من هدى القرآن - ج ٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-10-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٣٩٩

ان سجود الملائكة الموكلة بالطبيعة للإنسان يعني ان الله سخرها للبشر ، بلى يبقى إبليس موكل بالنفس الأمارة التي لن تسجد لله الا ان يجبرها الإنسان على ذلك.

[١١٧] (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى)

بيّن الله لآدم وزوجه ، أن إبليس عدو لهما ، يسعى لاخراجهما من الجنة ، ونستفيد من هذه الآية عدة أفكار :

١ ـ ان الإنسان بحاجة الى ان يعرف عدوه إبليس ويتذكر ذلك أبدا.

٢ ـ ان عداوة إبليس للمرأة كعداوته للرجل ، وبالتالي على المرأة أن تكون على أشد الحذر كما على الرجل سواء بسواء.

٣ ـ ان هدف الشيطان هو إضلال البشر وجرهم الى الشقاء المادي والمعنوي ، ووسيلته في ذلك التغرير والمكر والخداع!

[١١٨ ـ ١١٩] (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى)

هذه أربع من النعم المادية التي أودعها الله في الجنة وهي (نعمة الأكل واللباس والشراب ، والمسكن).

[١٢٠] ولكن هل يترك الشيطان الإنسان لسبيله؟ .. كلّا.

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى)

٢٤١

نستوحي من هذه الآية الكريمة أفكارا عديدة تعالج قضايا هامة ، لا زال بعضها موضع بحث ودراسة عند المفسرين :

١ ـ ان الشيطان يوسوس للإنسان ، فيستثير طبائعه الدفينة ، ويدغدغ تمنياته المكبوتة ، ويحرك تلك الغرائز الخامدة ، وهو يفعل كل ذلك بهدف التشويش على بصره ، والتمويه عليه ، وزرع الشبهات في قلبه ، وإلقاء التبريرات والتسولات في نفسه.

وهكذا لا يكفي الحذر من إغواء الشيطان المباشر ، بل علينا أن نعرف أنه يشوش علينا ، ويشبه الأمور ويخلط الحق بالباطل ، ويمكر ويكيد ، ويغر ويخدع ، إن علينا أن نكون في قمة الحذر ، والا وقعنا في شركه.

٢ ـ وآدم أول من وقع في مصيدة إبليس ، فهو لم يعزم عصيان ربه ، بل أنساه الشيطان أمر الرب ، وخدعه حيث حلف له بالله كذبا أن الله لم ينهه عن تلك الشجرة.

ولم يكن آدم يعلم أن من الممكن أن يحلف أحد بربه كاذبا ، ثم شبه عليه بأن المنهي عنه انما هو شجرة معينة من الحنطة ، وليس كل أشجار الحنطة ، وهنا استفاد إبليس من نقطة ضعيفة عند البشر حيث يتهرب من المسؤولية بأدنى تبرير ، وكانت أداة وسوسته اثارة مشاعر حب الخلود والملك عند البشر ، جاء في حديث شريف عن جميل بن درّاج عن أحد الصادقين عليهما السلام : «سألته : كيف أخذ الله آدم بالنسيان؟ فقال : انه لم ينس ، وكيف ينسى وهو يذكره ويقول له إبليس : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ)» (١).

__________________

(١) المصدر ص ٤٠٢.

٢٤٢

٣ ـ غريزتا الملك وحب الخلود غريزتان متأصلتان في أعماق الإنسان ، فبالرغم من أن الله أسكن آدم وحواء الجنة ـ وهي دار الخلود ـ الا انهما لا زالا ينتابهما الشعور بالنهاية ، وقد أثار الشيطان فيهما هاتين الغريزتين ، وهكذا انخدع آدم بإبليس الذي زين له الأكل من الشجرة المحرمة ، وكانت النتيجة أنه طرد من الجنة وأهبط الى الأرض.

وانما خدع آدم حين أثار إبليس فيه غريزتي (حب الملك وحب الخلود) ، ومن المعلوم انه لم يكن الهدف من خلق هاتين الغريزتين في النفس ان يستخدمهما الشيطان في اغوائه الإنسان ، انما أعطاه الله حب الملك والسيطرة ، لكي يستعمر الأرض ويتحمل الصعاب والمشاق في سبيل ذلك ، وأعطاه حب الخلود لكي يحافظ على نفسه من جهة ، ولكي يعرف انه خلق للبقاء ولكن ليس في هذه الدنيا ، بل في الآخرة ، وانه لو لم يخلد في الدنيا ، فان هناك دارا أخرى سيخلد فيها.

ولكن إبليس كعادته يحرف غرائز الإنسان ، التي لو استفاد منها استفادة سليمة ، إذا لكانت وقوده في الطريق الصاعد ، أما لو استخدمها بصورة غير سليمة ، فانها ستكون سببا لهبوطه وترديه.

والشيطان حينما يوسوس للبشر فهو قد لا يتراءى له ، ولكنه يأتيه في صورة خواطر وأوهام.

(فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ)

كانت نتيجة اقترافهما السيئة أن بدت لهما سوآتهما بعد أن البسهما الله الرياش.

٢٤٣

(وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى)

عصى باقترافه الخطيئة ، أو تركه الهدى ، وغوى عن رحمة ربه الى دار الشقاء إذ من معاني الغواية الضياع.

[١٢٢] (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى)

وفي هذه الآية اشارة الى ان بيد الإنسان نفسه سعادته أو شقائه ، وانه لو وقع في فخاخ الشيطان وانحرف عن الجادة ، فان امامه فرصة التوبة التي هي معراجه الى الفضيلة.

وهناك حديث مأثور عن الامام الرضا (ع) يوضح الكثير من الشبهات في الآية ، والحديث كالتالي :

يقول علي بن محمد بن الجهم قال : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا (ع) فقال له المأمون : يا بن رسول الله أليس من قولك ان الأنبياء معصومون؟ قال : بلى ، قال فما معنى قول الله عز وجل : «وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى»؟ قال (ع) : ان الله تعالى قال لآدم : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) ، وأشار لهما الى شجرة الحنطة «فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» ولم يقل : ولا تأكلا من هذه الشجرة ، ولا مما كان من جنسها ، فلم يقربا من تلك الشجرة ، وانما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهما ، وقال : «ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ» وانما نهاكما ان تقربا غيرها ولم ينهكما عن الأكل منها «إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ» «وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ» ولم يكن آدم وحوا شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذبا «فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فأكلا منها» ثقة بيمينه بالله وكان ذلك من آدم قبل النبوة ، ولم يكن بذنب كبير استحق به دخول النار ، وانما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء

٢٤٤

قبل نزول الوحي عليهم ، فلما اجتباه الله تعالى ، وجعله نبيا معصوما لا يذنب صغيرة ، ولا كبيرة ، قال الله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى * ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) وقال عز وجل : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (١).

وكلمة أخيرة :

ان الشيطان يقدر على إغواء البشر ما دام الإنسان مغرورا بنفسه ، غير مستعيذ بربه من شر إبليس وخدعه واحابيله ..

وهكذا وقع آدم في شرك إبليس حيث اعتمد على نفسه ، فعلينا أن نعرف مدى خطورة الشيطان فنستعيذ أبدا منه بالله سبحانه.

ونكرر : أعوذ بالله القوي من الشيطان الغوي.

جاء في حديث شريف عن الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) :

«فقال لهما لا تقرباها يعني لا تأكلا منها فقال آدم وزوجته : نعم يا ربنا لا نقربها ولا نأكل منها ، ولم يستثنيا في قولهما ، نعم (لم يقولا الا ان يشاء الله) فوكلهما الله في ذلك الى أنفسهما والى ذكرهما» (٢).

__________________

(١) المصدر ص ٤٠٣.

(٢) المصدر ص ٤٠٢.

٢٤٥

قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ

______________________

١٢٤ [ضنكا] : ضيّقة.

١٢٨ [أفلم يهد لهم] : أفلم يبيّن لهم ، وألم يرشدهم : وهذا استفهام استنكاري.

٢٤٦

سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠)

______________________

١٣٠ [متربّص] : منتظر ليرى المصير ، وينتظر لمن الغلب ، وأيّنا يعذّب وأيّنا ينعّم؟.

٢٤٧

هدى الله معراج الفضيلة

هدى من الآيات :

الإنسان مزيج من حفنة من تراب وومضة من نور ، والأولى هي التي تحتوي على جوانب ضعيفة ، أما الثانية فتستر سوءات التراب ، فارادة الإنسان تستر شهواته ، وعقله يستر جهله ، وتقواه تستر غرائزه ، ولو لا هذا الجانب الخيّر في حياته لكان أضعف وأعجز من كثير من الأحياء.

نعم إن لباس التقوى هو أفضل ما يستر به الإنسان عجزه وجهله وغروره ، ولو لا هذا اللباس لما تدافن الناس ، ولو تعرى كلّ إنسان للثاني ، لظهر أشد سبعية من الذئب ، وأخبث حيلة من الثعلب ، وألدغ من الحية ، والذي ينزع عن نفسه هذا اللباس فان أمامه طريقا عريضا ، ليعود الى الله ، مرة أخرى عبر التوبة.

والإنسان إنّما يضعف ويذنب ، حينما ينشدّ الى التراب ، بينما يسمو حينما يميل الى جانب النور ، وإنّما هبط آدم عند ما تأثر بترابيته لا بروح الله التي نفخها فيه.

٢٤٨

ولما خدع الشيطان آدم أنزله الله الى الأرض ليخوض صراعا عنيفا بين الحقّ والهوى ، بين من يتبع هذا ومن يتبع ذاك ، وهذا ما يجعل الإنسان محتاجا الى رسالات الله لتهديه الى سبيل الرشاد والسعادة ، فمن اتبع هدى الله فلا يضل عن الطريق ، ولا يصيبه الشقاء ، أما من اتبع هواه وأعرض عن ذكر الله ، فانه يخضع لضغوط الشهوات ، ويعيش في زنزانة الجهل والجهالة ، ويصاب بمعيشة ضنك ، أما يوم القيامة فيبعث أعمى ، وحين يتساءل عن ذلك يأتيه الجواب : أو لم تنس آيات الله؟ بلى فأنت اليوم تنسى.

إن المسرفين الذين يكفرون بآيات الله لهم عذاب شديد ، في الدنيا ـ كما أهلك الله القرون الغابرة وأشدّ منه وأبقى في الآخرة.

إنّ الله سبحانه وتعالى يهمل الكفار لأجل مسمّى ، ولو لا ذلك لأخذهم بكفرهم.

بينات من الآيات :

[١٢٣] (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)

لقد هبط آدم وزوجته فقط ، وقد أكّد القرآن ذلك حين جاء الحديث بلفظ التثنية (اهْبِطا) ، ولكنه بعدئذ يقول : (جَمِيعاً) فلعلّه يضم إبليس معهما ، ثمّ يقول : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) بصيغة الجمع ، لما ذا؟

لأنّ آدم لم يختلف مع زوجته في الأرض أبدا ، بل ظلّ على وئام معها ، حتى صارت لهما ذرية فانقسم هؤلاء ، فمنهم من اعتنق مبادئ الخير ، ومنهم من اعتنق مبادئ الشرّ ، فنشب الصراع بين الطرفين.

(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى)

٢٤٩

الضلالة هي الانحراف والشقاء نتيجتها ، ولكن الذي يتبع هدى ربه لا يضل ولا يشقى ، لأنه يسير في الطريق الصحيح الذي يوصله الى أهدافه ، ولعلّ الضلالة تعني الجانب المعنوي ، بينما الشقاء يعني الجانب المادي ليتقابل مع قوله سبحانه في الآية التالية ، (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) يعني من لم يتبع هدى الله.

[١٢٤] (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي)

من يعرض عن ذكر الله ، وعن الحقّ ، وأبرز قضاياه هو تولي القيادة الشرعية ، فانه لا يعرف كيف يستفيد من الحياة لذلك يشقى فيها.

(فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً)

أي معيشة ضعيفة تضغط عليه وتجلب له التعاسة ، برغم مظاهر الثروة التي قد يكون متلبسا بها ويغبطه الناس عليها ، والواقع : إن ضنك العيش يتمثل في واحد من بعدين :

١ / فقد يكون بسبب نقص الوسائل المادية التي توفرها المناهج الالهية ، والتي لن توجد من دونها إلّا مؤقتة ومشوبة بالمشاكل الأعظم منها.

٢ / وقد تضيق النفس بالحياة وتصبح حرجة قلقة ، غير مطمئنة ولا راضية حتى ولو توفرت الوسائل المادية ، إذ النفسية المعقدة التي تتراكم عليها الصفات الرذيلة كالحسد والحقد والكبر والغرور يعيش صاحبها في زنزانة ضيقة ولو كان جسمه في روضة فيحاء.

وفي السياق إشارة الى بعض جوانب السعة والضيق في القلب.

(وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى)

٢٥٠

ولماذا يعمى الإنسان في الآخرة؟ لأنه قد ترك الانتفاع بالبصيرة في الدنيا ، ذلك لأنّ العمى في القرآن منه ما هو عمى البصر ومنه ما هو عمى البصيرة ، كما قال الراغب في قوله سبحانه : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) فالأوّل عمى البصيرة والثاني عمى البصر ، ولعلّنا نستطيع أن نعبر عن عمى البصيرة بعدم الوعي ، والذي يعمى عن النور لا بدّ أن يعمى عما يضيئه ذلك النور من الحقائق ، فهدى الله نور جاء ليضيء الحقائق ، ويبين السنن الحاكمة في الحياة ، وبديهي إنّ من يعرض ببصره وبصيرته عن رؤية ذلك الهدى ، سيعمى عن حقائق الحياة وسننها ، وسيصعب عليه تمييز الخير عن الشر ، وسيتجسد في الآخرة في عمى ظاهر هو عمى العين ، لذلك يقول تعالى

[١٢٥] (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً)

يبدو من الآية إنّ الرجل لم يكن من الكفار ، إنّما ممن نسي آيات الله بعد أن جاءته ، ولذلك احتار في سبب عماه وتساءل : (رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى) وأضاف : (وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) ولو كان كافرا إذا لم ينسب نفسه الى البصر ، وربنا حين أجابه ، ذكّره بأنه نسي آيات الله ، ولم يقل أنه لم يؤمن بها ، هكذا جاءت النصوص تفسر الآية بمن ترك الولاية الالهية أو الحج المفروض ، فقد روى أبو بصير قال : سمعت أبا عبد الله يقول : «من مات وهو صحيح موسر لم يحج ، فهو ممن قال الله عزّ وجل : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) قال قلت : سبحان الله ، أعمى! قال نعم أعماه الله عن طريق الحقّ» (١)

وحينما يسأل الضّال ربه عن سبب عماه يأتيه الجواب :

__________________

(١) نور الثقلين ج ٣ ص ٤٠٦

٢٥١

[١٢٦] (قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى)

أي أهملتها كما ينسى شيئا ، وكذلك تهمل في النار كمن نسي شيئا ، ويبدو من هذه الآية أن مشكلة الإنسان هي إهماله لتعاليم الرسالات الالهية ، بسبب عدم الجدية (العزم) فيها ، وعلاج هذه الآفة بذكر الله تعالى ، عبر الصلوات الخمس والعمل الصالح ، فالصلاة تذكر المؤمن بربه باستمرار ، وبالتالي تذكره بأوامره ونواهيه التي بلغها الرسل ، ومن خلال ذلك يعرف الحياة وسبل تسخيرها ، فيفوز في الدنيا والآخرة.

[١٢٧] ما الذي يجعل الإنسان لا يؤمن بآيات الله ، إيمانا عمليا ينعكس في واقع حياته ، ويلتزم بأحكام الدين بجد وعزم؟ الجواب : إنّها نزعة الإسراف الكامنة في نفسه ، والتي تدعوه الى الاستزادة من متع الدنيا الزائلة ، حيث إنّ التمسك بالدين يتطلب شيئا من الصبر والتحمل والتضحية ، ولعلّه لذلك يقول الربّ سبحانه :

(وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ)

والإنسان الذي يحاول الهرب من صعوبات الحياة بالالتفات على آيات الله ، فانه سيواجه في الآخرة نفس الصعوبات والمشاق ، وقد اكتسبت صفتين خطيرتين هما الشدة أولا ، والامتداد الزماني الذي يصل الى درجة الخلود ثانيا.

(وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى)

[١٢٨] (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى)

الذي لا يتعظ إمّا لا يشعر بالخطر فيأمن من مكر الله ، أو لأنّ قلبه قاس لا يستطيع أن يستوعب به العبر ، ولا يستفيد من العبر إلّا اولي النهى (أصحاب

٢٥٢

العقول).

[١٢٩] (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى)

كلمة الله سبقت بتأخير العذاب ، وإلّا لكان لزاما أن يصبّ الله عليهم عذابه ، إنّ من رحمة الله بالإنسان أن ترك له فرصة كي يهتدي ولم يعاجله بالعقوبة.

[١٣٠] بما ذا نتقي النسيان؟ نتقي النسيان بأمرين :

الأول : الصبر.

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ)

عدم التأثر بكلام الكفار وأفكارهم السلبية ، وعدم مجاراتهم في كلامهم.

الثاني : ذكر الله بالتسبيح دائما.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ)

صلاة الصبح.

(وَقَبْلَ غُرُوبِها)

صلاة العصر.

(وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ)

صلاتي المغرب والعشاء.

(وَأَطْرافَ النَّهارِ)

٢٥٣

أي وسط النهار وهي صلاة الظهر.

(لَعَلَّكَ تَرْضى)

وهذه الكلمة تقابل (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) ، فالمعيشة الضنك هي معيشة الإنسان التي تحبس نفسه بسببها في زنزانة السخط على الحياة ، أما المعيشة الرحبة فهي معيشة الإنسان الراضي بقضاء الله تعالى.

٢٥٤

وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥))

٢٥٥

سلبيات النفس البشرية

هدى من الآيات :

تحدثنا سورة طه عن الإنسان وتقص علينا أنباء أربعة نماذج بشرية هم : موسى وهارون ، وهما أعلى قمة بشرية ، ثم السحرة الذين اهتدوا بعد الضلالة ، ثم فرعون في الحضيض ، وأخيرا : جنود فرعون الذين استخفهم فأطاعوه وأضلهم وما هدى.

وفي الدرس الأخير تلخص السورة عبرها ، وتبين : سلبيات النفس البشرية ، بعد أن أشار الى عوامل الانحراف فيها ، ذلك ان معرفة الإنسان بنفسه ، وبالعوامل المؤثرة فيها ، تساعده على الاختيار السليم وحيث : ان القرآن يبصرنا في هذه السورة بحقيقة وساوس الشيطان ، وكيف ان النسيان (وعدم العزم) ، والغفلة عن مكر الشيطان ، وإهمال ذكر الله ، كل أولئك يهبط البشر من جنته الى أرض الصراع.

بلى ان هناك مجالا للإنسان أن يسمو ويسبق الآخرين ، ولكن ينبغي أن يكون

٢٥٦

تسابقه معهم شريفا يتجه نحو البناء ، والا يكون على حطام الدنيا والا يتحول الى صراع هدام.

ولكي نبتعد عن الضلالة ، ولا نتأثر بعامل الحسد ، فيصير التنافس صراعا ، علينا أن نذكر الله تعالى وان نقيم الصلاة ، ونأمر بها أهلنا ، لأنهم قد يؤثّرون علينا سلبا لو لم يكونوا مؤمنين ، فالصلاة معراج المؤمن ، ومن يعرج الى الله ، لا يتأثر بضغوط الهوى ، ولا بزينة الحياة الدنيا.

ثم يشير القرآن الى سبب من أسباب الضلالة ، وهو عدم القناعة بقضاء الله ، ولا ريب ان الذين يحملون هذه الروح لن يقبلوا برسل الله ولا برسالاته ، وسيبررّون موقفهم هذا بطلب المزيد من الآيات والدلالات الحسية المادية ، ولكنهم يغفلون عن حقيقة هامة ، وهي ان كثيرا من الأنبياء السابقين كانت لهم آيات ومعجزات ظاهرة ، كعصا موسى ومعاجز عيسى من قبيل احياء الموتى وإشفاء المرضى ولكن مثل هؤلاء الناس لم يؤمنوا بهم.

بينات من الآيات :

[١٣١] (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى)

النعم التي يمن الله بها على الإنسان تكون لحكم مختلفة وغايات متباينة ، فقد تكون للابتلاء والاختبار لمن هو في مستواها ، لعل نفسية شخص لا تتحمل النعم العظيمة ، وبالتالي لا يكون من الحكمة تحميله مسئولية تلك النعمة العظيمة ، فالأفضل ـ إذا ـ الّا تطاول بنظرك الى نعم الله على الآخرين.

وقد تكون للزيادة في الإثم واستدراج الفرد نحو مصيره الأسود.

٢٥٧

وكثيرون هم الذين يسقطون في الامتحان فيحق عليهم العذاب ، فلا داعي اذن ان يحسد الإنسان الآخرين على ما في أيديهم من نعم الله ، بل يقنع بما في يده ما دامت النعم تعطى بحكمة للبشر ، ولو فكر ان يستزيد من الفضل فليكن ذلك بالطرق المشروعة .. بالعمل والسعي بدل المكر والسرقة.

[١٣٢] ان التنافس على حطام الدنيا لا يختص بالرجال فقط ، بل قد نجد البعض يرضى بقسمته من العيش ، الا ان اهله هم الذين يدفعونهم الى التكاثر من زينة الحياة ، ودائما يقولون له : أفلا ترى أهل فلان كيف يتنعمون بالرخاء ، أفلا تعمل كما يعمل لأهله؟ فما هي إذا مسئولية الإنسان تجاه أهله؟ الجواب : عليه أن يكون فاعلا في أسرته وليس منفعلا ، فلا يتأثر لضغوطهم الشيطانية ، وذلك عبر تربيتهم على الروحانيات ومن أبرزها الصلاة.

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ)

وتدل هذه الآية على ان الصلاة ليست عبادة فردية يؤديها الفرد تجاه ربه فقط ، بل هي أيضا عمل اجتماعي متكامل الأركان ، نستفيد ذلك من كلمتي (الأمر ، والاصطبار) ، فالأولى تدل على ضرورة الالتزام الاجتماعي بهذه الشعيرة ، بينما تدل الثانية على ان الصلاة تتطلب أعمالا أخرى فيها مشقة وتعب ، فهي بحاجة الى الصبر والاستمرار.

فالصلاة على سبيل المثال تحتاج الى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والالتزام الحاد بتعاليم الشريعة في كافة مجالات الحياة ، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية و.. و..

ونهتدي من الآية الى أن الصلاة باب من أبواب الرزق ، كما أن فائدتها تعود

٢٥٨

على مقيمها ، مما يجعل الإنسان يقبل عليها بشوق وتلهف ، لأن وراءها الرزق والخير أيضا.

(وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى)

لكي نوضح بعدا من أبعاد هذه العبارة القرآنية نضرب المثل التالي : قد يأكل الإنسان أكلة شهية ، ولكنها تحتوي على ميكروب لا تراه عينه ، فهو وان شعر باللّذة الآنية ، الا انه سيجد نفسه طريح الفراش في المستقبل القريب ، بسبب تكاثر الميكروب ، والآلام التي يسببها ، مما يجره الى إنفاق الكثير من الوقت والمال بين الأطباء والمستشفيات طلبا للصحة ، بينما يأكل آخر أكلة متواضعة ولكنها نظيفة فيحصل على فوائدها.

ان المفاسد الاجتماعية تشبه الميكروب في الطعام ، فالإنسان الذي يكتسب المال عن طريق الحرام ، كالسرقة ، والاحتيال على الناس ، هذا وان حصل على كثير من المال ، فان عاقبته غير حسنة على صعيد الدنيا حيث يبغضه الناس ، وقد يقع ضحية لظلم الآخرين وسرقتهم واحتيالهم ، إذ كما ان في المجتمع من هو أضعف منه يمارس تجاهه الظلم ، فكذلك فيه من هو أقوى منه يستطيع ان يظلمه ، لكل عمل انعكاسا اجتماعيا يشبه أمواج الصوت ، ترتد الى صاحبه قريبا أو آجلا ، ذلك لأن المجتمع وجود حي يتفاعل أعضاؤه فيما بينهم ، فمن عمل بالظلم فانه يكرس قانون الظلم في مجتمعة ، وسيصبح في يوم ضحية هذا القانون ، والحديث الشريف يقول :

«من طرق باب الناس طرق بابه»

اما الإنسان الذي يتقي ، فانه وان لم يحصل الا على قليل من المال لكنه يحس بالبركة والراحة الدائمة في الدنيا ، كما يكون سعيدا في الآخرة برضى الله وجنته.

٢٥٩

ان موقف الإنسان من نعم الله المادية هو موقفه من نعمه الرسالية المعنوية ، فترى الذين لا يرضون بنعم الله عليه ويمدون أعينهم أبدا الى ما لا يملكون من النعم ، لانعدام الشكر والرضا والطمأنينة عندهم ، هم الذين يطالبون الرسل أبدا بآيات جديدة ، ولا يرضون بما أنزل الله معهم من آيات مبينات.

[١٣٣] (وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ)

انهم يطالبون بآية جديدة تشهد على صدق الرسالة فيجيبهم الله :

(أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى)

لقد أحاط الله رسوله ورسالته بالآيات الواضحات ، كالأخبار التي جاءت في الصحف الأولى (التوراة والإنجيل ، ...) التي تنبئ كلها بقدوم النبي محمد (ص) ، وتذكر سائر الصفات والأحوال المتصلة به ، وقد تحققت امام أعينهم صدقا وعدلا ، ولكن عمى قلوبهم وطلبهم المزيد من الآيات منعهم من الايمان بها.

[١٣٤] ان العيب موجود فيهم حيث لا تقنع بمعطيات الواقع ، ولا ترضى بحكم الله ، فاذا بعث الله إليهم رسولا منذرا مؤيدا بالحجج والآيات الواضحة اعرضوا عنه وعنها ، وقالوا نريد معجزات حسبما تراها أعيننا وتلمسها أيدينا ، وحين ترسل إليهم الآيات المدمرة يقولون لقد كنا على استعداد للايمان لو أرسل الله إلينا رسولا ينذرنا بهذا المصير.

(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى)

ان موقفهم المتعصب لا يعطيهم فرصة للايمان بالله والخضوع لحاكميته ، ولو كانت الآيات مليء الأرض والسماء ، ذلك ان الآيات لا تنفع بدون العقل والتفكر

٢٦٠