من هدى القرآن - ج ٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-10-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٣٩٩

التدريبات الصعبة الشاقة؟ كلّا .. إنّما يمتحنهم بعد ذلك امتحانا ، فاذا سقط أحدهم في الامتحان يسرحّ.

النبي كذلك يتعرض منذ نعومة أظفاره لصعوبات ، فعيسى (ع) تعرض لصعوبة مّا ، حيث انه ولد من غير أب ، فاتهموا أمه الطاهرة مريم (ع) ، فانقذهما الله من هذه التهمة ، وإبراهيم (ع) ولد في وضع مشابه لوضع موسى (ع) ، حيث كان نمرود يقتل الأنباء ويستحيي النساء ، فولدته أمه في هذا الوضع ونجاه الله سبحانه ، ونبينا محمد (ص) تعرض منذ طفولته لليتم.

٢ / في بيت فرعون :

[٤٠] (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ)

حينما أنقذ الله موسى من فرعون ، أنقذه من خطر مادّي ، ولكن ينقذه هنا من خطر معنوي ونفسي ، ذلك هو تربيته بدون أم وأب ، فيفتقد الى الحنان ، وافتقاده الى حنان الوالدين قد يسبب له عقدة نفسية ، فيفقد السلامة النفسية الضرورية لاستقبال الوحي ، ولكنّ الله قدر أن يحل هذه المشكلة.

أخذ فرعون هذا الطفل الصغير من بني إسرائيل فالقى الله محبته في قلبه ، ولكنه مع ذلك تجلّد ، وقال : أيها الجلاد اضرب عنقه ، لأنه عرف أن ملامحه هي ملامح بني إسرائيل ، فتدخلت زوجته آسية بنت مزاحم : (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١) وقبل فرعون ترجي زوجته ، وبعث الى من حوله من المراضع فجئن ، ولكن موسى (ع) هذا الطفل الصغير أبي ، أن يرتضع من أي ثدي ، وهنا جاءت أخته التي أمرت من قبل أمه

__________________

(١) سورة القصص / ٩.

١٦١

بأن تقصّ أثر التابوت ، وتمشي وراءه ، وكانت واقفة بباب فرعون حين بعث الى من حوله من المراضع ، فأدخلت وقالت : إني أعرف من يرضعه ويكفله لكم.

٣ / العودة الى الأم :

(فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ)

تقر عين الأم بوجود طفلها وتطمئن ، ويستفيد الطفل من هذا الاطمئنان. والقرآن يشير هنا الى حنان الأمومة الضروري لتنمية مواهب الطفل ، لان الطفل لا يفهم شيئا آنئذ ، ولكن الأم وحدها هي التي تفهم مدى حنانها الى طفلها ، وان الطفل قرة عينها وان افتقاده يسبب حزنا لها.

٤ / في محنة القتل :

مرة أخرى ينجى موسى من الخطر المعنوي فيقول :

(وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً)

أنقذه الله سبحانه وتعالى مرة أخرى من الموت ، ولكن الله لم ينقذه من الموت فقط ، بل أنقذه أيضا من الغمّ ، حيث ان موسى (ع) بعد أن قضى في صراعه على القبطي ، اغتمّ بسبب هذه الفعلة ، والقلب المصاب بالغم لن يكون مستعدا لتلقي الرسالة ، فأنجاه الله من هذا الغم ، لكي يكون مستعدا لتلقي زخّات الرسالة ، وكم نجانا الله وأنقذنا من أمثال هذا الغم ، الذي يسبب تراكمات في النفس ، وبالتالي عقدا نفسية تحجب الإنسان عن فهم الرسالة.

(فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى)

أي بقي عشر سنين في مدين عند عمه شعيب ، ثمّ بعد انتهاء هذه السنوات

١٦٢

العشر جاء على قدر .. يعني جاء وقد قدر الله مجيئه تقديرا.

ونحن كثير من أعمالنا نحسبها صدفة ، بينما هي أقدار من الله سبحانه ، وهكذا قدر لموسى أن يأتي بعد عشر سنوات ، وأن يتيه في الصحراء ، وتلد زوجته ، ويحتاج الى قبس من النار .. قدّر له كلّ ذلك ، ثمّ جيء به لاستقبال الرسالة.

الأحداث هي التي تدفعك لان تختار طريقا ، قد يكون فيه خيرك ، فمثلا : بعض الناس قد لا توجد لديه رغبة أساسا في السياسة ، ولا يتدخل فيها ، لكن قد ينتمي ابنه الى حركة إسلامية ، فيطارده الأمن ، ويفتش عنه في بيته ، فيسبه الأمن هو وأهله ، فينتبه الأب وتنتبه الأم والأخوة ، ثمّ قد ينتمون الى هذه الحركة وقد يصبحون قادة لها أو شهداء فيها.

إذا جاءك قدر من هذه الأقدار ، فاعرف بأن نعمة من الله سبحانه قد هبطت عليك ، وان الله يريد لك الجنة ، ويريد لك أن تكون ذا شأن ، فلا تغلقنّ الأبواب أمام الأقدار الخيرّة ، ولا تمنع نفسك من بركات السماء.

ثمّ تأتي مرحلة التربية ، ويجب على الإنسان أن يشكر مربيه الذي رباه على الخير والتقوى والاستقامة و.. و.. منذ طفولته المبكرة ، ويجب على الإنسان أن يشكر ربه الذي وفّر له مثل هؤلاء المربين الذين يربونه على الصفات الحسنة ، وشكر الله على التربية الفاضلة التي تلقيتها هو أن تستجيب للرسالة التي تهبط عليك.

التربية المثلى :

[٤١] (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)

خلق الله الإنسان لنفسه ، وخلق الأشياء للإنسان ، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي : [عبدي! خلقت الأشياء لأجلك ، وخلقتك لأجلي ، وهبتك الدنيا

١٦٣

بالإحسان والآخرة بالإيمان](١)

خلق الله الإنسان ليكون منه خلفاؤه في الأرض ، وسخر له كلّ شيء من الطبيعة ، وكلّ شيء منه ، العلم والارادة والعقل ، ولكن كثير من الناس لا يشكرون ربهم ، ولا يعرفون منزلتهم فيهبطون الى حضيض الأنعام ، بل أضل سبيلا : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٢) والاصطناع الربانيّ أكثر بروزا عند الأنبياء ، لان الله يوفر للأنبياء التربية المثلى ، ويولدون من آباء وأمهات مؤمنين ، فهم في قمة الكمال والصلاح ، ولو لا صلاح الأبوين لما اختار الله سبحانه وتعالى من أولادهم أنبياء.

جاء في الآية الكريمة حول نبينا محمد (ص) : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (٣)

فسرت هذه الآية إنّ النبي كان يتقلب في صلب الآباء والأمهات الساجدين لله سبحانه ، وأن جميع آباء النبي مؤمنين وصالحين.

[٤٢] (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي)

بعد أن وفرنا لك وسائل وظروف الاستجابة للرسالة ، من وسائل مادية ومعنوية ، وهديناك الى الرسالة ، احمل أنت وأخوك الرسالة بقوة ولا تضعفا ولا تهنا في تبليغها.

ما هو الذكر؟

قد يكون الذكر هو الرسالة ، وقد يكون الذكر هو ذكر الله الذي يربي نفس

__________________

(١) مشارق أنوار اليقين.

(٢) سورة الفرقان / ٤٤.

(٣) سورة الشعراء / ٢١٩.

١٦٤

الإنسان لتحمل صعوبات تبليغ الرسالة .. فأنت حين تبلغ الرسالة تتعرض لمجموعة من الصعاب والمشاكل ، وتجاوز تلك الصعاب والمشاكل لا يكون إلّا بذكر الله سبحانه ، فبذكر الله يطمئن قلبك ، وتشتد إرادتك ، لذلك على الإنسان الذي يحمل الرسالة ألّا يني ولا يفتر عن ذكر الله أبدا ، كي ينصره الله على المشاكل.

١٦٥

اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ

______________________

٤٥ [يفرط علينا] : أي يتقدّم فينا بعذاب.

٥٣ [مهدا] : كالمهد للطفل الّذي يستقرّ فيه ويكون سببا لراحته وصحته.

١٦٦

مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥)

______________________

[شتّى] : جمع شتيت ، أي مختلف.

٥٤ [النّهى] : جمع نهية وهي العقل ، وإنّما قيل له نهية لأنّه ينهى الإنسان عن الفساد.

١٦٧

الحركة الرسالية وأساليب الدعوة

هدى من الآيات :

في طريق الإنسان الى ربه عقبات ولا بدّ من تصفيتها :

أولا : الاستهزاء (أو انعدام الاحساس بالمسؤولية).

ثانيا : الرجعية (والحنين الى سيرة القرون الأولى).

وتعالج آيات هذا الدرس هذه العقبات :

أول كلمة قالها الله لموسى وهارون (عليهما السلام) حينما أمرهما بدعوة فرعون الى الهدى هي : «إِنَّهُ طَغى» ، وطغيان فرعون جاء من إحساسه بالاستغناء ، فكلما أحسّ الإنسان بعدم الحاجة ، وزعم إن حاجاته تتحقق يطغى ، فأمر الله سبحانه وتعالى موسى وهارون (ع) بمعالجة الطغيان عن طريق التذكرة والتوجيه ، وبيان حاجة فرعون الحقيقية ، بالرغم من زعمه بعدم الحاجة ، ثمّ عالج السياق العقبة الثانية ، الاستهزاء ببيان ان الجزاء لواقع ، وان الإنسان لمسؤول عن مواقفه ، لان

١٦٨

الإنسان لا يبالي ما دام لا يعلم إن عليه جزاء ، أما إذا عرف انه سوف يجزى بمواقفه ، فسوف يعود الى رشده.

أما العقبة الثالثة وهي الحنين الى الماضي ، والخوف من تطويره ، فقد عالجها القرآن الحكيم ببيان إن كلّ الحياة ماضيها وحاضرها ومستقبلها محكومة بإرادة الله ، وإن تدبير الله وتقديره وقضاءه يحيط بالحياة احاطة كاملة ، وان القرون الماضية لا يجب أن تقدس تقديسا مطلقا ، بل إن علمها عند الله ، فاذا كانت تلك القرون في طريق الحق فهي لأجل الحق مقدسة ، أما إذا كانت في طريق الباطل فعليها لعنة الله لأنها لم تتبع الحق.

هذا ولقد جاءت رسالات الله لتعالج أيضا كلّ عقبة أو شذوذ في حياة البشر ، إن فرعون كان قد استعبد بني إسرائيل كعنصر مخالف لعنصره ، فعالج القرآن هنا هذه العقبة أيضا ببيان إن بني إسرائيل يجب أن يتحرروا ، وبالرغم من ان هذه العقبات ذات أبعاد مختلفة ، بعد اجتماعي ، وبعد سياسي ، وبعد ثقافي و.. و.. إلخ ، لكن الآيات الكريمة في سورة طه ـ كما يبدو ـ تركّز الضوء على البعدين النفسي والثقافي أكثر من أيّ بعد آخر.

بينات من الآيات :

كيف يعالج القرآن الطغيان؟

[٤٣] (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى)

الإنسان الذي يطغى إنّما يطغى لاحساسه بعدم الحاجة ، وان الآخرين محتاجون إليه ، فإذا أحسّ الإنسان بحاجته انحسر عنه الطغيان.

والطغيان يأتي بسبب إحساس الإنسان بأن أهدافه في الحياة قد تحققت ، وان

١٦٩

طموحه قد بلغ غايته ، أما الفرد الذي يشعر بأنه لم يحقق أهدافه ، فانه يخشع للسبل والوسائل التي تحقق ذلك الهدف.

[٤٤] (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)

كيف يعالج الطغيان القول الليّن؟ لأن الطغيان حالة استكبار وغرور ، ومعالجة الغرور قد لا يمكن بالعنف ، بل بما ينفذ في الأعماق ، ولا يثير دفائن الكبر ، ومن هنا كان على الداعية أن يعرف : ان هدفه ليس تحطيم المتكبّر ، بل إرشاده ، وبالتالي فعليه ألّا يقابل طغيانه بطغيان مثله ، بل بسعة الصدر ودماثة الخلق.

القول اللّين هو الدرس العملي للطاغية ، ليعرف أن طغيانه في غير محله ، القول اللّين يأتي ليهدم أساس الطغيان وليعرف صاحب الطغيان بأن هناك طريقا آخر لتحقيق الأهداف.

هناك فكرة أخرى نستلهمها من هذه الآية وهي : ان الطاغية حتى لو بلغ بطغيانه الى مستوى طغيان فرعون الذي يضرب به المثل ، فهو لا يزال بشرا ، ولا تزال هناك فرصة لهدايته ، لذلك يجب أن لا نيأس من هداية أيّ بشر.

[٤٥] (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى)

كان موسى وهارون (ع) يخافان على الرسالة قبل أن يخافا على أنفسهما ، حيث كانا يخشيان مبادرة فرعون بقتلهما ، أو تعذيبهما بحيث يقطع عليهما الكلام ، أو يمنع وصول الرسالة الى الناس ، ولعل هذا هو معنى «أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا» بمعنى يبادر بالعمل ضدنا.

وعلى هذا المعنى فلم يكن خوفهما هنا على أنفسهما ، كما لم يكن خشية

١٧٠

موسى في مقام آخر على نفسه ، حيث يقول الامام علي (ع) : «اليوم أنطق لكم العجماء ذات البيان! عزب رأي امرئ تخلف عني! ما شككت في الحقّ منذ رأيته! لم يوجس موسى عليه السلام خيفة على نفسه ، بل أشفق من غلبة الجهّال ودول الضلال!» (١) هذا خوف. والخوف الآخر هو أن يسبب الحديث معه المزيد من الطغيان.

هذان درسان لكلّ داعية ، فعليه أن يحاول إيصال الهداية الى من يريد ، قبل أن يبادر هو بقطع كلامه ، ويفعل ذلك بحيث لا يزيده طغيانا.

ما هو القول اللّيّن؟

بعض الناس يتصورون بأن القول اللين هو مجرد الخضوع في القول ، ولكن يبدو أن القول الليّن أوسع من هذا المعنى ، فانه يشبه الماء الذي ينفذ في كلّ مكان ممكن ، فهو يبحث عن الثغرات في قلب الطرف المقابل للنفوذ من خلالها ، فهو ليس أسلوبا واحدا ، إنّما هو الحكمة في اختيار الأسلوب المناسب في الوقت المناسب.

[٤٦] (قالَ لا تَخافا)

بعد أن بيّن القرآن هاتين المشكلتين وحلّهما ، أعطى حلا للمشكلة النفسية عند الداعية ، وهي مشكلة الخوف.

(إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى)

عند ما يطلب الله منهما عدم الخوف ، فإنه يوفر لهما سبل نجاح دعوتهما ، والحفاظ عليهما ، وهذا ما قضاه الله حين قال : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) ،

__________________

(١) نهج البلاغة / ج ٤ / ص ٥١.

١٧١

والذي يسمع هو القريب ، والذي يرى هو الشاهد ، ولعل معنى الآية : إني أسمع القول ، وأرى الفعل.

الجانب الاجتماعي للرسالة :

[٤٧] (فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ)

لقد حملت الرسالة الالهية الى الانسانية المعذبة بشرى العدالة ، أو ليست الرسالة الالهية تنزل من أجل إصلاح ما فسد من حياة الناس ، أو ليس فساد المجتمع الفرعوني الخطر هو العنصرية ، واستضعاف طائفة من الناس .. هم بنو إسرائيل ، هكذا جاءت الرسالة تأمر فرعون الطاغية بهدم أساس حكمه ، واطلاق حرية الفئة المستضعفة.

(قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى)

الهدى هو الإسلام ، والإسلام يعني السلام ، ولا يمكن أن يتحقق السلام من دون الهدى ، فمن الخطأ أن يتصور البعض بأن السلام يتحقق عن طريق الظلم.

الإسلام يرفض هذه الفكرة ويقول : إن السلام يجب أن يقام على أساس (الهدى) وانه من دون الهدى لا سلام ، والحرب والصراع سيبقيان حتى يتحقق الهدى.

[٤٨] (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى)

يبدو من السياق : ان الفكرة الثانية التي طرحتها رسالة الله هي فكرة المسؤولية ، وان البشر مجزي بعمله ، فله السلام إن اتبع الهدى ، وعليه العذاب إن

١٧٢

كذّب وتولّى ، وهذه الفكرة التي تؤكدها فطرة البشر ، هي حجر الأساس في بناء صرح الثقافة السليمة.

[٤٩] (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى)

كان البشر عبر التاريخ يعتقدون بالله رب السماوات والأرض ، ولكن اعتقادهم كان أبدا مشوبا بالشرك ، لذلك يطرح هذا السؤال : ما ذا أراد فرعون باستفهامه عن رب موسى وهارون؟ الجواب : لعل فرعون كان يريد أن ينسب حركة موسى وهارون التغييرية الى قوة سياسية أرضية ، وكان يعني بالربّ هنا ما يقال عن (رب العائلة) : أي مسئولها ـ أي كان يريد أن يقول : إنكم تريدون أن تفسدوا السلطان الذي أملكه ، عن طريق الدعوة الى دولة أخرى ، وبالتالي كان فرعون ـ كأيّ طاغوت آخر ـ يتهم الحركات التحررية بأنها حركات عميلة ، فأجابه موسى (ع) : باننا لا ندعو إلى إسقاط هذه الحكومة وقيام حكومة نحكمها نحن ، وانما ندعو الى تحرر الإنسان وخاصة بني إسرائيل ، ليس من عبوديتك فقط ، بل من عبودية أية سلطة ، حتى ولو كانت من داخل تجمعهم ، والدعوة إلى عبودية الله التي هي الحرية المطلقة.

[٥٠] (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى)

إننا لا ندعو الى أحد وإنّما ندعو الى الله الذي خلق الأشياء ، ثمّ هداها في طريقة تنفسها ، وأكلها ، وشربها ، والحماية عن نفسها و.. و.. فالله حينما خلق الأشياء علم أنها تحتاج الى وسائل تغذية وحماية وتمتع وغيرها ، فهداها الى كلّ ذلك بفضله! فهو إذن الربّ الحقيق بالعبادة ، والتسليم والولاية.

ومن خلال هداية الله للأشياء ينبغي أن يهتدي الإنسان بهدى العقل ورسالة الربّ ، الى منافعه ومصالحه الحقيقية.

١٧٣

الفكر الرجعي :

[٥١ ـ ٥٢] (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى * قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى)

الأفكار التي تتشبث بها يا فرعون! هي أفكار القرون الأولى ، ويبدو أن الطغاة ينصبون من أنفسهم مدافعين عن التقاليد والعادات ، وذلك لهدفين :

أولا : إيهام الناس بأنهم يدافعون عن مقدساتهم ، وبالتالي فهم أجدر بالسلطة من غيرهم.

ثانيا : الخوف من التغيير ، لأنه قد يحمل معه ما يهدم سلطانهم ، ذلك إن أبرز خصائص النظام السياسي هو الثبات.

هكذا تساءل فرعون عن مصير السابقين ، هل هم في الجنة أم في النار ، وإذا كانوا كفارا فلما ذا لم يعذبهم الله في الدنيا ، فأعرض موسى عليه السلام عن الاجابة المباشرة ، ببيان السنة الالهية العامة ، وان عند الله علم هؤلاء في كتاب ، وبالتالي فان حسابهم محفوظ ، وتأخير العذاب لا يدل على نفيه ، كما ان الله يحكم عليهم بالقسط ، ولا يظلم أحدا شيئا ، وان هذا الكتاب لا يسجل باطلا ولا يمحى عنه شيء ، فلا يضل ولا ينسى.

ثمّ أشار موسى الى صفات الربّ ، لعل فرعون يخشع قلبه لذكر الله ، ومن لم يلن قلبه لذكر الله ، فانه أقسى من الصخور الصماء.

[٥٣] (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً)

أي جعل الأرض بحيث تستطيعون البقاء عليها ، إذ لو كانت الأرض من حديد أو رمال متحركة أو أسمك قليلا ، أو أرق قليلا ، لتغيرت معادلة الحياة

١٧٤

عليها.

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى)

نظرة الى الكون فيما حول الإنسان ، كافية بأن تعطيه فكرة هامة هي : إن هذا الكون مخلوق ، لأن كلّ شيء فيه مرتب ترتيبا دقيقا لهدف معين ، فالأرض أعدت للسكن والزراع وتخزين المعادن والمياه وغيرها ، والجبال لترسي الأرض وتصد الرياح وهكذا ..

وحسب حاجات الإنسان والحيوان والأرض والبيئة ينبت نبات الأرض ، وهذا دليل على وجود حكمة بالغة تدبّر هذا الكون.

[٥٤] (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى)

أولى النهى : أولو الفكر ، وقد قال الله عنهم : (يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) ، وأولي النهى ـ أي الذين ينهون الناس عن الانحراف.

[٥٥] (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى)

هذه الأرض هي أمنا الحنون التي خلقنا منها وتحركنا عليها ، ثمّ نعود الى بطنها ثمّ نخرج من بطنها مرة أخرى لكي نحاسب ، هكذا قال موسى لفرعون.

ولعلّ مراد الله في هذه الآية تذكير الطغاة الذين يستعلون في الأرض بغير الحقّ ، ويستعبدون الناس ، تذكيرهم بانّ الناس جميعا من تراب ، فلا تفاضل بينهم في المنشأ ، ويعودون الى التراب ، فلا تفاضل بينهم في المصير ، ويقومون من التراب للجزاء ، وهو الذي يجسّد التفاضل الحقيقي بينهم وذلك بالعمل الصالح.

١٧٥

وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ

______________________

٥٨ [مكانا سوى] : منتصفا بيننا وبينك فلا يكون أقرب إليك ولا إلينا.

٦١ [فيسحتكم] : يستأصلكم ، أو يهلككم فإنّ سحت أو أسحت بمعنى أهلك.

٦٢ [وأسرّوا النجوى] : أخذ بعضهم يناجي الآخر سرا.

١٧٦

مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤)

______________________

٦٣ [المثلى] : مؤنّث الأمثل ، أي الأفضل والأحسن.

١٧٧

أساليب الطغاة في مواجهة الرسالة

هدى من الآيات :

على صاحب الرسالة أن لا يتصور الطاغوت حديدا لا يلين ، إنّما هو بشر من لحم ودم ، يملك فؤادا يتقلب بين الخوف والرجاء ، والأمل واليأس ، وعلى الداعية أن يسعى من أجل تذكرة بشتى السبل الممكنة ، ولكن لا يعني ذلك أن الطاغوت يستجيب له أبدا ، فقد يؤمن ويهتز ضميره ، وقد يبقى على ضلالته علوا واستكبارا.

وتؤكّد هذه الفكرة مقارنة بين هذه الآيات وآيات الدرس السابقة ، ففيه نجد فرعون يتحدث وكأن الأمور جميعا بيده ، أما في هذا الدرس فقد تغير منطقه ، فصار يتحدث باعتباره ندا لموسى (ع) حين قال فلنأتينك بسحر مثله ، وقد جعل رأي الناس مقياسا.

وإنّما تغير أسلوب الحديث عند فرعون ، بسبب الكلمات الصاعقة التي وجهها إليه موسى (ع).

١٧٨

وهكذا قال فرعون لموسى (ع) : هل لك أن تأتيني بآية؟ فأراه الآيتين : العصا واليد البيضاء ، ولكنه كذّب مبررا تكذيبه بالمعاذير التافهة ـ شأن كلّ إنسان يكذب بالحقيقية ـ ، والواقع إن هناك ثلاثة أساليب يتذرع بها الطغاة ضد أيّ تحرك يعارضهم :

أولا : تلفيق الاشاعات ضد المصلحين ، والتي تتكرر بصور شتى ، فمرة يقولون : إنّ هؤلاء مجانين كما قالوا للرسول ، ومرة يقولون : إنّهم إرهابيون ، ومرة يقولون : إنهم سحرة ، ومرة يتهمونهم بالتطرف الديني.

ثانيا : محاولة احتواء الثورة ، وطرح شعارات كاذبة ومتشابهة لمواجهة مبادئ الرسالة ، كالشاة المقبور حين رأى مدّا ثوريا حاول احتواءه بما سماه بالثورة البيضاء والتي لم تكن سوى شعارات فارغة ، وبديلا زائفا للثورة الحقيقية.

وهكذا المستكبرون يغيّرون أنظمة الحكم في بلادنا كلما اهتزت عروشهم ، واهترأت أساليبهم ، ويأتون بديلا عنها بأنظمة متناسبة والظروف المتجددة ، ويسرقون شعارات الثوار ، ويفرغونها عن محتوياتها ليخدعوا بها السذج ، حيث قال فرعون : فلنأتينك بسحر مثل سحرك ، أي إذا كنت قد أتيت بعصا فسنأتيك بعصي وحبال مثلها.

ثالثا : طرح فكرة الصراع على الناس ، حيث طلب فرعون إجراء استفتاء شعبي.

بينات من الآيات :

[٥٦] (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى)

العصا واليد آيتان ، وهناك آيات سبع أخريات ذكرها الله في سورة الأعراف

١٧٩

هي : السنين ، والنقص في الثمرات ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم.

وأبلغ من هذه ، تذكرة موسى (ع) فرعون بالله والمعاد ، وبأن أصله من تراب ، وأن لا فضل له على الآخرين ، فكذّب وأبى إلّا الكفر.

[٥٧] (قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى)

تهمتان وجههما فرعون لموسى : اتهام موسى بأنه مخل بالأمن ، واتهامه بالسحر.

[٥٨] (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ)

ولعل هذا القول يشبه مزايدات الانظمة في طرح الشعارات الوطنية والثورية ، وقد حاول فرعون إثارة حفيظة الجماهير ضد موسى ، شأنه شأن كلّ الطغاة الذين يحاولون خداع الجماهير ، فطلب من موسى تحديد موعد نهائي في مكان معين يجتمع فيه الناس فيتحدى السحرة آيات موسى.

(فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً)

فبادر موسى (ع) وحدد ميعاد المواجهة حين قال :

[٥٩] (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ)

يوم الزينة : يوم العيد ، ولكن لما ذا يوم العيد بالذات؟

لأنه في يوم العيد يتفرغ الناس من أعمالهم.

(وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى)

١٨٠