من هدى القرآن - ج ٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-10-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٣٩٩

من شدة زفيرها حتى فقدت حاسة السمع ، تلك النعمة العظيمة التي لم يشكروا الله عليها في الدنيا ولم يستعملوها في طاعته.

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ)

والحسنى هي الرسالة الحسنة .. الفكرة الحسنة .. السيرة الحسنة .. وهؤلاء وفقهم الله لها في الدنيا ، وبالتالي فهم مبعدون عن نار جهنم في الآخرة.

[١٠٢] (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ)

من نعيم مقيم وحور وولدان.

[١٠٣] (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)

في الآيات القرآنية تأكيد على هذه الفكرة : إنّ الإنسان في الآخرة ينعم بألوان النعم ، وهذا يكفيه جزاء لأعماله الصالحات ولكن الله يعطيه نعمة ثانية ، بأن يرسل اليه الملائكة ليستقبلوه أحسن استقبال وينقلوا له شكر الله على أعماله وسلامه عليه ، وهذا تكريم معنوي عظيم.

[١٠٤] (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ)

السجل : هو الغلاف ، والكتب : هي الأوراق المكتوبة ، فالغلاف يجمع الأوراق المكتوبة وبعد فتح الغلاف تنتشر الأوراق ، هكذا يطوي الله السماوات فتنتهي الدنيا وتقوم الساعة ويأتي يوم الحساب.

٣٨١

هكذا تكون عظمة الساعة ، ولكن مع ذلك يعطي الله السكينة والبشرى للمؤمنين.

ولعل الآية تشير أيضا الى فكرة أخرى هي :

إنّ إفناء السماوات والأرض وإعادة خلقها عند الله هو من السهولة مثل الذي يغلق فيها أحدنا كتابا ثمّ يفتحه مرة أخرى ، وهذا المثال إنّما هو لتقريب الأمر الى أذهاننا لا على سبيل المطابقة.

إنّ تصور هيمنة الله سبحانه على الكون يجعلنا أقرب الى واقعيات الحياة ، وبالتالي الى جدّية الحياة ومسئولياتنا فيها.

(كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ)

هذه الآية تشير الى فكرة علمية وهي أن بداية الخلق دليل على نهايته ، وهذه البداية وتلك النهاية شاهدان يكشفان طبيعة وتفاصيل عودة الخلق ، لأنّ الخليقة وتطوراتها تسير على سنة واحدة لو فهم الإنسان تطبيقها على ظاهرة فانه سيفهم تطبيقها على بقية الظواهر.

كلمة أخيرة :

إن المشكلة النفسية هي الأساس ، ومن دون معالجتها سوف تستمر الأفكار الباطلة عند الفرد ، هكذا تجد القرآن في آخر سورة الأنبياء يذكرنا باليوم الآخر ويصور لنا مشاهده ، ويثير فينا قوة الخيال ، وهي قوة هامة عند البشر ، وعلى الإنسان أن يستفيد منها في تربية ذاته ، فيقول للإنسان تصور وقوفك أمام الله ، وتصور لحظة

٣٨٢

قيام الساعة ، وتصور حينما ينفتح الطريق أمام يأجوج ومأجوج؟! كلّ ذلك لتهتز نفسية الإنسان ، ويلين قلبه ، ويكون مستعدا لإصلاح قناعاته ، وإسقاط حجب التبرير عن نفسه.

٣٨٣

وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢)

______________________

١٠٦ [لبلاغا] : أي كفاية في البلوغ إلى القصد وهو الحق.

١٠٩ [آذنتكم] : أعلمتكم.

[وإن أدري] : أي وما أدري.

٣٨٤

رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ

هدى من الآيات :

لأن الإنسان مسئول عن أفعاله ، فقد منّ الله على الصالحين من عباده بوراثة الأرض ، هكذا كتب في الزبور من بعد الذكر.

بهذا الأمل العظيم يبدأ الدرس الأخير من سورة الأنبياء التي حفلت ببيان كرامة الله للمرسلين (ع) واستجابة دعائهم ونجاتهم من قومهم الظالمين.

ويكفي هذا الحديث بلاغا للعابدين.

إن رسالة الله الى النبي محمد (ص) رحمة للعالمين (لا لقوم أو عصر) ، وهذه الرسالة ذات اتجاه واحد ، يتلخص في عبادة الربّ الواحد ، وهي رسالة الإسلام.

أمّا إذا تولوا فأنذرهم وأنبئهم ـ يا رسول الله ـ إني لا أدري متى يصيبكم ما أنذرتكم به عاجلا أم آجلا ، وهكذا تتجلى مسئولية المجتمع عن أفعاله ، ولا أحد

٣٨٥

يقدر على الهروب منها الى ظل الكتمان إذ الله سبحانه محيط علما بما يجهرون وما يكتمون من أقوالهم ، (فيعلم مدى كذبهم في ادعاءاتهم التبريرية).

وهم يعتمدون على ما أوتوا من إمكانات ، ولكنها فتنة وبلاء ، وهي موجودة إلى حين.

ويلجأ الرسول الى كهف القدرة الالهية ليحكم بالحقّ ، وربنا المستعان على تبريراتهم ودعاياتهم.

بينات من الآيات :

[١٠٥] يبشر الله عباده الصالحين ، بأنهم هم الذين يرثون الأرض وما عليها ، ثمّ يقول : إنّ هذا إبلاغ لأولئك الذين عبدوا الله وسلّموا أمورهم لربهم ، ما هي العلاقة بين الآيتين؟

الواقع ليست الحقيقة غامضة ، بل لها دلائل وشواهد عدة ، ولكن الإنسان عادة يصاب بعقدة أو عقيدة فاسدة ، أو غفلة مطبقة ، وعليه أن يبذل المزيد من الجهد لإصلاح نفسه من عقدها وعقائدها الفاسدة ، وكذلك من غفلتها.

إنّك متى ما خلّصت نفسك من عقدها وعقائدها الفاسدة ، وأيقظتها من غفلتها ، آنئذ يمكننا أن نحكم بأنك فهمت الحقيقة ، وليس ذلك فحسب ، بل إنّ الحقيقة صارت بالغة الوضوح في نفسك.

ويسمي الله سبحانه قوله : (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) بلاغا ، لأنّ الإنسان بعد ما يصفّي نفسه من رواسب العقد والعقائد الفاسدة ، ويوقظها من غفلتها ، يكون مستعدا لتلقي هذه الحقيقة وهي وراثة الصالحين الأرض جميعا ،

٣٨٦

كيف؟

لأنّ الحياة مبنية على أساس الصلاح ، وليس على أساس الفساد ، فلو كان الكون فاسدا لتحطم وزال.

ثمّ نتساءل ما هي علاقة هذا الأمر بحديثنا في قوله : (عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)؟

الإنسان الصالح هو الذي يسير وفق سنن الله ، ولا بدّ أن يسير منسجما مع مسيرة الكون ، ولا بدّ أن يلتقيها في يوم من الأيام ، أما الإنسان الفاسد الذي لا يسير وفق سننه ، فانه من الطبيعي أن يفترق مع مسيرة الكون ، وتكون بينهما هوة تتسع مع الزمن ، والذي يسير وفق برامج الحقّ لا بدّ أن يلتقي مع الكون ، أما الذي يسير وفق أهوائه فانه سوف يكون إمّا وبالا على الكون فينشر فيه فسادا ، أو يكون الكون وبالا عليه فيهلكه أو يدمره.

إنّ سنن الله في الكون تطبق شئنا أم أبينا ، وإن من يسير وفقها لا بدّ أن يلتقي معها ، بينما الذي يسير ضدها لا بدّ أن ينتهي ، وعنوان هذه السنن هو الصلاح ، وقد بني الكون على الصلاح ، والصالحون من عباد الله هم الذين يرثون الأرض ، لأنهم يطبقون سنن الله فيها.

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)

ما هو الزبور والذكر ، ولما ذا خصهما الرب بالذكر ، أو ليست هذه سنة إلهية نوهت بها رسالات الله جميعا؟

بلى ، ولذلك احتمل بعض المفسرين أن يكون الذكر هنا هو القرآن بينما الزبور

٣٨٧

كلّ كتاب هبط قبله ، فيكون إذا معنى (من بعد) الذكر ما يساوي قولنا بالاضافة الى القرآن.

ولكننا نستظهر من لفظة الزبور نفس معناها عند ما استخدمت في موردين ، وأيد بها كتاب داود.

بينما نستوحي من آية سبقت في هذه السورة : إن الذكر يطلق على التوراة ، ويبقى السؤال إذا بما ذا اختص داود (ع) من بعد موسى (ع) بهذه البشرى؟

والجواب ـ كما يبدو لي ـ :

إنّ الله أنقذ بني إسرائيل ، ذلك القوم المستضعف من سلطة فرعون ، وعلى يد النبي موسى (ع) ، وأورثهم أرض الظالمين.

كما أعطى لداود حكما وهيّأ له أسباب القدرة ، فكان من المناسب أن يذكرهما ، بأن وراثة كلّ الأرض تكون للصالحين : أولا لكي يكون ما تحقق فعلا على عهدهما شاهدا على ما يتحقق في المستقبل جريا على نهج القرآن في الارتقاء بالقارئ من الحقائق المشهودة الحاضرة ، الى الغيب الأوسع مدى ، وثانيا وليعلم كلّ مؤمن بأن الله سوف يورث الأرض للصالحين من عباده كما فعل في عهد داود وموسى ، فيكون ذلك أملا يبعثه الى المزيد من النشاط ، وبصيرة كونية لمعرفة حركة الكائنات التي تنتهي الى وراثة الأرض جميعا.

هكذا نستوحي من الآية فكرتين :

أولا : إن كلّ مجموعة مؤمنة تعبد الله بحقّ ، وتكون صالحة ، تستحق أن ترث أرضها.

٣٨٨

ثانيا : إن كلّ الأرض سوف تسعد بحكومة عادلة ، إلهية ، وهذه هي التي نجدها فيما يسمى ب (مزامير داود) والذي بالرغم من وجود تحريفات في كتب العهدين حفظت لنا الكثير من حقائق الوحي ووصايا الأنبياء ، فاننا نقرأ في بعضها ما ترجمته :

«إن الله يعلم أيّام الصالحين ، وسيكون ميراثهم أبديا». (١)

ولذلك جاءت النصوص الإسلامية عن الرسول صلى الله عليه وآله تترى وتبشر بأنه لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلا من أهل البيت يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

وجاء في حديث مأثور عن الامام أبو جعفر (ع) في تفسير هذه الآية : هم أصحاب المهدي في آخر الزمان (٢)

الصلاح بين تخلفنا وتقدم الغرب :

الصلاح مطية التقدم ، ذلك لأنه يعني التوافق بين عمل الإنسان وسنن الخلائق ، ونتساءل : إذا لما ذا تخلفنا وتقدم الغرب الكافر ، هل هم صالحون فعلا؟

نقول بلى إنهم قد اكتشفوا بعض سنن الله وعملوا بها مثل (السعي ـ النظام ـ التخطيط ـ العطاء) فتقدموا علينا.

إلّا إنّهم لا يملكون خلفية عقائدية صحيحة وبالتالي إطارا سليما لنشاطهم ،

__________________

(١) هناك نصوص كثيرة نقلت في تفسير (نمونه) في هذا الحقل راجع ج ١٣ ـ ص ٥٢١ ، وهذا النص نقله الكتاب المزبور من الترجمة الفارسية لكتاب العهد القديم ، الذي ترجم في عام ١٨٧٨ تحت إشراف مراجع الكنيسة.

(٢) تجد هذين النصين ونصوص أخرى في «نور الثقلين» ج ٣ ـ ص ٤٦٤ ـ ٤٦٥.

٣٨٩

ولم يهتدوا الى الصراط القويم ، فكانوا كمن يجدّ السير على غير الطريق الصحيح فتراه يركض ، ويملك من العزيمة على السير ، ووسائل التحرك ما يساعده على الوصول الى الهدف ، إلّا إنّه أضل الطريق فلا يغنيه السعي والنظام والتخطيط والعطاء شيئا.

هؤلاء (الغرب) حققوا جزء من الشرط الثاني دون الشرط الأول والأهم لوراثة الأرض وهو عبادة الله ، فلذلك لن يكونوا المبشرين بوراثة الأرض ، لأنهم ليسوا عباد الله الصالحين ، بلى انهم يملكون من الصلاح نسبة يجزيهم الله عليها بتقدمهم المحدود والموقت في الدنيا ، وعندنا ـ نحن المسلمين ـ نسبة من الفساد نتخلف بسببها في الدنيا.

إذا لا بدّ من تطبيق كلّ الدين حتى نكون صالحين ، وكلّ الدين هو الذي يجعلنا نتعايش مع سنن الكون ونبشر بوراثة الأرض بقدر تسخيرها في سبيل الله.

[١٠٦] (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ)

إذا لم يكن الإنسان عابدا فإنه لن يصل إلى الحقيقة.

[١٠٧] (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)

إن الصيغة العامة لرسالات الله جميعا ، ورسالة الإسلام بالذات ، هي الرحمة ، لأنها تهدي الناس الى نعم الله ، والطريق القويم الى الانتفاع بها ، والنهج السليم لبلوغ الأهداف السامية ، ولذلك جاء في الحديث عن الرسول إنه قال : «إنّما أنا رحمة مهداة» (١)

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٣ ـ ص ٤٦٦.

٣٩٠

وتتميز رسالة نبينا الأكرم (ص) بأنها رحمة للعالمين جميعا سواء الأبيض أو الأسود ، العربي والأعجمي ، والفقير والغني ، والرجال والنساء ، وأنها ـ كما السحب الهطول ، كما أشعة الشمس ، كما سائر نعم الله ـ تشمل الجميع بلا استثناء.

ولأنها رحمة للعالمين ، فان الله سبحانه وتعالى يريدها تسود العالم جميعا حتى تكون وراثة الأرض كلّ الأرض للصالحين التابعين لهذه الرحمة .. وهذه بشرى لا بدّ أن يسعى كلّ مؤمن لتحقيقها.

وهناك تفسير آخر لهذه الآية جاء به الأثر الشريف وهو : إنّ الرسل من قبل سيدنا محمد (ص) بعثوا بالتصريح فاذا كذب الواحد منهم أنزل الله على قومه العذاب ، بينما بعث نبينا بالتعريض فلا يأخذ الله أهل الأرض في عهده بالبلاء الماحق ، ويدلّ على ذلك ما جاء في حديث عن أمير المؤمنين (ع) وجهه الى بعض الزنادقة : وأما قوله لنبيه (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) وانك ترى أهل المال المخالفة للايمان ومن يجري مجراهم من الكفار مقيمين على كفرهم الى هذه الغاية ، وانه لو كان رحمة عليهم لاهتدوا جميعا ونجوا من عذاب السعير ، قال : فان الله تبارك اسمه إنّما عنى بذلك انه جعله سبيلا لإنظار أهل هذه الدار ، لأنّ الأنبياء قبله بعثوا بالتصريح لا بالتعريض ، وكان النبي (ص) منهم إذا صدع بأمر الله وأجابه قومه سلموا وسلم أهل دارهم من سائر الخليقة ، وان خالفوه هلكوا وهلك أهل دارهم بالآفة التي كانت بينهم يتوعدهم بها ويتخوفهم حلولها ونزولها بساحتهم ، من خسف أو قذف أو رجف أو ريح أو زلزلة وغير ذلك من أصناف العذاب الذي هلكت به الأمم الخالية ، إنّ الله علم من نبينا ومن الحجج في الأرض الصبر على ما لم يطق من تقدمهم من الأنبياء الصبر على مثله ، فبعثه الله

٣٩١

بالتعريض لا بالتصريح ، وأثبت حجة الله تعريضا لا تصريحا. (١)

[١٠٨] لما ذا كانت رسالات الله رحمة ، وما هو جوهر هذه الرحمة الالهية؟

إنّ جوهر الرحمة الدعوة الى توحيد الله ، ونبذ الشركاء من دونه ، ذلك لأن تحرر الإنسان من عبادة الهوى ، وتمرده على الضغوط ، وخلاصه من نير الطغاة والمستكبرين ، وارتفاعه الى مستوى (عبادة الله وحده) هو قمة الاستقلال والحرية والكرامة.

إنّ حب الاستقلال والحرية والكرامة غريزة فطرية عجنت بها طينة البشر ، ولكن لم يتخلص الناس عمليا من الظلم والاستعباد ، لماذا؟

لأنّ البشر بحاجة الى من يوقظ هذه الفطرة ويثيرها ويبعثها ويعطيه عزمة إرادة ومنهج عمل وضياء أمل ، وليس ذلك إلّا عند الرسل ، فهم ومن سار على نهجهم من عباد الله الصالحين يحررون ـ بإذن الله ـ البشر من القهر والاستعمار وسيطرة الأقوياء.

(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

إنّها دعوة بالغة الصراحة الى الاستقلال والحرية والكرامة ، وانها لعهد بين الرسول ومن أرسل إليهم بأنه لا يريد استعبادهم ، بل تحريرهم ، ولكنه يطالبهم بالتسليم للحقّ لكي ينجيهم من عبودية الباطل.

[١٠٩] ولا يطالبهم الرسول بأجر ، ولا يدعوهم لمصلحة عنده انما يمنّ الله عليهم إذ ينذرهم بعذاب عظيم هم غافلون عنه ويقطع عذرهم بالجهد لهم بالإنذار ، وهو

__________________

(١) المصدر / ص ٤٤٦.

٣٩٢

سواء معهم في انه مخاطب أيضا بالإنذار كما ان القريب والبعيد منهم شرّع سواء.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ)

إيذان شامل لكلّ الناس وإنذار مبين من الله رب العالمين لا دخل للرسول بتفاصيله ، فهو أيضا لا يدري متى يأمر الله بالعذاب ، وإذا لم يكن رسول الله حامل الإنذار يدري فمن ـ يأتري ـ يدري؟ لا أحد ، ولقد قرأنا في سورة طه قوله : «إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى» ، فجاءت الرواية تفسير الآية : أكاد أخفيها من نفسي لان الله لم يحدد للساعة وقتا.

يا هول المفاجأة ، الساعة آتية بما فيها من فظائع الهول ، وعظائم الأحداث ، ولا يعرف أحد متى!!

إنّ إخفاء علم الساعة أبلغ أثرا لكي تحسس الإنسان بالمسؤولية ، فلو حدد الله ميقات الساعة أو ميقات الموت ، لتكاسل الإنسان عن واجبه متعللا بأنه سيتوب قبيل موته ، مثلما قال عمر بن سعد عند ما أراد قتل الحسين عليه السلام ، وبعد أن عرضت عليه السلطة الأموية : (ملك الري) إن هو قتل الحسين (ع) ، قال وهو يناجي نفسه ويحاول تبرير قراره الاجرامي :

ووالله لا أدري وإني لحائر

أفكر في أمري على خطرين

أأترك ملك الريّ والريّ منيتي

أم أرجع مأثوما بقتل حسين

حسين ابن عمي والحوادث جمّة

ولي في الريّ قرّة عين

يقولون : إنّ الله خالق جنّة

ونار وتعذيب وغل يدين

فإن صدقوا فيما يقولون إنني

أتوب إلى الرحمن من سنتين

٣٩٣

وإن إله الكون يغفر زلتّي

وإن كنت فيها أرذل الثقلين

وإن كذّبوا فزنا بدنيا عظيمة

وملك عظيم دائم الحجلين

إنّ الله سبحانه ينسف هذه الفكرة بإخفاء الساعة ، فمن يقول إنك تعيش الى سنتين حتى تتقرب فيها الى الله.

وهكذا نقرأ في وصية أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب لابنه الحسن (عليهما السلام) :

«... واعلم يا بني إنك إنّما خلقت للآخرة لا للدنيا وللفناء لا للبقاء ، وللموت لا للحياة وانك في منزل قلعة ـ أي لا يدري ساكنه متى ينتقل عنه ـ ودار بلغة ـ أي يؤخذ منه الكفاية للآخرة ـ وطريق الى الآخرة ، وانك طريد الموت الذي لا ينجوها ربه ، ولا يفوته طالبه ، ولا بدّ انه مدركه ، فكن منه على حذر أن يدركك وأنت على حال سيئة ، قد كنت تحدث نفسك منها بالتوبة ، فيحول بينك وبين ذلك ، فاذا أنت قد أهلكت نفسك.» (١)

إنّ وفاة الإنسان كما وفاة المجتمعات غير معلومة ، وهكذا الساعة.

[١١٠] وبإزاء جهلنا نحن البشر بيوم الحسرة وساعة قيام الناس للحساب يعلم الله ما ظهر منا وما بطن.

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ)

ولعلّ الإنسان يخفي غير ما يقول ، ويبرر جرائمه بشتى الاساليب ، فالله محيط علما بما يكتمه ولذلك عليه ألّا يظن انه يخدع ربه أو يلتف على قوانينه ويتهرب من

__________________

(١). ٣١ / وصايا أمير المؤمنين (ع) نهج البلاغة ٤٠٠.

٣٩٤

مسئولياته الشرعية إنّما عليه أن يطهّر قلبه من الأفكار الباطلة ، ووساوس الشيطان وتسولات النفس الأمارة بالسوء.

[١١١] أما نعم الحياة التي يرفل بها الظالمون المستكبرون اليوم ، ويحسبون انها تخلدهم ، بل يزعم بعضهم انها دليل رضا الله عنهم ، فانها قد تكون فتنة وبلاء ولعلّ متاعها قليل والى أمد قريب.

(وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)

[١١٢] الحقّ محور خلق الكائنات وقد أمهل الرب برحمته عباده ، فلا يأخذهم بما يكسبون اليوم ، ولو أخذهم لما ترك على ظهر الأرض من دابة.

بيد ان الحقّ بالتالي مقياس أعمال الناس وميزان جزائهم ، إليه يعودون آجلا أم عاجلا.

(قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)

بالله الرحمن يستعين الرسول ومن يسير على نهجه على الأقاويل الباطلة ، والتبريرات الزائفة والحجج الواهية.

ونستوحي من الآية فكرتين :

١ ـ إنّ الله يحكم بالحقّ ، استجابة لدعاء الرسول ، حيث جاء في الأثر إنه (ص) كان يدعو بهذا الدعاء كلما خاض معركة ضد المشركين ، مما يدل بأن على الإنسان ألّا يتكاسل عن الجدّ والجهاد ثمّ يكتفي بالدعاء .. والعكس غير صحيح أيضا فلا يصح أن يعتمد الإنسان على عمله فلا يدعو ربّه.

٣٩٥

٢ ـ وهو الذي يرزق عباده الصالحين ـ إذا دعوه ـ نورا يمشون به بين الناس ، ويميزون به الحقّ عن الأباطيل التي يصفها الكفار ، ويعطيهم قوة لردّها ، ومقاومة الاعلام المضلل الذي يدعم الطغاة والكفرة.

٣٩٦

الفهرست

سورة مريم

فضل السورة............................................................ ٥

الاطار العام............................................................ ٧

فهب لي من لدنك وليا (١ ـ ١١)....................................... ١١

يحيى مثل الوريث الصالح (١٢ ـ ٢١)..................................... ١٨

يا ليتني مت قبل هذا (٢٢ ـ ٣٣)....................................... ٣٠

لماذا الإمتراء وكيف نزيله؟(٣٤ ـ ٤٠)..................................... ٤٢

وأعتزلكم وما تدعون من دون الله (٤١ ـ ٥٠)............................ ٥٢

القدوات الرسالية (٥١ ـ ٥٩)........................................... ٦٣

الآخرة حصاد الدنيا (٦٠ ـ ٦٧)........................................ ٧٢

وإن منكم إلا واردها(٦٨ ـ ٧٥)........................................ ٨٢

والباقيات الصالحات خير عند ربك (٧٦ ـ ٨٤)........................... ٩٠

وقالوا إتخذ الرحمن ولدا (٨٥ ـ ٩٨).................................... ١٠٢

سورة طه

فضل السورة........................................................ ١١٥

الاطار العام......................................................... ١١٧

الداعية وهموم الدعوة (١ ـ ٨)......................................... ١٢٣

٣٩٧

النداء المقدس (٩ ـ ١٦).............................................. ١٣١

موسى يحمل رسالات الله (١٧ ـ ٣٦).................................. ١٤٤

موسى بين يدي العناية الالهية (٣٧ ـ ٤٢).............................. ١٥٦

الحركة الرسالية وأساليب الدعوة (٤٣ ـ ٥٥)............................. ١٦٨

أساليب الطغاة في مواجهة الرسالة (٥٦ ـ ٦٤)........................... ١٧٨

وألقي السحرة سجدا (٦٥ ـ ٧٣)...................................... ١٨٦

واضل فرعون قومه وما هدى (٧٤ ـ ٨٢)............................... ١٩٧

وما أعجلك عن قومك يا موسى (٨٣ ـ ٩١)........................... ٢٠٥

موسى (ع) يعالج الردة الجاهلية (٩٢ ـ ٩٨)............................. ٢١٣

وخشعت الأصوات للرحمن (٩٩ ـ ١١٠)............................... ٢٣٤

المسؤولية ... بين التذكر والنسيان (١١١ ـ ١٢٣)....................... ٢٣٥

هدى الله معراج الفضيلة (١٢٣ ـ ١٣٠)................................ ٢٤٨

سلبيات النفس البشرية (١٣١ ـ ١٣٥)................................. ٢٥٦

سورة الأنبياء

فضل السورة........................................................ ٢٦٥

الاطار العام......................................................... ٢٦٧

إقترب للناس حسابهم (١ ـ ١٠)....................................... ٢٧٤

هدفية الحياة (١١ ـ ٢٠)............................................. ٢٨٣

لا للتبرير .. نعم لتحمل المسؤولية (٢١ ـ ٢٩).......................... ٢٩١

كل شيء يقول : الحياة جد لا لعب (٣٠ ـ ٣٦)........................ ٣٠٢

خلق الانسان من عجل (٣٧ ـ ٤٥)................................... ٣١٢

نفحات العذاب علائم المسؤولية (٤٦ ـ ٥٨)............................ ٣٢٤

وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين (٥٩ ـ ٧٣)......................... ٣٣٥

٣٩٨

هكذا ينصر الله رسله بالغيب (٧٤ ـ ٨٢).............................. ٣٤٦

وحدة الرسالات والأنبياء (٨٣ ـ ٩١)................................... ٣٦٠

الجزاء مصير حتمي (٩٢ ـ ١٠٤)...................................... ٣٧٣

رب احكم بالحق (١٠٥ ـ ١١٢)...................................... ٣٨٥

الفهرست........................................................... ٣٩٧

٣٩٩