من هدى القرآن - ج ٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-10-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٣٩٩

٢ ـ الاعتبار بمن نعاصرهم من الأمم التي تتحطم وتهلك بسبب أعمالها.

إن على الإنسان أن يعتبر بالماضي من آبائه الذين ماتوا وانقرضوا ، وكذلك لمن حوله من أترابه ، الذين يموتون كلّ يوم ، كذلك حال المجتمعات (١) ، ولكن المشكلة الأساسية هي التي يشير إليها القرآن في الآية الأخيرة :

[٤٥] (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ)

المشكلة هي إنّ الإنسان قد أصيب بالصمم ، ولهي قلبه ، فجعل يستهزئ بالحقيقة ، لذلك حينما يرى العبر فانه لا يستفيد منها شيئا.

__________________

(١) هناك تفسيرات أخرى لهذه الآية. منها إنّ نقصان الأرض بموت العلماء. وبه جاءت الروايات. وهو تفسير عميق لا يتنافى مع ما ذكرنا آنفا إذ إنّ موت المجتمعات إنّما هو بنقصان علماءها «راجع تفسير نور الثقلين / ج ٣ ـ ص ٤٢٩».

٣٢١

وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠) وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي

______________________

٤٦ [نفحة] : أي الوقعة اليسيرة التي تقع ـ كنفخ الطيب الذي هو شيء يسير من ريحه.

٤٧ [القسط] : العدل.

٣٢٢

أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨)

______________________

٥٢ [عاكفون] : مستمرّون دائمون على عبادتها.

٥٧ [وتالله] : حلف بالله لتأكيد ما يقول ، والتاء للتعجّب.

٥٨ [جذاذا] : أي قطعة قطعة ، وأصله من الجذ بمعنى القطع.

٣٢٣

نفحات العذاب علائم المسؤولية

هدى من الآيات :

في سياق حديث القرآن الحكيم عن مسئولية الإنسان في الحياة ، المرتكزة على الجدية والهدفية ، تذكرنا آيات هذا الدرس ، بأن من علائم المسؤولية هي نفحات العذاب ، التي يتعرض لها البشر بسبب سوء أفعالهم ، فلكي تعرف الآخرة ، وما فيها من عذاب أو ثواب ، لا بدّ أن تتفكر في الدنيا وما فيها من آثار العذاب والثواب ونفحاتهما! إلّا إنّ الموازين القسط التي تحسب كلّ صغيرة وكبيرة فيجازى الشخص بها ، مؤجلة الى يوم القيامة ، حيث لا تظلم نفس شيئا ، حتى ولو كان بوزن خردلة.

ولقد جاءت رسالات الله تترى لتعطي الناس ميزانا يفرق به بين الحقّ والباطل ، وضياء يهتدى به في ظلمات الحياة ، ويذكر المتقين ليزدادوا إيمانا وعزما.

٣٢٤

فمن أبرز غايات الرسل تذكير الناس بيوم القيامة ـ حيث الموازين القسط ـ ، ولكن المتقين هم الذين يخشون ربهم بالغيب ويخافون أهوال الساعة.

وهذا الكتاب هو الآخر ذكر مبارك أنزله الله لذات الغاية.

والسؤال ما الذي يحجب الإنسان عن الأخذ بالفرقان ، والإيمان بالرسالات الالهية التي تذكّر بالآخرة ، وتنبّه الغافلين عن نومهم في الدنيا؟

إنّه وكما يتضح من القرآن التقليد ، وتبعية الآباء من دون تبصّر ولا تدبّر. هكذا يضرب لنا القرآن مثلا من حياة إبراهيم (ع) الذي وقف أمام قومه الذين اتبعوا منهج آبائهم ففقدوا إحساسهم بالمسؤولية ، وصرخ في وجوههم قائلا : ما هذه الأصنام التي تتمسكون بعبادتها ، وتلازمونها على الدوام؟! فلم يكن عندهم جواب منطقي يردّون به على هذه الصرخة ، إلّا أن قالوا : إنّما وجدنا آباءنا يعبدونها فحذونا حذوهم.

ولكي يثبت لهم إمكان تحدي الإنسان لتاريخه الباطل بقوة إرادته ، أخذ معولا وذهب الى معبدهم في يوم عيدهم ، وحطم الأصنام ، واحدا تلو الآخر ، ثمّ وضع المعول في عنق أكبرها حجما ، وذهب الى بيته ، بانتظار أن يعودوا ، فيروا إنّ التماثيل قد حطمت ، فيكون ذلك نقطة بدء لهم لكي ينفصلوا عن تاريخهم السيء المنحرف ، ويعيشوا واقعهم بعقلية متفتحة وبصيرة مستنيرة.

بينات من الآيات :

[٤٦] إن الدنيا مزيج من الجنة والنار ، ولقد خلق الله سبحانه وتعالى دارا لأوليائه ، جعل فيها من كلّ ما لذّ وطاب من النعم ، دون أن يشوبها خوف أو

٣٢٥

حزن ، وخلق دارا أخرى للمعاندين ، وجعل فيها من كلّ عذاب أشدّه وآلمه ، دون أن يكون فيها مكان للرحمة أو مجال للنعمة ، وخلق دارا ثالثة تجمع صفات تلك الدارين ، فيها ضغث من الجنة وضغث من الجحيم ، وهي الدنيا ، ثمّ جعل ما فيها من ثواب ونعم شاهدا على ما في تلك الدار من ثواب ونعمة ، وما فيها من عقاب ونقمة ، شاهدا على ما في الجحيم من أليم العذاب. وهذا هو مضمون حديث مفصل مروي عن أمير المؤمنين علي (ع).

وفي هذه الآيات يؤكد السياق ذلك ، فلكي تعرف إنّك مسئول في الآخرة تدبر في نتائج أعمالك في الدنيا ، ولكي تعرف حقيقة العذاب والثواب في الآخرة جربهما في الدنيا.

لذلك تجد الصحابي أبا ذر ـ عليه السلام ـ يذهب الى الصحراء ، يعرّي جسده ، ويلقي بنفسه على الرمضاء حيث تصهره الشمس ويكويه الحصى ، ويقول لنفسه يا أبا ذر ذق حرارة الدنيا لكي تبعد نفسك عن نار الآخرة ، فان نار جهنم أشدّ حرا. وفي الحديث الشريف : «تذكّروا بجوعكم وعطشكم ـ في شهر رمضان ـ جوعكم وعطشكم في يوم القيامة».

إنّ كلّ ما نواجهه في حياتنا الدنيا من صعوبات ومشاكل ومخاطر ، هو نفحة من عذاب الله تذكرنا بحقيقة العذاب الموجود في الآخرة ، ويصيبنا إن لم نتبع الفرقان الذي أنزله إلينا ربنا ، والذي يفرق لنا بين الحقّ والباطل ، وبين الحلال والحرام ، وبين الخير والشر.

(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)

٣٢٦

أول ما يبدأ عذاب الله عز وجل بالنزول على المعرضين والمعاندين ، ينزع عنهم السكرة التي كانت مسيطرة على عقولهم ، والتي جعلتهم يغترون بالدنيا الفانية ، وعند ذلك يعودون الى رشدهم ، ويقولون لقد عرّضنا أنفسنا الى الهلاك بإرادتنا واختيارنا ، حينما فرّطنا في المسؤولية ، وتهاونّا في أداء الأمانة.

[٤٧] (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً)

تلك كانت النفحة ، أما الجزاء فسيجدونه في يوم القيامة حيث الحساب ، الدقيق والعسير ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ ، وتعالى الله أن يظلم أحدا شيئا.

والموازين القسط هم الرجال الربانيون الأنبياء والأوصياء (١) الذين يتخذ منهم الربّ شهداء على النّاس ، والذين لا بدّ أن يقيس الإنسان أعماله بهم وبنهجهم وسيرتهم.

(وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها)

الخردل : نبات له حبات بالغة في الصغر والخفة ، لو إنّ الإنسان أحسن وعمل عملا بوزن هذه الحبة ، وفي أيّ مكان على وجه الأرض ، وعلى أية درجة من السّريّة والكتمان ، فان الله سيأتي به ـ بقدرته وعلمه اللامحدودين ـ مثبتا ومسجلا ، يعرضه على صاحبه في يوم القيامة ، ثمّ يعطيه جزاءه العادل عليه.

(وَكَفى بِنا حاسِبِينَ)

ولا نحتاج الى من يعيننا في عملية الحساب هذه.

__________________

(١) تفسير نور الثقلين / ج ٣ ـ ص ٤٣٠.

٣٢٧

حجج المسؤولية :

[٤٨] لأن الله لا يظلم أحدا شيئا ، سبحانه! ، ولأنه رحيم بعباده ، ولأن الحساب هناك دقيق وعسير ، وبالتالي لأنّ المسؤولية باهضة. فقد منّ على عباده برسالاته التي هي :

أولا : الفرقان بين الحقّ والباطل ، بين ما ينبغي وما لا ينبغي من الأفعال.

ثانيا : ويضيء قلوبهم بنور الإيمان حتى يتحمّلوا مسئولياتهم ويؤدوا ما عليهم.

ثالثا : يذكر المتقين منهم حتى لا يعتريهم النسيان.

هكذا أكمل الربّ حجة على عباده ، فلم يحمّلهم عبء المسؤولية دون توفير وسائل تحقيقها لهم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ)

الفرقان : هو ما يفرق بين المتناقضات الموجودة في الحياة ، وبه نعرف الحقّ من الباطل ، ونعين الحدود الفاصلة بينهما ، وقد يكون الفرقان هو التوراة كما تشير إليه هذه الآية ، وقد يكون واحدا من الكتب الالهية الأخرى ومنها القرآن ، كما انه يستطيل ليشمل الأشخاص كالأنبياء والأئمة (ع) ومن يقوم مقامهم ويمثّل امتدادا حقيقيا لهم.

والضياء : هو النور الذي يشع في القلب ، ويمكّن المؤمنين من السير في دروب الحياة المدلهمة بثقة واطمئنان.

أمّا الذكر : فهو ما يثير دفينة العقل ، ويمنع الإنسان من الركون الى الغفلة والنسيان ، ويتمثل في المواعظ البليغة التي يستفيد منها المتقون الذين يخافون الله

٣٢٨

ويراقبونه بأعمالهم.

الساعة والغيب :

[٤٩] (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ)

الإيمان بالغيب هو الذي يدفع الإنسان الى تجاوز الشهود ، فتراه ـ حينما يرى شيئا ـ لا يقف عنده ، بل يعبر من خلاله الى الشاطئ الآخر للحقيقية أي الى حكمته وسببه ودلالته ، وبكلمة : الإيمان بالغيب هو : أن نصدّق بما لا نراه انطلاقا ممّا نراه ، وهذا الأمر الذي يتفق تماما مع العقل والمنطق ، هو الذي يقودنا الى معرفة ربّنا اللطيف الذي لا تدركه الأبصار ، من خلال ما نراه من آثار خلقه وبديع صنعه ، وبالتالي نخشاه كأننا نراه ، ونقف بين يدي جبروته المطلق بخشوع ووجل ، وهذا الشعور سوف ينعكس على أعمالنا ، وأقوالنا ، وسائر تصرفاتنا ، فيصقلها ويهذّبها ويوجّهها الى الوجهة السليمة في الحياة. كما يقودنا الإيمان بالغيب الى الشفقة من الساعة.

(وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ)

أي يخشون قيام الساعة.

والإشفاق حالة من الخشية المقرونة بالترقب والانتظار ، ذلك لأن المتقين يعيشون بين الخوف من البعث (لأنهم لا يعلمون نتائج أعمالهم) وبين انتظاره (إذ يرجون جزاء حسناتهم).

[٥٠] (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)

إنّ أكثر الكفار ، ينكرون الرسالات والكتب الالهية ، لأنهم يشككون أنفسهم

٣٢٩

في الذي أنزلها ، ولذلك يقول الله في هذه الآية : «أنزلناه» ليقطع عليهم سبيل الإنكار والتكذيب.

وكما إنّ التوراة كانت فرقانا وضياء وذكرا .. فان القرآن كذلك ذكر (وهو أعلى صفات التوراة الثلاث). ومثلما أصبح كتاب موسى بركة على بني إسرائيل ، كذلك هذا الكتاب سيكون (وفعلا كان) مباركا على من اهتدى به ، يخرجهم من الظلمات الى النور ، ويعطيهم تكاملا معنويا وماديا.

إبراهيم يحطم الأصنام جميعا :

[٥١ ـ ٥٣] (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ* قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ)

الضمير في «رشده» يعود الى إبراهيم (ع) ، ولم يقل ربنا «رشدنا» مثلا ، وفي ذلك إيحاء الى أن الله خلق الإنسان راشدا ـ عاقلا ـ نقي الضمير ، ولكنه يتبع آباءه على غير هدى فتنحرف فطرته ويضيع رشده.

ولقد أدى إعراض قوم إبراهيم عن رشدهم المركوز في فطرتهم ، الى أن يردوا على حجته القوية المنطقية بذلك الجواب السخيف الأحمق فقالوا : إنّما نعبد هذه الأحجار لأننا رأينا أسلافنا يفعلون ذلك ..

[٥٤] (قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)

لقد نسف إبراهيم بكلمة واحدة عقيدتهم المهزوزة ، وتركهم في حيرة من الأمر ، والآية التالية تدل على إنّهم لم يكونوا على شيء في دينهم.

٣٣٠

[٥٥] (قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ)

لقد أصابتهم كلمة إبراهيم في الصميم ، فطرحوا عليه هذا السؤال كمن يعطي نفسه فرصة لإعادة ترتيب أوراقه ولملمة خواطره المتناثرة.

[٥٦] ولكن إبراهيم واصل حجته القوية المنطقية ، وأطبق عليهم بهذه الحقيقة الصارخة التي لا سبيل لانكارها :

(قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)

لا أحد من آلهتهم كان يدعي أنه خلق السماوات والأرض ، أو أنّه خلقهم. ولذلك فلا بدّ أن يكون الإله الحقيقي لهذا الكون غير الأصنام الصّماء البكماء. وهكذا أصرّ إبراهيم عليه السلام إنه ليس لاعبا ، وليس حديثه من نوع حديث المراهقين الذين يشكون لضعف في عقولهم ـ حاشاه ـ ، بل إنه يدعو وبجد الى ربّ السماوات والأرض ، وهو شاهد على صدق دعواه ، بثبات قوله ، وشجاعة طرحه ، واستعداده للتضحية ، وسلامة نهجه وصدق مواقفه ، وسعادته وفلاحه.

وهنا دحض حجتهم بالكامل ، وانقطعوا عن أيّ جواب ، ولكن النفس البشرية ليست من البساطة بحيث تؤمن بالحق أول ما تراه ، فهناك عوامل معقدة ومتشابكة اجتماعية وثقافية واقتصادية ، تنشأ عنها مصالح واعتبارات يخيل نظريّا للإنسان بأنّه لا يستطيع التخلّي عنها. إنهم عرفوا الحقيقة وانجلت أمام أعينهم ، ولكن إتباعها يتطلب منهم أن يضحوا بالكثير من مكاسبهم المادية ، كالجاه والسلطة والثروة وغيرها. ولذلك لم يبادروا بإعلان قبولهم بالحقّ وخضوعهم له ، بل انهم لاذوا بالصمت كمن ينحني لتمرّ العاصفة بسلام ، ثم يواصل دربه.

٣٣١

[٥٧] ولكن إبراهيم لم يسكت ، ولم يفسح لهم المجال للاسترسال في الصمت والتقليد والخوض في الباطل مع الخائضين ، بل قال :

(وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ)

أي سأحطمها بعد أن تذهبوا لحضور اجتماعات عيدكم. وكان هذا القيد الزمني بسبب إن إبراهيم (ع) كان فردا واحدا فلم يكن من الممكن أن يكسر تلك الأصنام مع وجود أعداد كبيرة من المشركين عندها.

[٥٨] ثمّ شفع تهديده الكلامي بالتنفيذ العملي ..

(فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ)

حطم تلك الآلهة المزيفة شر تحطيم ، وترك واحدا منها ، كانوا يعدّونه أعظم أصنامهم ، وعلّق معوله في صدره ، ليترك لهم مجالا أكثر للتفكير في حقيقة هذه التماثيل الحجرية التي لا تضر ولا تنفع ، وذلك لأنه كان لديه تصور مسبق لما سيحدث بعد ذلك من إلقاء القبض عليه ومسائلته بعد اكتشاف قومه للأمر ، وكان يريد أن يكسر جدار الصمت ويوقف مسيرة الاسترسال مع الوضع الفاسد ، ولكي يجد فرصة جماهيرية ليبيّن لهم بأن هذه الأصنام لن تسبب لهم الضرر إن كانت مكسّرة ، كما إنّها لن تنفعهم إن ظلت قائمة على منصاتها ، فما ذا عسى ينفعهم هذا الصنم الكبير عند ما يرجعون إليه ويلوذون به؟!

٣٣٢

قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ

٣٣٣

وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣)

______________________

٧٢ [ويعقوب نافلة] : أي زائدة ، إذ لم يكن يعقوب حسب دعاء إبراهيم وإنما كان لطفا محضا من الله عليه.

٣٣٤

وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ

هدى من الآيات :

كما إن نفحة العذاب في الدنيا ، شاهدة على العذاب المركز في الآخرة ، كذلك الثواب الدنيوي دليل على ما وراءه من ثواب عظيم في الآخرة.

وكما إن الإنسان حينما تستعبده أصنام التاريخ ، أو أصنام المجتمع ، فانه يلاقي جزاءه في الدنيا والآخرة ، حيث تتحول تلك الأصنام التي تعبد من دون الله الى نقمات تحيط به ، كذلك فان الإنسان الذي يتحرر من عبادة الأصنام التاريخية أو البشرية ، يبني حياته بشكل سليم ويجازيه الله سبحانه وتعالى جزاء حسنا.

فهذا إبراهيم قد حطم ـ أولا وقبل كلّ شيء ـ الأصنام التي كانت تستعبد الناس آنئذ ، حيث انفصل عن عبادة الآباء ، وتحدى ضغوط المجتمع ، ولم يكتف بعدم الخضوع لأبيه (آزر) الذي كان يتخذ موقفا متشددا ، بل حاول أن يجعل أباه يتبعه ويطيعه ، لأنه على يقين.

٣٣٥

كما تحرر من الخضوع لطاغوت المجتمع ، وللسلطة السياسية الفاسدة ، بما تملك هذه السلطة من وسائل البطش والإرهاب ، فكان ذلك الإنسان الذي خلقه الله على الفطرة الإيمانية ، وأصبح عبدا مؤمنا صالحا كما أراده خالقه.

إنّ الإنسان المتحرر عن عبودية الطاغوت ، وعبودية الآباء ، وعبودية الشهوات ، وسائر العبوديات ، يصبح مستقل الشخصية ، لا يخضع إلّا لخالق الكون العزيز الحكيم ، وهكذا بدأ إبراهيم حياته بداية سليمة ، فأعطاه الله سبحانه بدل ذلك المجتمع الفاسد مجتمعا صالحا ، وبدل ذلك الإرهاب والطغيان أمنا وحرية ، وبدل ذلك التاريخ الفاسد جعله منطلقا جديدا لبناء تاريخ صالح.

لقد عوضه الله عن كلّ بلاء صبر عليه بنعمة ، فبتحرره من قيد الطاغوت أعطاه الله سبحانه نعمة القيادة وجعله إماما ، وعند ما تحرر من قيد المجتمع المشرك أعطاه مجموعة من المؤمنين يتبعونه ، وأعطاه الأولاد وجعل ابن خالته لوطا يتبعه ، فأنشأ ذلك المجتمع النظيف. وتحرر من قيد التاريخ المنحرف ، فجعله الله سبحانه وتعالى نقطة البدء لتأريخ جديد مجيد ، وجعل أولاده أئمة للناس ، كما زودهم برسالة متكاملة بإزاء ذلك المنهج الفاسد الذي يتبعه الطاغوت والمجتمع الخاضع له .. برسالة تدعو الى الخير ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وعبادة الله وحده ، دون الخضوع لهذا أو ذاك.

هذا هو بعض ما يمكن أن نستوحيه من هذه الآيات الكريمة.

بينات من الآيات :

[٥٩ ـ ٦٠] (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ* قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ)

٣٣٦

من الذي حطّم الأصنام؟

لا بدّ إنّ الذي حطمها ظالم لنفسه لأنّه عرّض نفسه لانتقامنا.

بلى هناك شخص يدعى «إبراهيم» يذكر الأصنام بالسوء ، ويرفض أن يعبدها ويخضع لها ، فمن المؤكد أنّه هو الذي حطمها.

[٦١] وتحطيم الأصنام لم يكن يدل فقط على تحطيم الأحجار ، وإنّما كان يدل أيضا على تحطيم الأنظمة الاجتماعية والتقاليد الفاسدة ، وتحطيمها يعني التحرر منها ، لذلك تجد إن مجتمع الطاغوت (نمرود) لم يكتف بمحاولة تعذيب إبراهيم ، وبإعدامه ، إنّما أراد أن يكرس تلك التقاليد والقيم الفاسدة عن طريق فعل كلّ ذلك عبر تظاهرة اجتماعية صاخبة ، ليكون عبرة للآخرين الذين قد تحدثهم أنفسهم باتباع منهجه التوحيدي.

(قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ)

يمكننا أن نفهم من هذه الآية : بأن ذلك المجتمع قد دبّت اليه أفكار الرفض ، حيث كان هناك آخرون غير إبراهيم يدعون الناس الى التحرر من عبادة تلك الأصنام ، وقد سبق أن استوحينا من آية أخرى مثل ذلك تلك الآية هي «قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ».

[٦٢] (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ)

إبراهيم لم ينكر انه فعله أو لم يفعله وإنّما :

[٦٣] (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ)

٣٣٧

لا شك إن هذا أسلوب ساخر أراد به إبراهيم (ع) أن يلفت به أنظارهم إلى حقيقة معتقداتهم الفاسدة ، وإلّا فهم يعلمون مسبقا إن هذه أحجار لا تنطق لأنهم هم الذين صنعوها بأيديهم.

[٦٤] (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ)

أول صدمة نفسية أصيب بها هؤلاء هي انهيار مكانة الأصنام في أنفسهم والتي كانت رمزا لإيمانهم بالتاريخ الفاسد ، وبالخضوع للحاكم الظالم المتجبر ، واعتقادهم بالأساطير ... إلخ.

فرجعوا الى أنفسهم وقال كلّ منهم لنفسه : أنا الظالم ، أنا المخطئ الذي رضيت أن أعبد هذا الصنم ، الذي لا ينطق ولا يستطيع أن يدافع عن نفسه.

[٦٥] (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ)

ولكنهم باعتبارهم بشر ، وباعتبار إن البشر لا يستطيع تحدي واقعه الفاسد بسهولة ، أخذتهم العزة بالإثم ، وركبوا مطية الغرور برغم أنهم عرفوا الحقيقة وأدركوا بطلان أفكارهم وزيف معتقداتهم فقالوا مكابرين :

(لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ)

أي كيف تطلب منا أن نسألهم ، وأنت تعلم إنّهم لا يتكلمون ، أتسخر منا أم ما ذا؟!. وإذا كانت الأصنام لا تنطق ولا تتكلم فهي لا تستطيع أن تهدي من يعبدها سواء السبيل ، وإذن ما الفائدة منها؟

إنّ أهم صفة للاله الذي يعبد هي : أن يكون قادرا على هداية الإنسان ، لأنّ

٣٣٨

أهم حاجة للبشر هي حاجته الى الهداية ، ثمّ إن أبرز ميزة في الإنسان هي العقل والإدراك ، فكيف يرضى بعبادة ما لا يعقل.

[٦٦] لذلك فقد حطم إبراهيم (ع) في أنفسهم هيبة الأصنام ، وأفهمهم إنّ المحور هو محور الهدى ومنطق الحقّ ، لا محور الضلال ومنطق القوة.

(قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ)

[٦٧] وأمام موقفهم الجاهلي المتغطرس ، يواجههم إبراهيم (ع) بمنطق العقل ، بكلّ هدوء وثبات ليستثير عقولهم التي حجبها الكبر والغرور ، وعند ما يرى إصرارهم يلجأ الى الهجوم قائلا :

(أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)

ومرة أخرى أكدّ إبراهيم (ع) على فضيلة العقل في الإنسان ، وضرورة اهتمامه بها واستخدامها من أجل مصلحته وتكامل ذاته.

[٦٨] فلما ادينوا ، ودحضت حجتهم الباطلة :

(قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ)

وهذا كان آخر كلامهم ، وهو : إن إبراهيم (ع) يجب أن يحرق ، وأن ينتصروا للآلهة ما دام عندهم القوة والقدرة ، والرجولة والشجاعة.

فأعدّوا منطقة واسعة من الأرض جمعوا فيها الحطب لمدة أربعة أشهر ، ليس فقط من أجل حرق إبراهيم (ع) وإنّما أيضا من أجل إعادة هيبة الأصنام ، فالطاغوت يعيش على الهيبة والإرهاب ، وإذا فقد هما لا يبقى عنده شيء يسيطر به على النّاس.

٣٣٩

وكان لهم فلسفة أخرى وهي إشراك الناس في جريمة حرق النبي عن طريق دعوتهم للاشتراك في جمع الحطب وإعداد مكان لاحراقه ، حتى لا تتحرك فيهم المشاعر الانسانية والفطرية ، ويثوروا على الطاغية نمرود ، تماما كما فعل ابن زياد الوالي الأموي بأهل الكوفة حيث بعث كلّ أهل الكوفة لحرب الامام الحسين (ع) حتى يشركهم في جريمة قتل الامام المفترض الطاعة ، وبالتالي يأمن سخطهم وثورتهم مستقبلا.

وصنعوا لنمرود مكانا عاليا يجلس عليه ويتفرج على عملية حرق إبراهيم ثمّ توقفوا .. ما ذا نفعل؟ النار كانت من الشدّة بحيث تحرق كلّ من يقترب منها! فأوحى الشيطان إليهم بمكيدة فجاءوا بالمنجنيق ، ووضعوا فيه إبراهيم مغلولا ، ثمّ قذفوا به الى تلك النار المستعرة قذفا.

يد الرحمة :

[٦٩] (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ)

حينما قال الله سبحانه وتعالى «يا نارُ كُونِي بَرْداً» أخذ إبراهيم يرتجف من شدة البرد ، ولكن سرعان ما قال ربنا «وسلاما» فاعتدلت درجة الحرارة وقد جاءت قصة مفصلة في تفسير علي بن إبراهيم نذكرها فيما يلي لمزيد العبر التي فيها :

تقول الرواية ـ فيما تقول ـ فجلس إبراهيم وجمع له الحطب ، حتى إذا كان اليوم الذي ألقى فيه نمرود إبراهيم في النار برز نمرود وجنوده وقد كان بني لنمرود بناء ينظر منه إلى إبراهيم (ع) كيف تأخذه النار ، فجاء إبليس واتخذ لهم المنجنيق لأنه لم يقدر أحد أن يتقارب من النار ، وكان الطائر إذا مرّ في الهواء يحترق ، فوضع إبراهيم في المنجنيق وجاء أبوه فلطمه لطمة وقال له : إرجع عما أنت عليه ، وأنزل

٣٤٠