من هدى القرآن - ج ٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-10-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٣٩٩

أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦)

______________________

٣٦ [يذكر آلهتكم] : أي يقول إنّها لا تنفع ولا تضر.

٣٠١

كل شيء يقول : الحياة جدّ لا لعب

هدى من الآيات :

توحي آيات هذا الدرس ، بأن الحياة كلها مبنية على أساس الحقّ ، وبحكمة بالغة ، ولغاية محدودة ، ونظرة واحدة من الإنسان لما حوله من المخلوقات كافية لإقناعه بأن لكلّ شيء هدفا لا يشذ عن ذلك مخلوق أبدا ، وان كلّ شيء بقدر وحساب ، فالجبال الراسيات لها هدف ، وكذلك سقف السماء ، ولو تمعنّا قليلا لوجدنا الشمس والقمر يسبحان في فلك معلوم ويسيران نحو هدف محدد وبصورة منتظمة.

وعلى الإنسان أن يبحث عن فلكه (وهو الحقّ) وأن يسير ضمنه لا يحيد عنه ، ولا يتأتى ذلك إلّا حين يعود البشر الى فطرته ، ويتفكر فيما حوله ، ليرى : إنّ وراء هذا الخلق تقديرا وتدبيرا دقيقين ، وهذا التفكير يقودنا الى الحقّ الذي يجب أن نتمحور حوله ، وبالمسؤولية التي تنعكس من خلاله على أنفسنا ، إذ ما دام هناك حقّ فأنت

٣٠٢

مسئول أمامه ، ولا بدّ أن تسير في حياتك باتجاهه.

ويبين لنا القرآن في هذه الآيات بأن بداية الإنسان تمت بحقّ ، ونهايته كذلك حقّ ، فهل يستطيع أن يهرب من الموت أحد؟ وما دامت البداية والنهاية ليستا بيد الإنسان ، فاستمرارها كذلك ليس بيده. إذن فلا بدّ أن يتكيف مع الحقّ ، وذلك عبر الجدّية في تحمّل المسؤولية.

بينات من الآيات :

[٣٠] (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما)

أي كانتا متصلتين ففصلهما الله عن بعضهما ، كيف كانت السماوات والأرض متصلة ففصلت ، (رتقا ثم فتقا)؟

والجواب :

أولا : لقد كانت المادة الأولى التي خلقها الله سبحانه ، وكان عليها عرش قدرته وسلطانه ، ذات كتلة شديدة التركيز ، فأحدث الربّ فيها انفجارا هائلا ، لا يزال صداه منتشرا في أطراف الفضاء برغم مرور (١٥) مليار سنة عليه. كما تقول نظريات العلم الحديث ، وتضيف : إنّ الكون لا يزال في اتساع ، ولا تزال أجهزة التلسكوب التي تغور بنا في عمق الفضاء الرحيب ، تكشف لنا عن مجرات ناشئة أو هي في طور الخلق.

وإنّ نظرة علمية الى هذه الحقائق كفيلة بأن تبلور في نفوسنا فطرة الإيمان.

ثانيا : وآية واضحة من تجليات هذه الحقيقة ، نراها في ظاهرة الأمطار ، كيف

٣٠٣

كانت السماء رتقا لا تمطر وكيف كانت الأرض رتقا لا تنبت ففتقهما الرب. (١)

وهكذا يخرج الله الخبء في السماوات والأرض ، ويفتق ما رتق من الأشياء باستخراج كنوزها ، واستظهار مكنونها ، سبحانه.

إذن فالحياة ليست لعبا ولا لهوا كما يزعمون ، بل لكلّ شيء هدف ، وعلى الإنسان أن يشخص هدفه ويسعى نحوه.

(وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)

لقد تمّ خلق الكون بالفتق بعد الرتق ، والفصل بعد الوصل ، أما وجود الحياة فوق الأرض فتمّ عن طريق الماء ، وهذه هي الأخرى من أحدث النظريات العلمية ، والماء يشكل (٧٠ خ) من وجود الإنسان ، وبالذات من وجود المخ الذي تتجلى فيه الحياة بأبرز صورها.

[٣١] (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ)

تقوم الجبال بدور الرواسي وهي الثقل الذي يثبت الأرض كما تثبت المرساة السفينة.

إنّ الجبال أشبه ما تكون بدرع واقية ، تلف حول الأرض ومن أعماقها لتحافظ على توازنها :

أولا : في مواجهة الرياح والعواصف التي تتعرض لها الأرض.

ثانيا : بمقاومة الزلازل العاتية التي يتعرض لها كوكبنا بسبب ضغط الغازات

__________________

(١) انظر نور الثقلين / ج ٣ ـ ص ٤٢٤ ـ ٤٢٦.

٣٠٤

التي في جوفها.

ثالثا : لتخفيف أثر جاذبية القمر على اليابسة كما تؤثر على مياه البحر.

أرأيت كيف وضع الله هذه الجبال في مواقعها ، وكيف ربطها ببعضها في دقة ومتانة ، وكيف ألزمها مواضعها؟ فهل لك أن تختار لنفسك اللعب واللهو .. وتزعم أن لا هدف وراء حياتك؟

(وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)

وبين هذه الجبال طرق يتحرك الناس عبرها من مكان لمكان ، ويتفاعل أهل كلّ طرف مع الآخرين ، ولهذه الطرق فائدتان :

الأولى : الاهتداء من خلالها الى الأهداف والأماكن التي ينشدها الإنسان.

الثانية : السير عبرها والاهتداء بها الى معرفة الله عن طريق التفكر في الجبال التي تحفها. وكلمة «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» تحتمل المعنيين معا.

[٣٢] (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً)

حينما ننظر الى السماء سواء نظرة بدائية كما كان ينظر إليها آباؤنا قبل ألف عام ، أو نظرة علمية كما يراها العالم الفلكي اليوم ، فاننا نرى الأجرام الكثيرة تسبح فيها صغيرة وكبيرة ، وبعضها ذو خطر علينا فمن الذي حفظنا من هذه الأخطار؟!

إن البدوي في الصحراء عند ما يرى النيران في السماء ليلا يسميها شهبا ، أما عالم الفلك فيعرف بأنها قذائف ضخمة ، لو لا الغلاف الواقي حول الأرض لدمرت الأرض تدميرا ، فمن الذي جعل السماء سقفا محفوظا غير الله؟!

٣٠٥

ففي كلّ يوم يتوجه عشرون مليون جرم الى الأرض بسرعة خاطفة ، تبلغ حوالي ٥٠ كيلومترا في الثانية ، ولو لا السقف المحفوظ الذي يحيط بالأرض لكانت الصخرة الصغيرة منها والتي تبلغ حجمها واحد من ألف جزء من الغرام ، ذات أثر هدام بسبب سرعتها الفائقة التي تبلغ سرعة نواة القنبلة الذرية ، كيف وان بعضها يبلغ قطرها عشرات الكيلومترات؟!

ولقد حفظ الله ـ برحمته ـ الكرة الأرضية منها بالغلاف الواقي المكوّن من الغازات التي تذوّب أو تبخّر ما يصل إليها من هذه الأجرام الخطيرة.

كما تتعرض الأرض لأمواج هائلة من الأشعة المضرّة ، سواء منها تلك التي تبعثها الشمس أو تقذفها النجوم الأخرى ، فيقوم الغلاف الواقي بدور المصفاة حيث تأذن لما ينفع منها الأرض بالمرور من خلالها وتمنع القسم الخطير منها .. ولو انخرق هذا الغلاف ، بقدر كيلومتر واحد ، لكانت آثار الأشعة الكونية على الأرض مدمرة.

أو ليس الحكمة الالهية مشهودة من وراء هذا السقف المحفوظ؟ أو كان خلق السماوات والأرض لعبا؟! سبحان الله عما يصفون.

إنّ الغلاف الواقي يقوم أيضا بحفظ حرارة الأرض على مقياس معين ينفع الناس والأحياء ، ولولاه ، لكانت أمواج الحرارة تحرق الرطب واليابس. كما إنّه يقوم أيضا بادخار كميات من المياه المتبخرة لنقلها من المحيطات الكبيرة الى الصحاري .. أو ليس كلّ ذلك شاهد صدق ، على إنّ الله لم يخلق الحياة عبثا؟ سبحانه. (١)

(وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ)

__________________

(١) راجع تفسير «نمونه» / ج ١٣ ـ ص ٤٠٠ ـ ٤٠٢.

٣٠٦

فبالرغم من كلّ هذه الآيات التي بثّها الله في السماء ، فان الناس يعرضون عنها ، لا لأنهم لم يزودوا بالبصيرة الكافية لوعيها ، ولكن لأنهم يعرضون عنها تعمدا.

[٣٣] (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ)

وهذه الآية تشير الى الزمن ، ولقد وصل العلماء الى صنع ساعة تقيس الزمن بدقة فائقة تصل الى واحد من ألفي جزء من الثانية ، ومقياس الليل والنهار الزمني لا يتغير ولا بمقدار جزء من هذه الألفين أو أقل ، وليس ذلك إلّا دليلا على إنّ خلق الكون لم يكن عبثا ، وهكذا يجب أن تكون حياتنا قائمة على أساس الدقة والجدية ، وتكييف النفس مع حقائق الحياة.

إنّ جوهر الحقّ والمسؤولية في الحياة هو البحث عن الهدف ، والسعي الحثيث نحوه.

(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)

هما يسبحان ويتحركان والبشر أيضا يتحرك ، ولكن لا بدّ أن تكون حركته ضمن إطار وخطة من أجل الوصول الى شيء ، لأن الحركة من دون هدف لعب ولهو.

سنة الموت :

وتتجلى جدّية الحياة ، وانها ليست لعبا ولهوا ، في أمرين : الموت ، والابتلاء. ولقد جعل الله الموت حتما على البشر :

[٣٤] (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ)

٣٠٧

فكلّ الناس ميتون ، ولعلّ الأدب القرآني السامي يذكر هنا ضمير المخاطب ليجعلنا جميعا في جو رهيب بحيث نشعر بمرارة النهاية لكي لا نلعب ولا نلهو في الحياة.

وما دام الرسول وهو أكرم الخلق على الله قد مات فهل يخلد أحد بعده؟!

[٣٥] (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ)

وتعبير ذائقة يقرب المعنى للذهن أكثر ، إذ يصور الموت وكأنه شربة يذوقها الجميع ، لكي نتحسس بمرارة الموت عن طريق التذكر المستمر له ، ولعلّ الآية توحي بأنه ليس هناك إنسان إلّا ويتحسس الموت بوعي تام ، حتى لو كان الموت قد وافاه أثناء نومه.

بلى لا بدّ أن نتذوق جميعا كأس الموت غصة بعد غصة ، أفلا نعتبر بمن مضى منا؟ ومن لم يتعظ بهذه النهاية الرهيبة فبم ـ يا ترى ـ يعتبر؟ لقد قال أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ يوما وقد تبع جنازة فسمع رجلا يضحك ، : «كأن الموت فيها على غيرنا كتب ، وكأن الحقّ فيها على غيرنا وجب ، وكأن الذي نسمع عن الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون ، نواريهم أجداثهم ، ونأكل تراثهم ، كأنا مخلدون بعدهم ، وقد نسينا كلّ واعظة ورمينا بكلّ جائحة» (١)

(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ)

الخير أفضل من الشّر ، ولكن القرآن يأتي بذكر الشرّ قبل الخير ليبيّن لنا بأننا محكومون بإرادة الله ، فلنتكيف مع هذه الارادة. ولكي نعي حقيقة هامة تبين

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٣ ـ ص ٤٢٨. وفي الأصل نريهم ولعله خطأ مطبعيّ ، والجائحة : النازلة والشدّة.

٣٠٨

الآيات الوجه المشترك لظواهر الحياة المختلفة ، فمع أن الشّر يختلف عن الخير في ظاهره ، إلّا انهما يلتقيان في نقطة واحدة هي إنهما لبلاء الإنسان حيث يتقلب البشر بين الخير والشر ، بين العافية والمرض ، بين الغنى والفقر ، والأمن والخوف و.. و.. ولا حيلة له فيها. فهل رأيت مريضا يحب الاستمرار في زوبعة الألم ، أم هل صادفت فقيرا يستمرئ البقاء في سواد الفقر ، أو خائفا لا يريد التخلص من ضائقة الخوف؟ ، ولكن تدبير الله المحيط بنا يقلبنا بين الشر والخير ليفتننا بهما ، ثمّ يبعثنا إليه ليحاسبنا ، أفلا نوقظ أنفسنا من نومة الغافلين؟! لكي لا نتخذ الحياة لهوا ولعبا.

وما دامت نهاية الإنسان الى الله ، فهو مسئول أن يجيّر كلّ الظروف ، خيرها وشرها ، في صالح الهدف الأسمى ، ويفكر في المستقبل بدل أن يتأثر سلبا بالظرف الذي يعيشه خيرا أو شرا تأثرا آنيا ، فيطغى بسبب الخير ، أو ينهزم وينحرف بسبب الشر ، وهذه من طبيعة الإنسان فهو ينسى أهدافه بسبب ظروفه المحيطة به.

ولا ريب إنّ الذي يعي حقيقة البعث يكون بعيدا عن اللعب واللهو.

[٣٦] (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ)

مع هذه الآيات الجلية في الآفاق ، وفي أنفسهم ، تجد الكفار يستهزئون بالحقّ ويتخذونه لعبا ، أمّا القرآن فيبيّن بأن الحقّ لا ينبغي أن نستهزئ به ، لأنه ينتقم ممن يستهزئ به قريبا أو بعد أمد محدود.

وكم هو صلف هذا الإنسان ، ففي الوقت الذي يتميّز غضبا حين يسمع إنّ الرسول يذكر آلهتهم التي لا تغني عنهم شيئا ، ويتساءل : هذا هو الشخص الذي يذكر الآلهة (ولا ينقل كلام الرسول فيها احتراما لها) ، في ذات الوقت تراه يكفر بالرحمن الذي أسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة؟!!

٣٠٩

خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ

______________________

٤٠ [فتبهتهم] : فتحيّرهم.

٤٢ [يكلؤكم] : يحفظكم ، من كلا بمعنى حفظ.

٣١٠

أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥)

٣١١

خلق الإنسان من عجل

هدى من الآيات :

هناك حواجز نفسية تمنع تحسس الإنسان بمسؤوليته الكبرى في الحياة ، وتدفعه الى اللهو واللعب ، وتحجبه عما تمليه الرسالة الالهية من توجيهات ومواعظ ، ومن تلك الحواجز النفسية التي يعالجها القرآن الحكيم هنا :

أولا : حالة الاستعجال عند الإنسان. حيث يعتقد بأن تأخر الجزاء دليل على أن العمل لا يستلزم الجزاء ، وهذا يمنعه من التفكير الجدّي في الحياة ، لأن أكثر الأعمال لا يأتي جزاؤها إلّا بعد حين ، حسب حكمة الله وتقديره.

ثانيا : الشرك. وهو من الحجب النفسية التي تمنع الإنسان من الإيمان بمسؤوليته الملقاة على عاتقه ، والذين يشركون بالله بأي شكل وتحت أيّ عنوان كان ، إنّما يهدفون أساسا الى التخلص من مسئولية التوحيد ، والتي تتطلب قدرا من التضحية والصبر ، وتحدّى عامل الزمن ، ولكنهم بعدولهم من الحقّ الى الباطل ، يعرّضون أنفسهم للجزاء المرهق والعذاب الدائم ، في مقابل راحة وقتية وهمية ركنوا إليها

٣١٢

بجهلهم وحمقهم.

ثمّ يشير القرآن الى فكرة هامة وهي إنّ الجزاء يأتي في اللحظات التي يزداد فيها غرور الإنسان بنفسه ، فالمجتمع في بداية حياته يكون حذرا ، ولكن عند ما يطول عمره ، وتكثر النعم والخيرات عنده ، فانه ينسى حذره ويركبه الغرور ويعتقد : إنّ ما عنده من الراحة والمتعة سيكون أبديا ، ومع استمراره في الحياة ، وازدياد غروره ، فان سلبياته تتكاثر ويزداد ظلمه ، فيتراكم جزاء أعماله وفي لحظة واحدة ، يفاجؤه الجزاء ويدّمر عليه كلّ شيء ، وهذا قانون اجتماعي ثابت لا يستثني منه مجتمعاتنا في هذا الزمان.

بينات من الآيات :

[٣٧] يستعجل الإنسان الجزاء لأنه خلق من عجل ولكن ما هو العجل ، وكيف خلق الإنسان منه؟

بعضهم قال إنّ العجل الذي خلق منه الإنسان صفة له ، وكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يركز الضوء على خاصية بشرية في خلقة الإنسان وتكوينه ، وليست صفة عارضة تكتسب من البيئة المحيطة به.

وبعضهم قال إنّ المقصود بالعجل الطين ، أي إنّ الإنسان قد خلق من مادة دنيئة ذات صفات سلبية ، ولذلك فهو يتعجل الأمور ولا يملك الصبر عليها بطبيعته المادية المحضة.

ويبدو إنّ العجل يعني شيئا آخرا أبعد أفقا ، وأكثر عمقا ، وهو إنّ الزمن قد جعل من عوامل خلقة الإنسان وأحد عناصره ، شأنه شأنه كلّ مظاهر الطبيعة المسخرة له ، فكلّ المخلوقات والموجودات التي نراها في أرضنا وسمائنا ، يشكل الزمن جزء من

٣١٣

طبيعتها وتركيبها.

ولقد كشفت لنا الفيزياء الذرية عن هذه الحقيقة ، بسلسلة من التجارب العملية ، حتى لم يعد يحيط بها غموض ، وقبل ذلك أشارت إليها جملة من الآيات القرآنية ، منها «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» ويبدو من الآية إنّ الله جلّ شأنه جعل الزمن جزء من الخليقة حيث مرت بعدة مراحل الى أن أخذت شكلها النهائي.

وهكذا فالإنسان يحسّ بالزمن لأنه عنصر أساسي في خلقته الطينية المادية ، ولولا روح الإنسان وقيم الرسالات الالهية التي تبلور هذه الروح وتعطيها خصائص عالية ، لكان الإنسان يعيش لحظته وحدها ، ولما كان يتطلع الى المستقبل أو يرى الآفاق البعيدة للحياة.

وهكذا يريد القرآن أن يخبرنا بأن هذه الطبيعة البشرية التي يشكل الزمن جزء منها ، هي التي تدعو الإنسان الى اللامسؤولية ، لأنه يعيش بطبيعته لحظته وحدها ، وبالتالي يعجز عن إدراك حتمية الجزاء ، الذي يتطلب مقدارا معينا من الزمن ، لكي يتحقق ويأخذ مجراه.

إنّه ينتظر جزاء عاجلا وقريبا لأعماله ، فاذا تأخر عنه فترة ، قد تطول أو تقصر ، قال : لا جزاء ، وطبيعي إن من ينكر الجزاء ينكر المسؤولية كذلك. مثلا إذا ظلمت السلطة شعبها فثار بعد عشرين عاما ، لا يقول رجالها : إنّ هذه الثورة انفجرت بسبب ذلك الظلم ، ولا يرون أيضا ذلك الظلم ، ولا يرون أيضا ذلك الارتباط الوثيق بين الأمرين ، بل إنهم يأخذون بالبحث والتفتيش عن أية علّة ليقولوا : إنّ الثورة جاءت من الخارج ، في حين إنّ العلة الحقيقية تكمن في الداخل ، وبالذات في جهاز الحكم

٣١٤

الفاسد ، فهم لا يفكرون إن ظلمهم سوف يولّد حركة ثورية تتنامى ، وتنتشر ، وتتحول الى بركان مدمر ولو بعد حين.

والقرآن الحكيم ينبهنا بأنكم ، سواء عشتم مستقبلكم أم لا ، وآمنتم به أو كفرتم ، فان الجزاء سيأتي حتما ، وسوف يحيط بكم عذابه ، وما دام المستقبل حقا فلا بدّ أن نؤمن به ، متحدين بذلك كلّ الضغوط التي تواجهنا في الحياة ، وعلى رأسها طبيعتنا البشرية الاستعجالية.

إنّ الذي ينكر الجزاء ، بأن يسلم قيادته لنفسه النزقة المتعجلة ، يسلب الله منه عقله وبصيرته ، ويستدرجه شيئا فشيئا ، فلا يشعر إلّا والعذاب مطبق عليه بغتة ، سواء كان ذلك عذاب الساعة أو ما هو دونها ، فالطاغوت الحاكم يفقد تمييزه للأمور ، وتبصره بالعواقب فيستمر في سياسته الخاطئة ، وإذا به يصحو يوما ليجد نفسه ملقى عن عرشه ، كشاه إيران ، أو ممزقا برصاصات المجاهدين ، كفرعون مصر.

وكذلك بالنسبة لبعض المجتمعات البشرية التي تراكمت أعمال أفرادها السيئة حتى أحاطت بهم ، استهزءوا برسلهم أو بمن يمثلهم من الأوصياء والعلماء ، واتخذوا ما جاءوهم به لهوا ولعبا ، فقد حاق بهم ما استهزءوا به وأزال حضارتهم.

وكثيرا ما نجد القرآن الحكيم يتحدث عن المجتمعات وليس الأفراد ، مما يثير السؤال التالي : ما دامت المسؤولية هي مسئولية الفرد فلما ذا يحدثنا القرآن عنها بصيغة المجموع؟

والجواب : إن ذلك لسببين :

الأول : إن مسئولية الفرد لا تقتصر على حدود ذاته الضيقة ، وإنّما تمتد لتشمل

٣١٥

المجتمع الذي يعيش فيه ، لأن أكثر أعمال الناس هي أعمال اجتماعية ، وجزاؤها لا بدّ أن يكون جماعيا أيضا ، وذلك لطبيعة التواجد في مكان واحد والتفاعل نفسيا وماديا بين النّاس.

الثاني : هو إنّ جزاء الأفراد ـ عادة ـ لا يرى ، إننا لا نستطيع مثلا أن نحيي شابا مات في مقتبل عمره لنسأله ما هي أعمالك السيئة التي أدت بك الى هذه النهاية ، وبالتالي نعرف إن ميتته المنكرة كانت جزاء لانحرافه ، وسوء مسلكه ، أما المجتمعات فأعمالها تكون ظاهرة ، وآثارها واضحة ، لذلك يضرب القرآن بها أمثالا لنعتبر بها.

إنّ هذه المجتمعات لم تؤمن بالجزاء ، فاتخذت المسؤولية لهوا ولعبا ، فأحاط بها كفرها حتى أزالها ، وعند ذلك لم تنفعها الآلهة التي اعتمدت عليها من دون الله.

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ)

أن تعجل الأمور ، وعدم الاصطبار على الزمن ، هو من طبيعة الإنسان ، ومن العناصر الأساسية في تكوين خلقته.

(سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ)

ستأتي آيات العذاب وسترونها حتما ، فلما ذا العجلة؟!

[٣٨] (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

إنّهم كلما سمعوا وعظا وتذكيرا من أحد قالوا أين ذلك الجزاء الذي تعدنا به؟! لو كانوا يعلمون إنّ الجزاء الذي يستعجلونه شديد ، وإنّه حين يحيط بهم لا

٣١٦

يمكنهم الفرار منه بأية صورة كانت ، لما لجأوا الى السخرية والاستهزاء ولما لوّوا رؤوسهم معرضين.

جزاء الاستهزاء :

[٣٩] (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ)

وهما المنطقتان الحساستان من الإنسان ، وفي ذلك إشارة الى شدة العذاب وإحاطته.

(وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)

فلا تنصرهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها ويخضعون لها من دون الله.

[٤٠] (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ)

أولا : تأتيهم النار فجأة كما لو كان ذلك من دون سابق إنذار ، لأنهم تعودوا على الكفر بالنذر ، وعدم اتخاذها مأخذ الجد ، فأصبحوا مع مرور الزمن كالجاهل الذي يفتح عينه على الحقيقة لأول مرة.

ثانيا : إنّ النار الرهيبة تسبب لهم البهت ، فتسلبهم عقولهم وتحيّرهم ، ثمّ تكتنفهم بعذابها الأليم.

(فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)

إنّهم لا يستطيعون دفع العذاب عن أنفسهم ولن يعطوا مهلة أكثر مما أعطوه في الحياة الدنيا ، ولو بمقدار لحظة.

٣١٧

[٤١] (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ)

إنّ الأمم السابقة قد استهزأت بالرسل ، فاذا بتلك الرسالات التي استهزءوا بها تتحول الى حقائق أليمة تحيط بهم وتنتقم منهم. ولا يخفى إنّ ذلك إضافة إلى التعذيب البدني عذابا نفسيا للكافرين.

ولكن هل الرسالة الالهية بذاتها عذاب؟ وهل هي التي تؤدي الى الضرر الوخيم الذي يصبّ المعاندين في جهنم؟

بالطبع ـ كلّا ـ فالرسالة بما فيها من أفكار إنّما هي تعبير عن الحقيقة ، وحينما يستهزئ أحد بها فإنه يستهزئ بالحقّ ذاته ، فحينما أقول لا تأكل هذا الطعام لأن فيه جرثوما ، فان هذه الكلمة تعكس حقيقة واقعية ، وعند ما تخالف وتأكل منه ، فان الجرثوم وهو تلك الحقيقة الواقعية ، سيحيط بك ويوقعك في الألم والمعاناة ، لذلك يعبر القرآن عن هذه الحالة تعبيرا دقيقا ، ويقول :

(فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)

القرآن في هذه الآية كما في أكثر آيات سورة الأنبياء ، يكثر من الحديث عن اللعب ، واللهو ، والاستهزاء والسخرية ، فلما ذا؟

السبب هو إن الحديث فيها ، يدور حول المسؤولية ، وهذه الأشياء نقيض لها ، فاللعب ، ولهو القلب ، والاستهزاء بالرسالة ، والسخرية من الرسل ، وبالتالي من الحقائق ، هذه كلها تقتل احساس الإنسان بمسؤوليته في الحياة.

ولا يسمع الصمّ الدعاء :

[٤٢] (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ)

٣١٨

إنّ تدبير الحياة بيد الله كما إنّ تقديرها بيده سبحانه ، فمن الذي يحفظنا ليلا ونهارا من أخطار الحياة سوى الرحمن؟

فهو الذي يحفظنا بنعمه عن بلائه ، وبرحمته عن غضبه. لأنّه جلّ شأنه قد كتب على نفسه الرحمة ، والرحمن هو الذي يكلؤنا ولكن نحن لا نقدّر هذه النعمة فنكفر به وبآياته ونعرض عن ذكره.

(بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ)

الله هو الذي يربيهم ، وهو الذي لا يزال يكمل لهم النعم ، وينزل عليهم البركات ، ومع ذلك تراهم يكفرون به ويستهزئون برسالاته.

وما دام العذاب الالهي في الدنيا لا رادع عنه ، (إلّا من قبل الله نفسه) ، ولا أحد من الآلهة المزعومة تقدر على دفعه إن حلّ بقوم ، فلنعرف إنّ الآلهة ليست بشيء ، وإنّها لا تضر ولا تنفع ، وانها لا تقدر على دفع عذاب الآخرة أيضا.

[٤٣] (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا)

الله لم يقطع عن أياديه ساعة فلما ذا نكفر به؟! إذا لم يعطك أبوك نقودا ، ولم يدعك تنام في البيت ، ولم يهتم بك ، فسوف تبحث عن صديق أو عن جهة من الجهات تؤمن لك ضرورات حياتك ، ولكن الله ـ والأمثال تضرب ولا تقاس ـ لم يغلق عليك الأبواب ، ولم يبعث عليك العذاب حتى تتركه وتتوجه الى آلهة غيره تؤويك الى كنفها!

ونقرأ في الأدعية تعابير دقيقة ، وفي نفس الوقت مثيرة لأحاسيس الإنسان الفطرية في هذا الاتجاه : فما دام الله سبحانه وتعالى لم يغير عادة الإحسان إلينا ،

٣١٩

فلما ذا نفتش عن غيره؟! وما دام ربنا قويا قاهرا فلما ذا نخدع أنفسنا بالالتجاء الى الضعفاء من عباده؟! نقرأ في دعاء عرفة للإمام الحسين عليه السلام : [ما ذا وجد من فقدك ، وما الذي فقد من وجدك. لقد خاب من رضي دونك بدلا ، ولقد خسر من بغى عنك متحولا. كيف يرجى سواك ، وأنت ما قطعت الإحسان. وكيف يطلب من غيرك ، وأنت ما بدّلت عادة الامتنان]. (١)

(لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ)

تلك الآلهة لا تستطيع أن تنصر نفسها فكيف تنصر غيرها.

(وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ)

لا نعتبرهم أصحابا ، لا نعطيهم القوة ، ولا هم يمتلكون القوة الذاتية.

[٤٤] (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ)

إنّ السبب الذي يريد في نسيان هؤلاء هو استمرار النعم عليهم ، لذلك تراهم مع مرور الزمن وتطاول السنين يتزايد غرورهم ، ومع تزايد الغرور تتزايد النقم التي تأتي مع النعم ، في سلسلة متوازية.

(أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ)

في كلّ يوم يهلك الكثير من المجتمعات بسبب أعمالهم الفاسدة ، ولأن جزاءهم قد آن أوانه ، فلما ذا لا نعتبر؟! وهنا يوجّهنا القرآن الحكيم الى نوعين من الاعتبار :

١ ـ الاعتبار بمن مضى من الأمم.

__________________

(١) مفاتيح الجنان / ص ٢٧٣.

٣٢٠