من هدى القرآن - ج ٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-10-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٣٩٩

الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨))

______________________

٩٧ [لدّا] : الله جمع ألد وهو المخاصم الشديد الخصومة.

٩٨ [ركزا] : صوتا خفيّا.

١٠١

وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً

هدى من الآيات :

في الدرس الأخير من سورة مريم يذكّرنا القرآن بسلسلة من الحقائق ، تلك التي ذكّرت بها الدروس السابقة ، وهي تصلح علاقتنا بالناس والأشياء : وأبرزها :

تذكرة الإنسان بيوم القيامة ، حيث يحشر المتقون مكرمين الى ربهم وفدا ، بينما يساق المجرمون الى جهنم ليردوها وردا ، وهذه التذكرة ليست تذكرة عقائدية فحسب ، وإنما تخلق أيضا معادلة في فؤاد الإنسان ذلك لأنه ، إذا عرف الإنسان بداية شيء ونهايته ، فانه يعرفه بصورة أفضل ، وبدون ذلك فان معرفته تكون ناقصة.

وإذا عرف الى أين تنتهي حياته الدنيا ، وما هو مصيرها فانه يكون قد حصل على معرفة عميقة بها ، فيتعامل معها معاملة سليمة ، علما بأن آيات سورة مريم ، كما الكثير من آيات القرآن ـ تهدف فيما تهدف ـ جعل علاقة الإنسان بالحياة الدنيا علاقة سليمة.

١٠٢

وتشير آيات هذا الدرس الى فكرة نفي الشرك ، وبالذات فيما يرتبط برفض فكرة الولد ، ولعلّ الحكمة في ذلك أن فكرة الولد هي التي تكمن وراء النزعة العنصرية وهي من العلاقات الشاذة بين الإنسان وبين الآخرين.

إن الإنسان الذي يحسب نفسه ابنا لله ، أو يحسب آباءه هكذا ، تكون علاقته بآبائه وجماعته وعشيرته شاذّة ، تتمحور حول (الشيء) ، بينما القرآن الحكيم يهدف تحرير الإنسان من العلاقة (الشيئية) في الحياة ، سواء كانت العنصرية أو العصبية اللتان هما من أبرز العلاقات الشاذة بين الإنسان وبين الآخرين. أو غيرهما من العلاقات الشيئية التي تخالفها علاقة القيم المعنوية التي تؤكد أنه ليس هنالك علاقة بين الله والإنسان سوى علاقتين ، علاقة الخلقة ، أي أن الله خلقنا ونحن عبيده ، وعلاقة الايمان والعمل الصالح ، وبالتالي علاقة القيم ، أما أيّة علاقة أخرى كعلاقة الانتماء العصبي الجاهلي ، فانها مرفوضة في الإسلام.

يذكرنا القرآن بهذه الفكرة ، ثم ينطلق بنا الى آفاقها البعيدة فتبين أن الإنسان عبد داخر لله ، وإن كل من في السماء والأرض آت للرحمن عبدا ، ويوم القيامة تسقط كل الانتماءات والعلاقات. ويحشرون الى ربهم أفرادا لا جماعات عنصرية أو عصبيّة. لنتصوّر ذلك اليوم .. ولنبرمج حياتنا وفقه.

فلان ابن من؟ أخو من؟ ينتمي الى من؟ لنحذف كل هذه الكلمات من حياتنا ، لكي نرى الحقيقة ، التي تتلخص في أن الإنسان ابن عمله وابن إيمانه فقط ، أما الانتماءات الأخرى ، فانها جميعا باطلة وليست بحقيقة.

وأخيرا تذكر الآيات بأن القرآن جاء لكي ينذر الإنسان ، ولكن من الذي يستفيد من نذر القرآن؟ إنهم المتقون ، أما المعاندون الذين قرّروا سلفا : عدم الايمان بآيات القرآن ، ولم يخشوا المستقبل ، ولم يهدفوا خلاص أنفسهم ونجاتها من

١٠٣

العذاب ، فان هؤلاء لن يستفيدوا من نذر القرآن ومواعظه ، وسيكون مصيرهم مصير تلك القرون ، التي هلكت ولم يعد يسمع لهم صوتا عاليا أو خفيا.

بينات من الآيات :

الحشر والشفاعة :

[٨٥] (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً* وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً)

هذا منظر من ذلك اليوم حيث يرى المتقون وفودا مكرمة ، يحشرون الى لقاء ربهم ، بينما يساق المجرمون كما تساق البهائم الى جهنم. إن هذا المنظر وحده يكفينا عبرة لكي نختار طريق المتقين ووفدهم ، على طريق المجرمين ووردهم جاء في حديث شريف مأثور عن تفسير علي بن إبراهيم عن أبي عبد الله (ع) قال : سأل علي (صلوات الله عليه) رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن تفسير قوله عز وجل : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) قال :

«يا علي الوفد لا يكون إلا ركبانا ، أولئك رجال اتقوا الله عز وجل فأحبهم ، وأخصهم ورضي أعمالهم ، فسماهم الله متقين ، ثم قال : يا علي أما والذي فلق الحبة وبرىء النسمة أنهم ليخرجون من قبورهم بياض وجوههم كبياض الثلج ، عليهم ثياب بياضها كبياض اللبن ، عليهم نعال الذهب شراكها من لؤلؤ يتلألأ»

وفي حديث آخر قال :

«إن الملائكة لتستقبلهم بنوق من نوق الجنة ، عليها رحائل الذهب مكلّلة بالدر والياقوت ، وجلالها (١) الإستبرق والسندس وخطامها جذل الأرجوان (٢)

__________________

(١) جلال ـ ككتاب ـ جمع الجل وهو للدّابة ـ كالثوب للإنسان تصان به.

(٢) الجذل ـ أصل الشجر الخشبي والأرجوان : شجرة صغيرة الحجم من فصيلة القرنيّات زهر وردي يظهر في مطلع الربيع قبل الأوراق.

١٠٤

وأزمتهم من زبر جد ، فتطير بهم الى المحشر ، مع كل رجل منهم ألف ملك من قدامه وعن يمينه وعن شماله ، يزفونهم (١) حتى ينتهوا بهم الى باب الجنة الأعظم ، وعلى باب الجنة شجرة ، الورقة منها يستظل تحتها مأة ألف من الناس. وعن يمين الشجرة عين مطهرة مكوكبة (٢) قال : فيسقون منها شربة فيطهر الله عز وجل قلوبهم من الحسد ويسقط عن أبشارهم الشعر. وذلك قوله عز وجل : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) من تلك العين المطهرة ، ثم يرجعون الى عين أخرى عن يسار الشجرة فيغتسلون منها : وهي عين الحيوة ، فلا يموتون أبدا»

ثم قال :

«يوقف بهم قدام العرش وقد سلموا من الآفات والأسقام والحر والبرد ، قال فيقول الجبار جل ذكره للملائكة الذين معهم : أحشروا أوليائي الى الجنة ولا تقفوهم مع الخلائق ، قد سبق رضائي عنهم ووجبت لهم رحمتي ، فكيف أريد أن أوقفهم مع أصحاب الحسنات والسيئات ، فتسوقهم الملائكة الى الجنة ، فاذا انتهوا الى باب الجنة الأعظم ضربوا الملائكة الحلقة ضربة فتصرّ صريرا (٣) فيبلغ صوت صريرها كل حوارء خلقها الله عز وجل وأعدها لأوليائه ، فيتباشروا إذ سمعوا صوت صرير الحلقة ويقول بعضهم لبعض : قد جاءنا أولياء الله فيفتح لهم الباب ، فيدخلون الجنة ويشرف عليم أزواجهم من الحور العين والآدميين ، فيقلن : مرحبا بكم فما كان أشد شوقنا إليكم ، ويقول لهم أولياء الله مثل ذلك»

فقال علي (صلوات الله عليه) : من هؤلاء يا رسول الله؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :

يا علي هؤلاء شيعتك المخلصون في ولايتك ، وأنت إمامهم وهو قول الله

__________________

(١) رف العروس إلى زوجها : أهداها ـ قال المجلسي «ره» في مرآة العقول ، أي يذهبون بهم على غاية الكرامة كما يزف العروس إلى زوجها.

(٢) كذا في النسخ ، لكن في المصدر وكتاب الروضة والمنقول عنهما في البحار «مزكية» وهو الظاهر.

(٣) صر صريرا : صوّت وصاح شديدا.

١٠٥

عز وجل : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) على الرحائل ، (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) (١)

من يملك الشفاعة؟

[٨٧] (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً)

الشفاعة في الدنيا نوعان : شفاعة باطلة وشفاعة صحيحة ، فاذا قلت : أنا ابن فلان ، وأنتمي الى الدين الكذائي دون أن أعمل بتفاصيله وأعماله ، فهذه شفاعة باطلة ، وكذلك لو قلت : إنني أنتمي الى هذا الحزب أو تلك المنظمة مما تعبد من دون الله ، فأنت لا تشفع لهم ولا هم يشفعون لك وإنما أنت شفيع عملك ، أي إنك قرين عملك ، وهو الذي يبقى معك ، ومن عمل الإنسان انتماؤه الصحيح الى الرسالة ، فاذا انتميت انتماء صحيحا إلى قائد أو إمام عادل ، وأطعته طاعة مخلصة لوجه الله سبحانه ، ثم أذنبت ذنبا صغيرا فان الله يعهد الى ذلك الامام بالشفاعة لك ، وهذه هي الشفاعة الصحية. ومن ثم فأنت في وفد المتقين ، وهذه فكرة الطاعة الواعية ، التي تستتبع الشفاعة حتى ولو لم يكن هناك رابطة عنصرية ولا عصبية ولا قومية بينك وبين ذلك الإمام ، ولكنك تطيعه لوجه الله ، فأنت تكون وليّا له ، وفي وفده يوم القيامة ومن هنا جاء في حديث شريف تفسير العهد باتباع الإمام العادل عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قلت : قوله : «لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» قال :

«إلّا من دان الله بولاية أمير المؤمنين والأئمة من بعده ، فهو العهد عند الله» (٢)

__________________

(١) نور الثقلين ج ٣ ص ٣٥٩ / ٣٦٠.

(٢) المصدر ص ٣٦٢.

١٠٦

الشفاعة الباطلة :

[٨٨] ثم يعود القرآن ـ بعد ذلك ـ لينسف فكرة الشفاعة الباطلة فيقول :

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً)

إنما قالوا ذلك ليكرسوا فكرة الشفاعة إذ أنهم يقولون : لأننا أولاد الله ، أو أبناء المتقين ، فسوف ندخل الجنة ولا يعذبنا الله شيئا!

والقرآن ينفي هذه الفكرة أساسا فيقول :

[٨٩] (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا)

أي ان فكرتكم هذه كذب عظيم فالله هو الذي خلق السماوات والأرض ، وخلق المنظومات الشمسية والمجرات والفضاء اللامتناهي ، ولو كان له ولد سبحانه لوجب أن يكون ولده بمستواه سبحانه.

[٩٠] (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا)

السماوات والأرض والجبال لا تتحمل تلك الكذبة المبتدعة ، والقرآن الحكيم يعطينا هذه الصورة ليوضح لنا : بأن هذه الكلمة ليست صغيرة في مقياس الحق ، فالذي خلق السماوات التي لا يمكن أن تحصى نجومها ، والذي خلق الأرض الواسعة ، هل يمكن أن يتخذ ولدا؟!

إن هذه فكرة غير متناسبة وعظمته سبحانه ، ولا مع أيّة قيمة من قيم الفكر ، وايّ مقياس من مقاييس العقل!!

يتفطّرن : أي يتفتتن ويتشققن.

ولعلّ هناك إيجاء آخر في هذه الآية ، هو : إن الكذبة الكبيرة هذه ، قد سببت جرائم كبيرة ، بحجم تفطر السماوات وانشقاق الأرض ، وهدّ الجبال ، مثل الجرائم التي قامت بها النازية في العالم ، أو التي قام بها العنصريون في جنوب إفريقيا ، وحتى الجرائم التي تقوم بها أمريكا وروسيا وسائر المستكبرين في العالم. وكلها ،

١٠٧

حين نبحث عن جذورها ، نجد أنها تنمو من أرض العنصرية الخبيثة ، حيث أنها ناشئة من تمحور الإنسان حول ذاته ، واعتقاده بأنه أفضل من نظائره.

أنظر ـ مثلا ـ الى الأفكار العنصرية التي زعمت بأن الحضارة ، إنما تنشأ من العنصر الآري لأنه العنصر الذي خلقه الله بشكل أفضل ، هذه السفاهة التي انتشرت بعد الثورة الفرنسية ، والتزم بها بعض النبلاء والأشراف ، وتورط فيها بعض علماء الاجتماع والتاريخ علما بأن الآريين لم يخلقوا الحضارة أصلا في أي فترة من فترات التاريخ ، وغاية ما في الأمر أنهم كانوا أسلاف اليونان الذين صنعوا الحضارة في التاريخ ، ومن بين واحدة وعشرين حضارة نشأت في العالم ، فان هذه واحدة منها فقط أما العشرون الباقية فهي غير أوربية ، وإنما الأوربيون استفادوا منها ، كما إنهم قد اقتبسوا من الحضارة الإسلامية كثيرا.

[٩١] (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً* وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً)

الرحمن الذي شملت رحمته كل عباده ، لا يمكن أن يفرق بين جنس وآخر ، ولا يمكن أن يقول أن البيض أو السود ، أو الأوربيين أو الآسيويين أو غيرهم ، هؤلاء دون غيرهم ، يستحقون رحمتي .. إنه الرحمن وآثار رحمته موجودة في كل مكان.

ـ نعم ـ إذا رأيت الشمس أشرقت فقط على آسيا ، أو على أوربا أو أن الرياح حملت السحب الى المدينة الكذائية ، أو أن قارة أوربا فقط هي التي أنبتت الزرع واحتوت على المعادن ، إذا رأيت مثل ذلك فربّما يكون لك الحق في أن تقول : أن أولاد هذه القارة هم أبناء الله سبحانه ، لكن شيئا من ذلك لا يشاهد ، فآثار رحمة الله تشمل كل شيء. إذن فهو لا يتخذ من بين عباده ولدا دون آخر وهذه هي العلاقة بين فكرة نفي الولد عن الله ، واستخدام كلمة الرحمن المكررة في هذه الآيات ، فلأنه الرحمن ، فهو لا يفضل بعض الناس على بعضهم دون أن يكون ذلك التفضيل نابعا من عملهم وسعيهم.

١٠٨

[٩٣] (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً)

هؤلاء جميعا متساوون أمام الرحمن في عبوديتهم له.

[٩٤] (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا)

إن الله لا يمكن أن ينسى أحدا من عباده أبدا ، سواء كان في غابة أو في كهف فهو عبد الله والله قد كتب له اسما ، وقرّر له مواهب ، وأجرى له رزقا ، وكذلك المتربّع على الكرسي في قصره العظيم. والذي ملأ أرصدته البنوك الأجنبية أحصاه الله وأحصى ذنوبه.

ولعلّ تكرار الآية بمعنى الإحصاء ثلاث مرات (أحصاهم ـ وعدّهم ـ عدّا) يعني أنه لا يمكن أن يفلت من حساب الله شخص أبدا لا صغير ولا كبير ، ولا غني ولا فقير ، فكلّهم سيحاسبهم ويجازيهم بما قدّموا من أعمال في حياتهم الدنيا.

[٩٥] (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً)

كل العلاقات الدنيوية المزيفة ستتساقط ، وسيأتون الرحمن بشكل أفراد ـ نعم ـ أن العلاقة الوحيدة المجدية بعد علاقة الخلق والعبودية التي تربط العبيد بربهم هي علاقة الايمان والعمل الصالح.

[٩٦] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا)

إن الله يحب هؤلاء وهم يحبونه ، وهذه هي العلاقة الصحيحة بين العبد وربّه ، لذلك أمر الرسول (ص) عليا (ع) أن يدعو ربّه ليرزقه الودّ في قلوب المؤمنين كما جاء في الحديث التالي :

في تفسير علي بن إبراهيم وأما قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

١٠٩

سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) فانه قال الصادق (عليه السلام) كان سبب نزول هذه الآية إن أمير المؤمنين كان جالسا بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له :

«قل يا علي : اللهم اجعل لي في قلوب المؤمنين ودا»

فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) ثم خاطب الله نبيه (ص) فقال : «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ» يعني القرآن «لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا» قال : أصحاب الكلام والخصومة.

[٩٧] ومن مظاهر رحمة الله ، انه يسّر القرآن ، وسهّل آياته وأوضحها ، لكي يستطيع الرسول أن يبشر بها المؤمنين وينذر بها المعاندين.

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا)

قوما لدّا : جماعة معاندين وجاحدين.

إن أكبر ما ينذر الإنسان هو الموت ، «كفى بالموت واعظا» لكن بعض الناس يقولون ، ليس من المهم أن نموت فأولادنا سوف يبقون ، وخطنا سوف يبقى ، وبهذه الأفكار يهوّنون على أنفسهم الموت ، ولكن القرآن ينفي ذلك ويقول : ليس أنتم وحدكم الذين تموتون ، بل سيموت معكم أبناؤكم وعشيرتكم ، ونهجكم وخطكم ، وكل شيء يرتبط بكم ، يهلك ويفنى ، وهذا أكبر إنذار للإنسان ، وإذا لم يتعظ الإنسان بذلك ، فانه سوف يواجه مصيره الرهيب.

[٩٨] (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً)

قد لا يبقى من الأمة أحد ، ولكن يبقى أثر من الآثار في بعض الصور أو بعض

١١٠

الكتابات أو .. أو ، ولكن القرآن يقول : لقد صفّيناها تصفية كاملة ، ولا حتى صوت يخرج منها لا عال ولا خفيّ ، جاء في حديث مأثور عن أئمة آل البيت (عليهم السلام) فيما وعظ الله عز وجل به عيسى (عليه السلام) :

«وطىء رسوم منازل من قبلك وأدعهم وناجهم هل تحس منهم من أحد ، وخذ موعظتك منهم ، واعلم أنك ستلحقهم في اللاحقين»

وكلمة أخيرة : إنّ فكرة اتخاذ الولد لها وجهتان :

الأولى : إنها تعطي للظالم حق الظلم.

الثانية : إنها تسلب من المظلوم حق التمرد ولذلك نجد المستعمرين أشاعوا هذه الفكرة بين الشعوب المستضعفة ، وانهم إنما تقدّموا لأن الله أراد لهم ذلك ، ولأن الطبيعة التي كانت حولهم كانت أسخى ، ولأن عقولهم كانت أكبر ولأن حظهم كان أوفر ، ولأي شيء.

وينسف القرآن الحكيم هذه الفكرة ويقول : لا تفكر أيها الإنسان ، إن للجنس الفلاني ميزة عليك وإن الله فضّله عليك تفصيلا ، كلا .. بل ربما يكون أقل منك عقلا ، وأرضه أقل سخاء وبالتالي فهو أقل تعرضا لرحمة الله منك ، وبالتالي فان الحضارة أقرب إليك ، وإنما تقدم من تقدم ، وتأخر من تأخر بسبب عمله ..

وأتصوّر إن إشاعة هذه الفكرة المعاكسة وترسيخها في الشعوب المستضعفة ، تلهمهم الاندفاع وتعطيهم الدافع نحو بناء حضارتهم والتخلص من نير المستكبرين.

١١١
١١٢

سورة طه

١١٣
١١٤

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

١ ـ عن النبي محمد (ص) قال :

«من قرأها أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار».

الثقلين / ص ٣٦٦ / ج ٣

٢ ـ عن الإمام الحسين (ع) قال :

«لا تدعوا قراءة طه فان الله سبحانه يحبها ويحب من قرأها ، أعطاه يوم القيامة كتابه بيمينه ولم يحاسبه بما عمل في الإسلام واعطي من الأجر حتى يرضى».

م البيان / ص ١ / ج ٧

١١٥
١١٦

الإطار العام

من المعروف إن اسم هذه السورة مستلهم من الكلمة الأولى التي نجدها فيها ، وهكذا أسماء كثير من سور القرآن تستلهم من الكلمات الاولى أو من بعض المشاهد البارزة في تلك السورة ، فسورة يس استلهم اسمها من كلمتها الاولى ، أما سورة الطارق فقد استلهم اسمها من كلمة بارزة فيها.

والسؤال : ما هو الموضوع الذي تبحثه آيات سورة طه؟

يحدد البعض من المفسرين نظراته حول سور القرآن عبر الموضوعات العامة والمشتركة بينهما وبين سائر السور ، فكلّ سور القرآن في تصوره تدور حول ضرورة توحيد الله ، والايمان بحاكميته المطلقة على الأرض والسماء والإنسان وهكذا.

ولا شك ان هذا صحيح ، ولكن لا يكفي ذلك وحده فالمواضيع الهامة موجودة في كلّ السور ، فلما إذا تكررت؟ وما هي الفوارق بينهما؟ وهل يكفي لنعرف مدينة أن نقول بأنها بنيت من الطوب والاسمنت ، وان شوارعها معبدة؟ أم انه يجب أن

١١٧

نرسم خريطة تفصيلية لها ولشوارعها ، وأسواقها وجغرافيتها الطبيعية ، وجغرافيتها الاقتصادية ، والبشرية وما أشبه ، لكي يتضح الفرق بينها وبين المدن الأخرى؟

إن العلم هو إحاطة بدقائق الأمور ، وحدود الأشياء التي تفضلها عن سواها.

وعلم التفسير ـ بدوره ـ يجب أن يحيط خبرة بالموضوعات المتميزة في سور القرآن ، وما يميّز هذه الموضوعات عن مثيلاتها في سائر السور مع العلوم والمعارف الجديدة التي تستلهم من كلّ سورة ، ومن كلّ آية من هذه الآيات ، بل حتى الآية الواحدة التي تأتي في القرآن مرتين بنفس الألفاظ وبنفس التعابير ومن دون أية زيادة أو نقيصة يجب أن نبحث فيها عن معارف جديدة تميزها عن التي سبقتها أو تلحقها بسبب اختلاف السياق.

فهل إنّ معنى «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» في كلّ سور القرآن واحد؟ كلا .. إنّ كلّ سورة تبحث عن قضية و «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» في تلك السورة مرتبطة بتلك القضية.

إذا أراد المؤمن القيام يقول بسم الله ، وإذا أراد الطعام يقول كذلك بسم الله ، وإذا أراد الذهاب قال بسم الله ، وإذا أراد الكتابة قال أيضا بسم الله ، فهل هذه الكلمات ذات معنى واحد؟ كلا .. بل يقول بسم الله أقوم ، وبسم الله أجلس ، وبسم الله آكل ، وبسم الله أذهب ، وبسم الله أكتب ، فهو يستعين بالله الذي أعطاه القدرة على القيام ، وتفضل عليه بنعمة الطعام ، وأعطاه العقل ، وهكذا لا تعني البسملة ذات المعاني في مختلف المجالات التي ينتفع بها.

وكذلك في القرآن الحكيم نزلت ـ بسم الله الرحمن الرحيم ـ مع كلّ سورة ، ولم تنزل مرة واحدة في القرآن كله ، وإلّا لم يكن الرسول يجعلها في رأس كلّ سورة

١١٨

وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحي يوحى ، وترتيب القرآن بهذه الصورة لم يكن اعتباطيا انما هو من توجيه الرسول (ص) إذ كان يأمر بوضع آيات القرآن في مواضعها المحدودة لها من قبل الله تعالى ، كما يظهر ذلك من ملاحظة سياق الذكر ويدل عليه التاريخ.

إذا فلما ذا جعل القرآن ـ بسم الله الرحمن الرحيم ـ على رأس كلّ سورة ، فإن لم تكن هذه الآية قد نزلت فمن المستحيل على الرسول أن يضيفها من تلقاء نفسه ، وإلّا فلما ذا لم يكرر آية أخرى أو كلمة أخرى؟!

فان أيّة آية جديدة تنزل من السماء مرة جديدة ، لا بدّ أن تحمل فكرة جديدة أيضا ، ففي تفسيرنا للآيات القرآنية ، وفي معرفتنا للسورة القرآنية وموضوعاتها يجب أن نبحث عما يميزها عن سائر الأمور ، في نفس الوقت الذي نبحث عن الخطوط العامة المشتركة بينها وبين سائر السور.

فآيات القرآن متشابهات (بعض آياته مثل بعضها) لأن أصولها واحدة وبلاغتها واحدة ، وفي نفس المستوى ، إذ كلّ آيات القرآن تدل على الاعجاز ، كما تدل على انها من الله ، وليست من البشر ، ولكن ـ في نفس الوقت ـ نجد ان لكلّ آية من آيات القرآن موضوعا خاصا بها ، وموضوعات أعمّ بالنسبة الى سياقها ، وأعمّ بالنسبة الى السورة الواحدة التي نجد الآية فيها ، فما هو الموضوع الرئيسي في سورة طه؟

أكثر من تسعين آية من آيات هذه السورة البالغة مائة وخمسة وثلاثين آية تبحث قصة موسى ، والأربعين آية الباقية منها تبحث مواضيع شتى ، من بينها قصة أبينا آدم عليه أفضل الصلاة والسلام ، وسبب خروجه من الجنة ، وكيفية إغواء إبليس له.

فهل هذه السورة كسورة يوسف ، حيث تبحث عن قصة موسى ، كما كانت

١١٩

تلك السورة تبحث عن قصة يوسف؟

حدثنا القرآن الحكيم عن قصة بني إسرائيل وقصة موسى معهم في سورة البقرة ، ويحدثنا عن موسى وقصته مع قومه ومع فرعون كما يحدّثنا أيضا عن السحرة ، فما هو الفرق؟

الفرق هو إن القرآن الحكيم في سورة البقرة ـ مثلا ـ انما يحدثنا عن الجانب الاجتماعي والأمني ـ إن صحّ التعبير ـ لنبي إسرائيل ، باعتبارهم أمة مستضعفة قاومت المستكبر واتصفت بصفاته عند ما بنت حضارتها وكيف انسجت عليها تلك الصفات فبدأت بحركة للتطهير وما أشبه.

هذه الموضوعات نجدها في سورة البقرة في حديثها عن بني إسرائيل ، أما قصة بني إسرائيل وقصة موسى عليه الصلاة والسلام معهم ومع فرعون في سورة طه ، فانها تتناول جانبا آخر هو جانب الإنسان في هذه القصة.

الإنسان الذي خرج من الجنة بسبب غريزتيه الذاتيتين اللتين انحرفتا وتضخمتا وهما غريزتا التملك وحب الخلود ، هذا الإنسان نجده عند فرعون وقد اكتملت فيه أسباب الانحراف حتى أوصلته الى أبعد ضلالة ، ونجده عند موسى وقد قاوم الغريزتين فاكتملت فيه صفات الاستقامة ، ونجده في الصراع بينهما الذي يتمخض عن مفاجأة هامة ، هي السحرة الذين انحرفوا حتى وصلوا في انحرافهم الى حدّ انهم أصبحوا أدوات بيد الطاغوت فرعون ، ثمّ مرة واحدة وبسبب تلك الانسانية الكامنة فيهم وصلوا الى القمة.

هذا هو الإنسان ، والقرآن يركز الضوء على هذا الإنسان ، ليس بصورة عامة كما نلاحظ ذلك في سورة الأعراف مثلا ، بل بصورة خاصة يركز الضوء على علاقة

١٢٠