلامته من العقد النفسية التي تمنع الهداية.

تشير هذه الآيات الكريمة الى أن موسى (ع) قبل أن يتلقى الرسالة ، تلقى هاتين السلسلتين من النعم ، فمن جهة نرى أن الله سبحانه وتعالى أنقذ النبي موسى (ع) من

١٥٦

قتل محتّم ، فقد كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل ويستحيي نساءهم ، فلمّا رأى أنّ نسل بني إسرائيل سوف ينقطع بهذه الطريقة ، أخذ يقتل فيهم عاما ويتركهم عاما ، وقد ولد موسى (ع) في تلك السنة التي يقتل فيها فرعون أبناء بني إسرائيل وأنجاه الله مع ذلك من القتل ، وبعد ذلك نجي من موت محتم آخر ، عند ما قتل قبطيا ، فهرب الى المدائن ، حيث تشكّل هذه الهجرة الانطلاقة الرسالية الكبرى.

كما تعرض موسى (ع) لسلسلة طويلة من الإخطار ، كذلك كلّ إنسان يتعرض لإخطار محدقة تكاد تودي بحياته ، ولكنه ينقذ منها برحمة من الله وفضل ، والقليل من الناس من يلتفت إليها أو يذكرها عند ما يكبر ، وهنا يذكّر الله موسى (ع) بطفولته حينما كاد جلادوا فرعون أن يقتلوه فأنقذه الله ، ولا بدّ أن نذكّر أنفسنا بتلك الأيام الخوالي التي كادت الإخطار فيها أن تهلكنا فأنقذنا الله منها.

كما يذكّر الله موسى بالسلسلة الثانية من النعم ، فقد ألقى الله عليه محبة ممن كانوا يحيطون به ، لكي تنمو نفسه نموا متكاملا دون عقد أو أدنى نقص ، ويكون بذلك مستعدا لتلقي نعمة الهداية ، ولكن السؤال هل هذه نعمة خاصة؟

كلّا! كلّ واحد منا قد تلقى أمواجا من الرحمة والحنان من قبل والديه ، ومن قبل المحيطين به ، فالكثير نمت نفوسهم سليمة ومستقيمة مستعدة لتلقي نعمة الهداية ، ولكن عند موسى يصبح هذا الأمر أكثر وضوحا ، حيث ان الله سبحانه حمل التابوت الذي يحمل موسى الى بيت عدوه فرعون ، وعند ما رآه فرعون وقع في قلبه موقعا حسنا وأحبه فلم يقتله ، وحينما فتّش فرعون عن المراضع لم يجد إلّا امه وهو لا يعرفها انها أمه ، فعاد موسى الى أمه كي ينمو في حضن الأمومة الدافئ ، الذي يربي نفس الطفل على الاستقامة والسلامة المعنوية ، لأن من يفقد حنان الأمومة طفلا يظل محتاجا لها كبيرا.

١٥٧

الطفل لا يرضع من ثدي أمه لبنا فقط ، وانما يرتضع من أمه حنانا ودفئا ، وفي قصة موسى رمز الى هذه الرضاعة.

بعد أن تتوفر هاتان السلسلتان من النعم التمهيدية تأتي النعمة الكبرى وهي نعمة الهداية .. وبعد ما ذكّر الله رسوله موسى (ع) طلب منه أن يبلغ هذه النعمة (الرسالة)

إنّ نعمة الهداية بالنسبة لموسى ، هي نعمة الرسالة ، وليس للرسول الذي يبلغ الرسالة فقط ، بل هي للمرسل اليه الذي يتلقى الرسالة ويستقبلها محاولا تطبيقها أيضا.

بينات من الآيات :

منّة النجاة :

[٣٧] (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى)

كما مننا عليك اليوم بالرسالة ، كذلك مننّا عليك بنجاتك ورضاعتك وتربيتك.

[٣٨] (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى)

وضعنا خطة لخلاصك من يد فرعون وجلاديه ، حيث اننا أوحينا الى أمك صنع تابوت ووضعك فيه ، ثمّ تتركه في اليم.

إن الإنسان مزوّد في حياته بتعاليم حول السلامة والاسترزاق دون أن يعرف ان هذه تعاليم ، وبطريقة ما ينقذ نفسه وينقذ من كلف به من الإخطار بسببها ، جاء في تعقيب صلاة العشاء : «اللهم أنه ليس لي علم بموضع رزقي وإنّما أطلبه

١٥٨

بخطرات تخطر على قلبي ...» (١) كلّ ذلك بوحي من الله سبحانه وتعالى ، ولكن ذلك يتجلّى عند موسى (ع) بشكل أكبر ، ليرمز به الله سبحانه في وحيه الى الناس .. كلّ الناس .. في سائر الظروف.

[٣٩] (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ)

قالوا : بأن أم موسى (ع) حينما جاءها الوحي أن تصنع تابوتا لم تعرف كيف تصنع التابوت ، فجاءها جبرئيل وعلّمها كيف تصنع التابوت ، ثم بطنت داخل التابوت بالقطن ، لتمنع تسرّب الماء الى داخله ، ثمّ أغلقت التابوت على موسى ، فقذفته في اليم ، واليم هنا هو نهر النيل.

(فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ)

أي يقذفه النيل الى الشاطئ ، ولكن أيّ شاطئ؟! انه بيت فرعون ، وهنا نلاحظ بوضوح كيف تسخر الطبيعة في خدمة الإنسان.

من مأمنه يؤتى الحذر :

(يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ)

لما ذا يربي الله موسى (ع) في بيت عدوه؟

لأنّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يقول للبشرية جميعا : أيها البشر! أنا خالقكم وأموركم بيدي ، فها أنا ذا أربي موسى في بيت فرعون عدوي وعدوه ، تحت عيني فرعون ، ثمّ أسلطه عليه ، وهذا دليل على أن قوة الله وقدرته قد تأتي من داخل قصور

__________________

(١) كليات مفاتيح الجنان / ص ٤٣.

١٥٩

الطغاة ، وكما يقول المثل : (من مأمنه يؤتى الحذر).

(وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)

ألبس الله سبحانه موسى (ع) ثوب المحبة كما يلبس الإنسان ثوبا ، بحيث ينجذب إليه ويحبه كلّ من يراه.

١ / في تنمية المواهب :

(وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي)

أراد الله أن ينمي مواهب موسى (ع) بصورة استثنائية تمهيدا لتحميله الرسالة ، وكذلك بالنسبة الى جميع الأنبياء (ع) حيث أن الله سبحانه يختار أنبياءه منذ طفولتهم فيعرضهم للامتحانات ، وينمي مواهبهم بطرق معينة ، وهذا لا يخالف الفكرة الإسلامية حول : ان الأنبياء يتعرضون لامتحانات كما يتعرض غيرهم ، قال تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) (١).

إنّ الله سبحانه وتعالى يعرّض أنبياءه لامتحانات صعبة الى درجة لا يتحملها الإنسان العادي ، وإذا لم يتحملها النبي فلا يختاره ، ولكن مع ذلك هناك نعمة تسبق نعمة الامتحان ، وهي بناء النبي بناء استثنائيا استعدادا لتحميله مسئوليات ضخمة في المستقبل ، ويمكن أن نضرب مثلا لهذه الحالة بالتدريب في الوحدات الخاصة في الجيش.

هؤلاء المنتمون الى هذه الوحدات يتعرضون لتدريب صعب وشاق لتنمو مواهبهم ، وتتدرب أجسادهم على الصعاب ، ولكن هل يكتفي المدرب بهذه

__________________

(١) سورة البقرة / ١٢٤.

١٦٠