من هدى القرآن - ج ٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-10-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٣٩٩

الأمن أساس أولي لأي حضارة ، يينما الوحي هو القيم والتشريعات الحضارية التي تحقق العز والفلاح و.. و.. للأمة.

وقد من الله بهما على بني إسرائيل إذ أنجاهم وواعدهم جانب الطور.

(وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى)

المن هو الحلوى ، والسلوى طير مشوي ، كانا ينزلان عليهما من السماء.

[٨١] نعمة الله هدفها سعادة البشر ، ولكن قد تكون عاملا لانحرافه وانفلاته ، لذلك حذر الله بني إسرائيل قائلا :

(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي)

وغضب الله هو عذابه الشديد في الدنيا والآخرة.

(وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى)

وتعالى الله أن يغضب ويطرأ عليه التغيير مثلنا نحن البشر ، انما هو العذاب ، ومن يصيبه فكأنما يهوي من على قمة الجبل الى واديه ، وليس هذا التمثيل الا للتقريب ، والا فالواقع أدهى وأمر.

[٨٢] (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى)

من طبيعة الإنسان أن يطغى حين يجس بنعم الله عليه (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) ، ولكن سبيل التوبة والعودة الى الصواب مفتوح امامه ، حينما يتورط في ذلك بسبب غفلته ، ونسيانه ، و.. و.. وآنئذ سيجد ربه غفارا لو كانت توبته كما تذكر الآية .. (تاب) عن ذنبه (وآمن) بالله صادقا (وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) وكان

٢٠١

عمله بحيث ينتهي به الى الهداية.

وفي بعض الروايات ان الهداية هنا بمعنى الولاية ، فينبغي للإنسان أن يؤمن بالله ، ويعمل صالحا بعد التوبة ، وان يبحث عن القيادة الرسالية ، ذلك انه لا يكمل الايمان والعمل الصالح الا بالولاية ، ومعرفة القائد ، لأن الامام الذي يهدي الى سبيل الرشاد يكون عكس فرعون الذي أضل قومه وما هدى ، وهذا هو سبيل التوبة النصوح ، وهو المعنى الحقيقي لكلمة الشفاعة.

٢٠٢

وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ

______________________

٨٤ [هم أولاء] : أولاء جمع الذي ـ أي هم الذين.

٨٧ [بملكنا] : أي ونحن نملك من أمرنا شيئا.

[أوزارا] : أثقالا.

٢٠٣

وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١)

______________________

٨٨ [فنسي] : أي فقد نسي موسى أنّ إلهه هنا ، فذهب إلى الطّور يطلبه ، وقيل معناه : فنسي السامري أي ترك ما عليه من الايمان.

٩٠ [فتنتّم به] : أي امتحنتم بهذا العجل.

٢٠٤

وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى

هدى من الآيات :

ذهب نبي الله موسى (ع) يناجي ربه ، فما عاد الا وقد حصلت الردة في قومه ، وفي الوقت الذي يدلل الأمر على أهمية حضور القيادة في المجتمع لتقاوم محاولات التحريف من قبل الانتهازيين ، تشير الآيات الى أن علاقة بني إسرائيل بموسى (ع) كانت علاقة بشخصه لا برسالته ، مما أدى لانحرافهم بعد غيابه عنهم وتمردهم على خليفته هارون ، وكان من الضروري تغيير هذه العلاقة ، فأمر الله بمدّ غيبة موسى لهذا الهدف.

وقد انتقد النبي موسى (ع) هذا الوضع ، وحذرهم من غضب الله أن يحل عليهم ، وتساءل عن سبب هذه الردة .. وحينما حاول بنو إسرائيل التبرير احتج عليهم الله بأنه أعطاهم عقولا يميزون بها وكان ذلك أبرز حجة عليهم ، أما الحجة الثانية فكان شخص هارون وصي موسى الذي نصحهم ولكنهم لم يسمعوا له.

٢٠٥

بينات من الآيات :

[٨٣] (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى)

لماذا أسرعت إليّ وتركتهم وراءك؟

[٨٤] (قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي)

ان قومي لا يزالون يقتفون أثري ، ويسيرون على نهجي.

(وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى)

دفعني الى العجلة حبي لك وشوقي للقائك ، وهذه الآية توحي بمدى حب موسى لربه ، حيث بادر الى لقاء ربه ، وكان على عجل لنيل رضاه سبحانه. وهكذا حال من ذاق حلاوة مناجاة ربه ، وأنس بقربه ، وتجلى الرب لقلبه ، فمشى في أرجاءه الوجل ، واهتزت جنبات فؤاده بنور الشوق ، فوجد من نور خالقه ما جذبه الى ما يقربه اليه ، ولاح له من جمال بارئه ما أنساه كل جمال ..

لذلك كان رسول الله (ص) يجلس في محراب الصلاة على أشد من الجمر شوقا الى ميعاد اللقاء ، فاذا حان وقت الصلاة هتف ببلال المؤذن : أرحنا يا بلال بالصلاة.

وهكذا المؤمنون الصادقون يدعون الرب ليتجلى لقلوبهم بنور معرفته ، فيكونون :

«ممن دأبهم الارتياح إليك والحنين ، ودهرهم الزفرة والأنين ، جباههم ساجدة لعظمتك ، وعيونهم ساهرة في خدمتك ، ودموعهم سائلة من خشيتك ، وقلوبهم متعلقة بمحبتك ، وأفئدتهم منخلعة من مهابتك ..» (١)

__________________

(١) الصحيفة السجادية ص ٢٤٩.

٢٠٦

ويكررون أبدا :

«يا من أنوار قدسه لابصار مجيه رائقة ، وسبحات وجهه لقلوب عارفيه شائقة ، يا منى قلوب المشتاقين ، ويا غاية آمال المحبين!» (١)

[٨٥] وكان غياب موسى قد ترك فرصة مناسبة للانتهازيين أن يسعوا الى مصالحهم.

(قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ)

يبدو أن السامري كان منافقا ، وكان يتحين الفرص للقفز الى أريكة الحكم ، وكانت مجموعة من الانتهازيين وضعفاء النفوس ملتفين حوله ، ولعلهم كانوا يتآمرون مع بعضهم ضد القيادة الرسالية.

والآن حيث تأخر موسى (عليه السلام) وظنوا أنه قد أدركته الوفاة ، بادروا الى الفتنة ، لكي يبعدوا خليفة موسى الشرعي هارون (عليه السلام) عن السلطة ، فأشاع السامري فيهم أن موسى قد مات ، وصنع لهم العجل كرمز لسلطته ، وأمرهم بعبادته ، مستغلا حب بني إسرائيل للذهب ورواسب الشرك عندهم ، أو ليسوا قد طالبوا نبيّهم بأن يجعل لهم إلها حين مروا بقوم يعبدون الصنم؟

ولعل ذلك كان ضرورة حضارية ، حيث أن موسى (عليه السلام) قضى على جيوب الفساد عند بني إسرائيل بعد هذه الفتنة ، ولو لم تقع الفتنة فربما كان السامري وقومه ينجحون في مؤامرتهم بعد وفاة موسى (عليه السلام).

أما الآن فقد افتضح السامري ، وعاد موسى بكل ما تميّز به من الحزم والشدة في الله.

__________________

(١) المصدر

٢٠٧

[٨٦] (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً)

غضبان عليهم ، أسفا مما حدث.

(قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً)

كالرجوع الى الأرض المقدسة ، والجانب الأيمن من الطور ، والبركة ، وأن يقيم حضارتكم إن أنتم استقمتم؟!

(أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي)

بالطبع لم يكن بنو إسرائيل يتحدون الله حتى ينزّل عليهم غضبه ، ولكن إتباعهم السامري هو الاسترسال مع الظروف والشهوات ، وهذا يدل على أن البشر بأنفسهم وبمحض إرادتهم يختارون نوع واقعهم ومصيرهم ، والذي يتجسد هنا بغضب الله.

[٨٧] (قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا)

أي لم ننحرف بكامل وعينا ، وبما نملكه من عقل وارادة.

(وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها)

هذا الانحراف جاء من غيرنا ، فالسامري هو الذي جمع لنا الذهب والفضة التي جمعناها من القوم وحملناها وصنع لنا بها عجلا ، والواقع انهم حاولوا بذلك تبرير واقعهم الفاسد ورفع المسؤولية عن أنفسهم.

(فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ)

٢٠٨

رأس الفئة الانتهازية التي عادة ما تكون موجودة في المجتمعات ، والآية الآتية تشير الى أن المتورط في عملية الإضلال ليس السامري وحده ، بل كانوا فئة متآمرة ، ولعل معنى القى السامري : انه القى في روعهم وخدعهم ، وقالوا معناه : القى زينة القوم في النار ، أو هو أيضا القى زينته فيها.

[٨٨] (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ)

جسدا أي ميتا لا حياة فيه ، والخور هو صوت الثور.

وهناك أقوال في العجل ، فبعض المفسرين قالوا : ان العجل كان يتحرك لأن السامري أخذ قبضة من أثر جبرائيل (ع) الذي جاء راكبا على فرس ليغري فرعون وقومه حين رفضت خيولهم دخول البحر ، وكان التراب الذي يدوس عليه فرس جبرائيل يتحرك ، والذي قام به السامري أن جعل هذا التراب في جسد العجل ، فأخذ يتحرك ويخور بسببه.

وقال بعض المفسرين : ان العجل كان في مكان بحيث يظهر رأسه فقط للحاضرين ، ثم يأتي شخص من وراء العجل وينفخ في دبره فيخرج خوار من فمه ، أو أنه صنع بحيث يصوّت إذا جرت فيه الرياح.

(فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ)

[٨٩] ولكن هل كانت أعذار بني إسرائيل وتبريراتهم مقبولة عند الله؟ كلا .. لقد أجابهم بأن هناك حجتان عليكم تبطل ادعاءكم :

أولا : العقل .. فأنتم عقلاء تستطيعون أن تهتدوا الى الحق لو تفكرتم ..

(أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً)

٢٠٩

فليس من صفات الإله : أنّه لا حراك به ، ولا ارادة يضربها أو ينفع.

[٩٠] ثانيا : حجة القيادة الربانية.

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي)

لقد دعاهم هارون الى طاعته ، بصفته القيادة الشرعية ، وأوضح لهم أن ما يدعيه السامري وجماعته باطل.

ومن الآية نستوحي بأن الصراع كان قائما على قيادة المجتمع ، بين الخط الرسالي الذي يمثله موسى وهارون (ع) ، وبين الخط الجاهلي أصحاب الردة الى الجاهلية ، ولعل هذا الفريق كانوا هم قيادات بني إسرائيل قبل بعثة موسى فيهم ، كما كانت قبيلة بني أمية قبل الإسلام ، فتآمرت للوصول الى السلطة بعد غياب الرسول حتى تسنى لها ذلك على عهد معاوية بن أبي سفيان.

[٩١] (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى)

يبدو من الآية ان تعلق بني إسرائيل لم يكن بالرسالة بقدر ما كان بشخص موسى (ع) ، فقد كان هارون أخاه من أبيه وأمه ، وكان امتدادا له في المجتمع ، والوصي عليهم من بعده ، ولكنهم لم يستجيبوا له ، عند ما دعاهم لطاعته ، وقرروا البقاء على الانحراف حتى يعود إليهم موسى (ع).

وكانت هذه الفتنة مفيدة لبني إسرائيل ، فقد أفرزت الفئات التي لا تزال تمثل رواسب الجاهلية والفئات المصلحية عن الأخرى المؤمنة الصادقة في ايمانها. أما الفائدة الثانية فهي التحصن ضد الانحرافات الفكرية والاجتماعية التي قد يتعرضون لها في المستقبل وذلك بعد غياب موسى عنهم.

٢١٠

ان طبيعة البشر هي التمحور حول الأشياء دون القيم ، وارتفاع الإنسان الى مستوى الايمان بالغيب وعبادة الله تعالى متجردا عن الأهواء وعن الضغوط المختلفة ، يعتبر قمة الحضارة ، ذلك لأنه يعني ان الإنسان قد أنهى صراعه الداخلي لصالح عقله ، حتى يخلص عبادته لله ، ولا يهبط الى مستوى الشيئية في الحياة ، وهذا الأمر يحتاج الى مزيد من التوجيه والتربية.

ولو ترك الإنسان وطبعه ، لهبط الى مستوى عبادة الأصنام ، لأنها جزء من التفاف الإنسان حول الأشياء ، والخضوع لسلبيات الحياة وضغوطها ، بينما الايمان بالله يعني الارتفاع عن كل ذلك والنظر الى الأشياء بأنها مخلوقات لله.

وقد هبط بنو إسرائيل الى مستوى عبادة الأشياء حينما غاب عنهم نبيهم موسى (ع) ، ثم هداهم الله اليه بعد الضلالة ، وفي ذلك عبر عظيمة.

٢١١

قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨)

٢١٢

موسى (ع) يعالج الردة الجاهلية

هدى من الآيات :

بعد أن غاب عن قومه أربعين ليلة ، جاء موسى (ع) ليجد أكثرهم وقد تحول من عبادة الله الى عبادة العجل ، فبدأ مسيرة الإصلاح بالبحث عن مصدر الفساد حتى يتسنى له علاج الردة. وبدأ ذلك بسؤال أخيه لأنه خليفته في غيابه ، وانتهى بتوجيه خطابه الى بني إسرائيل ولكنه قبل ذلك التفت الى السامري رأس الردة ، وعالج معه الموقف بحزم.

وحتى يقضي على الانحراف قام موسى (ع) بشيئين :

الأول : عزل القيادة المنحرفة ، التي تعمق الواقع السلبي ، وتمده بأسباب البقاء في المجتمع. وفي القرآن يذكر الله النفي كوسيلة لمواجهة الفساد والمفسدين وذلك لكي لا يتأثّر أفراد المجتمع بها.

الثاني : تحطيم رموز الردة وذلك حين حرّق العجل ونفسه في البحر نسفا.

٢١٣

ويلاحظ أن موسى (ع) كان صداميا ، فلم يراهن الواقع السلبي الفاسد ، ولا رموزه بل اصطدم معهما بشدة ، كما اصطدم من قبل مع فرعون وسحرته. وهذه كلها شواهد على أن حركات الأنبياء (ع) ، والحركات الرسالية التي تنبع منها وتمثل امتدادا لها حركات صدامية.

بينات من الآيات :

إن من طبيعة البشر هي التمحور حول الأشياء دون القيم ، وإن ارتفاع الإنسان الى مستوى الايمان بالغيب ، وعبادة الله تعالى متجردا عن الأهواء وتحدي المصالح والضغوط المختلفة ، يعتبر قمة الحضارة الانسانية. حيث ينهي الإنسان صراعه الداخلي لمصلحة عقله ، ويتحدى كل الشهوات المحيطة بقلبه ، وكل الضغوطات المحيطة به في مجتمعة ، حتى يخلص عبادته لله سبحانه ، ولا يهبط الى مستوى الشيئيّة في الحياة ، وهذا الأمر يحتاج الى مزيد من التوجيه والتربية ، كما هو بحاجة الى عزيمة شديدة ، وارادة حديدية!

ولو ترك الإنسان وطبعه لهبط الى مستوى عبادة الأصنام ، لأنها تعني الالتفاف حول الأشياء ، والخضوع لسلبيات الحياة وضغوطها ، بينما الايمان بالله يعني الارتفاع عن هذه الضغوط ، والنظر الى الأشياء نظرة متسامية ، باعتبارها ليست سوى مخلوقات يدبرها الله سبحانه.

وهكذا هبط بنو إسرائيل مرة أخرى الى حالتهم البشرية (عبادة الأشياء) حينما تركهم موسى (ع) ولم يصمدوا كثيرا أمام اغراءات العجل. وانما تؤكد آيات القرآن دائما على ربوبية الله وحاكميته لكي يعرج الإنسان الى قمة العبودية له تعالى ، ويقوم بعمل جاد من أجل الوصول الى ذلك المستوى ، والاكتفاء به عن الأشياء حوله.

٢١٤

ومن العجب أن بعض المؤرخين يفلسف عبادة الطوطم ، والكواكب ، والأصنام ، ببعض التحليلات المعقدة ، علما بأنها لا تحتاج الى كل ذلك إذ أنها من طبيعة الإنسان ، ففي يوم كانوا يعبدون الحيوان الذي يخافونه لأنه كان يرمز الى القوة. فبعضهم كان يعبد الفيل ويعتبره رمزا للقوة ، وبعضهم كان يعتبر الأسد رمزا للقوة فيعبده. أما هذا اليوم فيعتبرون الأباطرة والملوك رمزا للقوة فيعبدونهم. فاذا أردنا أن نصل الى عبودية الله علينا أن نتجاوز الأشياء لخالقها ، والشيئية الى القيم ، والشهود الى الغيب.

وهكذا هبط بنو إسرائيل الى درك الشرك ، فور ما تعرضوا لفتنة السامري. فلما عاد إليهم موسى (عليه السلام) ، وجه خطابه الى هارون أولا :

[٩٢ ـ ٩٣] (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)

ولعل السبب كان :

أـ أن هارون كان خليفة عليهم والقيادة الشرعية المسؤولة عنهم فكان أول من يسأل عنهم.

ب ـ أن موسى (ع) لن يهادن أحدا في قضايا التوحيد حتى ولو كان وصيه وخليفته هارون.

ج ـ أن موسى (ع) أراد أن يوضح لجماهير بني إسرائيل ، أن قضية التوحيد ليست هينة ، وأنه حتى هارون (ع) ، يتعرض للسؤال بل للمحاكمة ، حتى يثبت أنه قد أدى وظيفته بالنسبة إليها ، كيف وأن الله سبحانه يسأل المرسلين في يوم القيامة عن أممهم ، وكان موسى (ع) قد أوصى أخاه قبل مغادرته الى الطور قائلا :

٢١٥

«اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» وجاء الآن يسأل عمّا قام به.

أما هارون فقد أجاب موسى (ع) بأن بني إسرائيل لا يخضعون إلا لك ولا يزالون معتقدين بك ، لذلك إذا أمرتهم بترك عبادة العجل قالوا سنعكف على عبادته حتى يرجع إلينا موسى ، فأشاع السامري بأنك مت واعرف أنك ستعود ويكون ذلك دليلا على كذبه ، ولعل موسى (ع) كان يعرف بأن هارون (ع) شديد الغضب في الله ، لذلك وصاه بإصلاحهم دون القيام ضدهم ، ونستوحي من هذا السؤال وجوابه ان الثورة ضرورة في المجتمعات المنحرفة ، ولكن على الثوار أن ينتظروا الأوقات المناسبة لتفجير ثورتهم ، ذلك لأنه عند ما تشيع فكرة باطلة في مجتمع ما ، فان الجماهير تلتف حولها فلكل جديد لذة ، مما يسقط خيار المقاومة لو تعجلوا في محاربتها ، فاذا انتظروا قليلا حتى يذهب بريقها وتظهر عيوبها ، فان مقاومتها آنئذ ستكون ناجحة ، ولذلك جاء في الأحاديث ما مضمونه (لا تقاوم الدول في بداية أمرها) ، لأنها شابة وتمتلك الجماهير وهي مستعدة لحماية مكتسباتها ، اما إذا ظهرت سلبياتها فان الناس سيتحركون ضدها ويساعدون على إسقاطها ، اضافة الى تنامي عوامل الانهيار فيها بسبب انحراف مسيرتها.

[٩٤] عند ما عتب موسى على هارون (عليهما السلام) ، وأخذ بلحيته وبرأسه يجرهما اليه ، طلب هارون من أخيه الا يغضب معللا بأن قومه لم يستجيبوا له ، ولو أنه أخذهم بالقوة لتفرقوا اجتماعيا ولنفروا من الدين نفسيا ، وأن الحركة المضادة قد تكرس فيهم الواقع السلبي ، فانتظر حتى يعود موسى (ع) إليهم.

ويبدو أن الخلاف بين هارون وموسى (عليهما السلام) بادئ الأمر كان في فهم الموقف وليس في الحكم الشرعي ، فبينما كان هارون يرى أن الموقف يستدعي التريث ، لكي لا تنهار وحدة الأمة ، ولذلك طبق موقف وصيه موسى (عليه السلام) حيث قال له : «وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» ، تساءل موسى (عليه السلام) :

٢١٦

كيف سكت هارون عن انحراف كبير ، كتغيير القيادة ، والشرك بالله ، وعبادة العجل ، وأن على هارون أن يتبع نهج موسى (ع) في مقاومة الانحراف ، وأراد أن يتأكد بأن الضعف البشري لم يدفع بهارون الى التهاون في مسألة التوحيد ، فلما عرف موسى (ع) أن مصلحة الرسالة وليس الخوف من الطغاة هو الذي أسكت هارون عن حقه سكن غضبه.

(قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي)

حينما قال له : «أصلح».

وهكذا كانت حكمة غضب موسى (ع) الظاهري توضيح الموقف للناس ولذلك سكت.

[٩٥] بعد أن أنهى موسى (ع) الحديث مع أخيه التفت الى السامري.

(قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ)

لما ذا فعلت الذي فعلت؟

[٩٦] (قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ)

أي رأيت شيئا لم يروه.

(فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ)

أي من التراب الذي داست عليه خيل جبرائيل.

(فَنَبَذْتُها)

٢١٧

قذفتها في داخل العجل.

(وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)

زينت لي أهوائي الانحراف.

لقد كان السامري ـ الذي ينتمي الى سمرون ، وهو ابن يشاكر من أولاد يعقوب ـ وكما يبدو من الآية ممن بلغ به الإيمان درجة عالية إذ أبصر ما لم يبصره الآخرون حيث رأى أثر الرسول ، ولعل السامري كان ممن ساءت عاقبته ، وهو مثال للخط المنافق في الأمة ، والذي يسعى منتهزا الفرص ، كغياب القيادة ليصل الى مطامعه ومصالحه المادية ، ولكن السؤال هو لماذا ينحرف كثير من المؤمنين بعد ايمانهم ، أمثال بلعم ابن باعوراء والسامري والزبير ابن العوام؟!

والجواب كالتالي :

أولا : الانحراف في مسيرة البشر شيء ممكن لأن عوامله كثيرة ، فربما يواجه فتنة معينة فيتحداها ، ولكنه حينما تترى عليه الفتن المختلفة ينهار امام بعضها ، وأصعب فتن الحياة ، هي فتنة الرئاسة.

بلعم كان مؤمنا ، ولكن حينما رأى أن موسى (ع) أصبح نبيا دونه ، دفعه نحو الانحراف ، حتى قال عنه الله : «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ» (١) ، وهكذا كان السامري من أصحاب موسى (ع) ولكنه لم يرضى أن يكون هارون رئيسا عليه فاصطنع حادثة العجل ، وخدعته شهوة الرئاسة ، وكذلك الزبير ، فلقد كان مع رسول الله (ص) يقاتل معه ويذود عنه ، ولكن حينما أراد السلطة انحرف.

__________________

(١) سورة الأعراف آية «١٧٦».

٢١٨

وجرت عليهم الامتحانات لكي يتحدوه ويصبح ايمانهم خالصا ، ولكنهم انهزموا بتكرس الانحراف في أنفسهم.

والصديقون هم الذين يقاومون عوامل الانحراف ـ من الحسد وحب الدنيا ، وإذا تحدّوا واستقاموا دخلوا الجنة والا سقطوا في النار.

ثانيا : أن ينحرف في آخر لحظة من حياته ، ويدخل النار ، فالذين يحسنون الظن بأنفسهم عادة ما ينحرفون ، وعلى عكسهم المتّهمون لها.

ثالثا : من الأسباب الرئيسية للانحراف طول الأمل ، والحرص على الدنيا ، لأنهما من بواعث التسويف بالتوبة.

[٩٧] أما كيف عالج موسى الموقف مع السامري؟ فلقد قام بخطوتين رئيسيتين هما

١ ـ عزل السامري عن المجتمع لأنه جذر الانحراف :

(قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ)

وهكذا يجب أن تكون الحلول التي تضعها الحركة الثورية ، حلولا جذرية تتعدى تتبع الآثار السلبية وإزالتها ، الى اجتثاث جذر الفساد ، فبدل أن تحارب الخمر ، والفساد الخلقي ، والبرامج المضللة في وسائل الاعلام ، حارب الطاغوت الذي يقف خلفها ، لأن القضاء عليه يعني نهايتها جميعا.

ولم يقتل موسى (ع) السامري ليبقى عبرة حية الى كل الانتهازيين من بني إسرائيل ، ولكي تتضح عدالة الرسالات الالهية وكيف أن مواقفها عقلانية ، ففي

٢١٩

إن انحراف هؤلاء يدل على وجود انحراف نفسي عميق في قلوبهم لمّا يقاوموه ، الخبر أن موسى (ع) هم بقتل السامري ، فأوحى الله له أن لا تفعل فانه كان سخيا ، وثالثا حتى يكون عذابه شديدا يوم القيامة بحيث يستوفي كل ماله في الدنيا ولا يلقى في الآخرة إلا العذاب. ولعلّ السامري ابتلي بمرض جسدي أو روحي يؤدي إلى عذابه باقتراب الناس اليه ، فكان يهرب من الناس ويصيح إذا اقترب منه أحد لا مساس : أي لا تمسوني أو لا تقتربوا منّي!

٢ ـ تحطيم رمز الواقع السلبي ..

(وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً)

أخذ موسى العجل الذي عبد من دون الله وحرّقه ثم ذرّه في اليم لكي يقتلع جذر الفتنة ، خشية أن يقدس العجل أو قطعاته أو حتى رماده في المستقبل ، كما يقدس المرتبطة مصالحهم بنظام الطاغوت آثاره بعد الثورة.

ونستوحي من هذه العملية أن على السلطات الرسالية أن لا تكتفي بتصفية شخص الطاغوت فقط ، بل تحاول اقتلاع جذوره وتصفية آثاره ورموزه ، كقصوره ، وتماثيله ، ولو كان في ذلك بعض الخسارة المادية للثوار ، لأن الخسارة الحقيقية أن تبقى هذه الأشياء تقدس من قبل المنحرفين الذين لا يزالون يتعلقون بالطاغوت بسبب عدم استجابتهم للتطور الثوري الذي حدث.

[٩٨] كان الخطاب الأول موجها الى هارون القيادة الرسالية ، والخطاب الثاني الى السامري القيادة المنحرفة ، أما الخطاب الثالث فلبني إسرائيل أنفسهم ، لأن هذه الجهات هي المسؤول الحقيقي عن أي تغير سلبي في الأمة.

٢٢٠