من هدى القرآن - ج ٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-10-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٣٩٩

الربّ تبارك وتعالى ملائكة الى السماء الدنيا ولم يبق شيء إلّا طلب الى ربه ، وقالت الأرض يا ربّ ليس على ظهري أحد يعبدك غيره فيحرق؟! وقالت الملائكة : يا ربّ خليلك إبراهيم يحرق؟! فقال الله عزّ وجل : إنّه إن دعاني كفيته ، وقال جبرئيل : يا رب خليلك إبراهيم ليس في الأرض أحد يعبدك غيره سلطت عليه عدوه يحرقه بالنار؟ فقال : اسكت إنّما يقول هذا عبد مثلك يخاف الفوت ، هو عبدي آخذه إذا شئت ، فان دعاني أجبته ، فدعا إبراهيم (ع) ربه بسورة الإخلاص ، يا الله يا واحد يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد نجني من النار برحمتك ، قال : فالتقى معه جبرئيل في الهواء وقد وضع في المنجنيق ، فقال : يا إبراهيم هل لك إليّ من حاجة؟ فقال إبراهيم (ع) أما إليك فلا ، وأما الى ربّ العالمين فنعم ، فدفع إليه خاتما مكتوب عليه لا إله إلّا الله محمد رسول الله (ص) ألجأت ظهري الى الله وأسندت أمري الى الله وفوضت أمري الى الله ، فأوحى الله عزّ وجل الى النار : كوني بردا فاضطربت أسنان إبراهيم من البرد حتى قال ، وسلاما على إبراهيم ، وانحط جبرئيل (ع) وجلس معه يحدثه في النار ونظر نمرود فقال : من اتخذ إلها فليتخذ مثل إله إبراهيم ، فقال عظيم من عظماء أصحاب نمرود : إني عزمت على النار أن لا تحرقه ، فخرج عمد من النار نحو الرجل فأحرقه ، فآمن له لوط فخرج مهاجرا الى الشام ، ونظر نمرود الى إبراهيم في روضة خضراء في النار مع شيخ يحدثه فقال لآزر : يا آزر ما أكرم ابنك على ربّه. (١)

[٧٠] (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ)

هذه عبرة لي ولك ، تحدّ الطاغوت وتحدّ المجتمع الفاسد المنحرف ، وتحدّ الأصنام التي تعبد من دون الله ، وفي لحظة المواجهة تدركك رحمة الله سبحانه ، فلا

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٣ ـ ص ٤٣٢.

٣٤١

تخف ، لأن أهم شيء يربطك بعجلة الانحراف هو حبائل الخوف وأغلال الرهبة ، فاقطع هذه الحبال وتلك الأغلال حتى تتحرر ، وتكون أنت الفائز وأعداؤك الأخسرين.

الهجرة في سبيل الله :

[٧١] (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ)

بدل هذه الأرض المحكومة بالطاغوت ، أعطاه الله أرضا حرة ومباركة هي فلسطين.

[٧٢] (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ)

وأعطاه الله سبحانه أيضا إسحاق ، ومن بعده يعقوب ، ومن بعد يعقوب جيلا من المؤمنين الملتزمين الذين يدعون بالأسباط ، حيث عوضه الله بهم عن ذلك المجتمع الفاسد الذي اصطدم به في دعوته التوحيدية.

وأنت أيها المؤمن أيضا .. هاجر ولا تقل هذا أبي وهذا أخي وهذا صديقي .. إلخ ، اترك كلّ ذلك وهاجر من المجتمع الفاسد إذا لم تستطع أن تصلحه ، وآنئذ يعوضك الله تعالى بأفضل منهم.

[٧٣] (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا)

جعل الله الذين هاجروا أئمة وهذه من نتائج الهجرة في سبيل الله.

(وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ)

هذا هو برنامجه : أعمال الخير ـ الزكاة ـ الصلاة ..

٣٤٢

(وَكانُوا لَنا عابِدِينَ)

والتحرر الكامل عن سلطة الشرق والغرب ، والادانة بالعبودية المطلقة لله سبحانه وتعالى فقط.

إنّ هذه القيادة والامامة تجسدت في إبراهيم عبر أكثر من خمسة آلاف سنة والى يومنا هذا ، في ذلك اليوم جاءه حامية ظاهرا وأقرب الناس إليه وهو عمه آزر ـ لما غلّوا يديه ليلقوا به في النار ـ فبصق في وجهه وقال : ألم أنهك يا إبراهيم فلما ذا فعلت ، هذا هو جزاء فعلتك .. بلى في تلك الأرض لم يكن أحد يدافع عن إبراهيم ، ولكن الى الآن والأجيال التي بعدنا ، تلهج ألسنتهم بذكر إبراهيم ومدحه ، وكلّ واحد يبحث عن طريقة إبراهيم ليقتدي به فيها ، وهذا جزاء من أحسن عملا ، في الدنيا ، أمّا الجزاء الأكبر فهو ينتظر المحسنين في الآخرة.

٣٤٣

وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩)

______________________

٧٨ [الحرث] : الزرع.

[نفشت] : النفش بمعنى فرار الإبل أو الغنم ليلا ليرعى بدون راع.

٣٤٤

وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢)

______________________

٨٠ [صنعة لبوس] : اللبوس هو السلاح الذي يلبس كالدرع.

٣٤٥

هكذا ينصر الله رسله بالغيب

هدى من الآيات :

هنا لك سؤالان يتبادران الى الذهن عند ما يقرأ الإنسان القرآن ، وهما :

أولا : لما ذا يكثر القرآن من قصص الأنبياء في آياته؟

ثانيا : لما ذا يذكر القرآن قصص الأنبياء بصورة متفرقة وفي سور مختلفة؟

الجواب على السؤال الأول هو :

أـ لكي يبين لنا بأن رسالات جميع الأنبياء تسير في خط واحد ، وتدعو في جوهرها الى شيء واحد وهو منهج التوحيد.

ب ـ لكي يكرس كونهم قدوة وأئمة لنا ، وبالتالي نستفيد من أقوالهم وأفعالهم ومواقفهم ونطبقها في واقع حياتنا العملي الذي نعيشه.

٣٤٦

والجواب على السؤال الثاني باختصار :

أـ إن القصص التي يوردها القرآن ليست هدفا في حدّ ذاتها حتى يسردها مرة واحدة.

ب ـ إن تكرار القصة في مواضع متعددة يشعر بأهميتها ، ويلفت النظر الى ضرورة التفكر فيها ودراستها جيدا ، ومن ثمّ الاقتداء بأخلاق الأنبياء ومواقفهم فيها.

ج ـ عند ما يكرر القرآن ذكر القصة الواحدة ، فانه لا يكرر جزئياتها ، وإنّما في كلّ مرة ينقل جانبا معينا منها يتناسب مع المواضيع التي يعالجها السياق ، وهذا الأسلوب يلقي أضواء كاشفة على أحداث القصة ، ويظهر العبر المطلوبة منها ، وكذلك يجعلها شيئا فشيئا تتكامل في الأذهان لتكون ـ بالتالي ـ برنامج عمل في الحياة بالنسبة الى المؤمنين.

وفي سورة الأنبياء يضرب القرآن الحكيم مثلا من واقع مسئولية الإنسان في الحياة ، وهي على جانبين :

الأول : مسئولية أعماله السيئة ، ويقابلها العقاب الصارم ، كما حدث لقوم لوط ونوح.

الثاني : مسئوليته تجاه أعماله الحسنة ، ويقابلها الثواب الجزيل ، كما حدث للوط ونوح ومن آمن بهما.

كما يبين لنا أن الأنبياء كانوا في ساعات الشدة يتوجهون الى ربهم بالدعاء فينجيهم من بطش أعدائهم ، وهذا يكشف لنا إن حياة الأنبياء ـ أساسا ـ لم تكن

٣٤٧

مفروشة بالورود ، بل كان ملؤها الآلام والمشاكل ، ولكنهم انتصروا عليها بإذن الله ، مما يعطينا شحنة من الأمل والاندفاع في مواجهة صعوبات حياتنا وتحدياتها ، إذ سنكون على يقين من إنّه ، إن عجزت قدراتنا عن الصمود أمامها فان هناك من يمدنا بالعون اللازم وهو الله العزيز القدير.

بينات من الآيات :

نجاة لوط :

[٧٤] (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً)

أهم نعمة يسبغها الربّ لعبده هي نعمة الهدى ، التي تؤدي الى معرفة الحقيقة ، وغاية الهدى النبوة ، وقد أعطى الله لوطا «حكما» أي نبوة ، والنبوة : ليست مجرد علم غيبي بالحقائق ، بل هي أيضا إذن من الله بالاستخلاف في الأرض وبالتالي إمامة الناس.

ولعلّه لذلك اختلفت معاني كلمة «الحكم» وموارد استعمالها في الكتاب ، فحينا تستعمل في الرسالة ، وحينا في القضاء ، وحينا في العقل ، والجميع ينتهي الى ذات المنصب الالهي الذي يجمع كلّ تلك الفضائل.

وعلما : أي معرفة الحقائق التفصيلية.

والى جانب الحكم والعلم أعطى الله لوطا : نعمة أخرى وهي نجاته من الأخطار المادية والمعنوية المحيطة به ، حيث نجاه من القرية التي كان أهلها يقومون باللواط ، وقطع الطرق ، وكثير من المنكرات وأنقذه من أذى قومه السيئين والخارجين

٣٤٨

عن أمر الله والمبعدين عن دينه وشريعته.

(وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ)

ونسب السياق المنكرات الى ذات القرية ، إشارة الى أنّ جميع أهلها كانوا كذلك ، حتى وكأن القرية ذاتها كانت تعمل الخبيث.

(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ)

كانت أخلاقهم سيئة ، وكان عملهم فسقا ، ومثل هؤلاء لا يتوقع منهم إلّا الشر والأذى والاعتداء على رسل الله ، وعلى كلّ من يرفع صوته مناديا بالصلاح والتغيير.

[٧٥] (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)

شبّه الرحمة بالبيت الذي يدخله الإنسان ، فيحيط به من جميع جوانبه ويحفظه من الأخطار الخارجية ، ويمده بأسباب الراحة والاطمئنان في الداخل ، وقد أدخل الله عز وجل نبيه لوطا في رحمته الخاصة ، لأنه كان من الصالحين ، أي كان سليم النية مخلص القلب عالي الأخلاق.

هكذا استجاب الله لنوح (ع):

[٧٦] (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)

هذه الآية تبين أهمية الدعاء وعظمة شأنه ، إذا كان مستكملا لاركانه وشرائطه ، فنوح (ع) صبر واستقام في أداء رسالته ، وأخلص الطاعة لربه وخالقه ،

٣٤٩

فلما تعرضت الأمة المنحرفة لخطر الطوفان الرهيب الذي لم يكن ليصمد أمامه شيء ، ولم تكن حتى سفينة نوح كافية للافلات من غضبة الأمواج الهادرة ، طلب نوح (ع) من ربه النجاة ، فجاءته الاستجابة الالهية الكريمة لتشمله هو ومن كان معه باللطف والعناية ، وتشير الآية الى أنّ هناك شرطين أساسيين للدعاء :

أـ العمل في مسير الدعاء ، أي أن يكون الدعاء مصحوبا بما يتمكن عليه الإنسان من العمل والسعي في اتجاه الهدف المطلوب ، لا أن يكون وسيلة للقعود والتهرب من المسؤولية ، ونوحا إنّما دعا ربّه بعد ٩٥٠ عاما من الدعوة والجهاد.

ب ـ الخشوع والتضرع الى الله سبحانه ، بحيث يتمثل الإنسان نفسه واقفا بين يدي ملك الملوك جبار السماوات والأرض ، أمّا أن يدعو ربه ، ويكون فكره مشغولا بمواضيع دنيوية أو متعلقا بأشخاص آخرين ، فهذا ليس من أدب الدعاء وليس طريقا للاستجابة أبدا.

والدعاء الصحيح يحوّل الإنسان من حضيض البئر الى ملك يجلس على عرش مصر ، كيوسف (ع) ، ومن رجل مطارد يلقى به في أتون النار الملتهبة الى إمام للناس يصبح بداية تاريخ ، كإبراهيم (ع) ، ومن شاب مغمور الى ملك مهاب ، كداود (ع) ، أو من رجل قد أحاط المرض والفقر به الى إنسان سوي ثري ذي أهل وأولاد وجاه في المجتمع ، كأيوب (ع) (على نبينا وآله وعليهم أفضل الصلاة والسلام) ، وكلّ ذلك جرى بالقدرة الالهية الغيبية ، وبواسطة الألطاف الرحمانية التي شملتهم ، بسبب إخلاص طاعتهم وتوجيههم لخالقهم.

وهذا هو معنى المسؤولية ، حيث إنّها لا تقتصر على العمل وتحمّل الأذى والصعاب فقط ، وإنّما تمتد الى انتظار الفرج ، وتوقع الثواب من قبل الربّ الغني

٣٥٠

الحميد ، الذي يعجل بجزء من رحمته لعباده الصالحين في الدنيا ، ويؤجل الأعظم منها الى الحياة الأبدية في الدار الآخرة.

[٧٧] (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا)

إنّ إنقاذ الإنسان من مجتمعة الفاسد قضية هامة تركز عليها هذه الآيات بل كلّ سورة الأنبياء ، وإنّ من الأصنام المجتمع الذي إن لم يقدر على إصلاحه فعليه أن ينقذ نفسه منه باللجوء الى الله ، فان البلاء إذا نزل عمّ ، وهكذا أنقذ الله نوحا من (الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ).

(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ)

كانت أعمالهم منحرفة ونفوسهم خبيثة ، لذلك أغرقهم الله ، ولم يبق أحد منهم على الأرض ، حيث استجاب الربّ دعاء نوح فيهم حين دعاه قائلا : «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً».

سليمان والقضاء الفصل :

[٧٨] (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ)

من مظاهر رحمة الله بعبده الذي يبحث عن الهدى ويجاهد من أجله ، إنّ الله سيهديه. وسورة الأنبياء تؤكد في مواضع مختلفة على هذه الفكرة وهي : إن العقل والهدى أفضل نعمة يتمتع بها الإنسان ، وقد وهب الله هذه النعمة لداود وسليمان حيث كانا يحكمان في قضية معقدة وقعت على عهدهم حيث إنّ قطيعا من غنم قوم دخل حقل كرم لقوم آخرين ، وأفسد الزراعة. ولعلنا نستوحي من هذه القصة إنّ

٣٥١

مجتمع داود كان ينقسم الى قسمين : مجتمع زارعي ، ومجتمع رعاة ، وكانوا يختلفون ، حيث إنّ الرعاة كانوا يأتون بأغنامهم الى المدينة ويطلقونها فاذا جنّ الليل تهيج الأغنام فتدخل في الحقول المزروعة وتعبث بها ، وكان أصحاب الحقول يطالبون بدفع تعويضات عن خسارتهم.

قال تعالى :

(إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ)

إنّ الغنم ترعى في الليل بشكل غير منتظم ، وهكذا حين دخلت على مزرعة الناس أهلكتها ، فلما جاء المزارعون رأوا أنّه لم يبق من كرومهم شيء ، لا العناقيد ولا الأوراق ، فحكم داود ـ كما جاء في بعض النصوص ـ أن يكون الغنم من نصيب صاحب الحقل ، ولعل حكمة هذا القضاء تكمن في أن على أصحاب الماشية حفظها ليلا بينما على صاحب الزرع حفظها نهارا ، حيث جاء في حديث مأثور عن رسول الإسلام محمد بن عبد الله (ص) : «إنّه قضى بحفظ المواشي على أربابها ليلا ، وقضى بحفظ الحرث على أربابه نهارا» (١)

وحسب ما جاء في الحديث : «كان سليمان جالسا عند والده ، فقام ، وقال : لا يا أبتاه ليس الحكم كما ذكرت ، قال : فما هو الحكم؟ قال : الحكم هو أن نعطي البساتين التي أتلفت بسبب نفش الغنم ، لأصحاب الأغنام ليقوموا بإصلاحها ، ونعطي الأغنام لأصحاب البساتين يستفيدون من لبنها وصوفها ونتاجها حتى تصلح بساتينهم ، ثمّ يرجع كلّ شيء لصاحبه ، فيكون أصحاب الغنم قد دفعوا ثمن إهمالهم وتفريطهم ، ويكون أصحاب البساتين قد عوضوا عن

__________________

(١) مجمع البيان / ج ٧ ـ ص ٥٨.

٣٥٢

الإضرار التي لحقت بمزروعاتهم».

[٧٩] (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ)

لقد أعطى الله الحكم لسليمان حيث كان وصي داود ، وكان شديد الاهتمام بتحمل مسئوليته ، وكان يسعى نحو تطبيق العدالة ، فوهب الله له حكما.

(وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً)

داود أيضا كان على حقّ ، وهنا نتعرض للسؤال التالي : إذا كان داود نبيا كسليمان ، فكيف اختلف قضاؤهما ، وهل كان كلا الحكمين صحيحا ، كما نستوحي من هذه الآية ، إذا كيف يكون لواقعة واحدة حكمان مختلفان؟

الجواب :

أولا : جاء في النصوص ما يوحي الى أنّ الحكم الثاني كان بمثابة النسخ ، حيث يسأل أبو بصير عن أبي عبد الله (ع) قال قلت له : قول الله عز وجل : «وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ» قلت : حين حكما في الحرث كان قضية واحدة؟ فقال (ع) : «إنّه كان أوحى الله عز وجل الى النبيين قبل داود الى أن بعث الله داود : أيّ غنم نفشت في الحرث فلصاحب الحرث رقاب الغنم ، ولا يكون النفش إلّا بالليل ، فان على صاحب الزرع أن يحفظه بالنهار ، وعلى صاحب الغنم حفظ الغنم بالليل ، فحكم داود بما حكمت به الأنبياء (ع) من قبله ، وأوحى الله عز وجل الى سليمان (ع) : وأيّ غنم نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع إلّا ما خرج من بطونها ، وكذلك جرت السنة بعد سليمان (ع) وهو قول الله عز وجل : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) فحكم كلّ واحد منهما بحكم الله عز وجل» (١)

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٣ ـ ص ٤٤٢.

٣٥٣

ثانيا : جاء في حديث مأثور : «إنّ الله أراد أن يكشف للناس فضل سليمان ، وإنّه وصىّ أبيه وخليفته من بعده» (١)

ثالثا : إن داود لم يحكم إنّما كان يناظر ابنه في الحكم ، وبذلك أيضا وردت نصوص شرعية.

رابعا : إن قيمة ما أتلفه الغنم في حقل القوم كانت بقيمة الغنم ، وكانت هناك طريقتان لاستيفاء هذه القيمة : الأولى أخذ الغنم ، والثانية أخذ نتاجها لعام واحد ، وقد حكم كلّ نبي بطريقة معينة ، وقد قال داود لسليمان بعد الحكم ، فكيف لم تقض برقاب الغنم ، وقد قوّم ذلك العلماء من بني إسرائيل فكان ثمن الكرم قيمة الغنم ، فقال سليمان إن الكرم لم تجتث من أصله وإنّما أكل حمله وهو عائد في قابل (٢)

النعمة والمسؤولية :

(وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ)

هناك تفاسير مختلفة وردت في هذه الكلمات لعلّ أقربها ـ والله العالم ـ إنّ الله سبحانه وتعالى سخر لداود (ع) الجبال بما فيها من معادن وإمكانات ، وسخر له الطيور بما تملك من قدرات على الطيران ، فما بال الإنسان يتمرد على ربه ، وهو يستخدم المعادن من الجبال ، ويسخّر الطيور ، فيا أيها الإنسان : إن الحديد المسخر لك ليس ملكك إنّما هو بيدك لفترة محدودة ، وهذه الآلة الحديدية التي تستخدمها قد تأتي يوم القيامة وتقول : إلهي أنت سخرتني لفلان فما فضله عليّ ، فاذا استطعت

__________________

(١) المصدر / ص ٤٤٣.

(٢) المصدر.

٣٥٤

أن تثبت ـ يوم القيامة ـ بأنك كنت إنسانا ، وتحملت مسئوليتك في الحياة فأنت أفضل من الحديد.

إنّ الطيور والجبال والأشياء كلها لله وليست لنا ، ولكن كلما سخرنا الأشياء ، كلما ازدادت مسئوليتنا وكبرت ، ويوم القيامة نحاسب حسابا عسيرا. إذا كانت هناك أرض (موات) وكان من الممكن إصلاحها واستصلاحها بناء أو زارعة أو رعيا أو أيّ شيء آخر ، ولم تصلحها ، فان هذه الأرض قد تأتي يوم القيامة لتشتكي عند الله قائلة : إلهي أنت سخرتني من أجل الناس ولكنهم لم يستفيدوا مني.

إنّ المسؤولية بالنسبة للإنسان دقيقة وشاملة فهو مسئول عن كلّ ما يحيط به ، كما هو مسئول عن نفسه وأهله ومجتمعة.

إنّ داود لم يكن بالذي يسخر الجبال بقوته الذاتية ، والبشر ليسوا بالذين يسخرون الحديد والنار بطاقاتهم الذاتية ، بل الله يفعل كلّ ذلك بقدرته ويسخرها لهم بفضله ، فلو نامت البشرية ليلة ثمّ استيقظت وقد سلب الله منهم العقل لأصبحوا وحوشا بكماء ، فهل يقدرون على شيء من حضارتهم؟ كلا .. ولا تشغيل سيارة أو إنارة مصباح فلما ذا لا يشكرون الله بعمل الصالحات ، وتحمل المسؤولية؟

[٨٠] (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ)

اللبوس : كلّ أداة حربية يلبسها الإنسان من درع وجوشن وغيره ، والبأس الحرب.

٣٥٥

لقد كانت حركة داود إصلاحية في الأرض ، تتطلب صدّ هجمات الأعداء والمعارضين ، ولذلك فقد ألهمه الله طريقة صنع الدروع ، وألان له الحديد ، وهناك نكتة ظريفة في الآية وهي : إنّ الله لم يعلمه صناعة آلات حربية هجومية مدمرة ، بل اقتصر على الآلات الدفاعية ولعلّ ذلك يوحي بأن الرسالات الالهية لا تدعو الى القتل والدمار ابتداء ، وانما هي تدعو الى الإصلاح والسلام ، ولذلك فهي بحاجة الى الدفاع عن نفسها في مواجهة أعداء الإسلام والانسانية.

[٨١] (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ)

كانت الريح تحمل سليمان (ع) بأمر الله سبحانه لتنقله الى أيّ مكان شاء في مدة قصيرة ، وقد يأتي يوم يكتشف فيه علماء التاريخ والآثار إن الطائرة كانت مصنوعة من أيام سليمان (ع) ، حيث كانت تنقله يوميا بين القدس وقلاع بعلبك ليشرف على أمور مملكته.

[٨٢] (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ)

الى الآن لم يصل العلم هذا المستوى ، ولكن ليس من المستحيل أن يستخدم البشر الشياطين في يوم ما ليقوموا ببعض الأدوار ، إنّ البشر الآن يستخدم أنواعا من الحيوانات كالدلافين في أعمال الانقاذ أو عملية التجسس ، والكلاب لاكتشاف المجرمين ، والحمام الزاجل لنقل الرسائل ، وهكذا .. ولكنه في المستقبل ينبغي أن يصل الى درجة استخدام الأرواح والشياطين.

الغوص كان أصعب الأعمال حيث لم يكن أحد من البشر في تلك الأيام يستطيع القيام به ولكن الشياطين كانوا يقومون به بكلّ سهولة بالاضافة الى أعمال

٣٥٦

أخرى أيضا ، مثل البناء ..

إن الذاهب الى بعلبك يرى تلك القلاع الضخمة المبنية من صخور هائلة والتي لا يعرف البشر الى الآن كيف جيء بها إلى هناك من أماكن بعيدة ، حيث إنّ تلك الصخور لم تكن موجودة في تلك الأرض ، من أتى بهذه الصخور ، ومن بنى تلك القلاع؟ يبدو أنّ الشياطين فعلوا ذلك.

(وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ)

إنّ هذه الطاقة الهائلة المتمثلة بالشياطين لم تكن فالتة الزمام ، بل كانت محفوظة في إطارها المرسوم من قبل الله سبحانه وتعالى ، وهذه إشارة للإنسان بأن توجهه الى الله وتوكله عليه يعطيه إمكانية لتسخير الأشياء ، وحل المشاكل في الحياة.

٣٥٧

وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا

٣٥٨

لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١)

٣٥٩

وحدة الرسالات والأنبياء

هدى من الآيات :

في الدرس السابق بيّنا إنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم قدوات للبشر وإنّما تتكرر قصصهم في القرآن الحكيم ـ المرة بعد الأخرى ـ وبأساليب مختلفة لكي تتكرس قيادتهم للبشرية ، ولا تزال آيات القرآن الحكيم تؤكد هذه الفكرة ، فبعد أن تذكر قصص بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، تبين إنّ هؤلاء جميعا كانوا يتبعون خطا فكريا واحدا هو التوحيد ، ولذلك يجب على الإنسان أن يتبعهم ويتخذهم قدوات في حياته ، وإن أفعال الأنبياء (ع) وصفاتهم وسيرتهم ، وإن اختلفت صورها ، فانها واحدة في المحتوى ، وإنّ وحدة الأفعال والصفات والسير عندهم هي بقدر يكفي الإنسان للاقتداء بهم.

وبالرغم من إنّ القرآن الكريم في هذه السورة بالذات لم يبيّن جوانب عديدة من حياة الأنبياء ، إنما أشار الى أسمائهم والى أبرز صفاتهم إشارة خاطفة ، لكنه مع

٣٦٠