من هدى القرآن - ج ٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-10-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٣٩٩

فلا بد أن تحاسب الحركة الثورية هل أنها تحملت مسئوليتها أم لا ، وكذلك القيادة المنحرفة لما ذا أقدمت على الانحراف ، والجماهير لماذا استجابت الى ذلك؟! قال تعالى :

(إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)

فلا تعبدوا العجل ، ولا المال ، ولا من يملك المال ، والعبادة تبدأ من حب الشيء حبا ذاتيا في القلب ، فلتذكر أن الله محيط علما بكل شيء ، حتى بخفايا القلوب التي قد تميل الى الباطل.

(وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً)

أي وسعه من كل صوب وجانب.

خاتمة الاية متناسبة مع أجواء الحدث ، حيث كان الذنب وتبرير الذنب مما لا يخفى على الله الذي أحاط علمه بكل شيء.

٢٢١

كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦)

______________________

١٠٢ [زرقا] : جمع أزرق ، فإنّ الإنسان المكدّر المهموم تعلو وجهه زرقة.

١٠٦ [فيذرها] : فيجعلها.

[قاعا] : أي أرضا ملساء منكشفة.

[صفصفا] : أي مستوية ، لا علوّ فيها ولا نتوء ، والصفصف :

هو المستوي من الأرض الذي لا نبات له كأنه على صف واحد في استوائه.

٢٢٢

لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠)

______________________

١٠٧ [ولا امتا] : الأمت الأكمة يقال مدّ حبلة حتى ما ترك فيه أمتا أي انثناء.

١٠٨ [لا عوج له] : أي لا اعوجاج للدّاعي بحيث يدعو بعضا ويذر بعضا ، وإنما دعوة عامة شاملة للجميع.

[همسا] : صوتا خفيفا.

٢٢٣

وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ

هدى من الآيات :

من العبر الأساسية التي يستفيدها الإنسان من قصص التاريخ هي معرفته بأن الحياة الدنيا ليست دائمة ، كما أن معرفته تعطيه معرفة أعمق بالحياة ذاتها ، إذ يرى انّها قصيرة ، انها جسر الى الحيوان الحقيقي في الدار الآخرة.

ونفس هذه الحقيقة نجد تذكيرا بها في كتاب الله ، الذي يخسر من أعرض عنه إذ يفقد البصيرة في الدنيا والبصر في الآخرة ، كما تتحول ذنوبه وأخطاؤه الى أثقال يحملها يوم القيامة ذلك اليوم الرهيب ، الذي تخشع فيه أصوات الخلائق لربها ، ونرى الناس يبحثون عمّن ينقذهم من عذاب النار ، وليس ثمة شفاعة بدون اذن الله.

فمن أجل أن لا نتورط بحمل هذه الأثقال علينا : أن نعود الى التاريخ فنعتبر ، والى القرآن فنتذكر.

٢٢٤

بينات من الآيات :

[٩٩] (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً)

البشر انما يضل عن سواء السبيل حين يغفل ويخرج عن تمام وعيه ، وانما ابتليت الأمم بمختلف النكسات بسبب الغفلة ، والنسيان ، ولكي يعي الإنسان واقعه ومستقبله لديه وسيلتان :

الأولى : النظر في التاريخ بروية وتفكر ، فالتاريخ هو ذلك المصباح الذي يضيء للعقلاء درب المستقبل ، والتاريخ هو ذلك المعهد التجريبي الذي يتخرج من أروقته أفضل العلماء ، والتاريخ هو ذلك الناصح الأمين الذي يوقظ فطرة الخير في ضمير النابهين.

انه الذكر الذي يتجلى في آيات القرآن حين تبين لنا سنن الله فيما مضى ، وكيف سعد من سعد من الأمم ، وكيف شقي من شقي منهم ، يقول الإمام أمير المؤمنين ، وهو يبين لولده الحسن المجتبى (ع) أهمية التجارب التاريخية :

«أي بني إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي ، فقد نظرت في أعمالهم ، وفكرت في أخبارهم ، وستر في آثارهم ، حتى عدت كأحدهم ، بل كأني بما انتهى اليّ من أمورهم ، قد عمّرت مع أولهم الى آخرهم ، فعرفت صفو ذلك من كدره ، ونفعه من ضرره ، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله» (١)

وحين ننظر الى التاريخ ، علينا أن نعتبر بالجوهر ، ومن الخطأ أن نعلق بكل

__________________

(١) نهج البلاغة ـ رسالة «٣١».

٢٢٥

لتفاصيل والجزئيات.

الثانية : القرآن ، وسمي بالذكر ، لأنه ينبّه المؤمنين من نومة الغافلين ، فيوقظ الضمير ، ويستثير العقل ، مذكّرا الإنسان بعهده مع الله ، وما أودع فيه الله من الفطرة.

وكما تتجلى الحقائق وسنة الله عبر أحداث التاريخ ، ومسيرة الحياة ، فانها موجودة في كتابه أيضا ، والذي هو بمثابة الخارطة التي تقود الإنسان الى الهدف.

ولتوضيح مفهوم الذكر بصورة واضحة يمكننا ان نشبهه بالخريطة التي يحملها الشخص وهو يريد اجتياز حقل من الالغام ، فهو ينظر إليها باستمرار ليحدد المواقع التي زرعت فيها العبوات الناسفة فيتجنبها ، وبكل حذر واردة ، ان لا يغفل عنها لحظة واحدة ، لأن ذلك يعني : أن يطير أشلاء في الهواء.

والحياة التي نعيشها أشبه ما تكون بذلك الحقل الملغوم ، وإذا أردنا أن نجتازها بسلام يجب أن يكون الذكر نصب أعيننا باستمرار ، والإنسان العاجز بذاته ، الذي يعيش على أرض محفوفة بالإخطار ، ومليئة بالصعوبات ، لهو بأمس الحاجة الى الله القوي ، مطلق العلم ، والارادة و.. و.. ليمد له يد العون ، فيدفع عنه الخطر ، والذكر هو الوسيلة التي يرتبط بها البشر الضعيف بربه العزيز القادر.

[١٠٠ ـ ١٠١] (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً* خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً)

يتنور قلب الإنسان بالمعرفة التي يكتسبها عبر التجربة والتفكير ، وعبر النظر للتاريخ والحياة ، وأهم من كل ذلك ، عبر رسالات الله (الذكر) ، بينما تصنع الغفلة حجبا كثيفة عليه تمنع عنه نور الحقيقة ، وسحبا متراكمة من الحسد والحقد والعقد

٢٢٦

وحب الدنيا والتعلق بزينتها ، وهذه الحجب التي تتراكم فوق القلب ، وتدعو الى ارتكاب المعاصي ، تصبح هي أوزارا باهضة تثقل كاهل صاحبها في الدنيا وفي الآخرة.

والوزر هو الحمل الثقيل ، الذي يضغط على صاحبه بقوة ، فمن حمل كيسا كبيرا من التراب فوق كاهله ينهار من شدة الضغط ، كذلك الحاسد والحاقد وعبد الشهوات ، والسائر في ظلمات الغفلة ، يتعرض قلبه لضغط معنوي هائل لا يكاد يتحمله.

والتعبير القرآني عن الغفلة (بالوزر) أبلغ تعبير ، أو ليست الغفلة تأتي نتيجة ضغط العوامل المادية؟ كذلك الوزر (الحمل الثقيل) هو من الضغط المادي.

ولا يقتصر ضرر الاعراض عن ذكر الله على الدنيا فقط بأن يفقد الإنسان البصيرة فيها ، بل ويمتد ذلك الى يوم القيامة حيث تتجسد الحقائق ، وحيث يحمل من غفل عن ذكر ربه أثقالا باهضة على كتفيه ، كما يفقد البصر وهو يحاول أن يجتاز الصراط فيقع في جهنم ، يتذوق ألوان العذاب.

والتعبير القرآني من الدقة بمكان إذ يقول تعالى (خالدين فيها) والضمير يعود إلى الوزر ، إذ ذنوبه هنا هي اداة تعذيبه هناك ، حيث يخلد فيها مهانا ، أعوذ بالله.

[١٠٢] (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ)

ولا مناص يومها لأحد الا أن يخرج من قبره شاء أم أبى ، فكما يولد الإنسان ويموت من دون إرادته ، كذلك يبعث من دون إرادته.

(وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً)

٢٢٧

أي زرق عيونهم من شدة الخوف ، ولعلّ أهوال القيامة تسبب في زرقة أجسادهم أيضا.

[١٠٣] (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ)

يتحدثون لبعضهم همسا ، فيقول بعضهم لبعض :

(إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً)

إذ يتضح لهم تفاهة وقصر العيش في الدنيا ، التي طالما اعتبروها آخر المطاف ، وتوهموا أنفسهم باقين فيها ، وذلك حين يقيسونها بالآخرة دار الخلد ، إن ملايين السنين لا قيمة لها ، أمام الخلد ، فكيف والإنسان لا يعيش في الدنيا الا بضع عشرات من السنين فقط؟!

[١٠٤] (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً)

ان علم الله سبحانه وتعالى يحيط بكل شيء وكل زمان ، فهو غير خاضع لقانون الزمن ، كما نحن البشر ، فالماضي والحاضر والمستقبل في علمه سواء ، فهو يعلم الآن ما سيقوله المجرمون يوم القيامة الذي ربما يأتي بعد ملايين السنين.

ولفظة أمثلهم طريقة ، ترفع شبهة قد تتولد في الذهن ، بأن المتكلم الأول كان فاقدا للعقل عند ما قدر عمره في الدنيا بعشرة أيام ، فهذا (أمثلهم) أعقلهم وأفهمهم يقدر الفترة بيوم واحد لا بعشرة أيام.

ان على الإنسان أن يعلم بأن حياته قصيرة جدا ، وان أمامه حياة أخرى لا حصر لأمدها ، وان سعادته أو شقاءه فيها مرهون بعمله في الدنيا ، فيسعى جاهدا من أجل أن يكون سعيدا فيها.

٢٢٨

من مشاهد القيامة :

[١٠٥] (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ)

الضخمة الراسية.

(فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً)

[١٠٦] (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً)

أرض خالية من كل أثر من آثار زينة الدنيا وزخارفها.

[١٠٧] (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً)

أي تصير الأرض مستوية ، فلا حفرة فيها ولا نتوء ، وتزول منها كل المعالم الجغرافية. تصوّر لو كنت واقفا على مقربة من جبال الهملايا فاذا بها تنفجر مرة واحدة ، فكم سيكون المنظر مهيبا ومخيفا؟

والسؤال : لما ذا نجد القرآن يتحدث في مواضع كثيرة من الذكر ، عن نسف الجبال ، وتسجير البحار ، وانتشار الكواكب و.. و..؟

والجواب يبدو : ان كل ما في الكون خلق لهدف هو عبادة الله ، وخدمة الإنسان ، فما دام الإنسان قد انتهى وجوده ودوره في الدنيا ، فانه ينتهي تبعا لذلك دور هذه المخلوقات ، وفي الحديث القدسي يخاطب الله سبحانه وتعالى الإنسان قائلا :

«خلقتك لأجلي وخلقت الأشياء لأجلك»

ولعل من أساليب القرآن في التذكرة ، هو التعرض لمشاهد القيامة بما فيها من

٢٢٩

الإثارة وشد الانتباه ، ليوقض الضمير ، خصوصا وان أسلوب العرض القرآني قمة البلاغة.

[١٠٨] ويواصل القرآن الحديث عن يوم القيامة :

(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً)

من المفارقات الموجودة بين الدنيا والآخرة ، مفارقتان تذكرهما هذه الآيات :

الأولى : المفارقة الزمنية ، فبينما الدنيا محدودة زمنيا ، نجد الآخرة أبدية.

الثانية : وتذكرها هذه الآية ، وهي ان الدنيا حياة الارادة البشرية ، بينما الآخرة (يوم القيامة) يجرد الإنسان من إرادته ، وبالذات المجرم ، ويخضع لله جبريا.

فهذا البشر الذي كان يتمرد على رسل الله ورسالاته ، نجده ـ هنالك ـ خانعا خاضعا لداعي الله ، وصوته الذي طالما رفعه يحارب به الله ، وعباده ، ورسالاته ، هذا الصوت تجده خاشعا لله تعالى ، الذي ينتظر منه الجميع كلمة العفو والغفران ، ويتبعون داعيه دون أي تلكأ وبلا عوج ، ذلك الداعي الذي يدعوهم الى صراط الله المستقيم لا عوج له.

[١٠٩] (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً)

كل العلاقات لا تنفعه يوم القيامة ، ولا تبقى الا علاقة واحدة ، وهي علاقة المؤمنين وشفاعتهم وشفاعة الرسل والصديقين والشهداء والصالحين لمن اتبعهم في الدنيا وأطاعهم ، فالعلاقة الرسالية اذن هي الباقية يوم القيامة ، وليس هناك انصاف آلهة يفرضون إرادتهم على الله ، كما يدعي البعض أو يتصورون ، وهذه الوساطات

٢٣٠

والوجاهات التي يتوسل بها الإنسان قد تنفعه عند السلطان ، أما عند الله فلا ، الا لمن يعطيه الله صلاحية الشفاعة ، ونتسائل : ما هي إذا فائدة الشفاعة ومن ذا الذي تعطى له صلاحيتها؟

أولا : ان الشفاعة هناك نتيجة العلاقات الايمانية هنا ، وبالذات العلاقة بين المؤمنين وقيادتهم الشرعية من رسول ووصي رسول ، ومن أمر الله بطاعته وحبّه ، وكلما ازداد حبك في الله للأنبياء والأئمة وخلفائهم وطاعتك لهم ، كلما ازدادت فرص نجاتك من النار ، لأنهم وحدهم الشفعاء عند الله.

ثانيا : قد يلقي الشيطان في قلب المذنبين اليأس من روح الله ، فيفتح الله لهم بابا واسعا الى رحمته عبر الشفاعة ويهديهم الى صراط التوبة ، وهو العودة الى الله ، ومن أمر الله بطاعته ، من الرسول وأولى الأمر الشرعيين من بعده.

وسؤال آخر : لما ذا التأكيد على أن لا شفاعة الا لمن ارتضى الرب؟

والجواب : ان فكرة المسؤولية هي أثقل ما في الميزان من فكر ، وان البشر يسعى جهده للتخلص منها ، والاستراحة الى ظل التبريرات ، والشفاعة أبرزها ، إن الإنسان يخدع نفسه كلما ذكّره الله بالجزاء ، ويتمنى لو ان شخصا يشفع له ، فيؤكد الله سبحانه : كلا ، لا شفاعة عند الله الا ممن يرتضيه الله سبحانه ، هكذا لكي تبقى النفس عارية أمام حقيقة المسؤولية ، ويتقبلها طوعا أو كرها.

[١١٠] (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ)

فسلوك الإنسان وخلفياته هي التي تؤثر في مصيره غدا ، وكل ذلك يعلمه الله.

(وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)

٢٣١

وهكذا يقفون امام سلطان الرب القاهر ، عاجزين لا يحيطون به علما ، فلا يمكنهم التغلب عليه ، أو مقاومة مكره ، إذا ليس امامهم الا التسليم له والهروب من عدله الى عفوه ، ومن غضبه الى رحمته ورضوانه.

٢٣٢

وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤) وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما

______________________

١١١ (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ) : العنوة الخضوع والذّل ، والعاني الأسير وأخذت الشيء عنوة أي غلبة تذل المأخوذ منه ، وقد تكون العنوة عن طاعة وتسليم لأنّه على طاعة الذليل للعزيز.

٢٣٣

مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢)

______________________

١٢١ [وطفقا يخصفان] : أي شرع آدم وحوّاء يلصقان على أنفسهما من الورق حتى لا يتعرّيا.

٢٣٤

المسؤوليّة ... بين التذكّر والنسيان

هدى من الآيات :

الإنسان خاضع بكيانه الطبيعي لله سبحانه ، ويتجسد خضوعه الكامل يوم القيامة ، أما في الدنيا فقد أعطاه الله فرصة لتجربة إرادته ، فهو يستطيع بها أن يسمو ليصير أفضل من المخلوقات ، التي تخضع لله خضوعا قهريا تكوينيا.

وهذه المسؤولية بحاجة الى التذكير بها ، وإن كان الإنسان بطبعه وفطرته يشعر بالمسؤولية ، ولكنه ربما أنسته إيّاها ضغوط الحياة ، ووساوس الشيطان فيها ، ومشاكلها ، فهو بحاجة الى تذكير مستمر ليقاوم كل ذلك.

وهكذا جاء القرآن الحكيم تذكيرا للإنسان بمسؤوليته ، وثمة عامل آخر يجعل الإنسان ذاكرا لا ينسى ، وهو العزم والارادة ، وفي هذه الآيات يذكرنا الله تعالى بأن آدم لم يكن من أولي العزم حيث نسي عهد الله اليه وأخرج ، ولم يخرج آدم من الجنة ، التي وفر الله له ولزوجه فيها الطعام واللباس والشراب والسكن ، الا بسبب

٢٣٥

إثارة الشيطان لغريزتي حب الخلود وحب السلطة ، فلما اتبع إبليس ، تجرد من لباس الجنة (حيث جرّد نفسه من لباس التقوى) وأضحى عاصيا وقد غوى ، الا ان الله فتح أمامه باب التوبة فاجتباه وهداه.

وفي نهاية الدرس بشارة بأن وراء هبوط الإنسان الى الأرض بالذنب ، التوبة التي هي معراجه الى الجنة.

بينات من الآيات :

[١١١] (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ)

عنت أي خضعت خضوعا ذليلا ، أما الوجوه فهي المظهر البارز من الإنسان ، وحينما تقول توجهت أي جعلت كل أبعاد حياتي في هذا الطريق ، فعنت الوجوه بمعنى خضعت أبعاد حياة الإنسان للحي القيوم ، بلى هذا الوجه الضعيف الفاني ، حق له أن يخضع لذلك الوجه الحي القيوم ..

هكذا نقرأ في الدعاء :

(سجد وجهي الذليل لوجهك العزيز الجليل ، سجد وجهي البالي الفاني لوجهك الدائم الباقي ، سجد وجهي الفقير لوجهك الغني الكبير ، سجد وجهي وسمعي ولحمي ودمي وجلدي وعظمي وما أقلت الأرض مني لله رب العالمين)

(١) ولعلّ اسمي الحي والقيوم يجمعان أسماء الله الحسنى.

(وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً)

__________________

(١) مفاتيح الجنان ـ ص ٢٢٧ ـ من دعاء الجوشن الكبير.

٢٣٦

الخيبة هي الفشل ، والذي يخيب هو الذي لا يصل الى هدفه ، والظلم حمل ثقيل على كاهل الإنسان يتجلى في صور سلبية شتى في الدنيا ، كعدم التوفيق والفشل و.. و.. ، أما في الآخرة فيتجلى في صورة العذاب المهين ، وهذا خلاف ما ينتظره الإنسان من وراء ظلمه ، أو ليس كان يأمل الظالم أن يحقق لنفسه وأهله السعادة والفلاح ، الآن تراه يفشل ويخيب أمله ، ويحمل أوزار الظلم.

[١١٢] في مقابل الظلم يوجد العمل الصالح ، وهو حالة بناء ، سواء للنفس أو المجتمع ، فبدل أن تسجّر لنفسك تنورا في جهنم بالظلم ، شيّد لك قصرا في الجنة بالعمل الصالح ، وبدل أن تهدم علاقاتك بالمجتمع عبر الظلم ، وسعها ومتنها بالإحسان والعمل الصالح ، والذي يعمل الصالحات لا يخاف الهضم ولا الظلم.

ثم أن عمل الصالحات في الخط الفاسد ليس من الصالحات في شيء ، لذلك يؤكد القرآن :

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ)

فحتى تثمر الصالحات يجب أن تكون في خط الايمان.

(فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً)

لا يمكن في يوم القيامة أن ترى صحيفة عملك وقد ذهبت بيد غيرك ، كما لا يمكن أن يضيع الله عملا صالحا مهما يكن صغيرا ، فلو أنك قمت في أحد الليالي لحظات وسبحت الله ثم نمت فهي ستبقى مكتوبة في صحيفتك يوم القيامة ، والفرق بين الظلم والهضم ، أن الظلم ذهاب كل العمل ، والهضم نقصان بعض الأجر.

[١١٣] (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)

٢٣٧

عربيا : بليغا يفهمه كل الناس ، ويوضح كل الحقائق ، واللغة العربية تمتاز ببلاغة نافذة ـ باعتراف علماء اللغة ـ لا نجدها أبدا في غيرها.

(وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ)

أي ثبتنا فيه الوعيد ، بأساليب مختلفة ومع أمثلة حقيقية.

(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)

لكي تترسخ فيهم روح التقوى ، والذي تترسخ فيه هذه الروح لا يظلم ولا يغفل ولا يذنب ، لأنه مسلح بالتقوى والحذر نتيجة الوعيد.

(أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً)

هدف القرآن هو زرع التقوى في نفس الإنسان ، وإذا كان قلب الإنسان لا يتقبل التقوى ، فلا أقل ليتذكر بالقرآن ، والتذكر حسبما جاء في الأحاديث هو تذكر الله عند ممارسة الخطيئة ، من هنا يمكن القول بأن التقوى نوع من العصمة أما التذكر فيشبه الكابح.

[١١٤] (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ)

تعالى عن التشبيه والتصوير والتصور ، فهو الملك المالك لكل شيء والمهيمن عليه ، وهو الحق وما دونه الباطل ، فنحن ملكه يهدينا الى القرآن.

ولكي نصل الى علم القرآن لا بد من التسليم والاستزادة من الوحي دون العجلة.

(وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)

٢٣٨

في تفسير علي بن إبراهيم ، في سبب نزول هذه الآية ، قال : كان رسول الله (ص) إذا نزل عليه القرآن بادر بقراءته قبل تمام نزوله ، فأنزل الله :

(وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ)

ولعل زيادة حب النبي وشوقه الى وحي ربه ، كان يدفعه الى ذلك ، فنهاه الرب عنه ، ومهما كان السبب فان ذات العجلة غير حميدة :

١ / إذ المطلوب من المؤمن التسليم المطلق امام الرب ، ليزيد الله علمه ، ومع الاستعجال بالوحي حتى ولو كان من منطلق الشوق ـ يفقد كمال التسليم له ، وبالتالي لا يزداد علما.

٢ / والمهم قراءة القرآن بتأن وتدبر لاستيعاب معانيه ، لأن هذا الطريق فقط هو الذي يجعلنا نفهم القرآن ، وخطأ أن نقرأ القرآن بهدف القراءة لأنها ليست مطلوبة بذاتها ، إذا عريت عن الفهم والتدبر ، الذي يحقق التقوى أو الذكرى.

(وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)

وان من آداب تلقي الذكر ـ بعد التسليم ـ الشوق الى زيادة العلم ، فمن اغتر بما يملك من العلم لم يؤت الزيادة.

ولذلك نجد كيف يأمر الرب رسوله بطلب الزيادة في العلم ـ وجاء في الحديث الشريف عن أئمّة أهل البيت : لو لا اننا نزداد لأنفدنا. (١)

وفي الحديث المأثور عن عائشة عن الرسول (ص) انه قال :

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ج ٣ / ص ٣٩٧.

٢٣٩

«إذا أتى عليّ يوم لا أزداد فيه علما يقربني الى الله ، فلا بارك الله لي في طلوع شمسه» (١)

[١١٥] (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ)

لقد حدد الله سبحانه الهدف من القرآن (التقوى والتذكر) ، وكمثال على هذين الهدفين يذكر الله قصة آدم (ع) عند ما نهاه عن الشجرة وحذره من الشيطان أن يخرجه من الجنة ، فلا هو اتقى الشيطان ولا هو تذكر نهي الله له.

ومن كلمة «نسي» نستنتج ان عصيان آدم لم يكن متعمدا ، ويدل على ذلك عجز الآية (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) اي عزما على ترك المعصية ، كما ان النسيان ضد التذكر ، وعهدنا بمعنى أمرنا ، فهو لم يتحد ذلك الأمر انما نسيه.

(وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)

وهناك تفسيران لهذه الآية :

الأول : ان آدم (ع) نسي العهد الالهي ولكن لم نجد له عزما على الخطيئة أي تعمدا.

الثاني : لم يكن آدم من أولي العزم وأولو العزم خمسة هم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد (ص) ، وهذا التفسير تأكيد للقول بأن الارادة «العزم» تمنع الغفلة والنسيان.

[١١٦] (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى)

__________________

(١) المصدر ص ٢٩٨.

٢٤٠